الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الأربعاء، يوليو 08، 2009

الفكر اللساني التربوي في التراث العربي
مقدمة ابن خلدون نموذجا
إعداد : الأستاذ محمد صاري
جامعة عنابة

1 - مقدمة :
لم تحظ أية لغة في الدنيا منذ أن خلق الله الإنسان بما حظيت به اللغة العربية من العناية حيث قام أصحابها - وخاصة اللغويون منهم وأهل الأداء - بالتحريات الميدانية الواسعة النطاق للحصول على أكبر مدونة شاهدها تاريخ العلوم اللغوية . فدونوا مفرداتها وتراكيبها وأمثالها وعباراتها ، مطردها وشاذها ، ثم وصفوا كل ذلك بدقة متناهية ، واستنبطوا القوانين العامة التي تخضع لها ، وغير ذلك مما أعجب به علماء اللسانيات الغربيون في زماننا (1) .
ومن أعظم ما تركه أسلافنا " علم النحو " ، ميزان اللغة ، والمدخل إلى العلوم العربية والإسلامية (2) . فليس من شك في أن التراث النحوي والصرفي الذي استنبطه العلماء العرب نفيس غاية النفاسة ، وأن الجهد الذي بذلوه فيهما خلال الأزمان المتعاقبة جهد لم يهيأ للكثير من العلوم المختلفة في عصورها القديمة والحديثة . وإنه ما زال وسيبقى ينتزع إعجاب الباحثين العرب والأجانب على حد سواء . فهو - كما يقر غير أبناء العربية - » أثر رائع من آثار العقل العربي بما فيه من دقة في الملاحظة ، ونشاط في جمع ما تفرق ، وهو لهذا يحمل المتأمل فيه على تقديره ، ويحق للعرب أن يفخروا به« (3).

2 - أصالة النحو العربي في القرون الأولى للهجرة :
ومن الثابت أن النحو العربي مرّ كبقية العلوم بقانون النشوء والارتقاء ، فنشأ بسيطا ضعيفا ، ثم أخذ يتدرج في النمو والقوة والاستكمال ، فانتقل على أيدي أئمته كعبد الله بن أبي إسحاق ( ت 117 هـ ) ، والخليل بن أحمد ( ت 175 هـ ) ، وسيبويه ( ت 180 هـ ) ، والكسائي ( ت 189 هـ ) ، والفراء ( ت 207 هـ ) (4) ، ونظرائهم من الأعلام من ضوابط بسيطة يقيم بها المعربون ألسنتهم - بعد أن تفشى اللحن وضاعت السليقة - إلى علم دقيق متطور يدرس لذاته (5) .
لقد أرسى "الخليل" وتلميذه الفذّ "سيبويه" أمورا صارت مسلمات أو شبه مسلمات . فمن ينعم النظر في "الكتاب" يدرك في وضوح أصالة النحو العربي عند النحاة الأوائل الذين عاشوا في الصدر الأول من الإسلام . ومن أهم الحقائق التي تدل على فكر أصيل ، وتصور دقيق ، وفهم عميق لطبيعة بناء هذا العلم - عند أولئك النحاة - تلك الأسس والأصول التي قام عليها ، نذكر منها على سبيل المثال : مفهوم العامل ، ومفهوم الحد والمثال ، ومفهوم الاستقامة ، ومفهوم القياس والسماع ، ومفهوم العلة ، ومفهوم الأصل والفرع(6) .. وغيرها من المفاهيم التي اكتشفوها من خلال استنطاق النصوص والاتصال المباشر بالواقع اللغوي . فهي مفاهيم تبين في وضوح لا يقبل الشك أن للنحو العربي عند "سيبويه" وشيوخه وتلاميذه منطق ، ولكنه منطق رياضي خاص(7) مسلوخ من روح العربية ، وأن وجود هذا الأثر المنطقي دليل على مكانة الجانب العقلي فيه ، وهو جانب كان موجودا إلى الجانب النقلي . وقد صار هذا الجانب ضروريا في البحث اللغوي الحديث ، لا سيما عند التحويليين ؛ لأنه أداة أصيلة من أدوات بناء العلم ، بدونه يتحول النحو إلى مجرد جمع وتصنيف (8) .
ونحن على مسار البحث عن نظرية الفكر اللساني التربوي في اللغة نتساءل هل تسنى لنظرية العرب في اللغة أن تنفذ إلى خصائص الظاهرة اللسانية بالاعتماد على ملابسات اقتنائها وطريقة تحصيلها ؟
إن نظريات النحاة العرب الأولين تكتسي أهمية كبيرة ، وهذا ليس من حيث إنها ما تزال ذات قيمة كبيرة من الناحية العلمية ، بل من حيث إنها يمكن أن تستغل مفاهيمها في الميدان التطبيقي كالمعالجة الآلية للنصوص وتركيب الكلام الاصطناعي واللسانيات التربوية(9).

3 - اللسانيات التربوية :
تعد اللسانيات التربوية ثمرة اللقاء بين اللسانيات وعلم التربية . فموضوع اللسانيات التربوية هو الإفادة من حقائق اللسانيات العامة بمناهجها ونتائج دراساتها وتطبيق ذلك كله في مجال تعليمية اللغات(10) didactique des langues ؛ أي أنها تستغل معطيات اللسانيات العامة وفروعها الخاصة ، وما وصلت إليه بحوثها من حقائق ثابتة لحل مشكلات تربوية ميدانية .
فاللسانيات التربوية حقل تعاوني ما انفكت أطرافه تترامى بتعدد أبعاده ، إذ تتفرع مجالات الاهتمام فيه تبعا لمقاييس الزمن والمادة والموضوع(11)، فهي من أهم سياقات اللسانيات التطبيقية عامة .
ومن أهم المشكلات التي تتعرض لها اللسانيات التربوية هي البحث الموضوعي في الصعوبات اللغوية التربوية: ماذا يجب أن نعلم من اللغة ؟ وكيف يجب أن نعلمه ؟ وبمعنى آخر أنها تنظر في المحتوى اللغوي الذي يقدم للمتعلم من حيث الكم والكيف، كما تنظر في محتوى الطريقة أو الطرق التي تستعمل لتبليغ هذا المحتوى ، وفي تأدية المعلم لهذه الطريقة وكيفية تطبيقه لها (12) .
لقد بذل العلماء العرب جهودا مضنية في تتبع النصوص واستقصائها ، وإعمال الفكر واستخراج القاعدة النحوية . وليس يدري أحد مقدار الجهود التي بذلت في استنباط قاعدة نحوية يعرفها أطفال المدارس اليوم . وهذا الإبداع من أهم ما يجيبنا به موروث الحضارة العربية الإسلامية في قضية معرفة الكيفيات المرتبة لسنن الكلام . وللإشارة ، فإن البحث في هذه الكيفيات وسبل تحصيلها يعد من صميم اللسانيات التربوية .
فمما لا شك فيه أن مادتي النحو والصرف تشكلان جزءا رئيسا في قضايا اللسانيات التربوية بشكل عام ، ويعتبر هذا الجزء من أعقد العناصر اللغوية وأصعبها في مناهج اللغة العربية . ولعل جزءا كبيرا من ذلك التعقيد والصعوبة تعود إلى سوء استغلال القواعد النحوية من قبل المربين والمعلمين ، وفهمهم القاصر والمحدود لمستوياتها وطبيعة أهدافها ، أو المبالغة الكبيرة في فهمها والتركيز عليها عند تعليمهم للغة ؛ فكثيرا ما يتم تعليمها بعيدا عن الغاية المقصودة .
