الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الأربعاء، يوليو 22، 2009


تأثير النظريات العلمية اللغوية المتبادل
بين الشرق والغرب: إيجابياته وسلبياته(*)
للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح
إن التأثير الحضاري وخاصة الثقافي منه هو ظاهرة طبيعية نشأت مع نشوء الحضارات المتتالية وبحكم اتصال الشعوب منذ أقدم العصور في أشكال متنوعة سلمية وغير سلمية. والتأثير المتبادل بين الثقافات الأجنبية والثقافة العربية قد حصل من أول وهلة في الطرف الغربي من العاهلية الإسلامية: بين أوربا وصقلية والأندلس خاصة. والذي اخترناه في هذا البحث من هذا التأثير هو ميدان النظريات اللغوية وهو ميدان أعتقد أنه لم يُستقص فيه البحث؛ إذ لا يزال يسوده غموض كبير سواء فيما يخص التأثير اليوناني أو الهندي على العرب أم تأثير العرب على الغرب. وذلك لأن هذا البحث يحتاج فيه صاحبه أن ينظر في جميع ما ألف من دراسات في اللغات وفي نحو هذه اللغات أو
فلسفتها في القرون الوسطى وفي بداية النهضة الأوربية حتى القرن التاسع عشر. وفي الوقت نفسه أن يُحصي جميع ما نقل من العربية إلى اللاتينية من كتب النحو العربي وكتب الفلسفة العربية التي عالجت كل أو بعض ما يخص اللغات. وهذا عمل كبير جدًّا لم يخض فيه الباحثون بعد إلا القليل. وقد كثرت الأقوال الجازمة وغير المنصفة عن حصول تأثير المنطق اليوناني على النحو العربي دون الدراسات المطولة الموضوعية وفي مقابل هذا لا نجد أحدًا تطرق إلى تأثير النحو العربي – من حيث المفاهيم ومنهج التحليل – على النظريات اللغوية الغربية قديمًا وحديثًا، وربما لا يتصور هذا أحد من المستشرقين. ومع ذلك فهناك نصوص كثيرة وشهادات موضوعية
(*) ألقى هذا البحث في الجلسة الخامسة عشرة من جلسات مؤتمر المجمع في دورته الثامنة والستين يوم الأحد 24 من المحرم سنة 1423هـ الموافق 7 من أبريل (نيسان) سنة 2002م.
صادرة من علماء غربيين لا يشك في نزاهتهم أشاروا بصراحة إلى هذا. والكشف عن هذه الشهادات، غير كافٍ في الحقيقة،لإثبات عمق التأثير. ولا مفر من الرجوع إلى النصوص هي بعينها القديمة منها أو القريبة العهد لنتبين بالتصفح الواسع لها والتحليل المباشر ماهية المفاهيم العربية العلمية التي تسربت إلى الثقافة الغربية وإلام صارت؟ وكيف تبوأت مكانتها في النظريات الحديثة؟.
أولاً – تأثير منطق أرسطو في النحو العربي:
1- متى تأثر النحو العربي بهذا المنطق؟
نشرنا في 1964م مقالاً حاولنا(1) أن نبرهن فيه على أن النحو العربي







لم يتأثر في نشأته ولا عند اكتماله في زمان الخليل وسيبويه بمنطق أرسطو إطلاقًا. وقد أقرَّ بذلك بعد سنتين المستشرقان كارتر (Carter) وتروبو (G.Troupeau) (2).
(1) في مجلة كلية الآداب بجامعة الجزائر، المجلد الأول 1964 (ص 67 – 86).
(2) انظر Les origines de la grammaire arabe في Revue des études islamiques 40 – 1972 ( ص 69 – 97).
La logique d'Ibn al-Moqaffa et les origines de la grammaire arabe in Arabica,
( 250 – 242) 1981 .
(3) وليس الرماني هو أول من مزج النحو بالمنطق كما يزعم ابن الأنباري. والحق أنه لم يفعل هذا إذ ألفاظه ومفاهيمه هي أقرب إلى علم الكلام منه إلى المنطق الأرسطي.
(4) كان في بغداد في ذلك الزمان ثلاث مجموعات من الفلاسفة وكان أكثرهم علماء أو أطباء: أصحاب الكندي: السرخسي وأبو زيد البلخي وابن كرنيب ومجموعة ثانية على رأسها: ثابت بن قرة وأخيرًا ورثة مدرسة الإسكندرية: إبراهيم المروزي وقويري. وحصل التأثر بالفعل في زمان ابن السراج (3) – ومعاصريه كابن كيسان وغيرهما وأولئك الذين سُمُّوا بالمدرسة البغدادية. وقد ازدهرت الفلسفة اليونانية في بغداد وذلك في عهد المعتضد بالله بالضبط(4). وهناك شاهد عيان عاش في ذلك الزمان وهو تلميذ ابن السراج أبو القاسم الزجاجي. قال في كتاب "الإيضاح في علل النحو" عند كلامه عن حد الاسم: "ولأن المنطقيين وبعض النحويين قد حـدوه حـدًّا خـارجًا عـن أوضاع








النحو فقالوا: الاسم صوت موضوع دال بالاتفاق على معنى غير مقرون بزمان وليس هذا من ألفاظ النحويين ولا أوضاعهم إنما هو من كلام المنطقيين وإن كان تعلق به جماعة من النحويين وهو صحيح على أوضاع المنطقيين ومذاهبهم لأن غرضهم غير غرضنا" (ص48). وقال أيضًا: "ولابن كيسان في كتبه حدود للاسم ... هي من جنس حدود النحويين. وحده في الكتاب المختار بمثل الحد الذي ذكرناه من كلام المنطقيين" (ص50).
أما قبل ذلك بقليل فقد لاحظنا في بعض النصوص تسربًا خفيفًا للمنطق وهو يكاد لا يعتد به. وهو القول بأن الخبر هو الكلام الذي يجوز فيه التصديق أو التكذيب وذلك عند المبرد – شيخ ابن السراج – وهذا اقتباس لم يترتب عليه شيء إذ لم يغير شيئًا من النظرية العربية التي أخذها الأخفش عن سيبويه.
ثم إن الناظر الممعن في كتاب "الأصول" لابن السراج لا يمكن أن تغفل عنه التقسيمات الكثيرة التي أقامها في هذا الكتاب لأول مرة في تاريخ النحو والتي جوهرها القسمة الأفلاطونية: من الجنس إلى الأنواع والفصول. وكذلك الحدّ الذي يبنى على الجنس والفصل. وقد ورد في ترجمة ابن السراج أنه درس المنطق على الفارابي بعد موت شيخه المبرد كما أخذ منه الفارابي الشيء الكثير من علوم العربية(*) (كما سنراه فيما بعد).
2- لا أثر لمنطق أرسطو فيما سبق ذلك:
أجمع المستشرقون قبل اليوم على حصول هذا التأثير بل ذهب بعضهم إلى أن مفاهيم النحو العربي الأساسية كلها مأخوذة من منطق أرسطو. ولم يأت أحد منهم بأي دليل اللهم إلا القول باستحالة إبداع العرب لكل هذه المفاهيم الدقيقة الناضجة في
(*) المبرد: المقتضب (ت.ع. عضيمة)، 3/ 88. وأما الأخفش فانظر كتاب سيبويه تحقيق هارون 1/ 26 الهامش 1. انظر أيضًا أصول ابن السراج 1/ 36.
مدة قصيرة. وهو دليل واهٍ لأن العرب أبدعوا أشياء كثيرة غير النحو في هذه المدة القصيرة مثل مفاهيم الفقه الإسلامي ومنطق القياس التمثيلي (وهو غير السلوجسموس) ومسالك العلة عند الأقدمين وهي مفاهيم ومناهج عربية محضة، فلا يوجد علاقة بين العلة الفقهية والنحوية من جهة وعلل أرسطو من جهة أخرى(*).
فإضافة إلى ما أثبتناه في بحثنا في 1954م فإننا نقول بأنه لا يمكن أن يثبت التأثير في جوهر النحو العربي إلا إذا كانت مفاهيمه الأساسية وبالتالي تحديداته ومناهج التحليل فيه تتغلب عليها النزعة المنطقية الأرسطوطاليسية لا أي نوع من المنطق وليس الأمر كذلك. فإن النحو العربي الخليلي قد بني كله على مفاهيم أصيلة لا يوجد لها نظير في منطق أرسطو. فأساسها التمييز الصارم بين اللفظ والمعنى أي بيـن
بنية الخطاب وما يدل عليه بلفظه من جهة وبين هذه الدلالة اللفظية والدلالات غير اللفظية من جهة
(*) كارثة التخليط بين هذه المفاهيم سببها الجوهري هو ترجمة المصطلح اليوناني بمصطلح عربي سبق أن استعمل بمعنى آخر أبدعه العرب وذلك مثل القياس ومثل العلة وغيرهما.أخرى.ثم إن هذا اعتبار لغوي محض وليس بمنطقي ولا سبيل إلى عثوره في المنطق اليوناني، أما ما يخص البنية فتكتشف بحمل العبارات التي تنتمي إلى فصيلة واحدة بعضها على بعض. وأما في مستوى الكلام فبهذا الحمل يتضح أن البنية المجردة التي ينطوي تحتها كل كلام فهو العامل والمعمول الأول الذي لابد منه ثم المعمول الثاني والمخصِّصات، وهذا أيضًا أمر لغوي محض وليـس له مقابل في المنطق الأرسطي. وفيما يخص أصوات اللغة فلا نجد عند النحاة العرب مفهوم المصوت القصير ولا الطويل ولا المقطع ولا المصوت المزدوج بل نجد فيه مفهومًا خاصًّا بهم هم وحدهم وهو الحركة ومقابلها السكون،وقد بني التحليل الصوتي – والعروض– كله على هذين المفهومين.
وللعرب الجهر والهمس والشدة والرخاوة ولا يوجد مثل هذا إطلاقًا عند اليونانيين،وأما الهنود فنجد عندهم مثل هذا لكن بتصور آخر، ثم ليس عندهم ما يقابل الحرف المتحرك والحرف الساكن(*) فهو شيء تفرد به العرب.
ثم في أي مكان يمكننا أن نعثر في كتب المنطق اليوناني على المفاهيم الرياضية التي كانت أساسًا للمنهجية التحليلية الخليلية كالعلامة غير الظاهرة والابتداء وخلو الشيء (كل هذا هو الصفر) وكمفهوم المثال أو البناء ومفهومي الأصل والفرع والقسمة التركيبية في تقاليب حروف الكلمة وكل ما بنى عليه من الجبر التركيبي الذي وضعه الخليل.
3- غزو منطق أرسطو للفكر العربي وامتزاجه بالنحو العربي وما ترتب على ذلك من اختفاء المفاهيم الأصيلة:



على إثر ما حصل من تسرب الكثير من المفاهيم المنطقية في النحو العربي في نهاية القرن الثالث الهجري (ويتراءى ذلك جيدًا في جميع الكتب النحوية) أعجب العلماء بما أدخل من الحدود على النحو مما سموه "بأوضاع المنطقيين". وخاصة في الكثير مما جاء بعنوان "مختصر في النحو" ألف لتعليم العربية مثل "الموجز" لابن السراج و "الجُمل" للزجاجي وغيرهما. ففيها أثر واضح للمنطق اليوناني، إلا أن النظرية الأساسية لم تمس. فكأن الحدود وبعض المفاهيم أضيفت فقط إلى ما عرف من حدود القدامى وتفطن الكثير من العلماء إلى وجود نظريتين مختلفتين في النحو فنبهوا القراء – كما فعل الزجاجي في الإيضاح – ومن جاء بعده ممن استساغ المفاهيم المنطقية فميزوا فيما بعد، بين الحد بالجنـس والفصـل وبين الحد بذكر
(*) أول من تفطن إلى هذا هو سوسور في عصرنا هذا (المتحرك عنده هو ما يسميه Explosif والساكن الـ Implosif ) ولا يوجد هذان المفهومان عند أحد قبله إلا عند العرب وأثبتت التكنولوجيا اللغوية الحديثة أنهما حقيقة ملموسة وبالتالي ضرورة الاعتماد عليهما في البحث العلمي والتعليم.


الصفات اللازمة أي الخصائص أو العلامات وهو الحد العربي (وسموه "الحد بالرسم" تخليطًا بينه وبين الحد الرسمي المنطقي). ويقول ابن يعيش في شرحه للمفصل:"والفرق بين العلامة والحد أن العلامة تكون بالأمور اللازمة والحد بالذاتية"(7/3).
وبعد ذلك بالغ بعض النحاة من المتأخرين فأدخل في النحو الكثير من المفاهيم الفلسفية المحضة وذلك مثل ابن العريف في شرحه لجُمل الزجاجي. يقول: "قد يتركب الاسم مع الفعل فيكتفي به دون الحرف لأن العَرَض إذا اتصل بالجوهر اكتفى وقام به وكان موجودًا به". (مخطوط دار الكتب بمصر / الورقة8).
إلا أن هذا الإقحام للمفاهيم غير اللغوية في الدراسة اللغوية كان غير خطير إذ كانت تستعمل فيه المصطلحات كما وضعت على أصلها. والخطر بل الطامة الكبرى هو اختفاء المفهـوم الأصيل مع بقاء
(2) نحن لا نريد بالأصيل هنا القديم بالضرورة بل الشيء المُبْدَع غير المقتبس.
(3) في كتب أصول النحو مثل الاقتراح للسيوطي.اللفظ نفسه واستبداله بمفهوم غريب عن النظرية الأصيلة(1). وقد أشرنا من قبل إلى ما حصل من فظيع الخلط بين مفهوم السلوجسموس الأرسطوطاليسي وبين القياس العربي الذي ليس هو مجموع مقدمتين ونتيجة بتاتًا. ولحُسن الحظ لم يحصل هذا عند النحاة، حتى المتأخرين منهم، ولكن حصل - مع الأسف - عند بعض المحدثين من علمائنا في اللغة. فقد بحث بعضهم عن القياس عند أبي علي الفارسي وليس في ذهنه إلا المقدمتان والنتيجة. وبعضهم يجعله مماثلاً الـ Analogia وهي إحدى الصور الاستدلالية الثلاث عند أرسطوطاليس: القياس والاستقراء والتمثيل؛ وذلك لأنه كثيرًا ما لاحظ أن القياس غير اليوناني قد يُسمَّى قياس التمثيل(2). وكمصطلح "مفرد" أيضًا فقد يطلق على مفهوم "ما لا يدل جزؤه على جزء من معناه" وهو مفهوم أرسطوطاليسي يذكره عند حدّه

للاسم و"الكلمة" (الجزء الثاني من الحكم المنطقي). ولا يدل هذا اللفظ عند سيبويه ولا الخليل على هذا ، بل يدل على ما ليس مركبًا (كثيرًا ما يقول النحاة: "إفرادًا وتركيبًا"). وكذلك هو الأمر بالنسبة لكلمة "علة" فهي لا تدل منذ زمان بعيد على ما قصده الخليل وتلاميذه، فقد حدد هذا اللفظ في كتاب العين هكذا: "حدث يشغل صاحبه عن وجهه"(تحقيق درويش 1/ 100) وهو ما يمنع أن يكون الشيء مثل نظائره ويخرجه من بابه. وصار يطلق أخيرًا على كل سبب وعلى ما كان يُفهم من العلل الأربع الأرسطوطاليسية(1).
وهذا التخطيط هو خطير وهو عندنا من أسباب الجمود الفكري العربي لأنه منعنا (مع أسباب أخرى هامة) من أن نواصل أعمال المبدعين من أسلافنا . وقد تفطن لذلك الكثـير




من العلماء منهم ابن تيمية وقد بين الفروق القائمة بين الحد العربي والحد الأرسطي وبين القياس اليوناني الذي سماه بالقياس الشمولي وبين القياس العربي وهو غير القياس التمثيلي،ولا يعني به ما يعنيه أرسطو من التمثيل.
ثانيًا- تأثير النحو العربي وفلسفة اللغة عند العرب في النظريات اللغوية الغربية:
1- مفاهيم لغوية ظهرت عند الغربيين ولا أثر لها في التراث اليوناني اللاتيني:
(1) عند الفلاسفة.
(2) من هؤلاء المترجمين نذكر: Adelard of Bath (المولود في 1070) وJ.De sévilla وHermann و الدالماتي و Gundisalvi وR.of Chester و G.Cremonensi و M.Scot وغيرهم كثيرون وأكثرهم كانوا من العلماء ذكرهم بهذه الصفة روجر بيكون وأثنى عليهم لمعرفتهم اللغات. وقد أهمل علماؤنا في عصرنا هذه التراجم التي تركها هؤلاء ولم يتناولوها بالدراسة بل ولا حاول أحد أن يحصرها ويعرف بذلك ماهية الأفكار والنظريات والمناهج العلمية العربية (بالدقة العلمية المطلوبة) التي دخلت أوربا، ومتى وقع ذلك بالضبط وغير ذلك مما هو مهمل إهمالا كاملا. لقد دخلت المفاهيم اللغوية العربية أوربا عن طريق الفلسفة العربية التي نقلت إليهم مع الكثير من كتب العلوم ابتداء من القرن العاشر والحادي عشر الميلادي وقد تجند لترجمة الكتب العربية عدد كبير من المترجمين في الأندلس وصقلية وأوربا (مثل حلقة اكسفورد) (2). هذا




زيادة على ما كان اطلع عليه بعض العلماء الأوربيين من هذه المفاهيم في هذه الكتب مباشرة ومن كتب النحو بفضل معرفتهم للغة العربية ونخص بالذكر الداعي إلى "علم التجربة" (Scientia Experimentalis)(1) لأول مرة في أوربا ألا وهو روجر بيكون الإنجليزي Roger Bacon (المتوفى في 1214م).
مفهوم علم اللسان:
وقد اطلع روجر بيكون على ما كتبه أبو نصر الفارابي في كتاب "إحصاء العلوم" الذي كان نقل إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر (ترجمة G.Cremonensi ). يقول بيكون: "إن النحو هو في جوهره واحد في جميع اللغات وإن كانت تتنوع تنوعًا عرضيًّا" (2) . ويقول الفارابي: "وهذه ليست توجد في العربية فقط بل في جميع الألسنة...




فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر فيما يخص تلك الأمة وفيما هو مشترك له وغيره"(ص61).
وأول من قال بذلك في تاريخ الإنسانية هو الفارابي ولم يسبقه إلى ذلك إلا بعض النحاة كالمبرد وأتباعه (خاصة ابن السراج والزجاجي)؛ إذ صرح بأن الأقسام الثلاثة للكلم هي موجودة في جميع اللغات وربما استوحى الفارابي من شيخه ابن السراج فكرته من هذا الكلام فعممه بتطبيقه على جزء كبير من اللغة. ومن ثم جاءت فكرة الكليات اللغوية (The Universals ).
وانتشرت هذه الفكرة في أوربا وكانت المصدر لما سمَّوه "بالنحو العام"Grammaire générale أوGrammaire Universal ألف فيه ج.هاريس(J.Harris) الإنجليزي كتابه Hermes (3)وكذلك فلاسفة "الموسوعة"
(1) أدرك بيكون جيدًا ما وجده في كتب ابن الهيثم في كتاب المناظر من القوانين والتجارب الفيزيائية في البصريات وألف في ذلك كتابًا وذاعت هذه الأشياء في أوربا ذيوعًا كبيرًا ولا يعترف أكثر مؤرخي العلوم بما أثبته العرب من قوانين البصريات بل ينسبون ذلك كله إلى دكارت.
(2) ذكره Gilson في كتابه: تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط، ص 405.
(3) اسمه الكامل: Hermès or Philosophical inquiry concerning universal grammar: (1751 London,)




الفرنسيون (والنحاة الذين ساهموا في تحرير هذه الموسوعة) وغيرهم. أما التسمية الحديثة Science of language فهي ترجمة للعبارة العربية "علم اللسان" التي استعملها الفارابي ونقلت عن طريق الترجمة اللاتينية Scientia Lingue. واندفع هذا الميدان من جديد – بعد أن سادت البحوث في تحول اللغات التاريخي في القرن التاسع عشر – بشكل جديد تمامًا بداية من فردينان دي سوسور . واستخدمت لفظة Linguistique = علم اللسان أو اللسانيات لأول مرة في عام 1826م.
مفهوم العامل:
ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي – لأول مرة في تاريخ أوربا – مفهوم العامل والعمل واستعمل في ذلك اللفظ اللاتيني REGERE ومعناه الأصلي هو التدبير والتحكم في الشيء، وطبق على الفعل الذي جُعل هو السبب في ظهور الإعراب. يقول بطرس هلياس الفرنسي (في الفرنسية

"Pierre Hélie" إن أهل زماننا من النحاة يقولون dictio regit dictionem : بينما كان يقول بريسيانو (النحوي) D.exigit.D :" فلا أرى بأسًا في هذا المصطلح الذي جاء من نُحاتنا فهو مجاز، له دلالة [فالعامل] بمنزلة القائد الذي يسير(regit)جيشًا فكذلك هو الفعل الذي يسير الرفع في التركيب"(1). ويقول من جهة أخرى: "العمل معناه أن تتحكم كلمة في كلمة أخرى في داخل تركيب حتى يكتمل هذا التركيب"(241).
(1) انظر : Notices et extraits:Thurot ص 74 و 239 أيضًا (باريس 1886).
(2) مصدره بالإنجليزية هو government ونعتقد أن تشومسكي أخذ هذا اللفظ في الوقت نفسه من مصطلحات النحو العبري (وهو منقول من النحو العربي) مع استئناسه بوجوده في كتب النحو الإنجليزي.
وكُتب لهذا المفهوم وهذا اللفظ بالذات النجاح الكامل، فقد اطرد استعماله في أكثر كتب النحو باللغات الأوربية، واستعمل بعضهم مرادفًا له وهو gobernare وكان معناه في ذلك الزمان (حتى الآن) "تسيير العامل للإقليم". وعند ظهور البنوية تُرك هذا المفهوم فأحياه من جديد، منذ عهد قريب جدًّا، تشومسكي وله تقريبًا نفس المعنى عنده(2).
فهذان اللفظان بهذا المعنى في النحو لا نجد لهما أثرًا إطلاقًا في أي كتاب نحو أو لغة ألف في أوربا قبل القرن الثالث عشر. والغريب أن العامل بهذا المعنى هو مفهوم مأنوس عند النحاة العرب، بل هو من مفاهيم النحو الأساسية(*). ولا ندري هل أخذ النحاة الغربيون هذا المفهوم من العرب؟ وإن حصل هذا فكيف كان ذلك؟ أمن كتب النحو المترجمة أم روجه أحد من درسوا العربية على أصحابها في مدارس الأندلس؟ أو صقلية من أولئك العلماء المترجمين أو غيرهم؟ ومهما كان فإن ترجمة Erpenius في بداية القرن السادس عشر للآجرومية استعملت فيها كلمة rectio للعمل وregens للعامل. وإن دل ذلك على شيء فهو أن المترجم الأوربي علم أنهما يدلان على مفهوم واحد.
المسند والمسند إليه:
يستعمل بطرس هلياس – السابق الذكر – لأول مـرة أيضًا – اللفظين

Supponi و Apponi وصارا فيما بعد Suppositum و Appositum للدلالة على المسند والمسند إليه ويقابلهما في المنطق الـ Subjectum و الـ Proedicatum وهما في الأصل لا في جميع الأحوال الموضوع المحمول في منطق أرسطو واستعارهما النحاة الرومانيون ولا يزال يستعملهما النحاة الغربيون بهذا المعنى إلى يومنا هذا. ويبدو أن نحاة القرن الثالث عشر رفضوا الخلط بين المفهوم المنطقي وبالمفهوم اللغوي المحض – الذي يتمثل في المصطلح العربي المسند والمسند إليه (وظهر لأول مرة عند سيبويه). فمن المنظور المنطقي هو الحكم الذي محكه الصدق أو الكذب ومن المنظور اللغوي هو الخطاب الذي يصلح للبيان والإفادة ليس إلا. وربما أداهم ذلك إلى تبني المفهومين العربيين ونرجح ذلك لأن الكلمتين اللاتينيتين الأوليين معناهما المعتمد والمعتمد عليه ولا تعنيان – وكـذلك
(*) وهو أهم عنصر في النظرية الخليلية الحديثة وصاغها المهندسون لاستثمارها في الحاسوب.
المسند والمسند إليه – أن حكمًا حمل على موضوع فاحتمل الصدق أو الكذب ( وهذا يمكن أن يقال عن الجملة الخبرية فقط وليس بالضرورة).
2- مفاهيم لغوية عربية اقتبسها العلماء الغربيون في القرنين السادس عشر والتاسع عشر:
من أوائل العلماء الأوربيين الذين تأثروا بالنحو العربي مباشرة لا عن طريق الفلسفة – نذكر اللغوي الإسباني Sanctius (1). ويعرف بأنه كان واسع الاطلاع ولاسيما فيما يخص النحو العربي. وفي كتابه الأساسي المسمى بـ Minerva (2) في نحو اللغة اللاتينية قد أحاط حقيقة بكل المفاهيم الأساسية التي اطلع عليها في كتب النحو العربية التي راجت في زمانه وخاصة التقسيم الثلاثي للكلم، وتبنى هـذا التقســيم مـن النحـاة




الفرنسيين BuffierوDangeau. هذا ولم يشر سنكتيوس ولا مرة إلى أن التقسيم الثلاثي هو لأرسطو كما فعله الكثيرون في زماننا(3).
إن سنكتيوس هو أول من أدخل مفهوم الإضمار في النحو اللاتيني وسماه بالـ Ellipse. وحاول مثل النحاة العرب أن يعلل الكثير من العبارات المختصرة بتقدير ما هو محذوف. وبرع في ذلك وهو لا يتعسف في ذلك أبدًا؛ لأن الإضمار هو نتيجة لعملية خاصة وهي حمل العبارات بعضها على بعض ليكتشف البنية التي تجمعها إن وجدت. وقد تخرج بعض العبارات عن نظائرها ولا تطرد بسبب الحذوف لأسباب كثيرة كالاستخفاف وطرد الباب ورفع اللبس وغير ذلك مما ذكره العرب في كتبهم. وأخذ ذلك نحاة بورويال إلا أنهم تعسـفوا إذ كانـوا قد قرروا أن
(1) اسمه الكامل: F.Sanchez el-Brocense وهو غير الفيلسوف.
(2) نشر لأول مرة في 1887م وترجم إلى الإسبانية والفرنسية في السنين الأخيرة.
(3) أفضنا في ذلك في مقالنا الذي سبق أن ذكرناه. (لا يوجد عند أرسطو إلا الاسم والكلمة (في كتاب العبارة) ويذكر ثمانية أقسام في كتاب الشعر. وقالوا بأن القسم الذي خصصه لهذه الأقسام الأخيرة منحول وبعضهم قال إنه ناقص.



تكون جميع العبارات أيًّا كانت على نمط واحد ولو اقتضى ذلك التقدير غير المعقول، كل ذلك باسم المنطق والعقل(*). وتأثر أيضًا بهذا المذهب النحوي الفرنسي المشهور Dumarsais الذي حرر الكثير من المقالات في "الموسوعة" في القرن الثامن عشر.
واقتضى ذلك أن يستعير سنكتيوس من النحاة بالضرورة مفهوم القرينة المقالية والحالية إذ لا يمكن كما صرح بذلك كل النحاة أن يحدث أي حذف وأي إضمار إلا ومعه سياق أو حال يرتفع به اللبس ( Situation or Context) .
ثالثًا- تأثير النحو العربي على علماء القرن التاسع عشر عن طريق أستاذ هذا الجيل منهم: وهو Sylvestre de Sacy (المتوفى في 1838م):
بدأت الدراسات الخاصة باللغة العربية في الجامعات الأوربية في القرن السادس عشر فترجمت بعض

المختصرات النحوية كالآجرومية والكافية لابن الحاجب وغيرهما واستمر ذلك حتى ظهر أحد كبار المستشرقين الذين أنتجوا كثيرًا من الدراسات في اللغة العربية وهو Sylvestre de Sacy الفرنسي الذي عاش في بداية القرن التاسع عشر. واشتهر هذا الرجل الفذ بحيث نزح إليه الكثير من الطلبة من الألمان ومن خارج فرنسا وكان معه عالم آخر اسمه Chézy تتلمذ عليهما جماعة ممن صاروا بعدهما من عمالقة التفكير اللغوي الأوربي. ونذكر منهم فون هومبولت Von Humbolt والأخوين جريم Grimm وفريدريك شلجل. وهم من مؤسسي اللسانيات الأوربية.
وقد أطلع دي ساسي هؤلاء على الكثير من المفاهيم التي لم تكن معروفة وذلك مثل المادة الأصلية التي سموها جذر الكلمة. فهذا كان مجهولاً تمامًا عند علماء الغرب قبل القرن التاسع عشر. وصرح بعضهم
(*) ورد عليهم بعنف اللغويون البنويون فبالغوا في هذا الرد فألغوا التقدير وأخرجوه من جملة أدواتهم العقلية.
أنهم وجدوا هذا المفهوم عند علماء الهنود القدامى، ويكون هذا صحيحًا بالنسبة إلى بعضهم إلا أن هذا الجذر قد عرف قبل أن تترجم وتنشر الكتب الهندية (في وسط القرن التاسع عشر وبعده).
وقد اشتهر عند هؤلاء العلماء مفهوم الجذر فراحوا يحللون الكلم إلى جذور ولواصق (affixes) . وعرفوا أيضًا مثال الكلمة (وزنها وبناءها) ولم ينتبهوا إلى أهميته العظيمة كما لم يتفطنوا إلى أنه ناتج عن تحليل رياضي يحتاج إلى أن تجرد الوحدات ويرمز إليها برموز مثل (ف/ع/ل) في العربية ثم أضف إلى هذا أن التحليل عندهم منذ أقدم الأزمنة هو تحليل تقطيعي فقط، فيجب أن يُفضي إلى قطع صوتية محسوسة لا مجردة. وإلى الآن تجهل اللسانيات الغربية ما "للمثال" العربي من قيمة ابستمولوجية عظيمة كما يجهل الكثير من معاصرينا أن المثال يوجد أيضًا في مستوى الجملة وليس خاصًّا بالكلم.
هذا واهتم العلماء الألمان كثيرًا بعد دراستهم على دي ساسي وعلى من تتلمذ عليه من شيوخهم بالنحو العربي وبما كتبه علماؤنا في الصوتيات خاصة. ونذكر ههنا البعض منهم:
1- Ernst Brucke (ابتداء من1849م): تطرق في كتابه: Grundzuge der Physiologie und Systematic der Sprachlaute إلى ما قاله عن النظام الصوتي في لغتهم كل من اليونان والهنود والعرب. وله أيضًا دراسة عن الأصوات في العربية: Beitrage zur Lautlehre der arabischen Sprache (1960م).
2- Czermak: له دراسات في الصوتيات المخبرية هامة.
3- Wallin: ترجم إلى الألمانية نصوصًا خاصة بأصوات العربية. وترجم إلى الألمانية أيضًا عدة نصوص من كتب القراءات، وكليات أبي البقاء وغيرهما. وعلَّق عليهما وذلك في دراسة: Uber die Laute des
Arabischen und ihre Bezeischnung in L.D.M.G,1855,p.1-69,p.599-665.
4- R.Lepsius : اهتم أيضًا بصوتيات العربية ولـه: Uber die Arabischen Sprachlaute und deren Unschrift, (1861م).
هذا ولم يعرف القدامى من علماء اليونان ولا الرومان ولا أوربا حتى نهاية القرن التاسع عشر معنى المجهور والمهموس كما استغلقت على أفهامهم بعض المصطلحات الصوتية العربية وكانت غريبة على الثقافة الغربية قديمًا وحديثًا (حتى على هؤلاء الذين ذكرناهم).
قال ماتسون (Mattson) في كتابه عن لهجة بيروت(1911م): "في وقت متأخر تحصل علماؤنا في المشرقيات على المعلومات الصوتية التي كانت تنقصهم فاستطاعوا أن يفهموا في الأقل ما كان العرب قد لاحظوه وأثبتوه، وكان العرب قد أصابوا في معظم ما قالوه: (ص10). وذكر ماتسون دي ساسي الذي لم يدرك شيئًا من التقسيمات الصوتية العربية

وقد منع ساسي وبعض من جاء بعده من فهم هذه الأشياء وما ورثوه من الصوتيات اليونانية فكان كالحجاب على عقولهم وعلى أذهانهم وكيف كان يمكن أن يميزوا بين المجهور والمهموس وهم لا يعرفون أن هذا يحصل في "أقصى الحلق" بوجود "صوت الصدر" (*) (اهتزازات الأوتار) ( وقد اسـتغلق ذلك إلى الآن على زملائنا) وأقر الغربيون ذلك التمييز نهائيًّا يوم تمكنوا من مشاهدة هذا الاهتزاز في المختبرات الصوتية في نهاية القرن العشرين.
(*) بيَّنا في بحث لنا سابق أن المقصود من الصدر أو أقصى الصدر هو مستوى أقصى الحلق كما هو عند قدامى الأطباء العرب (راجع مقالنا "تعال نحي علم الخليل" الذي قدمناه في 2000م في مؤتمر المجمع. وينطبق هذا أيضًا في الوقت الراهن على مفاهيم خاصة بعلماء العرب ولا مقابل لها أبدًا في الصوتيات الحديثة، وهو مفهوم المتحرك والساكن، وحرف المدّ وامتناع الابتداء بالساكن، وكون العين حرفًا بينيًّا، وغير ذلك، وقد حاولنا أن نبرهن على صحة كل هذه المفاهيم بالاختبار بالأجهزة الحديثة.
رابعًا- تأثير اللسانيات الغربية الحديثة في التفكير العلمي العربي:
اكتشف الباحثون العرب المحدثون ما جدّ من جديد في ميدان البحث اللغوي في الغرب منذ زمان غير بعيد، وذلك بما أوفد إلى هذه البلدان من وفود طلابية أو باتصال مباشر، في المغرب العربي خاصة.
وأول ما حصل هو في وقت ازدهار المذهب اللغوي المسمى بالبنوية ( Structuralism). وكان الذين أخذوا عن الأساتذة الغربيين قد أبهرهم هذا المذهب إلى حد بعيد (حتى أبطل الكثير منهم كل ما وصل إلينا من أسلافنا حتى من المبدعين منهم) وذلك مثل نقضهم المعيار حتى كظاهرة واعتماد الوصف وحده وبالتالي رفض العلة والتعليل. ثم حاول بعضهم أن يطبقوا مفاهيم البنوية ومناهجها على العربية كما هي دون أي نظر أو نقد أو تمحيص سابق. ثم مضى زمان حتى ظهر مذهب جديد ألا وهو النحو التوليدي التحويلي فتحمس بعضهم له وراحوا يطبقونه - كما أخذوه - على العربية ثم ظهرت مذاهب مختلفة منها الوظيفية الحديثة(وأحد زعمائها: Dick الهولندي) فحصل مثل ما حصل في السابق. والذي يؤاخذ على هؤلاء ليس هو الاقتباس من غيرهم، فهذا جائز ومرغوب فيه، بل الاقتباس بدون نظر وبدون تمحيص والارتياح الكامل لأي مذهب أو موضة تظهر في الغرب والاقتناع الراسخ أن ما مضى عليه زمان فلابد أن يكون غير ذي قيمة في جملته، وهذا خضوع تام للإيجابية الأوربية القائلة بأن العلم هو هذا الذي تمارسه أوربا وحدها منذ أول نهضتها؛ لأنه إيجابي أي غير ميتافيزيقي يعتمد على ظاهرة الحواس. وهيهات أن تكون العلوم في هذه البلدان نفسها على هذا الشكل الساذج كما تصورته الإيجابية ( Positivism ).
الجانب الإيجابي لنظريات اللسانيات الحديثة:
أثبت العلماء الألمان في القرن التاسع عشر ثم سوسور ونظراؤه أن الظواهر اللغوية كأي ظواهر يمكن أن تدرس دراسة علمية موضوعية، وأن الألسنة البشرية مثل كل الظواهر تتحول من حال إلى حال عبر الزمان حتى تصير ألسنة أخرى، وأن لهذه التحولات الزمانية قوانين صارمة، ثم أثبتوا بعد ذلك أن الألسنة يجب أن تدرس أيضًا في حد ذاتها، أي من حيث هي أدوات للاتصال والتبليغ، وأن لكل واحد منها نظامًا من الرموز الصوتية خاصًّا بها، ونظامًا من الدوال المفردة والمركبة يجب أن يحلل تحليلاً موضوعيًّا لا لغرض التعليم بل من أجل اكتشاف أوصافه وخصائصه. فتبين للناس حينئذٍ أن دراسة اللغات ليس الغرض منها بالضرورة اكتساب القدرة على استعمالها بل أيضًا الكشف عن أسرارها في ذاتها. وكثرت - على هذا - الدراسات والبحوث في أكثر اللغات البشرية من حيث هي ظواهر تستحق الدراسة العلمية لا لغرض آخر غير تحصيل العلم النظري لا المهارة فقط وذلك بالتحليل الدقيق الخاضع لمقاييس معينة. فهذا كله إيجابي جدًّا على الرغم من المذاهب الكثيرة المتشعبة التي ظهرت بعد سوسور في كيفية تناول هذه الدراسة العلمية واشتد الاختلاف فيها بسبب اختلاف التصور لماهية اللغة: هل يبنى التحليل كله على كون اللغة أداة تبليغ أو هناك أوصاف أخرى للغة عميقة لا يمكن أن يتغافل عنها؟ وهل يجوز لنا أن نكتفي بالوصف لنظامها الباطني؟ بل هل هذا النظام هو مجرد نظام تقابل بين الوحدات؟ وألا يجب أن نعتد بمعيار اللغة كظاهرة وكآلية اجتماعية ينتظم عليها استعمالها إذ لا توجد لغة في الدنيا دون معيار معين؟ وغير ذلك. فكل هذا مفيد لأنه سيؤدي بنا إلى تصور موضوعي للغة. ولكل هذا أيضًا تطبيقات كثيرة في ميدان تعليم اللغات وأمراض الكلام والعلاج الآلي للغة.
وفيما يخص هذا العلاج الآلي للغة فقد نشأت منذ عهد غير بعيد تكنولوجيا خاصة باللغة منذ أن صار العلماء والمهندسون يستعينون بالحاسوب في تحليل اللغة، ولهذا الميدان خصوبة عجيبة إذ لا يزال يأتينا أصحابه بمعلومات جديدة قد لا يستطيع اللغوي أن يحصل عليها هو وحده(*).
الخاتمة:
لقد حصل تأثير متبادل واسع في ميدان النظريـات اللغـوية ومناهجها














التحليلية بين الحضارتين العربية والغربية منذ زمان بعيد كما رأيناه، إلا أن معرفة ذلك تحتاج إلى أن يتفرغ لها وينكب على دراسة هذا التأثير كل من يهتم بذلك. ويجدر بنا أن نقول إن الكثير من المفاهيم العربية اللغوية تحتاج إلى أن ينظر فيها بجدّ وبموضوعية، ولاسيما تلك التي لا تزال غامضة عند الكثير من الباحثين، ونأمل أن تتضافر الجهود للحصول على تجديد كامل للسانيات العربية إن شاء الله.
عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل
(*) والمدرسة الخليلية الحديثة التي سبق أن ذكرناها تتكون من هؤلاء اللغويين والمهندسين العرب الذين يحاولون أن يحيوا "علم الخليل" بقراءة جديدة لما تركه نحاتنا الأولون ويحاولون صياغة النظرية لاستثمارها على الحاسوب.من الجزائر

ليست هناك تعليقات: