الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الاثنين، نوفمبر 16، 2009

التحليل السيميائي للنصوص الأدبية http://www.rabitat-alwaha.net/moltaqa/showthread.php?t=8774
ملتقى رابطة الواحة

________________________________________

معنى السيميائية لغةً :
السِّيمَاء والسِّيمِيَاء، بياء زائدة: لفظان مترادفان لمعنى واحد. وقد ورد ذلك في كتاب الله ، لكن مقصوراً غير ممدود، أي بلا همز، هكـذا: (سِـيمَا). قال ـ تعالى ـ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. وقال ـ سبحانه ـ: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273].
والسِّيمَاءُ في معاجم اللغة: هي العلامة، أو الرمز الدال على معنى مقصود؛ لربط تواصلٍ ما . فهي إرسالية إشارية للتخاطب بين جهتين أو أكثر، فلا صدفة فيها ولا اعتباط .
والسُّومة والسيمة والسيماء والسيمياء: العلامة، والخيل المسوَّمة: هي التي عليها السمة، وقد يجيء السيما والسيميا ممدودين، وأنشد لأسيد:
غلام رماه الله بالحسـن يافعـاً له سـيمياء لا تشـقّ على البَصَـرْ
كأن الثريـا عُلِّقت فوق نحـره وفي جيده الشِّعرَى، وفي وجهِهِ القَمَرْ
(له سيمياء لا تشق على البصر) أي يفرح به من ينظر إليه.( مختار الصحاح ولسان العرب والقاموس المحيط ، مادة : سوم).

معنى السيميائية اصطلاحًا :
السيميائية أو السيميولوجيا هي " دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية " ( بنكراد ، 2003) . وهي في حقيقتها " كشف واستكشاف لعلاقات دلالية غير مرئية من خلال التجلي المباشر للواقعة ، إنها تدريب للعين على التقاط الضمني والمتواري والمتمنِّع ، لا مجرد الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير عن مكنونات المتن " ( بنكراد ، 2003) .

التحليل السيميائي للنصوص الأدبية :
يقصد بالتحليل السيميائي للنص الأدبي دراسة هذا النص من جميع جوانبه دراسة سيميائية تغوص في أعماقه ، وتستكشف مدلولاته المحتملة ، مع محاولة ربط النص بالواقع ، وما يمكن الاستفادة وأخذ العبر منه .
وأود قبل البدء في التطرق إلى جوانب التحليل السيميائي أن أنوه إلى أن التحليل السيميائي يتأثر بدرجة كبيرة بشخصية من يقوم بالتحليل وبالظروف المحيطة به ؛ ولذلك فإن التحليل السيميائي لنص معين قد يختلف من شخص إلى آخر، ومن منطقة لأخرى ، ومن فترة زمنية لأخرى ؛ وهو بذلك مجال خصب للإبداع ، فلا قيود عليه إلا أن تكون هناك دلائل في التحليل المقترح على صحة ما ذهب إليه من قام بعملية التحليل .
كما أود أن أنوه إلى أن التحليل السيميائي يركز على جانبين : 1- الرمزية والدلالات 2- ربط النص بالواقع ، ولكن ليس بالضرورة أن يقتضي ذلك التطبيق الدقيق على أشخاص بعينهم أو أماكن بعينها أو قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية بعينها .
1ـ سيميائية العنوان والغلاف والإهداء :
بدأت الكتب الصادرة من بطون المطابع تتبارى فيما بينها حول جماليات العتبات الأولى لها ، ويقصد هنا بالعتبات الأولى الغلاف والعنوان والإهداء ، بل راح الكتَّاب أنفسهم يضعون شروطاً بينهم وبين دور النشر حول اختيار نوع الغلاف والألوان الذي يحتويها ، وأي لوحة يمكن أن تتصدر الكتاب ، وأي فنان يمكن التعاون معه . وكما كان للغلاف دوره كان للعنوان مكانته عند المؤلف ، وعادة ما يكون الباب الموصد عند المؤلف حين يفكر في اختيـار العنوان ، لأن الكاتب يفكر في مشروع الكتاب وتفاصيله من فصول وأبواب ، ويترك العنوان فيما بعد ، وخصوصاً إذا كان الكتاب بعيداً عن الدراسة الأكاديمية ، فضلاً عن طبيعة سرد العنوان الذي يبين مدى ارتباط المؤلف والكتاب والمهدى له .
وهذا التباري في الاختيار والتأكيد عليه جعل المتلقي / الناقد يقرأ اللوحة والعنوان والإهداء قراءة نقدية تحليلية بوصفها العتبات الأولى التي ترشده إلى متن النص ، قراءة وتأملاً ومقارنة وتحليلاً ، في ضوء ذلك العالم الواسع المتمركز في فضاء الكتاب أو خارجه ؛ لذا تأتي بعض الأحايين دراسة العتبات الأولى والأخيرة من منطلق المدخل النقدي المقارن لمتن الكتاب .
يحترم المبدع والناقد والكاتب ، في شتى فنون المعرفة والثقافة ، عمله فيسعى إلى احترام الفنون الأخرى ، مثل : الفن التشكيلي لما يؤمن به من تمازج بين الفنون والمعارف ، فالفنون الإنسانية تكمل بعضها بعضاً ، مما يفرض على المؤلف أهمية الاختيار للغلاف والعنوان والإهداء معاً .
من هنا نجد الكتب القديمة التي كانت ولاتزال تخرج من المطابع تخلو من اللوحات التشكيلية أو الاهتمام بالعنوان ، لأن ما كان في القديم يأتي من دون لوحات فنية إلا ببعض الخطوط والأشكال التي يتعمد صاحب الدار وضعها ، أما العنوان فقد كان متجهاً نحو العناوين البلاغية والسجعية . فهؤلاء لا ينظرون إلى الناحية الشكلية وثقافة الصورة بقدر ما يضعون الاعتبار إلى المتن .
وعلى هذا فقد خرجت معظم كتب التراث والحضارة والتراجم خاليـة من فنية الغلاف ، واقتصر الأمر على التجليد المقوى والعنوان واسم المؤلف المتضمن الاسم والقبيلة أو العشيرة أو الكنية ، غير أن الإصدارات الحديثة ، وتحديداً الإصدارات الإبداعية ، مثل : الرواية والقصة والشعر والمسرحية فإنها ترى ضرورة الاهتمام بالجانب الشكلي المعني بالعتبات الأولى ، وراحت دور النشر تتفق مع العديد من الفنانين التشكيليين لوضع لوحاتهم على أغلفة إصداراتها ،متفقة مع البعض لدراسة التمازج والارتباط بين المتن أو العنوان بوصفهما نصين مكتوبين مهتمين بثقافة الكلمة وبين اللوحة التشكيلية التي تتمازج معهما أو تتقاطع بوصفها مهتمة بثقافة الصورة .
وعلى هذا الأساس نرى أهمية اللوحة التشكيليـة في العمل الإبداعي المكتوب ؛ لأنها بنية مكونة من كليات خاصة وقواعد متمفصلـة يمكن أن تخضع للتحليل والقراءة النقديـة ـ كما تقول جوليا كرستيفا في مقالة اللغة المرئية : التصوير . وهذه البنية هي لغة خطوط وأشكال وألوان ، ومن خلال هذه اللغة يمكن إظهار الواقع أو التعبير عنه أو الإحالة إليه ، بل تحيل هذه اللوحة الفنية إلى ذوات ووحدات تركيبية ودلالية تتناثر هنا أو هناك في فضاء النص المكتوب .
وإذا كانت العلاقة حتمية بين لغة اللوحة التشكيلية وبين العنوان أو بين الإهداء ، فهذا يعني أن تشاكل أو تماثل اللوحة أو العنوان يتم مع نموذج ثقافي موجود في حياتنا مسبقاً ، أي موجود في مخزوننا المعرفي الثقافي المرئي أو المقروء ، سواء أكان ذلك خارجاً من ثقافة المؤلف أم من ثقافة الفنان ، لذا فالصورة التي تبرز الكتاب الإبداعي هي عبارة عن علاقة بين أنا / الصورة والآخر / النص في ظل رغبات الانزياحات التي يمكن أن يقوم بها المتلقي لتمثيل هذا العمل كله مع الواقع المعيش والمرجعي .
من هنا أكد د0 هـ0 باجو بقوله : " من المغري جداً اعتبار الصورة شيئاً مماثلاً ومطابقاً للواقع ، لكن هذا معناه الوقوع مباشرة في فخ { الوهم المرجعي } الذي غالباً ما أدانته ورفضته الدراسات النقدية".
غير أن أية لوحة فنية ستوضع على غلاف الكتاب لتدخل عالم العتبات الأولى لهذا الكتاب أو ذاك هي في حقيقة الأمر لا تمثل واقعاً بقدر ما تكون نموذجاً بين العالم المرجعي واللغة التي تستند إليها مجموعة من النصوص المختلفة التي قد تتقاطع أو قد تتباين ، وهذا يعني أن اللوحة ذات دلالة أو دوال للنص الذي سيقرأ فيما بعد .
أما العنوان فمن البديهي أن يكون أمر اختياره من قبل المؤلف ، وقد يتدخل بعض المقربين المهتمين بشأن الإبداع ليطرحوا وجهات النظر فيما يرون من دلالات العنوان . فالمؤلف على يقين أن ينظر إلى العنوان بوصفه مجموعة من الدوال ، بحيث ينظر له من ناحية التركيب والدلالة وفعل التأويل ؛ لأنه إحدى العتبات الأولى لمتن النص .
ولذلك يحاول المؤلف أن يعطي عنوان عمله مسحة فنية تبعد العمل عن البنية السطحية بقدر الإمكان عندما يقوم بنسجه ، سواء من خلال الصورة الذهنية ، أو من خلال متخيله الذهني ؛ لذلك قد يأخذك العنوان إلى تأكيدات داخل النص ضمن مجموعة من السياقات أو بعضها ، كسياقات الحدث أو الوصف أو التركيب اللغوي أو الدلالي فكرياً أو حياتياً ، وهذا يعني أن العنوان يدخل بك في عوالم عديدة ومحطات كثيرة في هيكل العمـل وجسده بشكل مباشر أو غير مباشر ؛ لذا يقول رولان بارت : "العنوان هو نظام دلالي سيميولوجي يحمل في طياته قيماً أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية " .
ولأن العنوان ذو دلالات وعلامات رامزة للنص أو لجزء منه ؛ فإن دراسة العنوان تأتي وفق ما يتميز به من وظائف بصرية وجمالية وترويجية أو إغرائية ودلالية ؛ لهذا يطرح الدارس على نفسه الكثير من التساؤلات تجاه العنوان ، مثل : هل العنوان مفتاح النص ؟ أمأخوذ من المادة النصية ؟ أجاء محض صدفة من المؤلف ؟ ما نوع الدلالات التي يحملها العنوان ؟ كيف تتم عملية تأويله ؟ ممَّ يتكون ؟ أهو جملة اسمية أم فعلية ؟ أهو عنوان بارز على الصفحـة أم محفور فيها ؟ وخصوصاً إذا عرفنـا أن العنـوان هو " أعلى اقتصاد لغوي ممكن ليفرض أعلى فاعلية تلقٍّ ممكنة " ، وهذا ما أكده محمود عبد الوهاب حين قـال : " إن العنوان على المستوى اللغوي يعتبر مقطعاً لغوياً يعلو في النص وتتحكم فيه قواعد نحوية وسيميائية " .
وحين نأتي إلى الإهداء فمن الطبيعي أن يكون الإهداء الذي يظهر في الصفحات الأولى من بدايـة الكتب المؤلفـة أو المترجمة على شكل فني مدون ، إما بخط اليـد أو بالحاسوب ، يعبر عن ذوقٍ رفيع للكاتب ، وتقديرٍ منه بحق الآخرين ، واحترامه لدور من له شأن عنده ، أياً كان هذا الشأن ، وهذا الإهداء سواء كان إلى أشخاص معينين أو مؤسسات أو جهات أو دول أو غير ذلك ، تبقى نية الكاتب مرهونة بالتقدير تجاه من يُهدى له العمل الإنتاجي ، بل قد يصل الأمر إلى نسق التوافق بين طبيعة الإهداء وما هو منتج والجهة التي يُهدى لها ، كما أن متن الكتاب قد يفرض إهداءً معيناً سواء أكان مرتبطاً بالحزن والألم ، أم بالفرح والغبطة ، أم بدلالات يراها الكاتب ذات علاقة بينها وبين مفردات الإهداء.
2 ـ سيميائية الأسماء :
للتسمية في التراث العربي سمات‏ ودلالات تحدث عنها قديماً الجاحظ في أكثر من موضع . ولذلك استدعى الاهتمام بأسماء الشخصيات التي لا شك أنها اختيرت عن قصد، بحيث تشير إلى دلالة معينة يوحي بها الاسم بعد أن تتضح صورته في ذهن المتلقي. فاسم مثل "سكينة"، لا ريب أنه يوحي إلى أن المسمى يتسم بالسكينة والوقار والهيبة... واسم كـ"عبد الودود"، و"عبد الباقي"، و"عبد الحميد" ـ وكلها مركبة من "عبد" واسم من أسماء الله الحسنى ـ تدل ولا شك على أن هذه الأسماء الدينية لها مقام في الوسط الاجتماعي.‏
ولعل في قصة نداء المجهول التي كتبها محمود تيمور ما يدل على ذلك ( عبد الجليل ، 1982 ، 43 – 45 ) ، وإن شئت فانظر إلى الأشخاص الذين نسَبَ إليهم أحداث القصة تجد " مجاعص " و" مِس إيفانس " و " يوسف الصافي " و"الأستاذ كنعان " و " الشيخ عاد " و" حبيبًا " . وأية تسمية تلك التي يمكن أن يسمَّى بها هذا المجاعص سوى أنه حريٌّ بهذا الاسم بما فيه من جرس صوتي خليق بهذا الاسم أو الوصم إن شئت ، فهو طبلٌ أجوف يُصدِرُ عجيجًا ولا ترى له طحنًا ، يقول ويسرف في القول ، ويزعم ويسرف في الزعم ، دون أن تحس لما يقول فعلاً ، ودون أن تلمس لما يرسل ترجمة ، يرى أنه الدليل في هذه الصحراء ، وهي منه براء ، ويدَّعي أنه الشجاع المقدام وهو الجبان الهَلوع .
أما " مس إيفانس eva " فهناك قديس يدعى " إيف Yves " وهو الذي نصر مقاطعة بريتاني غرب فرنسا ، وله فيها كنيسة مشهورة ، والشق الأول من الاسم يعني حواء ، وهو بذا يحمل معاني القوة والضعف والرقة والمغامرة ما تجده ماثلاً مترجمًا ؛ فهي التي وفدت فأثرت في باقي الشخصيات وقادتها إلى هاوية محقَّقة تنفيذًا لرغبة خاصة بها مما تجد صداه في القصة .
وما يوسف الصافي في واقعه سوى هذا الأثر الدلالي لقصة يوسف عليه السلام الواردة في القرآن الكريم ، الذي تتعلق بجماله النساء ، فهو مدعاة للشغف ، ومثار للأسى والحزن على نفسه وعلى كل من حوله ، وبذلت مس إيفانس في سبيله ما بذلت .
والأستاذ كنعان هذا الاسم الدال على البيئة التي ينتمي إليها ، والكاشف عن شخصيته المنطوية التي لا تبغي استشرافًا ، ولا تريد استطلاعًا ، إنما هو بما يعرف راضٍ .
والشيخ عاد ، هذا الرجل الوقور الذي يواجه الأحداث بطبعٍ هادئ ، وعقلٍ متزن ، وتفكيرٍ متَّئد ، وتمضي الرحلة ليلقى مجاعص حتفه ، ولتتركهم مس إيفانس لاستفساراتهم وتأملاتهم ، وحدسهم وتظنُّنهم ، فيما سلكته من مسلك ، ولا يعود مع الكاتب سوى الشيخ الذي لا يصلح له سوى " عاد " اسمًا .
وشخصية حبيب الذي يتنقَّل بين الرواد من مختلف الجنسيات ، لم يكن بد من أن يكون فعيلاً ؛ دلالةً على هذه المبالغة في دنيا الحُب ، ولم يكن بد من أن يكون بمعنى مفعول ؛ دلالةً على أن هذا الحب واقعًا عليه وليس صادرًا منه .
3 ـ سيميائية الصور :
إنّ مفهوم الصورة وإنتاجها قائم على مجموعة من الرموز والدلالات التي تضعنا أمام إشكاليّة اللغة التشكيلية ، وهي لغة مرئيّة متطوّرة عبر آليات القراءة وتنوّعها. ولأننا اعتبرنا أنّ بنية لغتنا خطّية ومتواصلة، بحيث تصلنا المعلومات شفويّا أو كتابيّا ، الواحدة تلوالأخرى على امتداد الخيط الزمني ؛ فإنّ إدراكنا للصورة شامل ومتزامن ، فالمعلومات تنكشف أمامنا في آن واحد . ذلك أنّ القراءة ناتجة عن مسار العين التي تتنقّل بين الرموز لتؤّسس محور الرؤية .
هذا المسار شخصي وغير محدود في بدايته ، وهو الشيء الذي يجعل من الصورة أحيانا أداة تواصل غير مكتملة . إذ إنّها تمتصّ قراءات وتأويلات مختلفة ناتجة عن طبيعتها المعقّدة .
والقراءة تعني اختراق الحدود التقريريّة ( الظاهر ) ، في محاولة للكشف عن الإيحاء ( الباطن ) لاستخلاص مختلف العلاقات بين العناصر التشكيليّة والأنساق التعبيريّة . وتتولّد عن ذلك عمليّة التفكيك لكلّ مركّبات الأثر الفنّي ونسيجه الداخلي بغية استجلاء ماتخفيه الرموز والدلالات . وفي الأثناء تتحدّد قناة التواصل بين الباث ( الفنان) والمتلقّي (القارئ) عبر الخطاب . ( راضية العرفاوي )
تتميز الصورة بالغموض كما تحمل معاني متعددة ، يضاف إلى ذلك أن الرسالة التي تنقلها لا يمكن فك رموزها توًا . على النقيض من ذلك نجد أن الرسالة اللسانية قادرة على تحقيق تواصل خال من اللبس .
فيما يتعلق بغموض الرسالة البصرية نقول إن غموضها يعتبر على الأجدر ميزة أكثر مما هو عيب . كما أن غموض الصور يشكل غناها ، فالصور تنقل دلالات ، ومن الصعب أن نعرف ماذا تعني، وكيف تقوم بذلك .
لقد وفرت السميولوجيا الأيقونية – باعتباره علمًا حديثًا نسبيا- إمكانية دراسة الصورة في ذاتها. ترتكز سميولوجية الصورة على مناهج تحليل مستعارة من اللسانيات ، مادامت هذه الأخيرة قد بلغت درجة من النضج العلمي : إنها تَعتبِرُ الصورة نسقًا يحمل في نفس الوقت الدلالة والتواصل . وعليه فإنها تعالج الصورة كنسق يمكن أن نتحكم علميًا في قوانين اشتغاله .
هكذا يمكن أن نعتبر الصورة كالإشارة ، أي أنها أداة تكمن وظيفتها في نقل الرسائل ، وهو ما يفترض وجود سَنَنٍ تنتج بمقتضاه تلك الرسائل . إن فك رموز الرسائل يحتم امتلاك سَنَن ، وبدون ذلك لن نتقدم بخطى حثيثة في قراءة الصورة .
هناك موقفان متناقضان ، حسب تصور Thibault-Laulan، من الصورة ، فمن جهة هناك التأمل الذي يحيل على المظهر الصوري للصورة ، وهناك من جهة أخرى الفعل الذي يرتكز على فهم وتشخيص وفك رموز الرسالة ، وهو الأمر الذي يحيل على مضمون الرسالة .
يتعلق الأمر في الحالة الأولى بالقراءة الإستاتيكية (الساكنة ) ما هو ظاهر وباد. وهو ما نسميه في اللسانيات بالإيحاء ، أما في الحالة الثانية فإننا نتحدث عن قراءة دلالية (ما معنى هذا) .
نجد هذين المستويين من القراءة ضمن كل أشكال التواصل بالصور، سواء تعلق الأمر بالإعلان الإشهاري أو بالقصص المصورة أو بالتلفزة. إن لغات الصورة كيفما كانت ، لها جميعها نقطة انطلاق مشتركة : الارتكاز على الإدراك البصري .
بيد أننا لا نكتفي أبدًا ، أمام صورة أو فيلم ، باستعمال الإدراك البصري وحده ، إذ إن هذا النشاط يكون مرفوقًا دائمًا باستثمار خيالي- أقل أو أكثر قوة - يعمل على استكمال النظرة الخالصة .
لا توجد قواعد لغة خاصة بالصورة الخالصة ؛ لأن اللغة الأيقونية غير مختزلة في سَنَنٍ موحد قابل لأن يطبَّق على كل الرسائل السمعية البصرية ؛ ففي الحد الذي يفك فيه رمز الصورة على كلٍّ من المستوى الأيقوني والمستوى الاجتماعي ، تتجاوز الصورة الإطار الصوري . إن الموضوع السمعي البصري يقدَّم للمتفرج كنسيج ، يستقبل منه في بداية الأمر إدراكًا بصريًا عامًا ، بعد ذلك يبحث عن تشخيص الدلالات المعروفة سابقًا . ومع ذلك ، فإنه يقوم ، في الواقع ، باكتشاف متدرج للعلامات.(...). ترتكز كل رسالة سمعية بصرية على عدد كبير من الرموز التي توجد بمعزل عن الرسالة ، ومجموع ذلك يكون الرسالة. وهناك صنفان كبيران من الرموز :
أ- الرموز التخصيصية، وهي الرموز المختصة بنمط التعبير المستعمل ، مثال ذلك :"الكرة" في القصة المصورة .
ب- الرموز غير التخصيصية (غير المحددة) ، وهي الرموز الحاملة لدلالات تُعدَّل بواسطة نمط التعبير الذي يقع عليه الاختيار ، ومن ثم فهي تشكِّل على الخصوص رموزًا "سوسيوثقافية" مثال ذلك : سيارة ، لباس ، بحيث يحيلان مباشرة علي قيمة اجتماعية وثقافية .
في الفوتوغرافيا تعكس الصورة في كليَّتها الواقع ، كما يصعب فصل كل ما يدخل في صياغة الدلالات عن هذا التمثيل . يتعلق الأمر بضبط الصورة ، وبالضوء ، وبزاوية التقاط الصورة ، وبعمق المجال . . . إلخ. هكذا لا نجد دائمًا الواقع في الرسالة الأيقونية ، وإنما نجد الدلالات التماثلية للواقع التي يعاد اشتغالها بواسطة الرموز التخصيصية . وعليه يظهر معنى الرسالة الأيقونية عندما يصبح المشاهد قادرًا على ترجمة الرسالة ، وإعادة المجهول معلومًا ، وجمع المعطيات البصرية ضمن معرفة موجودة سابقا. ( جوديت لازار : الصورة )
4 ـ سيمياء الزمان والمكان والعلاقة بينهما :
لعل من الفضول العلمي أن نستفسر عن الزمن الذي حدثت فيه هذه الرواية ، وإلى أي مدى كانت تعود إلى الوراء لإبراز العناصر السردية ذات العلاقة بالمسرود ، ورغبة في إظهار المسرود له . قد يعود الزمن في بعض الأعمال الأدبية إلى الوراء بعشرات السنين، فيضطرب في الامتداد عبر الماضي الطويل ، ويسمى بالزمن التاريخي ، كما يتجسد ذلك في كلام (جلال الدين) في رواية " حمامة سلام " ، وهو الطالب الأزهري ، خطب في مسجد القرية يوم الجمعة بدل الإمام الغائب ، فقال: " لقد وقع العالم في حرب طاحنة لا يعلم إلا الله مداها... حرب على رأسها هتلر الذي أصبح اسمه يتردد على الألسن" . (بلقاسم دفة : التحليل السيميائي للبنى السردية ) .
إن العلاقة التي تربط الزمان بالمكان هي علاقة تكامل ، فكل منهما يكمل الآخر، ومن ثم لا وجود لأحدهما دون الآخر ، بمعنى أن هذه العلاقة أساسية ؛ لأنها تشخص جدلية في الحياة ، وتشخص جدلية الواقع الروائي في حد ذاته . والجدير بالملاحظة ، أن الزمن والمكان في رواية الزلزال مثلاً متداخلان ، متمازجان ، حاضران حضورًا دائمًا ، قد يستحيل معه تناول أحدهما بمعزل عن الآخر...وإن كنا قد سمحنا لأنفسنا بهذا الأمر، فإنما يكون ذلك على المستوى الإجرائي لا غير. ( كرومي لحسن :حركية الزمان وجمالية المكان ) .

5ـ الوظائف السردية للشخصيات :
يقصد بالوظيفة السردية للشخصية ما تمثله هذه الشخصية من شخصيات لها ملامحها الخاصة في المجتمع ، دون الخوض فيما قامت به هذه الشخصية في النص من أدوار ، إنما نستنبط من هذه الأدوار الموجودة في النص الدور الذي تمثله هذه الشخصية في المجتمع .
فهناك مثلاً : الطيب ، الخبيث ، الانتهازي ، الوقور ، فاعل الخير ، المنافق ، الغوِيّ، الناصح الأمين ، الاستبدادي ، الظالم ، المتكبر ، . . . إلخ ( في الرجال ) .
كما أن هناك ربة البيت ، الأم المهتمة بأبنائها ، الزوجة المتفانية في خدمة زوجها ، البنت المدللة ، المرأة اللعوب ، المرأة المترجلة ، . . . ( في النساء ) .
وهناك القائد الفذ ، الزعيم المتسلط ، الحاكم العادل ، العميل للعدو . . . إلخ ( في السياسة ) . وهكذا .
6 ـ سيميائية البناء الخارجي للشخصيات :
يقصد بالبناء الخارجي للشخصية الملامح الخارجية لهذه الشخصية : شكل الوجه وحجمه ، شكل العينين ولونهما ، شكل الأنف ، العنق ، طول الشخص ، عرضه ، ما يلبسه ، مشيته ، طبيعة تحركه ، جلسته ، نبرات صوته . . . إلخ .
وهنا ليس المقصود مجرد وصف لهذه الملامح ، إنما ما يمكن أن نستنبطه من دلالات من هذه الملامح ، وما يمكن أن تشير إليه هذه الملامح من معانٍ ضمنية يريد الكاتب أن يوصلنا إليها .
7 ـ سيمياء الملامح الداخلية للشخصيات :
يقصد بالملامح الداخلية للشخصية الصفات النفسية والعقلية والفكرية والاجتماعية والخُلُقية والعقائدية التي تتمتع بها الشخصية في النص نفسه ، مثل : الانطواء ، العصبية، الغيرة ، الذكاء ، الإهمال ، سعة الأفق ، سعة الاطلاع ، البلادة ، السخاء ، الكرم ، التدين ، الإلحاد ، التعصب ، التسامح ، مساعدة المحتاجين ، الشراهة ، القسوة ، التكبر ، التواضع . . . إلخ .
إن التعرف على هذه الملامح ، تساعدنا في التعرف على ما يرمي إليه الكاتب من ذكر مثل هذه الملامح ، وخاصة التركيز على واحدةٍ أو أكثر منها في النص ، وبالتالي يساعدنا في الدراسة السيميائية للنص بصورة أفضل .
علم السيمياء في التراث العربي ـــ د.بلقاسم دقّة *




مقدمة:



لم يكن علم السيمياء وليد العصر الحديث كما يزعم بعضهم، بل هو قديم النشأة؛ فقد اهتم القدامى من عرب وعجم بهذا الجانب من علوم اللسانيات منذ أكثر من ألفي سنة. لقد أفرد الفيلسوف أفلاطون هذا الموضوع في كتابه «Cartyle»، وأكد أن للأشياء جوهراً ثابتاً، وأن الكلمة أداة للتوصيل، وبذلك يكون بين الكلمة ومعناها، أي بين الدال (Signifiant) والمدلول (Signifié) تلاؤم طبيعي (Justesse naturelle)، فلهذا كان اللفظ يعبر عن حقيقة الشيء. وقد أشار أفلاطون إلى ما تمتاز به الأصوات اللغوية من خواص تعبيرية، أي العلاقة الطبيعية بين الدال والمدلول. ولذلك كانت الأصوات أدوات تعبير عن ظواهر عديدة(1)، تلتقي فيها لغات البشر باعتبارها ظاهرة إنسانية.

وقد ربط علماء العرب قديماً بين هذه المعطيات وبين ما أسموه بعلم أسرار الحروف، أي: علم السيمياء. وقد تعددت في ذلك دراسات الحاتمي، والبوني، وابن خلدون، وابن سينا، والفارابي، والغزالي، والجرجاني، والقرطاجني، وغيرهم.

ولهذا يمكن القول: إن دراسات النظام الإشاري في التراث العربي هي دراسة قديمة قدم الدرس اللساني، إلا أن الأفكار والتأملات السيميائية التي وصلت ظلت في إطار التجربة الذاتية، ولم تتجسد في إطار التجربة العلمية الموضوعية. ومن ثم فالمنطلقات السيميائية للدراسة العربية تنقصها الإجراءات التطبيقية الموسعة.

أما الدراسات السيميائية الحديثة فقد تشعبت في مجالات عديدة وحضارات مختلفة، بحيث لم تبق حكراً على أمة دون أمة، وثقافة دون أخرى. وأخذ العلماء يفحصون نصوص الحضارات القديمة بحثاً عن تأملات وخواطر سيميائية لعلهم يعثرون على بدايات معمقة وجادة لهذا العلم. فالرغبة الكامنة في السيمياء والتي ما تزال توجه مسيرة البحث فيها هي الرغبة في الإحاطة الشاملة، ولو أن الإحاطة تبدو صعبة التحقيق، إلا أنه لا بد من إجهاد العقول لتحقيق ذلك الطموح.

مصطلح "سيمياء":



أتحدث بادئ ذي بدء عن معنى "السيمياء" لغة، ثم أنتقل إلى معناها اصطلاحاً.

أ-معنى (السيمياء) باللغة العربية:

السيمياء: العلامة، مشتقة من الفعل "سام" الذي هو مقلوب "وَسَمَ"، وزنها "عِفْلَى"، وهي في الصورة "فِعْلَى"، يدل على ذلك قولهم: سِمَةٌ، فإن أصلها: وِسْمَةٌ، ويقولون: سِيمَى بالقصر، وسيماء بالمد، وسيمياء بزيادة الياء وبالمد، ويقولون: سَوَّمَ إذا جَعَلَ سمة، وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف لهذه الأوزان، لأن قلب عين الكلمة متأتٍ خلاف قلب فائها، ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من "سَوَمَ" المقلوب، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم: سَوَّمَ فرسَهُ، أي: جعل عليه السيمة، وقيل: الخيل المسومة هي التي عليها السيما والسومةُ، وهي العلامةُ(2).

وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناسَ إلحافاً. البقرة(273). وقوله: وبينهما حجابٌ وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون كلا بسيماهم، الأعراف(46). وقوله: ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، الأعراف (48)، وقوله: سيماهم في وجوههم من أثر السجود، الفتح(29). وقوله: يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، الرحمن(41).

وقد وردت كلمة السيمياء كذلك في الشعر، ومنه قول أسيد بن عنقاء الفزاري يمدح عميلة حين قاسمه ماله:











غُلاَمٌ رماه اللهُ بالحسنِ يافعاً















لَهُ سيمياءٌ لا تَشُقُّ على البصر















كَأنَّ الثُّرَيا عُلِّقَتْ فوقَ نحرهِ









وفِي جيدِه الشعرَى وفي وجهه القَمر(3)













وفي مقدمة ابن خلدون بحث كامل عنوانه: (علم أسرار الحروف) أو علم السيمياء كما فهمه القدماء.

يتَّضحُ مما أوردنا أن كلمة سيمياء مشتقة، وهي بمعنى العلامة أو الآية، أي بالفرنسية (Signe)(4). والأولى لنا استخدام هذا المصطلح (سيمياء) دون غيره لأنه مصطلح ضارب في الأصل العربي. ويعبر عنه حالياً بمصطلحين، هما: "Sémiologie" بالفرنسية و"Sémiotice" بالإنكليزية. وهذان المصطلحان مشتقان من اللفظة الإغريقية لـ "Sémion" بمعنى الإشارة أو العلامة.

ب- (سيمياء) اصطلاحاً:

إن مصطلح «سيمياء» يعني في أبسط تعريفاته وأكثرها استخداماً نظام السمة أو الشبكة من العلاقات النظمية المتسلسلة (5)، وفق قواعد لغوية متفق عليها في بيئة معينة.

إن السيمياء هي "عبارة عن لعبة التفكيك والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثاوية وراء البينات السطحية المتمظهرة فونولوجياً ودلالياً"(6)، وهي بأسلوب آخر "دراسة شكلانية للمضمون، تمر عبر الشكل لمساءلة الدوال من أجل تحقيق معرفة دقيقة بالمعنى"(7).

وهناك شبه اتفاق بين العلماء يعطي مكانة مستقلة للغة، يسمح بتعريف السيمياء على أنها دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية(9). إلا أن العلامة في أصلها قد تكون لسانية (لفظية)، وغير لسانية (غير لفظية)(10). فالسيماء "هي علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها وأصلها. وهذا يعني أن النظام الكوني بكل ما فيه من إشارات ورموز هو نظام ذو دلالة. وهكذا فإن السيميولوجية هي العلم الذي يدرس بنية الإشارات وعلائقها في هذا الكون، ويدرس بالتالي توزعها ووظائفها الداخلية والخارجية"(11).

إن السيمياء أو السيميولوجيا كما عرّفها فرديناند دوسوسير هي عبارة عن علم يدرس الإشارات أو العلامات داخل الحياة الاجتماعية(12). والنص الذي يتلى دوماً هو "اللغة نظام علامات، يعبر عن أفكار، ولذا يمكن مقارنتها بالكتابة، بأبجدية الصم إليكم، بأشكال اللياقة، بالإشارات العسكرية، وبالطقوس الرمزية، إلخ.. على أن اللغة هي أهم هذه النظم على الإطلاق"(13).

إن سوسير يضع العلامات داخل أحضان المجتمع، ويجعل اللسانيات فرعاً من السيمياء خلافاً لغيره من العلماء، وهكذا فإن علم السيمياء هو ذلك العلم الذي يدرس حياة الإشارات في قلب المجتمع، ويهتم بإنتاج الإشارات أو العلامات واستعمالها، بحيث تبرز الأنظمة السيمائية من خلال العلاقات بين العلامات.

والواقع أن السيمياء لم تصبح علماً قائماً بذاته إلا بالعمل الذي قام به الفيلسوف الأمريكي تشارلز سندرس بيرس Ch. S Peirce (1839-1914م). فالسيمياء أو السيميولوجيا تبعاً لرؤيته هي علم الإشارة، وهو يضم جميع العلوم الإنسانية والطبيعية، حيث يقول: "ليس باستطاعتي أن أدرس أي شيء في هذا الكون كالرياضيات، والأخلاق.. وعلم النفس، وعلم الصوتيات، وعلم الاقتصاد.. إلا على أنه نظام سيميولوجي"(14).

إن نظام بيرس السيميائي (السيميولوجي) هو عبارة عن مثلث، تشكل الإشارة فيه الضلع الأول، وهو الذي له صلة حقيقية بالموضوع الذي يشكل الضلع الثاني المحدد للمعنى. وهذا الضلع الثالث –أي المعني- هو إشارة كذلك تعود على موضوعها الذي أنتج المعنى(15).

فالعلامة عنده متعددة الأوجه على خلاف العلامة (الدليل) عن دوسوسير، فإنها ذات وجهين: دال (Signifiant) ومدلول (Signifié).

وتبعاً لرؤية بيرس فإن كل العلامات تدرك من خلال تلك المستويات الثلاثة (الإشارة-الموضوع-المعنى). ولهذا فإن المدلول هو معنى الإشارة، أي أنه يمثل العلاقة الأفقية بين إشارة وأخرى. وهذا هو الذي يجعل من المدلول إشارة أيضاً تحتاج إلى مدلول آخر يفسر غموضها ويزيح إبهامها.



ومن الملاحظ أن بيرس يركز على الوظيفة المنطقية للإشارة، بينما يركز دوسوسير على الوظيفة الاجتماعية، ولكن المظهرين على علاقة متينة.

والمصطلحان سيميولوجيا (sémiologie) وسيميوطيقا (Sémiotice) يغطيان اليوم نظاماً واحداً متكاملاً. والفرق الوحيد بين هاتين اللفظتين أن Sémiolgie مفضلة عند الأوروبيين تقديراً لصياغة سوسير لهذه اللفظة، بينما يبدو أن الناطقين بالإنجليزية يميلون إلى تفضيل Sémiotice احتراماً للعالم الأمريكي بيرس.

العلامة وطبيعتها في التراث العربي:

نتناول الموضوع من حيث النقاط التالية:

أولاً: العلامات في التراث:

يبدو البحث في هذا الموضوع مثيراً للجدل، لما يتضمنه من مفارقة؛ لأن علم العلامات أو علم السيمياء –كما يسمى اليوم- علم حديث، يزعم لنفسه القدرة الكاملة على دراسة أنظمة العلامات التي ابتكرها الإنسان. فكيف نربط بين هذا العلم الحديث، وبين ما هو موجود في التراث العربي؟ وما جدوى هذا الربط؟ أهي نزعة تأصيل التراث تدفعنا لذلك؟ أم هي صيحة جاءتنا من غيرنا جعلتنا نعود إلى تراثنا لعلنا نجد فيه ما يشبه هذا العلم الوافد إلينا من الغرب؟.

هذه الأسئلة وغيرها مما يدور في فلكها تحتاج إلى مواجهة، وإلى عودة إلى التراث قصد تفهمه وتحليله وتقويمه.

إن الموروث الفكري العربي لا يعدو أن يكون في كنهه مخزوناً علمياً أو ثقافياً، يظهر في شكل نظام من العلامات الدالة. وتتجلى سيميائية هذا النظام في إطاره اللغوي والثقافي والحضاري.



وقد تبلور علم السيمياء على يد علماء الأصول والتفسير والمنطق واللغة والبلاغة. وكان الباحث والموجه للدرس السيميائي هو القرآن الكريم؛ إذ منذ نزوله كان التأمل في العلامة بغية اكتشاف بنيتها الدلالية. فقد أرشد القرآن الكريم في مواضع عدة إلى تدبرها، ومن ذلك قوله تعالى: إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون. الرعد، 4. وقوله: وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون. النحل، 16.

ففي هذا التوجيه الرباني كان التعامل مع العلامة قصد فهم دلالته الروحية والعقلية والكونية، والاستدلال بحاضرها على غائبها. يقول القاضي عبد الجبار: "إن من حق الأسماء أن يعلم معناها في الشاهد ثم يبنى عليه الغائب"(16). وقد أشار إلى هذا المعنى –كذلك- الراغب الأصفهاني، وذلك حينما تحدث عن الفقه، فيقول: "إن الفقه هو معرفة علم غائب بعلم شاهد"(17).

فمن هذه الوجهة تعامل العلماء مع العلامة من حيث هي علامة تدل على حقيقة حسية حاضرة تحيل إلى علامة دالة على حقيقة مجردة غائبة.

ثالثاً: ماهية العلامة:

الواقع أن دراسة نظام العلامات قديم قدم الحياة نفسها، ولكن المنطلقات النظرية لهذه الدراسة اختلفت من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أخرى، وذلك لاختلاف الحقب التاريخية، واختلاف الحضارات. وقد وصلت بعض الأفكار السيميائية من حضارات قديمة كالحضارة اليونانية والعربية، إلا أن تلك الأفكار السيميائية ظلت في إطار التجربة الذاتية، ولم تدخل في إطار التجربة العلمية الموضوعية(18).

فقد رأى الباحثون أن القدامى من عرب وعجم اهتموا بهذا الجانب من علوم اللسان منذ أكثر من ألفي سنة. فقد أفرد الفيلسوف أفلاطون بالتأليف. وأكد أن للأشياء جوهراً ثابتاً، وأن الكلمة أداة التعبير عن الحقيقة، وبذلك يتم تبين الكلمة وحقيقتها الدالة عليها، أي: بين الدال والمدلول، أو المبنى والمعنى تلاؤم طبيعي. فلهذا كان اللفظ يعبر عن جوهر الأشياء، وكانت الكلمة تظهر أول ما تظهر في وسط بدائي، وهذا ما حدا بسقراط إلى القول بأن المجتمع البدائي هو المنبع الأصيل للكلمة. وقد أشار أفلاطون إلى ما تمتاز به أصوات الكلمة من دلائل، أي العلاقة الطبيعية مع المدلول، ولذلك كانت الأصوات اللغوية أدوات للتوصيل عن معان عدة كالحركة والخفة والاضطراب والخوف والطموح والعظمة والاستبطان وغير ذلك من المعاني(19).



وإذا كانت السيمياء تتناول العلامة، فقد اهتم الدارسون العرب القدامى بتعريفها. ويتقارب مفهومها عندهم مع مفهوم السمة والأمارة والأثر والدليل. فكل ذلك يتعلق بالدلالة. وهي في اعتقادهم "كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر"(20). يقول أحمد بن فارس حين كلامه عن مادة (دلّ): ".. أصل يدل على إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والدليل الأمارة في الشيء"(21). ويقول أبو هلال العسكري في هذا الأمر حين كان بصدد الحديث عن العلامة والدلالة: "يمكن أن يستدل بها، أَقَصَدَ فاعلها ذلك، أم لم يقصد، والشاهد أن أفعال البهائم تدل على حدثها، وليس لها قصد إلى ذلك.. وآثار اللص تدل عليه، وهو لم يقصد ذلك، وما هو معروف في عرف اللغويين يقولون استدللنا علينا بأثره، وليس هو فاعل لأثره من قصد"(22).

هذا إيماءة من أبي هلال إلى إشكالية القصدية في العلامة، وهي الإشكالية التي تعد في الفكر السيميائي الحديث، موضوع نقاش بين اتجاهين: اتجاه يؤكد على الطبيعة الإبلاغية التواصلية للعامة، ويمثل هذا الاتجاه كل من مونان، ومارتيني، وبرييطو في الفكر السيميائي الفرنسي. وهم يعتقدون أن العلامة تتألف في أساسها من دال ومدلول وقصد. واتجاه آخر يركز على الجانب التأويلي للعلامة، أي من حيث إمكانية العلامة للتأويل بالنسبة للمتلقي. ويمثل هذا الاتجاه رولان بارت الفرنسي، وهو اتجاه يوصف بالسيميمائية الدلالية.

نجد هذا التصور نفسه للعلامة عند الراغب الأصفهاني، إذ يقول: "الدلالة ما يتوصل به إلى معرفة الشيء، كدلالة الألفاظ على المعنى، ودلالات الإشارات والرموز والكتابة، وسواء أكان ذلك بقصد من يجعله دلالة، أم لم يكن يقصد، كمن يرى حركة إنسان فيعلم أنه حي"(23). ويستشهد الأصفهاني على تصوره هذا بما ورد في قوله تعالى: ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل مِنْسأَته سبأ، 14. فالراغب بهذا المفهوم للدلالة يوسع المجال التطبيقي الإجرائي للعلاقة لتشمل أنماطاً سيميائية، هي: (الألفاظ، الإشارات، الرموز، الكتابة، الهيئة). ثم يركز على مسألة الدلالة القصدية وعدمها في العلامة، وقد كان مدركاً عندما جسد ذلك بصورة سيلمان –عليه السلام- كما ورد في الآية الكريمة –حيث ظل بعد وفاته عاماً منتصباً ومستنداً على منسأته (عصاه). هذه الهيئة أو النصبة كما يسميها الجاحظ(24)، أوّلها الجن بدلالة الحياة، لذلك كانت تعمل، وكأنها مأمورة. وبالتقادم الزمني أكلت الأرضة منسأته، فخر ساقطاً، وهذه الهيئة هي علامة موت وفناء، وهذه الصورة التي مثل بها الأصفهاني تنطبق على أي هيئة.

يتضح مما سبق أن التأويل وجد طريقه في الدراسات العربية، وبخاصة في الدراسات القرآنية، وقد اتسعت دائرته لدى الشيعة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وإخوان الصفا.. واتخذ بعضهم المصحف جلّه موضع تأويل، رغم اختلاف مستويات خطاب النص القرآني. وانتقى آخرون نصوصاً تخدم مقاصدهم المختلفة، إلا أنه يمكن القول: إن المفسرين على اختلاف مشاربهم استثمروا النصوص الوارد فيها التشبيه بكيفية صريحة أو مجازية.



ولم يقتصر منظور القدامى لمفهوم العلامة التأويلية على النص القرآني، وإنما تجاوز إلى كل ما له علاقة بالعمل الأدبي، فقد تعاملوا مع الإشارة الموحية، وهو نوع من الأساليب البلاغية التي تخرج إلى المعنى المجازي.

3-طبيعة العلامة:

لقد اهتم الدارسون القدامى على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم العلمية، من لغويين وفلاسفة وعلماء أصول، بطبيعة العلامة من حيث هي شيء محسوس يدلّ على شيء مجرد غائب عن الأعيان. يقول ابن سينا: "إن الإنسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور الأمور الخارجية.. فترتسم فيها ارتساماً ثانياً ثابتاً، وإن غابت عن الحس... ومعنى دلالة اللفظ (هو) أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم، ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه"(25).

إذا تدبرنا مفهوم ابن سينا لدلالة اللفظ نجده يتفق ومفهوم دوسوسير للعلامة. فالعلامة في منظور ابن سينا ثنائية المبنى، تتألف من مسموع، ومعنى (مفهوم). وبهذا التصور يلغى من مفهوم العلامة المرجع الذي تحيل إليه العلامة، وذلك ما نجده عند دوسوسير أيضاً، إذ تتألف العلامة عنده من صورة سمعية (دال) وصورة ذهنية أو تصور (مدلول). وهناك بعض العلماء يعدون المرجع طرفاً أساسياً في العلامة. من أولئك أبو حامد الغزالي الذي يرى أن الأشياء في الوجود لها أربع مراتب، إذ يقول: "إن للشيء وجوداً في الأعيان، ثم في الأذهان، ثم في الألفاظ، ثم في الكتابة. فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الوجود في الأعيان"(26). فالعلامة في نظر الغزالي تتألف من أطراف أربع أساسية، هي: الموجود في الأعيان، الموجود في الأذهان، الموجود في الألفاظ، الموجود في الكتابة.

يبدو أن الغزالي قد أدرك أهمية اللغة في إبداع النظام التواصلي، إذ أن الإنسان يكيّف تعامله مع الواقع الخارجي، من خلال كفاءته العقلية التي تسمح له بابتكار النمط الترميزي الدال وفق التصور الحسي، وما يوفره المحيط الاجتماعي من إشارات ورموز ترتبط بعالم الأشياء المحسوسة. وقد أصبح هذا التصور لعالم الأشياء محوراً أساسياً في النظرية الدلالية الإحالية التي جاء بها ريتشاردز، (Richards)، وأوجدن (Ogden) في مؤلفهما (The meaning of meaning)، أي: معنى المعنى، والذي أصدره سنة 1923م، حيث أشارا إلى أهمية التحليل المزدوج الذي يتناول العلاقة بين الألفاظ والأفكار من جهة، والأشياء المشار إليها من جهة ثانية.



وقد أوجزا فكرتهما في شكل مثلث، اشتهر في الدراسات الدلالية(27).1

-الرمز: هو الدال، ويأتي كلمة مكتوبة أو منطوقة، تتألف من مجموعة وحدات صوتية. وهو يقابل اللفظ في التراث، ويقابل الدال عند دوسوسير. والعلاقة بين الرمز والمرجع علاقة غير معللة وغير مباشرة، ولا تتم إلا من خلال جانبي المثلث أي: المرجع-الفكرة-الرمز.

-الفكرة (المفهوم): وهي الصورة الذهنية التي تتراءى من خلال الدال، والفكرة تقابل المعنى أو المدلول عند دوسوسير. والعلاقة بين الرمز والفكرة هي علاقة سببية، أي أن الفكرة هي العلة في وجود الرمز.

-المرجع: وهو الواقع الخارجي (المشار إليه) الموجود في الأعيان. وهذا لا وجود له عند دوسوسير. ويقابل المشار إليه في تعريف أوجدن وريتشاردز.

فالعلاقة بين الموجود في الألفاظ (الرمز)، والموجود في الأذهان (الفكرة) علاقة سببية، أي: أن الدال يتطلب في ذهن المتلقي المدلول، كما أن المدلول يتطلب هو الآخر في ذهن المتكلم الدال الملازم له، لذلك فإن المفاهيم المستوحاة من المرجع الخارجي قابلة لأن تكون مشتركة بين أفراد المجتمع، بينما هذه الخاصية تفتقر إليها الموجودات في الألفاظ (الدوال) وارتباطها بالمدلولات؛ لأنها تواضعية اصطلاحية. وقد ذكر ذلك الغزالي بصريح قوله: "الموجود في الأعيان والأذهان لا يختلف باختلاف البلاد والأمم بخلاف الألفاظ والكتابة، فإنهما دالتان بالوضع والاصطلاح"(28).

نجد هذا المفهوم للعلامة بأطرافها المذكورة عند حازم القرطاجني، حيث يقول: "قد تبين أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان، ولها صور موجودة في الأذهان ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام والأذهان"(29). وتبعاً لهذه الرؤية، فإن كل العلامات تدرك من خلال تلك المستويات الثلاثة. ولهذا فإن المدلول هو معنى الإشارة، أي: أنه يمثل العلاقة الأفقية بين إشارة وأخرى. وهذا هو الذي يجعل المدلول إشارة أيضاً تحتاج إلى مدلول آخر يفسر غموضها ويزيح إبْهامها.

إن المعاني، بوصفها مدلولاً تدل على العلامات اللغوية، هي فيما يذهب إليه حازم القرطاجني "الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان"(30). وهذه الصور الحاصلة في الأذهان (المفاهيم الذهنية) ليست إلا محصلة لعملية إدراك الواقع الخارجي، وليست العلامات اللغوية إلا عبارة عن هذه الصور الذهنية المدركة. من هنا تتساوى العلامات المنطوقة بالعلامات المكتوبة، أي: أن الألفاظ تتحول في الذهن إلى مجموعة من الصور والمفاهيم. وبعبارة أخرى تتحول من وجود عيني محسوس إلى وجود ذهني متخيل، ثم تتحول من هذا الوجود الذهني المتخيل إلى معان صوتية، فرموز كتابية. يقول حازم القرطاجني: "كل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصور الذهنية الحاصلة عن الإدراك، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ لمن لم يتهيأ لها سمعها من المتلفظ بها، صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ، فتقوم بها في الأذهان صور المعاني، فيكون لها أيضاً وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليه"(31).

إن ما قدمه القرطاجني في هذا النص يقيم العلاقة بين الدلالات الصوتية والرموز الكتابية على أساس من الترابط الدلالي، حيث تجسد الرموز الكتابية هيئات الألفاظ في الأفهام. فإذا قامت هيئات الألفاظ في الأفهام تطلبت واستدعت الصورة الذهنية. والصورة الذهنية تشير بدورها إلى المدركات العينية الخارجية. وهكذا تجد العلاقات الدلالية قائمة على الترابط بين كل طرفين. وهذه العلاقات الدلالية عند القرطاجني يمكن تمثلها على النحو الآتي:

-الرموز الكتابية (دال)  الصورة السمعية للألفاظ (مدلول).

-الصورة السمعية للألفاظ (دال)  الصورة الذهنية (مدلول).

-الصورة الذهنية (دال)  الأعيان المدركة (مدلول).



وترى أن كل مدلول يصير بدوره دالاً؛ فالصورة السمعية للألفاظ تكون مدلولاً في علاقتها بالرموز الكتابية، ولكنها تصير دالاً في علاقتها بالصور الذهنية. والصور الذهنية تكون مدلولاً في علاقتها بالصورة السمعية، ولكنها تتحول إلى دال في علاقتها بالمدركات العينية الخارجية.

4-أنواع العلامات ومجالها الدلالي:

إذا كانت السيمياء تبدأ بالعلامة، فقد اهتم العلماء بتصنيف العلامات وتميزها وتعليلها من أجل إدراك مجال أوسع لماهيتها، وتوصلوا إلى أن النظام السيميائي للعلامة يتأسس على أنواع من العلامات، يمكن الإشارة إليها فيما يأتي:

1- إذا نظرنا إلى العلامة من حيث طبيعة الدال فهي إما أن تكون لفظية أو غير لفظية(32).

2- أما إذا نظرنا إلى العلامة اللفظية الوضعية أو الاصطلاحية، فهي لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث، وهي: المطابقة، والتضمن والالتزام. فإن لفظ "البيت" –مثلاً- يدل على معنى البيت بطريق المطابقة، ويدل على السقف بطريق التضمن، لأن البيت يتضمن السقف. وأما دلالة الالتزام فهي كدلالة لفظ السقف على الحائط، فهو كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفصل عنه(33).

3- وإذا نظرنا إلى العلامة من حيث طبيعة العلاقة القائمة بين طرفي الدال (significant) والمدلول (signifié)، فهي إما وضعية أو طبيعية أو عقلية(34). ويمكن توضيح هذه المفاهيم في الآتي:

أ-الوضعية: هي العلامة الاصطلاحية المتفق عليها في وسط اجتماعي، أو المتواضع عليها بين أفراد المجتمع، ويضم هذا النوع كل العلامات اللفظية.

فقد توصف الفتاة فتسمى غزالاً دلالة على رشاقتها، وقد تسمى حمامة، وزهرة، وقضيباً،.. وقد يسمى الرجل جملاً دلالة على صبره وتحمله المشاق، وقد يسمى ثوراً وسيفاً ونجماً،.. وبعض هذا النوع من العلامات يدخل في إطار المجاز.



ب-العلامة الطبيعية: المقصود بالعلامة الطبيعية هي تلك العلامة الناتجة عن أحداث طبيعية، سواء أكانت طبيعة اللفظ، أم طبيعة الحامل المادي للعلامة. فكل العلامات التي تعكس أصوات الطبيعة من خرير المياه، وحفيف الأشجار، وولولة الريح تنسحب ضمن هذا النوع، وكذلك الأصوات الملازمة للانفعالات، والتعبيرات الفيزيولوجية، كملامح الوجه، وتغير لونه من حالة إلى أخرى(35).

جـ-العلامة العقلية: المراد بها دلالة الأثر على المؤثر، كدلالة السحاب على المطر، والدخان على النار. فالعلاقة العقلية في التراث العربي تنحصر في علاقة السببية، أي: يجد العقل ثمة علاقة ذاتية بين طرفي الدال والمدلول.

إن العلامة بنمطها السيميائي ذات فضاء، ليس من السهل إخضاعه لثنائية الدال والمدلول، لأن العلامة في أساسها تتسم بدينامية وحركية، وبالأحرى فهي انزياحية، وتكتسب دلالتها من الوسط الاجتماعي.

5-العلامة اللغوية والتحول الدلالي:

إن الألفاظ المفردة في التركيب "تجري مجرى العلامات والسمات ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه وخلافه"(36).

ولكن هذه العلامات اللسانية، لما تتميز بقابليتها للدخول في علاقات تركيبية، تتميز أيضاً بقابليتها للتحول الدلالي، بحيث تتحول العلامة في سياق معين إلى علامة ذات دلالة مركبة، يتحول مدلولها إلى دال باحثاً عن مدلول آخر. فإذا وصفت فتاة –مثلاً- في سياق معين بأنها نؤوم الضحى، فإن الصفة هذه تشير إلى مدلول آخر، هو أن الفتاة تنام حتى ترتفع الشمس في السماء. ولكن هذا المدلول يتحول إلى دال باحثاً عن مدلول، وهو أن الفتاة هذه مترفة، ولها من يخدمها.

وعبد القاهر الجرجاني وإن كان لا يتحدث عمّا يسمى بالتحول الدلالي، فإنه يتحدث عن المعنى ومعنى المعنى. فقد بين عبد القاهر الميدان الإجرائي للعلامة حين صنف الخطاب المنجز في الفكر الإنساني، فيقول: "الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده،.. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض.. أولاً ترى أنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر"، أو قلت: "طويل النجاد"، أو قلت في المرأة: "نؤوم الضحى"، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يوحيه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانياً(37).

وإذا تأملنا قول الجرجاني، فإننا نجده يماثل مفهوم بيرس للعلامة، من حيث قابلية التفسير، لأن تتحول إلى متوالية من العلامات، لها فضاء دلالي غير محدد فيقول: "المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ الذي تصل إليه بغير واسطة، ومعنى المعنى هو أن تعقل من لفظ معنى، ثم يقضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(38).

يفهم من هذا القول أن المعنى (المدلول)، قد يتحول إلى مبنى (دال) باحثاً عن مدلول آخر، أي: أن المعنى بحد ذاته إشارة تعود على موضوعها الذي أفرز المعنى.

الخاتمة:

يتضح من هذا البحث المتواضع، حول علم السيمياء في التراث العربي، أن القدامى قد تفطنوا في وقت مبكر إلى قيمة العلامة، من حيث هي حقيقة حسية تعود وتحيل إلى حقيقة مجردة غائبة. وكانت دراستهم التطبيقية تتمركز حول الدراسات القرآنية؛ فالقرآن هو الموجه والباعث الحقيقي للدرس السيميائي.

ولعلنا نكون في النهاية قد لفتنا أنظار الدارسين إلى أهمية علم السيمياء فيما يمكن أن يفتح لنا من مداخل، تمكننا من إعادة قراءة التراث بكل جوانبه ومناحيه قراءة جديدة، فنعيد اكتشاف ذاتنا الثقافية والحضارية من خلاله.

الهوامش:

(1)-ينظر، عبد العزيز بن عبد الله، التعريب ومستقبل اللغة العربية، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975، ص 78، 79.



(2)-ينظر، ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، (د.ت)، 12/311، 312، مادة (سوم).

(3)-ذكره الجوهري في الصحاح، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1984، 5/1956، (سوم). وابن منظور، لسان العرب، 12/312، (سوم).

(4)-ينظر، عبد العزيز بن عبد الله، الدلالة المقارنة في خدمة تاريخ الحضارة المقارن، مجلة اللسان العربي، العدد 23، الدورة المالية 1982، 1983، ص166.

(5)-Greimas. couteé sémiotique. Hedrette. Paris. 1979. p 339

(6)-جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد 3، مارس 1997، ص79.

(7)-المرجع السابق، ص 79.

(8)-بيير جيرو، علم الإشارة –السيميولوجيا- ترجمه عن الفرنسية منذر عيّاشي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط1، 1988، ص 23.

(9)-ينظر، المرجع السابق، ص 23.

(10)-ينظر، حنون مبارك، دروس في السيميائيات، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب،



ط1، 1987، ص29 وما بعدها.



(11)-مازن الوعر، مقدمة علم الإشارة –السيميولوجيا- لبييرجيور، ص9.



(12)-ينظر، ترنس هوكز، البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطا، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1986، ص113.

(13)-بيير جيرو، علم الإشارة، السيميولوجيا، ص 23، 24.

(14)-C. Peirce, Iettrs to welby, ed. i. Clieb, New haven, 1953, p 32.

(15)-C. Peirce, colle ceted papers, vol 2, combridge, mass, 1960, p156.

(16)-القاضي عبد الجبار، المغني، تحقيق تحت إشراف طه حسين إبراهيم مدكور، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر، 1960-1965، ص 186.

(17)-الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن ت: محمد أحمد خلف الله، مكتبة الأنجلو المصرية، (د،ت)، مادة (فقه).

(18)-ينظر، مازن الوعر، مقدمة علم الإشارة، لبيير جيرو، ص 10.

(19)-ينظر، عبد العزيز بن عبد الله، التعريب ومستقبل اللغة، ص 78-79.

(20)-الجرجاني، كتابة التعريفات، ت: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1985، ص 139.

(21)-ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، دار الفكر، 1979، 2/259، مادة (دل).

(22)-أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط4، 1963، ص13.

(23)-الراغب الأصفهاني، مفردات في غريب القرآن، مادة (دل).

(24)-الجاحظ، البيان والتبيين، ت:عبد السلام محمد هارون، ط3، (د،ت)، 1/76.

(25)-ابن سينا، العبارة، ت:محمود الخضيري، القاهرة، 1970، ص3، 4.

(26)-الغزالي، معيار العلم، ت:سليمان دنيا-دار المعارف، القاهرة، ط2، (د،ت)، ص، 35، 36.



(27)-ينظر، كمال البشر، دراسات في علم اللغة، القسم الثاني، دار المعارف بمصر، ط3، 1971، ص159.

(28)-الغزالي، معيار العلم، ص،75، 76.

(29)-حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، وسراج الأدباء، ت:محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966، ص19.

(30)-ينظر المصدر السابق، ص، 18.

(31)-ينظر، المصدر السابق، ص، 18، 19.

(32)-ينظر، عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1985، ص، 13-37.

(33)-الغزالي، المستصفى من علم الأصول، ت:محمد مصطفى أبو العلاء، شركة الطباعة الفنية المتحدة، 1971، ص41، ماهر مهدي هلال، حرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1980، ص، 286.

(34)ينظر، الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، مؤسسة الحلبي وشركائه، القاهرة، 1967، 1/17.

(35)-عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، ص18 وما بعدها.

(36)-الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار المعرفة، بيروت، 1984، ص 202.

(37)-المصدر السابق، ص 262، 263.

(38)-المصدر السابق، ص 203.

________________________________________

* قسم اللغة العربية وآدابها- جامعة محمد خيضر ببسكرة.

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 91 - السنة الثالثة والعشرون - أيلول "سبتمبر" 2003 - رجب 1424




مدخل إلى المنهج السيميائي


جميل حمداوي



عرف النقد العربي الحديث والمعاصر مجموعة من المناهج النقدية بفضل المثاقفة و الترجمة والاحتكاك مع الغرب ، من بينها : المنهج البنيوي اللساني والمنهج البنيوي التكويني والمنهج التفكيكي ومنهج القراءة والتقبل الجمالي والمنهج السيميولوجي الذي أصبح منهجا وتصورا ونظرية وعلما لايمكن الاستغناء عنه لما أظهر عند الكثير من الدارسين والباحثين من نجاعة تحليلية وكفاءة تشريحية في شتى التخصصات والمعارف الإنسانية.إذا، ماهي السيميولوجيا؟ وما منابعها؟ ومامرتكزاتها المنهجية؟ وما هي اتجاهاتها ومدارسها؟ وما مجالات تطبيقها سواء في الغرب أم عند العرب؟ وإلى أي مدى حقق البحث السيميائي نجاعته وفعاليته في مقاربة النصوص وتحليلها ولاسيما الأدبية منها . هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها قدر الإمكان.



1- تعريف المصطلح:



إن أهم الإشكالات النظرية التي يصطدم بها الدرس السيميائي يتجلى بالأساس في تداخل المصطلحات وتشعبها واختلاف مضامينها. لذلك سوف نقتصر في هذا الصدد على تحليل مدلول المصطلحين الرئيسين المستعملين في هذا الحقل المعرفي وهما: السيميوطيقاSémiotique والسيميولوجياsémiologie معترفين أننا مهما حاولنا إيجاد محاولة لتعريف هذين المصطلحين لانستطيع أن نستقر على تعريف دقيق ومحدد، لأن" أية محاولة للتعريف، لابد لها أن تصطدم بتعدد وجهات النظر في تحديد هوية هذا الحقل المعرفي تحديدا قارا. خصوصا إذا نحن أدركنا الحيز الزمني الذي يستغرقه وهو حيز قصير"

ويضيف جون كلود كوكيه J.C.Coquet أحد اقطاب مدرسة باريس السيميائية قائلا:" إن القارىء العادي، وكذلك الباحث في مجال العلوم الاجتماعية من حقهما أن يتساءلا عن موضوع هذا العلم، إلا أنهما مع ذلك يجب أن يعلما- على الأقل- أن التعريفات والتحديدات، تختلف ولاسيما إذا تعلق الأمر بموضوع علمي لم يمر على ميلاده وقت طويل".

إن هذين المصطلحين يترادفان على المستوى المعجمي، حيث استعملا في الأصل للدلالة على" علم في الطب وموضوعه دراسة العلامات الدالة على المرض". ولاسيما في التراث الإغريقي حيث عدت السيميوطيقا جزءا لايتجزأ من علم الطب.

وقد وظف أفلاطون لفظ Sémiotike للدلالة على فن الإقناع، كما اهتم ارسطو هو الآخر بنظرية المعنى وظل عملهما في هذا المجال مرتبطا أشد مايكون بالمنطق الصوري، ثم توالت اهتمامات الرواقيين الذين أسسوا نظرية سيميولوجية تقوم على التمييز بين الدال والمدلول والشيء (المرجع).

ومع بداية النهضة الأروبية نصادف الفيلسوف ليبنتزLeibnitz الذي "حاول أن يبحث عن نحو كلي للدلائل، وعن ضرورة وجود لغة رياضية شكلية تنطبق على كل طريقة في التفكير" .

وإذ حاولنا استقراء تراثنا العربي، وجدناه حافلا بالدراسات المنصبة على دراسة الأنساق الدالة، وكشف قوانينها ولاسيما تلك المجهودات القيمة التي بذلها مفكرونا من مناطقة وبلاغيين وفلاسفة وأصوليين...إلخ.بيد أن مثل هذه الآراء السيميولوجية التي شملتها كل هذه المجالات المعرفية لم تكن منهجية أو مؤسسة على أسس متينة ولم تحاول يوما أن تؤسس نظرية متماسكة تؤطرها أو تحدد موضوع دراستها أو اختيارالأدوات والمصطلحات الإجرائية الدقيقة التي تقوم عليها. وبالتالي لم تفكر في استقلالية هذا العلم، بل ظلت هذه الآراء السيميولوجية مضطربة تجرفها وتتقاذفها التصورات الإيديولوجية والسوسيولوجية والثقافية. ويقول مبارك حنون في هذا الصدد :" إلا أن مثل تلك الآراء السيميولوجية التي احتضنتها مجالات معرفية عديدة. بقيت معزولة عن بعضها البعض. ومفتقدة لبنية نظرية تؤطرها كلها.

وإذا،بقيت عاجزة عن أن تبني لنفسها كيانا تصوريا ونسيجا نظريا مستقلا إلى أن جاء كل من سوسير وبورس".

يتفق جل الباحثين على أن المشروع السيميولوجي المعاصر بشر به سوسير في فرنسا في كتابه" محاضرات في اللسانيات العامة"،وارتبط هذا العلم بالمنطق على يد الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرس بورس CHS . PEIRCE في أمريكا. لكن على الرغم من ظهورهما في مرحلة زمنية متقاربة، فإن بحث كل منهما استقل وانفصل عن الآخر انفصالا تاما إلى حد ما.فالأول- كما قلنا- بشر في "محاضراته"ب" ظهورعلم جديد سماه السيميولوجيا(Sémiologie) سيهتم بدراسة الدلائل أو العلامات في قلب الحياة الاجتماعية ولن" يعدو أن يكون موضوعه الرئيسي مجموعة الأنساق القائمة على اعتباطية الدلالة" على حد تعبير سوسير-Saussure- الذي يقول كذلك في هذا الصدد:" ونستطيع – إذا- أن نتصور علما يدرس حياة الرموز والدلالات المتداولة في الوسط المجتمعي، وهذا العلم يشكل جزءا من علم النفس العام. ونطلق عليه مصطلح علم الدلالة Sémiologie : من الكلمة الإغريقية دلالة Sémion. وهو علم يفيدنا موضوعه الجهة التي تقتنص بها أنواع الدلالات والمعاني. ومادام هذا العلم لم يوجد بعد فلا نستطيع أن نتنبأ بمصيره غير أننا نصرح بأن له الحق في الوجود وقد تحدد موضوعه بصفة قبلية. وليس علم اللسان إلا جزءا من هذا العلم العام."

وقد تزامن هذا التبشيرمع مجهودات بورس( 1839-1914) الذي نحا منحى فلسفيا منطقيا. وأطلق على هذا العلم الذي كان يهتم به ب "السيميوطيقا " SEMIOTIQUE" واعتقد تبعا لهذا أن النشاط الإنساني نشاط سيميائي في مختلف مظاهره وتجلياته. ويعد هذا العلم في نظره إطارا مرجعيا يشمل كل الدراسات. يقول وهو بصدد تحديد المجال السيميائي العام الذي يتبناه : " إنه لم يكن باستطاعتي يوما ما دراسة أي شيء- رياضيات كان أم أخلاقا أو ميتافيزيقا أو جاذبية أو ديناميكا حرارية أو بصريات أو كيمياء أو تشريحا مقارنا أو فلكا أو علم نفس أو علم صوت، أو اقتصاد أو تاريخ علوم أو ويستا( ضرب من لعب الورق) أو رجالا ونساء،أو خمرا، أو علم مقاييس دون أن تكون هذه الدراسة سيميائية".

إذا،فالسيميوطيقا حسب بورس تعني نظرية عامة للعلامات وتمفصلاتها في الفكر الإنساني، ثم إنها صفة لنظرية عامة للعلامات والأنساق الدلالية في كافة أشكالها... وبالتالي، تعد سيميائية بورس مطابقة لعلم المنطق . يقول أمبرطو إيكو Umberto Eco في هذا الخصوص عن بورس محددا مضمون علمه بكل دقة ووضوح وعلاقته بعلم المنطق:" لنستمع الآن إلى بورس: إنني حسب علمي الرائد أو بالأحرى أول من ارتاد هذا الموضوع المتمثل في تفسير وكشف ماسميته السيميوطيقا SEMIOTIC أي نظرية الطبيعة الجوهرية والأصناف الأساسية لأي سيميوزيس محتمل" إن هذه السيميوطيقا التي يطلق عليها في موضع آخر" المنطق" تعرض نفسها كنظرية للدلائل. وهذا مايربطها بمفهوم " السيميوزيس" الذي يعد على نحو دقيق الخاصية المكونة للدلائل".

ويحسن بنا في هذا المضمار،أن نستحضر بعض تعاريف باقي الباحثين السيميائيين ولو بإيجاز كي يتسنى لنا التمييز بين المصطلحين أو بعبارة كي نستطيع الإجابة عن السؤال الذي يفرض نفسه علينا بإلحاح ألا وهو: الفرق بين المصطلحين. وبالتالي، هل يؤثر تغيير شكل المصطلحين على تغيير مضمونهما؟

فهذا بيير غيرو Pierre Guiraud- أحد أساتذة جامعة نيس الفرنسية- يعرف السيميوطيقا قائلا:" السيميوطيقا علم يهتم بدراسة أنظمة العلامات ، اللغات، أنظمة الإشارات، التعليمات...إلخ. وهذا التحديد يجعل اللغة جزءا من السيميوطيقا".

يتبين لنا من خلال هذا التعريف أعلاه ، أن غيرو يتبنى نفس الطرح السوسيري الذي يعتبر اللسانيات فرعا من السيميولوجيا، غير أن رولان بارت Roland Barthes سيفند هذا الطرح ويقلب المعادلة على عقبيها ، بتأكيده على أن السيميولجيا لايمكن أن تكون سوى نسخة من المعرفة اللسانية. فإذا كان العالم السوسيري قد ضيق الدرس السيميولوجي ووجه كل اهتماماته للغة، وجعلها الأصل محل الصدارة ، فإن مفهوم بارت للسيميولوجيا فسح المجال بحيث اتسع حتى استوعب دراسة الأساطير واهتم بأنسقة من العلامات التي أسقطت من سيميولوجية سوسير كاللباس وأطباق الأكل والديكورات المنزلية ،ونضيف الأطعمة والأشربة وكل الخطابات التي تحمل انطباعات رمزية ودلالية.

أما جورج مونان George Mounin أحد أنصار اتجاه سيمياء التواصل بفرنسا إلى جانب كل من برييطو Prieto وبويسنس BuyssensومارتينيهMartinet...إلخ فيعني بالسيميولوجيا:"دراسة جميع السلوكات أو الأنظمة التواصلية، وعوض في الفرنسية بالسيميوطيقاSEMIOTIQUE ". ثم نصادف باحثا آخر وهو أمبرطو إيكو أحد اقطاب المدرسة الإيطالية السيميائية الذي يفضل استبدال مصطلح السيميولوجيا SEMIOLOGIEبمصطلح السميوطيقا SEMIOTIQUE يقول في مستهل كتابه: البنية الغائبة La structure Absente معرفا هذا العلم " السيميوطيقا تعني علم العلامات" .

أما بالنسبة لمدرسة باريس التي تضم كلا من غريماسGreimas وكوكيهCoquet وأريفيArrivéإلخ...فلها تعريف مغاير للتعاريف السالفة الذكر. فالسيميوطيقا في مشروعها" تأسيس نظرية عامة لأنظمة الدلالة" .

هذا، ويتبين لنا من خلال التعريف أن السيميولوجيا والسيميوطيقا متقاربتان في المعنى. فالسيميولوجيا –إذا- مترادفة للسيميوطيقا، وموضوعها دراسة أنظمة العلامات أيا كان مصدرها لغويا أو سننيا أو مؤشريا كما تدرس أنظمة العلامات غير اللسانية. فلم تعد ثمة أسباب أو مبررات تجعل أحد المصطلحين يحظى بالسيادة دون الآخر. وإن كانت هناك أسباب تميز بعضهما. فهي في الواقع أسباب تافهة تعتمد النزعة الإقليمية على حد تعبيرترنس هوكز الذي يقول في هذا الخصوص: " ومن غير اليسيرالتمييز بينهما، وتستعمل كلتا اللفظتين للإشارة إلى هذا العلم( يعني به علم الإشارات) والفرق الوحيد بين هاتين اللفظتين أن السيميولوجيا مفضلة عند الأوربيين تقديرا لصياغة سوسير لهذه اللفظة، بينما يبدو أن الناطقين بالإنجليزية يميلون إلى تفضيل السيميوطيقا احتراما للعالم الأمريكي بيرس" ؛ لكن الصيغة الثانية السيميوطيقا كتسمية لمجال هذا العلم هي التي أقرت أخيرا. وقد أخذ بها من قبل " المجمع الدولي لعلم السيميوطيقا"المنعقد بباريس في شهريناير سنة 1909م. يقول أمبرطو إيكو في هذا الصدد:" لقد قررنا على كل حال أن نتبنى هنا بصفة نهائية مصطلح السيميوطيقا Sémiotique بدون أن نتوقف عند المناقشات حول التوريطات الفلسفية أو المنهجية لكلا المصطلحين. نحن نخضع بكل بساطة للقرار المتخذ في يناير سنة 1969 بباريس من لدن الهيئة الدولية التي تمخضت عنها الجمعية الدولية للسيميوطيقا والتي قبلت ( بدون أن تقصي استعمال السيميولوجيا) مصطلح السيميوطيقا على أنه هو الذي ينبغي ابتداء من الآن أن يغطي جميع المفاهيم الممكنة للمصطلحين المتنافس فيهما" .

والاختلاف بين السيميولوجيا والسيميوطيقا في رأي كثير من الباحثين لايجب أن يأخذ الجانب الأوسع، أو الحيز الكبير من اهتماماتهم. إذ هما سيان كما رأينا، غير أن هذه الأخيرة، ونعني السيميوطيقا أصبحت تطغى في الساحة. يقول غريماس ردا على سؤال روجي بول درواRoger-Pol-droit حول الاختلاف بين المصطلحين في حوار صدرته صحيفة " العالم Le Monde " 7 يونيو 1974م تحت عنوان: "علم العلامات" : " أظن أنه لاينبغي أن نضيع الوقت في مثل هذه الجدالات الكلامية حينما تكون أمامنا أشياء كثيرة. فعندما تقرر منذ سنوات في 1968 إحداث جمعية دولية، وجب الاختيار بين المصطلحين. وبتأثير من جاكبسون وموافقة ليفي شتراوس وبنفنست وبارت بالإضافة إلي تم التمسك بالسيميوطيقا غير أن مصطلح السيميولوجيا له جذور عميقة في فرنسا. ومن ثم تم الأخذ بتسمية مزدوجة، وقد يعتقد اليوم أن الأمر يتعلق بشيئين مختلفين. وهذا أمر مغلوط طبعا. وسنقترح في الغالب وتبعا لنصيحة هيلمسليف لتخصيص اسم السيميوطيقات Sémiotiques للأبحاث المتعلقة بالمجالات الخاصة كالمجال الأدبي والسينمائي والحركي كما سنعتبر السيميولوجيا بمثابة النظرية العامة لهذه السيميوطيقات."

أهم ما يمكن أن نستشفه من خلال هذا التصريح ال"ﯖريماصي" هو أنه حاول أن يقدم تفسيرا دقيقا لظاهرة لم يتم الحسم فيها على ما يبدو واقترح تبعا لنصيحة هيلمسليف Hjelmslev الأبحاث التي سيختص بها كل على حدة. فالسيميوطيقا ستنصب اهتماماتها على القسم المتعلق بالمجالات التطبيقية في حين يعد علم السيميولوجيا مجالا نظريا عاما تندرج تحته جميع السيميوطيقات وهذا ما نلامسه من خلال تصفحنا لبعض الكتب التي ألفت في هذا المجال. فحينما يتعلق الأمربتحليل نصوص أدبية كانت أم توراتية ( دينية) أو حينما يتعلق الأمر بمحاولات تطبيقية بصفة عامة. يفضل مؤلفو هذه الكتب استعمال مصطلح السيميوطيقا لعنونة مؤلفاتهم التطبيقية ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: " عن المعنى: محاولات سيميوطيقية" Du sens :essais sémiotiques " لغريماس و"موباسان: سيميوطيقة النص، تمارين تطبيقية" Maupassant :la "sémiotique du texte : exercices pratiquesوالتحليل السيميوطيقي للنصوص- Analyse sémiotique des textes لجماعة أنتروفيرن وغيرها من المؤلفات مثل : ميشيل أريفي وكوكيه إلخ...

ونستنتج من كل ما سبق، أن السميولوجيا والسميوطيقا كلمتان مترادفتان مهما كان بينهما من اختلافات دلالية دقيقة، أي إن السيميولوجيا تصور نظري والسيميوطيقا إجراء تحليلي وتطبيقي. وبالتالي، يمكن القول بأن السيميولوجيا هي علم ونظرية عامة ومنهج نقدي تحليلي وتطبيقي.







2- المرجعيات والمنابت:



وتجدر الإشارة إلى أن السيميولوجيا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنموذج اللساني البنيوي الذي أرسى دعائمه وأسسه العالم السويسري فرديناند دو سوسير منذ القطيعة الإبيستمولوجية التي أحدثها في ميدان الدراسات الألسنية إن جاز التعبير مع الفيلولوجيا وفقه اللغة واللسانيات التاريخية الدياكرونية.وقد جعلت هذه القطيعة اللسانيات العلم الشامل والرائد الذي تستفيد منه مختلف المدارس والمشارب المعرفية كالنقد الأدبي والأسلوبية والتحليل النفسي وعلم الاجتماع بالإضافة إلى جهود الوظيفيين والكلوسماتيكيين في اللسانيات والشكلانيين الروس في الشعرية.

وأخيرا، السيميولوجيا باعتبارها علما حديث النشأة اقتدت هي الأخرى في بناء صرحها النظري بالمبحث اللساني البنيوي، واستقت منه تقنيات وآليات ومفاهيم تحليلية تعد بمثابة مرتكزات أساسية يقوم عليها المبحث السيميائي الحديث، ولاسيما سيميوطيقا الدلالة التي تندرج في إطارها أبحاث رولان بارت السيميائية. هذا الأخير الذي التجأ منهجيا إلى اشتقاق بعض الثنائيات اللسانية وطبقها على موضوعات سيميائية غير لغوية ذات طبيعة اجتماعية كالألبسة والأطعمة...إلخ. أهم هذه الثنائيات: اللسان/الكلام، الدال/المدلول، المركب /النظام، التقرير/ الإيحاء.

وعليه، يمكن أن نحدد مجموعة من المرجعيات التي استندت إليها السيميولوجيا أو السيميوطيقا. ومن هذه المرجعيات أو المنابع:

1- الفكر اليوناني مع أفلاطون وأرسطو والرواقيين؛

2- التراث العربي الإسلامي الوسيط ( المتصوفة- نقاد البلاغة والأدب كالجاحظ...)؛

3- الفكر الفلسفي والمنطقي والتداولي( بيرس، فريج، كارناب، راسل...)؛

4- اللسانيات البنيوية والتداولية التحويلية بكل مدارسها واتجاهاتها؛

5- الشكلانية الروسية ولاسيما فلاديمير بروب صاحب المتن الخرافي الذي انطلق منه كريماس وكلود بريمون لخلق تصورهما النظري والتطبيقي إلى جانب أعلام أخرى في مجالات الشعر والأدب والسرد....؛

6- فلسفة الأشكال الرمزية مع إرنست كاسيرر الذي درس مجموعة من الأنظمة الرمزية التواصلية مثل: الدين والأسطورة والفن والعلم والتاريخ.

3- مبادىء السيميوطيقا:

من المعلوم أن السيميوطيقا هي لعبة الهدم والبناء،تبحث عن المعنى من خلال بنية الاختلاف ولغة الشكل والبنى الدالة. ولايهم السيميوطيقا المضمون ولامن قال النص، بل مايهمها كيف قال النص ماقاله،أي شكل النص. ومن هنا فالسيميوطيقا هي دراسة لأشكال المضامين. وتنبني على خطوتين إجرائيتين وهما: التفكيك والتركيب قصد إعادة بناء النص من جديد وتحديد ثوابته البنيوية.

وترتكز السيميوطيقا على ثلاثة مبادىء أساسية، وهي:

أ‌- تحليل محايث: نقصد بالتحليل المحايث البحث عن الشروط الداخلية المتحكمة في تكوين الدلالة وإقصاء المحيل الخارجي. وعليه،فالمعنى يجب أن ينظر إليه على أنه أثر ناتج عن شبكة من العلاقات الرابطة بين العناصر.

ب‌- تحليل بنيوي: يكتسي المعنى وجوده بالاختلاف وفي الاختلاف. ومن ثم، فإن إدراك معنى الأقوال والنصوص يفترض وجود نظام مبنين من العلاقات. وهذا بدوره يؤدي بنا إلى تسليم أن عناصر النص لا دلالة لها إلا عبر شبكة من العلاقات القائمة بينها. ولذا لايجب الاهتمام إلا بالعناصر إلا ماكان منها داخلا في نظام الاختلاف تقييما وبناء. وهو مانسميه شكل المضمون، أي بعبارة أخرى تحليلا بنيويا لأنه لا يهدف إلى وصف المعنى نفسه، وإنما شكله ومعماره.

ت‌- تحليل الخطاب: يهتم التحليل السيميوطيقي بالخطاب، أي يهتم ببناء نظام لإنتاج الأقوال والنصوص وهو ما يسمى بالقدرة الخطابية. وهذا ما يميزه عن اللسانيات البنيوية التي تهتم بالجملة.

4- المدارس والاتجاهات السيميولوجية:

لقد استعرض مارسيلو داسكال هذه الاتجاهات في اتجاهين رئيسيين:المدرسة الأمريكية المنبثقة عن بيرس والتي يمثلها كل من موريس وكارناب وسيبووك ، والمدرسة الفرنسية أو بالأحرى الأوربية المنبثقة عن سوسير والتي يمثلها كل من بويسنس وبرييطو وجورج مونان ورولان بارت وغيرهم. كما استعرض بعض الاتجاهات الفرعية الأخرى يمثلها كل من ﯖريماس وبوشنسكي وجوليا كريستيفا. لكن ما يلاحظ على مارسيلو داسكالMarcelo Dascal هو إغفاله لاتجاه أو مدرسة تعد من أهم المدارس السيميولوجية الروسي، وهي مدرسة تارتو التي يمثلها كل من يوري لوتمان وأسبنسكي وبياتغورسكي وإيفانوف.

أما الأستاذ محمد السرغيني فهو يرتضي تقسيما ثلاثيا للاتجاهات السيميولوجية تتمثل في الاتجاه الأمريكي والاتجاه الفرنسي والاتجاه الروسي. ولكنه يقسم الاتجاه الفرنسي إلى فروع على النحو التالي:

1- سيميولوجيا التواصل والإبلاغ كما عند جورج مونان؛

2- اتجاه الدلالة الذي ينقسم بدوره إلى الأشكال التالية:

أ‌- اتجاه بارت وميتزالذي يحاول تطبيق اللغة على الأنساق غير اللفظية.

ب‌- اتجاه مدرسة باريس الذي يضم : ميشيل أريفي وكلود كوكيه وﯖريماس.

ت‌- اتجاه السيميوطيقا المادية مع جوليا كريستيفا.

ث‌- اتجاه الأشكال الرمزية مع مولينو وجان جاك ناتيي أو ما يسمى مدرسة " إيكس" على اعتبار مولينو كان ولايزال يدرس بكلية آداب هذه المدينة الفرنسية.

في حين يفضل مبارك حنون التقسيم التالي: سيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميوطيقا بورس، ورمزية كاسيرر وسيميولوجيا الثقافة مع الباحثين الروس ( يوري لوتمان وأوسبانسكي وإيفانوف وطوبوروف...) والباحثين الإيطاليين ( أمبرطو إيكو وروسي لاندي...)، وتنطلق هذه السيميولوجيا من اعتبار" الظواهر الثقافية موضوعات تواصلية وأنساقا دلالية".

5- موضوع السيميائيات:



من خلال تمعن التعريفات التي قدمت للسيميائيات يتضح أنها جميعها تتضمن مصطلح العلامة. ويعني هذا أن السيميولوجيا هي علم العلامات ( الأيقون- الرمز- الإشارة). ومن الصعب إيجاد تعريف دقيق للعلامة لاختلاف مدلولها من باحث لآخر. فعند فرديناند دوسوسير تتكون العلامة من الدال والمدلول والمرجع. ولكنه استبعد المرجع لطابعه الحسي والمادي واكتفى بالصورة الصوتية وهي الدال والصورة الذهنية المعنوية وهي المدلول.كما اعتبرالسيميولوجيا علما للعلامات التي تدرس في حضن المجتمع. وهذا يؤكد لنا ارتكازالعلامة على ماهو لغوي ونفسي واجتماعي. وتبدو العلامة في تعاريف السيميائيين كيانا واسعا ومفهوما قاعديا وأساسيا في جميع علوم اللغة.

وتنقسم العلامات على نسقين:

أ‌- العلامات اللغوية المنطوقة:(اللغة- الشعر- الرواية-....).

ب‌- العلامات غيراللفظية:( الأزياء- الأطعمة والأشربة- الإشهار- علامات المرور- الفنون الحركية والبصرية كالسينما والمسرح والتشكيل ...).

وإذا كانت العلامة عند سوسير علامة مجردة تتكون من الدال والمدلول ، أي تتجرد من الواقع والطابع الحسي والمرجعي. فإن العلامة عند ميخائيل باختين العالم الروسي ذات بعد مادي واقعي لايمكن فصلها عن الإيديولوجيا. وفي نظره ليس كل علامة إيديولوجية ظلا للواقع فحسب وإنما هي كذلك قطعة مادية من هذا الواقع. إضافة على ذلك، يرى باختين أن العلامات لايمكن أن تظهر إلا في ميدان تفاعل الأفراد أي في إطار التواصل الاجتماعي. وبذلك فوجود العلامات ليس أبدا غير التجسيد المادي لهذا التواصل. ومن هنا يخلص باختين في دراسته السيميائية إلى ثلاث قواعد منهجية وهي:

1- عدم فصل الإيديولوجيا عن الواقع المادي للعلامة.

2- عدم عزل العلامة عن الأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي.

3- عدم عزل التواصل واشكاله عن أساسهما المادي.

6- علاقة السيميائيات بالمجالات الأخرى:

للسيميولوجيا تفاعلات كثيرة مع معارف وحقول أخرى داخل المنظومة الفكرية والعلمية والمنهجية. فلقد ارتبطت السيميولوجيا في نشاتها مع اللسانيات والفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا والمنطق والفينومولوجيا أو فلسفة الظواهرعلاوة على ارتباطها بدراسة الأنتروبولوجيا كتحليل الأساطيروالأنساق الثقافية غير اللفظية. كما ترتبط السيميولوجيا منهجيا بدراسة الأدب والفنون اللفظية والبصرية كالموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما. وترتبط كذلك بالهرمونيطيقا وبدراسة الكتب الدينية المقدسة. وارتبطت كذلك بالشعرية والنحو والبلاغة وباقي المعارف الأخرى. وإذا كانت السيميولوجيا أعم من اللسانيات أي إن اللسانيات جزء من السيميولوجيا كما عند سوسير فإن رولان بارت يعتبر السيميولوجيا أخص من اللسانيات، أي إن السيميولوجيا فرع من اللسانيات وأن كثيرا من العلامات البصرية والأنساق غير اللفظية تستعين بالأنظمة اللغوية.

7- مجالات التطبيق السيميولوجي:

لقد صار التحليل السيميوطيقي تصورا نظريا ومنهجا تطبيقيا في شتى المعارف والدراسات الإنسانية والفكرية والعلمية وأداة في مقاربة الأنساق اللغوية وغير اللغوية. وأصبح هذا التحليل مفتاحا حداثيا وموضة لابد من الالتجاء إليها قصد عصرنة الفهم وآليات التأويل والقراءة. ويمكن الآن أن نذكر مجموعة من الحقول التي استعملت فيها التقنية السيميوطيقية للتفكيك والتركيب:

1- الشعر( مولينو- رومان جاكبسون- جوليا كريستيفا- جيرار دولودال- ميكائيل ريفاتير....).

2- الرواية والقصة: ( ﯖريماس- كلود بريموند- بارت- كريستيفا-تودوروف- جيرار جنيت- فيليب هامون...).

3- الأسطورة والخرافة:( فلاديمير بروب...).

4- المسرح( هيلبو- كير إيلامElam Keir).

5- السينما( كريستيان ميتز- يوري لوتمان...).

6- الإشهار( رولان بارت- جورج بنينوG. Penino – جان دوران J. Durand ...).

7- الأزياء والأطعمة والأشربة والموضة ( رولان بارت-....).

8- التشكيل وفن الرسم:(بييرفروكستيل Pierre Francastel- لويس مارتانlouis Martin- هوبرت داميش Ebert Damisch- جان لويس شيفر....).

9- التواصل: ( جورج مونان- برييطو-....).

10-الثقافة( يوري لوتمان- توبوروف- بياتيكورسكي- إيفانوف- أوسبنسكي- أمبرطو إيكو- روسي لاندي-....).

11-الصورة الفوتوغرافية:( العدد الأول من مجلة التواصل- رولان بارتAvedon –...).

21- القصة المصورة La bande dessinée :(بيير فريزنولد دورييلPierre Fresmanlt-Deruelle........ ).

13- الموسيقى: ( مجلة Musique en jeu في سنوات 70-1971 ...).

14- الفن: (موكاروفسكي-.....).

8- السيميولوجيا في العالم العربي:

ظهرت السيميولوجيا في العالم العربي عن طريق الترجمة والمثاقفة والاطلاع على الإنتاجات المنشورة في أوربا والتلمذة على أساتذة السيميولوجيا في جامعات الغرب . وقد بدأت السيميولوجيا في دول المغرب العربي أولا، وبعض الأقطار العربية الأخرى ثانيا، عبر محاضرات الأساتذة منذ الثمانينيات عن طريق نشر كتب ودراسات ومقالات تعريفية بالسيميولوجيا(حنون مبارك- محمد السرغيني- سمير المرزوقي - جميل شاكر- عواد علي- صلاح فضل- جميل حمداوي- فريال جبوري غزول-...)، أو عن طريق الترجمة( محمد البكري- أنطون أبي زيد- عبد الرحمن بوعلي- سعيد بنكراد...)، وإنجاز أعمال تطبيقية في شكل كتب( محمد مفتاح- عبد الفتاح كليطو- سعيد بنكراد- محمد السرغيني- سامي سويدان...)، أومقالات(انظر مجلة علامات ودراسات أدبية لسانية وسيميائية بالمغرب ومجلة عالم الفكر الكويتية وعلامات في النقد السعودية ومجلة فصول المصرية- ...)، ورسائل وأطروحات جامعية تقارب النصوص الأدبية و الفنية والسياسية... على ضوء المنهج السيميائي أنجزت بالمغرب وتونس وهي لاتعد ولاتحصى.

ولقد وقع النقد السيميولوجي العربي في عدة اضطرابات اصطلاحية ومفاهيمية في ترجمة المصطلح الغربيSémiologie-Sémiotique إذ نجد : علم الدلالة (محمد البكري...)- الرمزية(أنطون طعمة في دراسته" السميولوجيا والأدب"...)- السيمياء( محمد مفتاح في كتابه " في سيمياء الشعر القديم")- علم العلامات- علم الإشارات- السيميولوجيا- السيميوطيقا…

وما يلاحظ على هذه التطبيقات السميائية أنها عبارة عن تمارين شكلية تغفل الجوانب المرجعية والمضمونية والأبعاد الإيديولوجية، كما تخلط بين المناهج تلفيقا وانتقاء.أما النتائج المتوصل إليها فأغلبها تبقى- في اعتقادي- تحصيل حاصل بعد تسويد العديد من الأوراق المرفقة بالأشكال والجداول والرسومات الهندسية والأسهم التواصلية ؛ولكن الفائدة قليلة جدا تتمثل في لعبة التفكيك والتركيب دون الحصول على معارف جديدة ماعدا القليل من الدراسات والأبحاث الجادة. ويلاحظ أيضا أن هذا المنهج السيميائي يقف عند حدود الملاحظة والوصف ولا يتعدى ذلك إلى التقويم والتوجيه الذين يعدان من أهم عناصر النقد الأدبي.



خاتمة:



تلكم نظرة موجزة عن مفهوم السيميولوجيا وما يتصل بها من مفاهيم، وتلكم كذلك أهم منابتها المرجعية و مبادىء التحليل السيميائي ومستوياته ومدارسه واتجاهاته وتطبيقاته في الغرب والعالم العربي.

- الهوامش:

1 - عبد الرحيم جيران: ( مفهوم السيميائيات)، الحوار الأكاديمي والجامعي، العدد1، السنة 1يناير1988، ص:7؛

- J.C.Coquet et autres : Sémiotique : l’école de Paris. Hachette 1982, Paris : 5 ;

- A regarder, Le petit Robert, Paris, 1976, p : 1633 ;

- أنور المرتجي: سيميائية النص الأدبي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،ط1، 1987، ص: 3؛

- مبارك حنون: ( السيميائيات بين التوحد والتعدد)، الحوار الأكاديمي والجامعي، العدد2، فبراير 1988، السنة1، ص: 8؛

- فرديناند دي سوسير: محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة عبد القادر قنيني، ط1، 1987،أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، ص:88؛

- نفس المرجع، ص:26؛

-Oswald Ducrot/Tzvetan Todorov : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. Edition du Seuil, 1972, p : 11 ;

- نقلا عن ترجمة إدريس بلمليح: الرؤية البيانية عند الجاحظ، ط1، 1984، دار الثقافة ، البيضاء، ص:111؛

- بيير غيرو: السيمياء، ترجمة: أنطون أبي زيد،ط1، 1984، منشورات عويدات بيروت ، لبنان، ص: 5؛

- George Mounin : Clefs pour la

Linguistique .Collection Clefs ,19 éditions, Paris : 133 ;

- U .ECO : La Structure Absente : 8 ;

- Coquet et autres : Sémiotique : l’école de Paris, p : 5 ;

- ترنس هوكز: البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطة، ط1 ،1996، بغداد ، العراق، ص:114؛

-U. Eco : la Structure Absente : 11 ;

- A regarder : la sémiotique : L’école de Paris, Paris :128 ;

- رولان بارت: مبادىء في علم الأدلة، ترجمة محمد البكري، دار قرطبة للنشر بالدارالبيضاء ، ط1، 1986؛

-Groupe d’Entreverne : Analyse Sémiotique des textes, éd. Toubkal, Casablanca, 1987, p : 7-9 ;

- مارسيلو داسكال: الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، ترجمة حميد لحميداني وأخرين، ط1 ، 1987، دار أفريقيا الشرق، البيضاء.

- د. محمد السرغيني: محاضرات في السيميولوجيا،دار الثقافة ، الدار البيضاء، ط1 ،1987م؛

- محمد السرغيني: نفس المرجع، صص:55-66؛

- مبارك حنون :دروس في السيميائيات، ط1 ، 1987، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء؛

- المرجع السابق، ص: 85؛

- انظرد. عبد الرحمن بوعلي: محاضرات في السيميولوجيا، ألقيت على طلبة الإجازة بكلية الآداب بوجدة سنة 2005-2006؛


السيميائيات: النموذج السيميائيّ مع جوزيف كورتاس


النماذج المنطقية و الرياضية المختلفة - كالمربع السميائيّ و مجمــوعة 4كلين - تمثل الشاهد و الدليل البيّن على الأفق النظريّ السيميائيّ المفتوح الذي يصبو في برنامجـــه إلى (( إنشاء نظريّة للدلالة - و ليس فقط ( نظرية ) تواصليّة قصديّة ،إنّها نظريّة تتكفل بالألسن و كذلك بكل اللّغات)).(1) و حتى يتسنّى تمييز هذا البرنامج عن غيره من الاتجاهات السيميائية الأخـــرى* و البحوث الدلاليّة المتعددة ، جاءت التسمية " مدرسة باريس " كعلامة لسانيّة يحيل مدلولها إلى العمل النظريّ القاعديّ لغريماس : " الدلاليّات البنيويّة " الذي أحدث أثرا كبيرا بين أوساط اللّسانيين(2) ، و كذلك الفلاسفة ، و الذي تبنته مجموعة من الباحثين من كل أنحاء العالم انطلاقا من رؤية نظرية جديدة للدلالة ، ذلك أن مقصد النظرية السيميائيّة (( بوصفها نظرية للدلالة تهتم بتوضيح - في شكل بناء مفهوميّ - شروط القبض على إنتاج المعنى)) (2) متبعة التقليد السويسيريّ و اليامسليفيّ المبنيّ على مبدإ الاختلاف ، والتركيب الثنائي للعلامة، ثمّ إن ما يميّز هذا الاتجاه السيميائي نوعيّة المتن المستهدف الذي لم ينحصـر في الخطابات اللّفظيّة ، و إنما امتدّ ليشمل كل الوقائع الدالة التي تنتجها الممارسة الإنسانية ؛ يقــولكورتاس (( إنّ ميادين التطبيق السيميائيّ[...] تشمل كل النشاطات الإنسانية ( وحتى الحيوانيّة و النباتيّة ! ) )) (1) و أغلب الثقافات ، وهذا ما دفع بالبحث السيميائي إلى الاستعانة بالمباحث التي شهدت نتائجها اعترافا بين الأوساط العلمية. ولعلّ وجود المفاهيم اللّسانيّة الخاصة ، سواء المستعارة من مباحث لسانية أو غير لسانيّة كمفهوم : العامل ، و القيمة ، و الموضوع و الكفاءة ، و الأداء و الصيغة و التلفظ ، و الأيقونيّـــة ، و السنن ، و البنية إلخ، دليل بيّن على انفتاح المشروع السيميائي، هذا بالإضافة إلى المفاهيم السيميائية المبتدعة(2) كالتشاكل ، و المحور الدلاليّ ، و السيمات ، و البنية الأوليّة للدّلالة. ومن اللازم كذلك الإشارة إلى أن وجود هذا المشروع السيميائي وبروزه، إنما يرجع إلى إسهامات مجموعة من الباحثين السيميائيين و على رأسهم :غريماس ( A .J. Gremas ) " المنظر الأوّل لهذه المدرسة و جوزيف كورتاس ( J. Courtés ) و كوكي ( (J. C. Coquet ، و ميشال أريفي (M. Arrivé) ، و كالام ( C .Calame ( و شابرول ( ( C. Chabrol ، و دولورم ( J. Delorme (، و جينينا سكا (C. Geninasca) ، و لندوفسكي ( E Landowski ) وغيرهم.

و في سياق الحديث عن مدرسة باريس السيميائيّة ، من اللازم الإشارة إلى ذلك البعد الفاصل بين ما كانت عليه البدايات السيميائيّة مع غريماس خلال الستينات ، و حال المشروع السيميائيّ اليوم ؛ ذلك أن هذا المسار السيميائيّ لا يزال في حالة تحوّل مستمر ، و يبدو من الصعب حصر قائمة الحوادث التي ميّزته و حوّلت مساره ، كما يبدو تحديد الاكتشافات التي أغنت مفاهيمه و منهجياته وإحصائها أمرا مضنيا، فسبيل المعرفة السيميائية بالخصوص دائم التحوّل، منذغريماس (3) واستكشافاته التي أثرت المسار السيميائي وأكسبته هذا الوجود الواسع اليوم في فضاء البحث الدلالي؛ فكم كان يبدو الاهتمام بمسألة التلفظ ، ، و الرغبات ، و حالات النفس والأيقونيّة من الموضوعات المستعصية و ذلك لإحالتها إلى خارج الملفوظ أ و بمساسها بمبدأ المحايثـة و الموضوعيّة في البحث ، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى موضوعات رئيسة في التحليل السيميائيّ اليوم مع "فونتانيل" و " جينينا سكا" و "كورتاس " و غيرهم ؛ والسّبب مردّه إلى كون هذه التحوّلات تتحكم فيها إرادة معرفة جامحة (vouloir savoir) لها من الكفاءة (المفهوميّة) اللازمة التي تؤهلها من مقاربة هذه الموضوعات من دون أن تخشى الانحراف عن مسارها العلميّ .



I .الفعل السيميائيّ مع جوزيف كورتاس :

شهد البرنامج السيميائيّ تطورات عديدة ، تبدو الآن متجهة في كل الاتجاهات - كما جاء في القاموس السيميائيّ - و هذا بفضل جهود عدد كبير من الباحثين السيميائيّين الذين وجدوا بالخصوص في مؤلف "غريماس " : " الدلاليات البنيويّة " ، منطلقا نظـريّا ، و قاعدة إكسيوماتيّة لمجمل الفرضيات التي عمل غريماس على تحيينها (1) و تبدو إسهامات " جوزيف كورتاس " السيميائيّة متميّزة عن غيرها بالتطبيقات النوعيّة العديدة حول مختلف الخطابات سواء أكانت لفظيّة أم غير لفظيّة ، ومن جهة ثانية محاولة استظهار الأبعاد الأسطوريّة للحكاية الشعبيّة الغرائبيّة الفرنسيّة من خلال طرح فرضية لدلاليات الحكاية العجيبة، ثم الإسهام في إنشاء دلاليات للتلفظ.

ومن اللازم إضافة إلى هذا كله ، الإشارة إلى العمل النظريّ العظيم الذي ساهم فيه كورتــاس مع غريماس ، و المتمثل في القاموس السيميائيّ بجزأيه (1979- 1986) ، و الذي يعتبر علامة تحول في المفاهيم السيميائيّة التي أمست في حاجة إلى تجديد لتساير البحث السيميائيّ ، و موضوعاته الجديدة ، و بالخصوص فيما يتعلق بإمكانية إنشاء سيميائيّات الرغبات ، و دلاليات للتلفظ ، و إمكانية إيجاد قاعدة نظرية تمكن من إنشاء لغة واصفة لعلم النفس ) métapsychologie (2)(التي طالما حلم بها " فرويد ".

و الظاهر أن الثقل التنظيريّ الذي يحمله القاموس السيميائيّ ، تعتبره الباحثة السيميائية " آن إينو "(1) درجة ثالثة في المسار التطوريّ السيميائيّ، و إسهام جوزيف كورتاس في هذا الإنجاز النظريّ دليل بيّن على عمق الفعل السيميائيّ لدى هذا الباحث الذي لا يرى فصــلا بين التنظير و التطبيق ؛ فهو يجد - كما يلاحظجينيناسكا – (( أن فاعليّة أي نظرية هي قبل أي شيء في براغماتيتها ، و هي تقتصر على الاستقبال الذي يبديه له جمهور القرّاء)) (2).فأين المزيّة إذا انحصرت السميائيات في فضاء التنظير ؟

1. 1. إستراتيجية كورتاس السيميائية :

لقد شهد شهد القاموس السيميائيّ ( 1979- 1986) لغريماس و كورتاس ذيوعا مشهودا بين الأوساط العلميّة من خلال ترجمته إلى عدة لغات؛ فلم يعد الفعل السيميائيّ مقتصرا على جمهور محدد من المختصين بالنظريات اللّغويات و الأدبيّة ، و إنما أمسى موجها إلى أصناف عديدة من القّراء ، سواء أكانوا لسانيين أم علماء اجتماع ، أم عـلماء نفس أم صحفيين ، أم رسامين ، أم مختصين في التواصــل(3) ( البيـذاتي intersubjective ، و التواصل الاجتماعي والتواصل الثقافي).

و لتحقيق توسع المعرفة السيميائيّة ، و الإسهام في نشرها بين جمهور القرّاء شرع جوزيف كورتاس في مؤلفاته العديدة إلى بسط المفاهيم السيميائيّة الرئيسيّة ، من أجل توسيع فضاء التلقي ، و حتى لا تبقى (السيميائيّات ) مقتصرة على زمرة محدودة من المختصين اللّسانيين و الأدبيين .

إن تيارات البحث - في إطار علم اللّغة - على اختلافها ؛ كنظرية الأفعــال الكلامـة ، أو التداولية ، أو المنطق الرياضيّ ، أو الدلاليات المفرداتية (lexicale ( ...إلخ ، تسعى إلى استكتشاف الدلالة و أنساقها وفق تصورات مختلفة ، و علاقتها بالسيميائيّات ليست علاقة نفي و إقصاء و إنما - كما ينصكورتاس (1) - هي علاقة تكامل، فالمشروع السيميائي مقدم بوصفه مجموعة فرضيات وليست مسلّمات يقينية، يقول كورتاس: (( إنّ سيميائياتنا مقدّمة بوصفها مجموعة فرضيات نرجو منها أن تكون ملائمة لتأويل النصوص والخطابات)) (2) والغلبة والبقاء في فضاء البحث الدلالي؛ للدراسات المبنية على مبدأ التفاعل والانفتاح على الاتجاهات الأخرى.

1. التحليل السيميائيّ و نوعيات الخطاب:

يبدو جليّا تميّز البرنامج السيميائيّ اليوم لدى مدرسة باريس ، و بالخصوص عند جوزيف كورتاس بتعدد التحاليل و المقاربات السيميائيّة لخطابات متنوّعة، سواء أكانت لفظيّة أو غير لفظيّة ؛ذلك أنّ مصطلح " اللّغة" لا يبدو - وِفق التصور السيميائيّ - مقتصرا على المعنى اللّسانيّ،و إنّما أضحى يشمل اللّغات الطبيعيّة، وبشكل أوسع كل الأنساق التّمثيليّة الممكنة(3). و يمكننا أن نحصي منها انطلاقا من هذا التحديد دراسة الخطابات الأدبيّة و الاجتماعيّة (قانون ، أسطورة ، عقيدة،إلخ)، و دراسة التّمثيلات المشاهدة (كتابة ، صورة ثابتة أو متحركة ، فوتوغرافيا ، إلخ)، ودراسة التّنظيمات الفضائيّة ( هندسة معماريّة ، إلخ)، وكذا دراسة الممارسات السيميّائيّة ( موسيقى ، لباس ، مطبخ ، إلخ)، و بكلمة موجزة ، دراسة أي شيء حامل لمعنى في إطار ثقافة محدّدة.

وقد اشتملت مؤلّفـات كورتاس السيميائيّة على تحليلات عديدة لخطابات نوعيّة مختلفة ، منها ما هو لسانيّ ، و منها ما هو غير لسانيّ ليثبت شموليّة المقاربة السيميائيّة ، و عدم اقتصارها

علـى النص الأدبيّ ، الذي كان يمثّل في بدايات المشروع السيميائيّ مع غريماس و كوكي (1) مركز الاهتمام . فقد قدّم كورتاس في مؤلّفه : التحليل السميائيّ للخطاب تحليلات عديدة لخطابات متنوّعة :

- تحليل سميائيّ لحكاية شعبيّة روسيّة (بابا جاغا ).

- تحليل لموكب جنائزيّ.

- تحليل لقصة قصيرة "لموبسان" (الثأرvendetta ( .

- تحليل لظاهرة اجتماعيّة (الإضراب).

و أما كتابه " من المقروء إلى المرئي " فقد اشتمل على تحليلين مفصلين لخطابين مختلفين :

- قصة قصيرة "لموبسان"(طاقم الذهب La Parure)

- شريط صور لرابيي:(Le basset phénomène)

وأظهر في تحليله لهذين النصين المختلفين أنّ هناك إمكانية الاعتماد عل منهجية واحدة (تركّز على شكل المضمون) (2) في مقاربة الخطابات على اختلاف طبيعتها.

واشتمل كتابه: "دلاليات الملفوظ" على:

- تحليل خطاب روائيّ (مقطع من رواية الأسد لـ:جوزيف كيسيل )

- تحليل خطاب دينيّ (نصّ إنجيليّ)

- تحليل خطاب مرئي (شريط صور لـ:رابيي)

كما لم تخل مؤلفاته العديدة من تحليلات سيميائيّة ؛ فقد قدم كذلك في كتابه : " سيميائيّات اللّغة " تحليلا لحكاية خرافيّة لـ:"لافونتين" (الغراب و الثعلب) ، و اشتمل كتابه : "مقدمة للسيميائيّـات السرديّة و الخطابيـّة "على قراءة سيميّائيّة لحكاية شعبيّة فرنسّة (سوندريون)، و خصصّ كتابا لدراسـة المتن الحكائيّ الفرنسيّ ؛ عنونه بـ:"الحكاية الشعبيّة: شعريّـة و ميتولوجيا ، في محاولة منه لإنشاء دلاليات للحكاية العجيبة ،هذا من دون جرد مقالاته العديدة في مختلف المجالات التي يطول إحصاؤها، و يظهر لنا جليا أنّ إستراتيجيةكورتاس وسعيه السيميائيّ استهدف استظهار القيمة الحقيقية للمفاهيم السيميائيّة من خلال إثبات النظريّ بالتّطبيقيّ؛ ذلك أنّ التحليلات النصّـيّة على اختلاف اتجاهاتها و مسمياتها (تحليل السرد ، تحليل الخطاب، نحو النصّ ،

السيميائيّات السرديّة و الخطابيّة ...) قد تدعي كلّها ، على المستوى النظريّ ، الوصول إلى منظومة الخطابات ، كما يقول كورتاس(1) ، لكن لا يمكننا قياس حقيقتها الوصفيّة إلا في إطار الممارسات التطبيقيّة . و يسعى هذا السيميائيّ من خلال تحليلاته السيميائيّة على مختلف الخطابات إلى إثبات أنّ المقاربة السيميائيّة قابلة لأن تطبّق على أيّ موضوع دال ،و على أي نوع خطابيّ(2) ، فالمستوى الظاهريّ للخطاب - شكل التعبير - قد يتجلّّى في أشكال مختلفة ، و تتنوع وسائل تعبيره ؛ كاعتماد النصوص الأدبيّة على الكلمة ، و اعتماد السينما على الصورة ، و اعتماد الرّسم على اللّون ، لكنّ المستوى الثانيّ مستوى المحتوى هو محل انتظام الدلالة، و عواملها الأوليّة.

و هذا يعني (( أنّ مواد الدال لا تمثل مركز الاهتمام ، فاللون ، أو الشكل لا يقصدان لذاتيهما ، و إنما المقصد في الوظائف التي تقيمها)) (3)، بمعنى أن الثابت المستهدف يكمن في إطار المحتوى فهو يتعدّى تنوّع التعبير واختلافه.

و من اللازم الإشارة إلى أنه من خلال مضاعفة التّحليلات - كما يقول كوكي - (4) يمكننا رفع فرص تحديد هيكل موضوع المعرفة ؛ فمختلف التحليلات الأدبيّة كانت تمثل المنطق الأساسيّ في المسار التطوريّ للسيميائيات الأولية ، (( و لم تتوقف السيميائيات الأدبيّة (كما تقولإينو) عن كونها المخبر التجريبيّ للمصطلحات الموظفة في التطبيقات السيميائيّة الأخرى)) (5)،وبالخصوص ما يتصل بالمتن الحكائي .

و نخلص من هذا كله إلى أنّ الفعل السيميائيّ عند كورتاس تجلى في تقديم المصطلحات السيميائيّة الأساسيّة بطريقة تعليميّة ديداكتيكيّة ، و تكثيف التحليلات على مختلف النصوص و الخطابات ؛ إنما القصد منه نشر المعرفة السيميائيّة بين مختلف القرّاء ، فمن الخطأ حمل معنى التحليل السيميائي وربطه بالخطاب اللساني فقط، ذلك لأن الدلالة تتعدى شكل التعبير إلى شكل المحتوى.

يسعى كورتاس - كما أشرنا سابقا - من خلال تحليلاته السيميائيّة على مختلف الخطابات إلى إثبات أنّ المقاربة السيميائيّة قابلة لأن تطبّق على أيّ موضوع دال ، و على أي موضوع خطابيّ ، و إنّه لا يمكن قياس القيمة الحقيقيّة لأيّ منهج إلاّ من خلال الممارسات التّطبيقيّة لكن ثمّة شيء مهم لابد من تحديده هـو أنّ السيميائيّات أو الدلاليات - كما ينصّكورتاس – (( معارف[...] تولد من خلال التّطبيقات الفعليّة المختلفة)) (1).بحيث إنّ مفهوم النظرية والتطبيق في إطار التصور السيميائي يبدوان غير منفصلين .

و يبدو جليا أن فرضية إنشاء دلاليات للحكاية العجيبة كانت مؤسّسة على دراسات عديدة و تطبيقات مختلفة ( مقارنات تيميّة ، دراسات تاريخيّة ...) على المتن الحكائيّ ؛ بحيث كانت تمثل مورفولوجيابروب ، و أبحاث ليفي استراوس ، و دوميزيل، و بانوفسكي، و غريماس، السند المنهجيّ و النظريّ (2) لدلاليات الحكاية العجيبة عند كورتاس.

الأستاذ/ مسكين دايري- سعيدة.

الهوامش

(1) - J .M. Floch , Introduction quelques concepts fondamentaux en sémiotique générale , Questions de

sémiotique ,(sous la dir.A.Henault), Paris,éd. PUF ,2002 , p 107.

* تشير إلى سيميائيات بورس

(2) -A.J.Greimas et J.Courtés, Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, 1979, p. 345.

(1) - J, Courtés, Sémiotique du langage, France, éd. Armand Colin, 2005, p. 69.

(2) - A. Hénault, Histoire de la sémiotique, Paris, éd. PVF, 1992, p. 104.

(3) - J, Geninasca, Et maintenant ?, In, Lire Greimas, ,(sous la dir.ُ.Landowski), éd. PULIM, 1990, p. 57.



(1) – A. Hénault, Histoire de la sémiotique, p. 103.

(2) – Ibid ., P.103.

(1) - A. Hénault, Histoire de la sémiotique, p. 115.

(2) – J. Geninasca, Et maintenant ?, in, Lire Greimas, p. 52.

(3) – J. Courtes, Sémiotique du langage, p. 5.

(1) – J. Courtes, Analyse sémiotique du discours : de l'énoncé à l'énonciation, Paris, éd. Hachette, 1991, p. 3.

(2) - Ibid., p. 4.

(3) – J. Courtes, Sémiotique du langage, p. 7.

(1) – A. Hénault, Questions de sémiotique, p. 96.

(2) – J. Courtes, Du lisible au visible, initiation à la sémiotique du texte et de l’image, Βruxelles,éd.De Βoeck université, 1995 p.11.

(1) – J. Courtes,Sémiotique de l’énoncé : application pratique, Paris, éd. Hachette, 1989, p.3.

(2) – J. Courtes, Analyse sémiotique du discours, p. 4.

(3) – J. C. Coquet, L école de Paris, éd. Hachette, 1982, p. 42.

(4) - Ibid., p. 40.

(5 ) – A. Hénault, Questions de sémiotique, p. 96.

(1) – J. Courtes, Sémiotique du langage, p. 4.

(2) – J. Courtes, Le conte populaire : poétique et mythologie, France, éd. PUF, 1986, p. 17.