إن اللسانيات التربوية واجهت على مر العصور مشكلات عديدة ، وما زالت تواجهها لعل من أهمها الافتقار إلى مادة نحوية تعليمية مناسبة ، يتم إعدادها للمتعلمين وعرضها عليهم في ضوء مجموعة من المقاييس الموضوعية ، منها ما يختص بطبيعة المعرفة التي تعد لها هذه المادة ، ومنها ما يختص بالدارسين الذين يستخدمونها . ومن يستنطق نصوص التراث يكشف عن كثير من الأقوال والأعمال التي اهتمت بجانب أو جوانب من اللسانيات التربوية. والذي يهمنا من هذه الجوانب هو المحتوى النحوي المدرس قديما وحديثا ، وآراء العلماء في كيفية انتقائه وطريقة عرضه وتثبيته في أذهان المتعلمين .
لقد أدرك بعض النحاة واللغويين القدامى ضرورة وجود مستوى من المؤلفات النحوية المختصرة والميسرة ، كما تنبه بعضهم إلى ضرورة التمييز بين وظيفة بحث ما في النحو من مشكلات ، وبين وظيفة تعليم النحو لبعض المستويات (13) . وأول ما يتقرر لدينا في هذا المجال قول الجاحظ ( ت 255 هـ ) في بعض رسائله : » وأما النحو فلا تشغل قبله [ أي الطفل ] منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه وشعر إن أنشده ، وشيء إن وصفه . وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به . ومذهل عما هو أردّ عليه منه ، من رواية المثل والشاهد والخبر الصادق والتعبير البارع . وإنما يرغب في بلوغ غايته ، ومجاوزة الاقتصاد فيه من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور ، والاستنباط لغوامض التدبير ، ولمصالح العباد والبلاد [...] ومن ليس له حظ غيره ولا معاش سواه ، وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يضطر إليه شيء« (14) .
فالجاحظ يدعو إلى تعليم الناشئة النحو الوظيفي الذي يجري في المعاملات ، فالغاية من تعليم النحو - في نظره - هي إصلاح اللسان والقلم في كتاب يكتب أو شعر ينشد أو خطبة تلقى أو رسالة تؤلف .
وضمنيا ، يستفاد من كلام الجاحظ أنها دعوة صريحة إلى ضرورة التمييز بين النحو كعلم والنحو كتعليم ، أو قل بين مستويين من مستويات النحو :
1 - مستوى نظري تخصصي ، وينبغي أن يكون مجردا عميقا يدرس لذاته وتلك طبيعته. وهذا المستوى من النحو يعدّ نشاطا قائما برأسه ، أهدافه القريبة الخاصة به هي الاكتشاف المستمر والخلق والإبداع . وهذا هو الأساس والمنطلق في وضع نحو تعليمي تراعى فيه قوانين علم التدريس .
2 - مستوى ثان تعليمي وظيفي نافع لتقويم اللسان وسلامة الخطاب وأداء الغرض وترجمة الحاجة . ومن الفضول الذي لا خير فيه أن يتعمق من كانت هذه غايته في جزئيات النحو ، وأن يتورط أو يورَّط في أصوله ، ويتيه في شعاب قضاياه (15) . فالنحو العلمي شيء والنحو التعليمي شيء آخر .
فما النحو إلا وسيلة لضبط الكلام وصحة النطق والكتابة ، هذه غايته التعليمية التي أقرها العلماء : » النحو هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه ، من إعراب وغيره كالتثنية والجمع ، والتحقير والتكسير ، والإضافة والنسب والتركيب ، وغير ذلك ، ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم ، وإن شذ بعضهم عنها ردّ به إليها« (16) . إن النحو عند ابن جني ( ت 392 هـ ) أداء لغوي فائدته الوصول إلى التكلم بكلام العرب على الحقيقة صوابا غبر مبدل ومغير .
وإن الاعتبار - في نظم الكلام - يكون بمعرفة مدلول العبارات لا بمعرفة العبارات . فلو كان النظم يكمن في معاني النحو - كما يقول عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) - »لكان البدوي الذي لم يسمع بالنحو قط ، ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئا مما يذكرونه لا يتأتى له نظم الكلام . وإنا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدم في النحو . قيل إن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات لا بمعرفة العبارات . فإذا عرف البدوي الفرق بين أن يقول : "جاءني زيد راكبا" ، وبين قوله : "جاءني زيد الراكب" ، لم يضره ألا يعرف أنه إذا قال: راكبا كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في "راكب" أنه حال ، وإذا قال " الراكب" أنه صفة جارية على زيد« (17) .
فعلا ، لقد أكدت اللسانيات التربوية ما ذهب إليه " عبد القاهر " و" ابن جني " ، حيث رفضت رفضا باتا ، بناء تعليمية اللغات على القواعد النظرية الصرفة ، ونادت بتوجيه الجهود إلى تمرين المتعلمين على اكتساب اللغة من خلال أنماط ومثل لغوية حية يجري تعلمها الواحدة تلو الأخرى ؛ لأن اكتساب لغة ما يعني اكتساب آليات لا شعورية ، وهذا ما يسميه المختصون في تعليمية اللغات بالنحو الضمني (18) .
4 - ابن خلدون وقضايا التحصيل اللغوي :
اشتهر " عبد الرحمن بن خلدون " ( ت 808 هـ ) عند عامة الناس بأنه أرسى قواعد فلسفة التاريخ . وكثيرا ما يذكر في الكتب الحديثة بأنه منشئ علم الاجتماع العمراني ، وهذا اعتراف بجزء مما أبدعه الرجل .
" فابن خلدون " يجهل قدره كثير من الناس ، بل إنهم يعرفونه على أنه عالم اجتماع ليس إلا . ولكن هناك من اللسانيين من يجد في المقدمة مخزونا من الاستطرادات الثرية التي تدل على جملة من الأفكار اللسانية التربوية التي لا تقل أهمية عما توصل إليه البحث اللساني واللساني التطبيقي عند الغربيين (19) . ومن أهم هذه الأفكار ما يلي :
4 - 1 - التدرج في عرض المادة والتركيز على المتعلم باعتباره جوهر العملية التعليمية :
لقد نفذ "ابن خلدون" بحس دقيق كاد ينفرد به ، وذلك عند تناوله لقضايا التحصيل عامة واكتساب الملكة اللغوية خاصة ؛ إذ حظيت كثير من القضايا اللغوية في مقدمته " كتاب العبر بالفحص والتحليل ، فراح يستكشف حقائقها ويستقصي تقلباتها مستكنها ظواهرها الخفية .
وأول ما يتقرر لديه في هذا الشأن حديثه عن الطريقة الناجعة لتعليم العلوم عامة ، حيث يرى أن تعليم العلوم للمتعلمين » يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا ، وقليلا قليلا . يلقى عليه [ المتعلم ] أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه« (20) .
ومعنى ذلك أن الابتعاد عن التعقيد والالتزام بمبدأ التدرج في عرض المادة المدرسة : من البسيط إلى المعقد ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن العام إلى الخاص ، وكذا الانطلاق من حاجات المتعلمين ورغباتهم واستعداداتهم هو الوجه الصواب لتعليم العلوم . وهذا ما تقره اللسانيات التربوية الحديثة .
وبعد أن يقيم ابن خلدون تصورا للطريقة الناجعة في تعليم العلوم يتناول - بالنقد والتحليل - طرائق التعليم السائدة في عصره ، وكيفية تأدية المعلمين لها . فهي - في نظره - طريقة تقليدية بالية ، قليلة الجدوى ، عديمة الفائدة تنفر ولا تشوق ، هذا هو واقع التعليم في عصر ابن خلدون : » وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق هذا التعليم وإفادته ، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ، يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها ، وقبل ، يستعد لفهمها [...] وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم ، وأدركه الكلل ، ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم« (21) .
إن التحريات الميدانية ، أو ما يسمى بنقل المعاينة بمصطلح ابن خلدون تنم عن بصيرة وفكر تربويين عميقين عند صاحب المقدمة . فالجهل بطرائق التعليم - كما توحي بذلك أقواله - سبب خطير في تدهور التدريس ونفور المتعلمين ، هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فإنه على قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في حصول الملكة .
هذه بعض الأفكار التي يتحدث فيها " ابن خلدون " عن جوهر العملية التعليمية المتمثل في المعلم والمتعلم والمادة والطريقة . أما بالنسبة لتعليم الملكة اللغوية ، فإن أهم ما يتقرر لديه في هذا الشأن ما يلي :
أ - السمع أبو الملكات اللسانية .
ب - دراسة القواعد لذاتها سبب خطير في ضعف التحصيل .
ج - تمييز ملكة اللغة عن صناعتها .
د - تحديده اللغة بأنها ملكة في اللسان .
أ - السمع أبو الملكات اللسانية (22) :
لم تعد اللغة في زماننا تعلم باعتبارها ظاهرة مكتوبة ، بل باعتبارها ظاهرة صوتية منطوقة في المقام الأول . ولذا ، فإن الاهتمام بالنطق والحديث يحتل مقاما خاصا في تعليمية اللغات الحديثة ؛ لأنه الأصل ، أما الكتابة فهي ظاهرة تابعة له . فالواقع يثبت أن الإنسان يتكلم قبل أن يكتب ، ويسمع قبل أن يتكلم .
ومن المبادئ اللسانية التربوية التي أقرها ابن خلدون ونبه على أهميتها في حصول الملكة اللغوية مبدأ السماع ((audition ، والانغماس (immersion) أو ما يسمى عند جمهور اللسانيين التطبيقيين بـ " الحمام اللغوي " (bain linguistique) . فأبو الملكات اللسانية - في نظره - هو السمع والإنصات ، والشيء الذي يعين المتعلم على فتق لسانه بالمحاورة والكلام والمناظرة هو الانغماس الكلي في وسط لغوي عفوي ، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرماها ، وهكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال . هذه فكرة نلمسها عند ابن خلدون في معرض تفسيره لقول العامة أن اللغة للعرب بالطبع ، حيث يقول : » فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها [...] ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم ، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم« (23) .
وهكذا يتركز على يد ابن خلدون أن خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة واحدة ، فلا بد لها من زمان وتكرار مرة بعد أخرى ، أي لا بد لها من ارتياض ومعاودة .
ب - دراسة القواعد لذاتها سبب خطير في ضعف التحصيل :
يرى ابن خلدون أن العلوم تنقسم إلى قسمين : علوم غايات وأخرى وسائل لهذه الغايات . وعلم النحو - في نظره - فرض كفاية لا فرض عين . فهو من صميم العلوم الآلية التي ينبغي ألا توسع فيها الأنظار ولا تفرع فيها المسائل . ولذا دعا المعلمين لهذه العلوم إلى ألا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها ؛ لأن ذلك يخرجها عن المقصود ، فيصير الاشتغال بها لغوا » ... وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو [...] لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلا واستدلالا ، وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة لذاتها . وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو ، وهي مضرة أيضا بالمتعلمين على الإطلاق« (24) . وعليه ، فإن النحو التعليمي ليس غاية في حد ذاته ، بل هو وسيلة مساعدة لاكتساب الملكة اللغوية ، وينبغي أن يدرس على هذا الأساس .
ج - تمييز ملكة اللغة عن صناعتها :
يميز اللسانيون بين نوعين من المعلومات اللغوية : المعلومات الخاصة بالملكة والمعلومات الخاصة بالصناعة. فالنوع الأخير هو اللغة كنظام وعلم مجرد وقوانين . ويمثل هذا النوع جانب البحث ، والبحث اللغوي هو من وظيفة العالم بأسرار اللسان . أما النوع الثاني فهو اللغة كإنجاز أو تحقق فعلي في صورة كلام أو كتابة، ويمثل هذا النوع جانب الاستعمال، واستعمال اللغة هو وظيفة المتكلم . ومعرفة العالم بأسرارها معرفة نظرية ، في حين أن معرفة المتكلم لها معرفة عملية (25) .
لقد نبه "ابن خلدون" المربين والمعلمين إلى ضرورة التمييز بين هذين المستويين : اللغة كملكة واللغة كصناعة . ففصل بدقة بينهما في قوله : » إن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم ، والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة . فهو علم بكيفية لا نفس كيفية . فليست نفس الملكة ، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ولا يحكمها عملا« (26) .
إن جهل كثير من المربين والمعلمين بهذين المستويين ( اللغة كملكة واللغة كصناعة ) هو الذي أدى إلى تركيزهم على الصورة النظرية البحتة . وعليه ، فإن الحقيقة التي يمكن استنباطها من خلال كلام ابن خلدون هي : على المعلم أن يعلم اللغة ذاتها لا أن يعلم معلومات عن اللغة ، لأن ملكة اللغة لا تحصل » بمعرفة القوانين العلمية التي استنبطها النحاة ، فإن هذه القوانين - كما يقول ابن خلدون - تفيد علما بذلك اللسان ، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها« (27) .
د - تحديده اللغة بأنها ملكة في اللسان :
يرى اللسانيون أن المفردات اللغوية ليس لها معنى في الواقع إلا إذا أدمجت في نص وتعلقت بحال من أحوال الخطاب . ولذا فإن اكتساب الملكة اللغوية لا يتم من خلال استظهار مفرداتها ولا مصطلحاتها النحوية وحدودها الإجرائية ، ولكن من خلال القدرة على التحكم في تراكيبها وأنماطها ، مع مراعاة مقتضى الحال . وفي هذا الصدد ، يقول ابن خلدون : » اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها . وليس ذلك بالنظر إلى المفردات ، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب . فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال ، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع ... والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال« (28) .
إن اللغة - عند ابن خلدون - مهارة تكتسب كما تكتسب أي صناعة من الصنائع أو مهارة من المهارات(29) ، عن طريق مبدأ الارتياض بالمعاودة والتكرار . فلا تحصل الملكة اللغوية بامتلاك المتعلم لألفاظها ومفرداتها ، ولكن بامتلاك وسيلة لترتيب هذه الألفاظ والتراكيب في مقامات لغوية مختلفة (30) .
بناء على هذا الرأي ، يمكن القول إن البدء بتدريس الجملة التامة ، والانطلاق من النصوص العفوية الطبيعية ، ورفض فكرة تقديم الاسم على الفعل أو الحرف أو العكس هو الوضع الطبيعي لاكتساب الملكة اللغوية ، وعليه فإن » أي نظرية في تعليم العربية للناطقين بها ابتداء ولغير الناطقين بها ستبقى ضعيفة المردود ما لم تنطلق من نظرية تركيبية تتخذ الجملة منطلقا لها« (31) .
هذا هو الاتجاه الحديث الذي يدعو إليه المختصون في تعليمية اللغات بشكل عام ، حيث يسعى أنصاره إلى عرض القواعد النحوية والصرفية على المتعلمين عرضا وظيفيا ، من خلال أنماط وتراكيب بنوية متدرجة في الصعوبة ، يكون الهدف منها ترسيخ قاعدة نحوية أو صرفية أو بلاغية معينة في ذهن المتعلم ، عن طريق حمله على القيام بسلسلة من التدريبات اللغوية المنظمة ، وبتكرار محكم ، حتى يصل المتعلم في لحظة من مراحل التعلم إلى تصور هيئات التركيب ومواقع المرفوعات والمنصوبات والمجرورات ، حسب ما تقتضيه المعاني بجهد بسيط ووقت أقل .
- الخاتمة :
إن الحقائق اللسانية التربوية التي وردت في بعض آراء النحاة واللغويين العرب عامة ، وفي مقدمة "ابن خلدون" خاصة لا تقل قيمة عن تلك المقاييس التي يراها اللسانيون التطبيقيون ضرورية في أية طريقة تعليمية تتصف بأدنى شيء من الجدية والنجاعة . فالأفكار اللسانية التربوية المبثوثة هنا وهناك في ثنايا مقدمة كتاب " العبر " كالتدرج ، والانتقاء ، والتخطيط ، والعرض ، والترسيخ ، والحاجات اللغوية ، والنحو الضمني ... وغيرها تستوجب التسليم - كما يقول أحد الباحثين (32) - بأن ابن خلدون فضلا على أنه فلسف علم الاجتماع ، واشتق علم العمران ، فإنه مهد للسانيات التربوية ؛ ففي مخزون " مقدمته " استطرادات ثرية عن نظرية التحصيل اللغوي ، وقد لا أكون مبالغا إذا قلت إن تلك الاستطرادات تحتاج إلى بحث مستفيض يستقصي جميع جوانبها .

- الهوامش :
1 - د . عبد الرحمن الحاج صالح ، اللغة العربية بين المشافهة والتحرير ، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة
2 - أجمع الأئمة من السلف والخلف على أن معرفة النحو شرط في رتبة الاجتهاد ، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم " النحو " . فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه لا تتم إلا به .
3 - عباس حسن ، النحو الوافي ، ج 1 ، ط 9 ، دار المعارف القاهرة ، ص 3 .
4 - يعتبر هؤلاء الأئمة لسانيين كبارا ، فـ " عبد الله بن أبي إسحاق " هو أول من بعج النحو ومدّ
القياس وشرح العلل ، والخليل هو مؤسس نظرية العامل ومخترع الشكل الذي ما زال يستعمل إلى يومنا هذا في الكتابة العربية ، وسيبويه هو واضع أول كتاب في علم النحو .
5 - المفتونون بالمنهج الوصفي يعتبرون النحو العربي نحوا معياريا لا نحوا علميا وصفيا ، ولكن اتصال
النحاة الأوائل بالواقع اللغوي أي الاستعمال يفند هذا الادعاء ويثبت أن النحو العربي بدأ وصفيا .
6 - انظر هذه المفاهيم عند د. عبد الرحمن الحاج صالح ، في بحثه المدرسة الخليلية الحديثة والدراسات اللسانية الحديثة في العالم العربي ، .
7 - د. عبد الرحمن الحاج صالح ، النحو العربي ومنطق أرسطو ، مجلة كلية الآداب ، جامعة الجزائر 1964 .
8 - لقد تفطن "تشومسكي" إلى مفهوم العامل النحوي ، كما تفطن إلى أهميته في المنهج التحويلي على صورة لا تبتعد كثيرا على تلك التي جاءت في النحو العربي ، انظر د. عبده الراجحي ، النحو العربي والدرس الحديث ، دار النهضة العربية ، بيروت 1986 ، ص 148 .
9 - د. عبد الرحمن الحاج صالح ، المدرسة الخليلية الحديثة والدراسات اللسانية الحديثة في العالم العربي.
10 - إن الوقت قد حان لأن يستنير معلم اللغات الحية بما تمده به اللسانيات من معارف عملية حول طبيعة الظاهرة اللغوية . فكما استطاعت اللسانيات الوصفية أن تزيل عددا من الأوهام الشائعة التي رددتها القرون الماضية حول اللغة ، نستطيع أن نسترشد بها لحل مشكلات لغوية تربوية كوضع البرامج وإصلاح القواعد وتبسيطها ، ورصد المفردات ... الخ .
11 - د. عبد السلام المسدي ، قضايا في العلم اللغوي ، الدار التونسية للنشر ، تونس 1994 ، ص 17 12 - د. عبد الرحمن الحاج صالح ، أثر اللسانيات في النهوض بمستوى مدرسي اللغة العربية ، مجلة اللسانيات ، العدد 4 ، ص 42 .
13 - لأن المقصود من تعليم النحو ليس إخراج كل المتعلمين علماء فيه .
14 - رسائل الجاحظ ، تحقيق عبد السلام محمد هارون ، ج 3 ، ط 1 ، ص 38 .
15 - إن النحو التعليمي عند النحاة المتأخرين داخلته شوائب مغرقة في التكلف ومسرفة في التأويل انتهت به إلى حدود منطقية وتعليلات فلسفية وتقديرات وتأويلات تبتعد في كثير من الأحيان عن الواقع الحي للغة ، انظر د. شوقي ضيف ، تيسير النحو التعليمي قديما وحديثا مع نهج تجديده ، دار المعارف ،
ص 3 - 4 .
16 - ابن جني ، الخصائص ، تحقيق محمد علي النجار ، ج 1 ص 34 .
17 - عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، تحقيق رشيد رضا ، ط 2 ص 320 - 321 .
18 - يميز المختصون في تعليمية اللغات بين نوعين من القواعد : القواعد النظرية الصريحة grammaire explicite ، والقواعد الضمنية grammaire implicite . ويرى أنصار الاتجاه الصريح أن تعليم أية لغة لا بد أن يتم من خلال عرض مباشر لقواعدها النظرية . أما أنصار الاتجاه الضمني ، فيعتقدون أن الوضع الطبيعي لتعلم اللغة هو عرضها بشكل غير مباشر ، وذلك بالتركيز على مثلها وأنماطها . والحقيقة أنه لا توجد مرحلة كلها صريحة وأخرى كلها ضمنية ، انظر مصطلحي explicite وimplicite في :
- R. Galisson , dictionnaire de didactique des langues, ed Hachette Paris 1976 .
19 - انظر د. عبد السلام المسدي ، التفكير اللساني في الحضارة العربية ، الدار التونسية للكتاب ، ط 2 ، تونس 1986 ، ص 208 - 237 .
20 - ابن خلدون ، المقدمة ، ج 2 ، الدار التونسية للنشر - المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر ، 1984 ص 695 .
21 - المرجع نفسه ، ص 295 - 296 .
22 - المرجع نفسه ، ص 713 .
23 - المرجع نفسه ، ص 723 .
24 - المرجع نفسه ، ص 700 .
25 - د. تمام حسان ، اللغة بين المعيارية والوصفية ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، ص 4 - 6 .
26 - ابن خلدون ، المقدمة ، ج 2 ص 729 .
27 - المرجع نفسه ، ص 731 .
28 - المرجع نفسه ، ص 722 .
29 - هذه الفكرة تشبه إلى حد كبير ما ذهب إليه البنويون السلوكيون المتأثرون بالمذهب السلوكي في علم النفس ، والذي يهتم بدراسة ظاهرة السلوك فقط ، على أساس أنه مكون من عادات يمكن اكتسابها الواحدة تلو الأخرى عن طريق المثير والاستجابة والتعزيز . انظر د. محمود أحمد السيد ، اللسانيات وتعليم اللغة ، ط 1 ، دار المعارف للطباعة والنشر ، سوسة - تونس 1998 ص 82 .
30 - T. Todorov , recherches sémantiques , dans Langage , n° 1 , mars 1966 .
31 - د. عبد السلام المسدي ، اللسانيات وأسسها المعرفية ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر 1986
ص 154 .
32 - د. عبد السلام المسدي ، قضايا في العلم اللغوي ، الدار التونسية للنشر ، تونس 1994 ، ص 192.

ليست هناك تعليقات: