الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الخميس، أبريل 23، 2009

موجز تاريخ علم اللغة في الغرب

بلاغة النص وعلم الخطاب

http://up2.m5zn.com/download-2009-4-23-10-arghhlu6e.rar

كتاب في اللسانيات هام بعنوان المرايا المحدبة

المذاهب الأدبية والنقدية

كتاب حول الموشحات الأندلسية للتحميل

كتاب الآداب اللاتنية للتحميل

كتاب أدب الرحلات للتحميل اصغط على الرابط أدناه

كتاب حول اتجاه الشعر العربي المعاصر

http://up2.m5zn.com/download-2009-4-23-10-2oqki8frv.rar

الاثنين، أبريل 20، 2009

صورة بقلم الرصاص

كتاب فيم للتحميل

نظريات التعلم

نظريات التعلم

نظريات التعلم

تقويم الكفاءات للتحميل

تنشيط المجموعات

التربية التحصيرية

كناب عن التحفيز للتحميل

موضوع نصائح من ذهب للتحميل

كتاب تكنولوجيا التصال والإعلام للتحميل

الأحد، أبريل 19، 2009

قراءة النصوص

مراحل القراءة
المنهجية للــــــــــنص :

1- مرحلة ما قبل المنهجية : أو القراءة الاستكشافية.
وفيها يتم اللقاء الأول بين التلميذ القارئ والأثر-النص ويخضع هذا اللقاء لمؤثرات عاطفية تتراوح ما بين الفضول والاهتمام والرفض والاشمئزاز. ويتم في هذه المرحلة المرور بمحطتين.
أ‌- اكتشاف النص :
أي التعرف، من خلال الملاحظة المتفحصة، على التنظيم المادي للنص من خلال مؤشرات الأنساق
(الشكل الخارجي للنص، توزيعه المكاني، طباعته، المصاحبات النصية أو النصوص الموازية (العتبات ) ومن ثم صياغة الفرضيات الأولى لنوعية النص ونمطه، انطلاقا فقط من المكونات السيميائية واللسانية القبلة للملاحظة.
ونفترض هذه المرحلة التعرف على موضوع القراءة وإصدار فرضيات قرائية، من خلال التقاط مؤشرات وقرائن وتفاصيل نصية ومصاحبات نصية، ويمكن اعتماد المفاجأة كعنصر استراتيجي لتلقي النص. لذا يقدم النص لأول مرة في الفصل دون سابق إشعار.
ب- القراءات الأولى وصياغة مشروع القراءة المنهجية:
ويتم فيها الانتقال من الملاحظة العامة والخارجية للنص إلى القراءة الأولى التي تصحح ردود الأفعال الأولى والفرضيات المصوغة، انطلاقا من المحطة الأولى. وذلك في أفق صياغة فرضيات جديدة (يمكن أن تثبت كتابيا حسب رغبة المدرس). وعلى الرغم من احتمال الفوضى التأويلية في هذا المستوى يمكن وضع الفرضيات في إطار ثلاثة منظورات.
1- توقعات القراءة بناء على المصاحبات النصية (اسم الشاعر/الكاتب مثلا).
2- محاولة استخلاص المتن الإخباري السطحي للنص.
3- الاستفهامات، الصعوبات، بعض مظاهر عدم الفهم، والمقاومة الناجمة عن التفاصيل المزعجة والمضللة.
يجد التلاميذ أنفسهم إذن، وخاصة حين تنزاح النصوص عن أفق انتظارهم، أمام وضعيات مشكلات (Situations-problèmes) تحتاج منهم القيام بمهمات Taches. هذه المهمات تراعي عوائق فهم النصوص وتأويلها وكذا متطلبات الوضعية الديداكتيكية وإكراهات المؤسسة (التوجيهات الرسمية والأهداف المتوخاة من تدريس نص أو مادة معرفية ما...)
وتشكل هذه المهمات الدعامة الأساسية للمشروع البيداغوجي الذي يشكل " إطارا لاشتغال القراءة، ( يمكن أن تكون موضوع مصالحة بين أهداف المؤسسة وردود أفعال التلاميذ، وتفاوض بينهم وبين المدارس). ويحدد له الغلاف الزمني الكافي.
2- مرحلة القراءة المنهجية:
او مرحلة التأويل والقراءة التحليلية، وإذا كانت القراءة الأولى خطية وانتقائية وذاهبة قدما في اتجاه الأمام، فإن القراءة التحليلية هي بالضرورة " قراءة ثانية" أو" قراءة مرتدة" Rétrospective و" تأملية". ولتتولى التحليل تحتاج إلى أدوات تحليلية، ومفاهيم أي ما يشكل ثقافة نوعية.
وتقف القراءة التحليلية عند المحتويات التالية:
1- التنظيم الصوري : من خلال فحص اشتغال الروابط البلاغية.
2- الالتحام التركيبي الدلالي: من خلال دراسة الروابط المكانية والزمانية (الزمكانية) والروابط المنطقية.
3- الأتساق التيماتي ومؤشراته التكرارات النحوية ( الضمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة...) وكذا التدرج التيماتي.
4- الأتساق السيمانطيقي ( الدلالي): من خلال المؤشرات التالية: التكرار المعجمي، الحقل الدلالي، وسائل التمثيل ( الكناية/المجاز/الاستعارة).
يتم هذا على مستوى اشتغال النص، اما على مستوى الإخراج التلفظي Mise en scène
énonciative للنص فتتولى القراءة المنهجية الكشف عن النظام التلفظي والاستراتيجيات الخطابية وما يمكن أن ينجم عنهما من آثار للمعنى Effets de sens تعد أساسية في تأويل النص. وهذا الإخراج التلفظي يوجد في النسيج الداخلي للنص خلاف الملفوظات الواردة في مقامات تواصلية حقيقية. وهذا ما يؤكده F.Schuerewegen بخصوص الفعل الأدبي للنص الأدبي " بما أنه لا يملك سياقا غير السياق النصي Co-texte، وغير المتوالية النصية التي يوجد بداخلها، فهو مجبر، إذا أراد أن يمتلك قوة إنجازية، على توفير المعلومات المساعدة على إعادة بناء الوضعية التلفظية وإعادة تشكيلها".
3- مرحلة ما بعد القراءة، أو مرحلة إعادة القراءة:
تعد هذه المرحلة أساسية في تجسيد الفعل القرائي وتمديده حيث عن مشروع قراءة نص ما لا ينتهي بمجرد الانتهاء من إنجاز المهمات المتفق عليها، ضمنا أو صراحة، ما بين الأستاذ والتلاميذ. عن من الضروري، ونظرا لمقتضيات تعليمية، توسيع مجال القراءة بجعل النص ينفتح على السياق الخارج النصي: ( المنظور التاريخي والثقافي، المنظور الاجتماعية، المنظور النفسي...) بما يتيح إعادة القراءة La relecture بما هي ترسيخ للانهائية النص إزاء محدودية القراءات وعجز المناهج والخطط التحليلية.
ويمكن أن نتصور في هذه المرحلة وضعيات بيداغوجية وديداكتيكية جديدة، وموضوعات قرائية صالحة لاستثمار المكاسب التي تحققت من خلال القراءة ( المرحلتين السابقتين)، ومنها :
- مقارنة النص بنصوص أخرى (سواء لنفس المؤلف، أو من نفس العصر أو في نفس التيمة، النوع...).
- تفصيل الحديث عن منظور من المنظورات التي بلورها النص ( جمالي سوسيولوجي، تحليل نفسي، تاريخي...( بالاستعانة بوثائق أو مخطوطات أو رسائل أو نصوص، أو شرائط سينمائية أو صوتية...
- تطبيق الأدوات التحليلية نفسها على نصوص أخرى.
- صياغة مشاريع قرائية جديدة للنص ذاته انطلاقا من مداخل جديدة.

مقاربة نحو النص

مقاربة نحو النص في تحليل النصوص: قراءة في وسائل السبك النصي
أ. ياسين سرايعية
جامعة عبد الرحمن بن خلدون –تيارت- كلية العلوم الانسانية- قسم اللغة العربية وآدابها
أولا : ارهاصات البحث في اللساني النصي
حظيت اللغة منذ القديم بنصيب وافر من الدراسات كونها من أهم وسائل الاتصال التي يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم ، وأحدث دراسة في هذا الشأن تعود إلى زيلغ هاريس الذي قدّم منهجا لتحليل الخطاب المترابط سواء في حالة النطق أو الكتابة ، استخدم فيه اللسانيات الوصفية بهدف الوصول إلى اكتشاف بنية النص Structure Of The text وقصر فيه الدراسة على الجمل والعلاقات فيما بين أجزاء الجملة الواحدة ، والفصل بين اللغة والموقف الاجتماعي ومنه اعتمد منهجه في تحليل الخطاب على ركيزتين:
- العلاقات التوزيعية بين الجمل
- الربط بين اللغة والوقف الاجتماعي (1)
في هذا السياق يرى روبرت دييوجراند أن اللسانيات مطالبة بضرورة متابعة الأنشطة الإنسانية في التخاطب إذ أن جوهر اللغة الطبيعية هو النشاط الإنساني ليكون مفهوما ومقبولا من لدى الآخر في اتصال مزدوج (2) ، ومن ثم عدّت اللسانيات النصية حلقة من حلقات التطور الحاصل في حقل الدراسات اللسانية الحديثة ، ويشير أكثر من باحث إلى أن بداية البحث في النص – بشكل عام – ترجع إلى رسالة I.Nye (3) التي بحثت فيها علامات عدم الاكتمال وهذا يعني أن هناك دراسات سابقة على زيليغ هاريس يمكن - أن تعد بحق البدايات الفعلية لتحليل الخطاب- الذي يرى أن اللغة لا تأتي على شكل كلمات أو جمل مفردة بل في نص متماسك ، بدءا من القول ذي الكلمة الواحدة إلى العمل ذي المجلدات العشرة بدءا من الونولوج وانتهاء بمناظرة جماعية مطوّلة (4) .فقد ربط هاريس تحليل الجمل بسياق النصوص ونقل ما يتصل بتحليل الجملة تحليلا بنويــــا ( التقطيع والتصنيف والتوزيع ) إلى المستوى الجديد للنص وحاول بواسطة إجراءات شكلية أن يصل إلى توصيف بنوي للنصوص لقد توسع هاريس في بعض الأفكار التي تعود إلى سوسير الذي رأى أن الجملة عبارة عن تتابع من الرموز ، وأن كل رمز يسهم بشيء من المعنى الكل لهذا فكل رمز داخل الجملة يرتبط بما قبله وما بعده (5) ، واعتمدت الدراسات اللسانية على نظرية الوظائف القائمة على العلاقتين الرأسية والأفقية وحافظت البنيوية بكل أشكالها على هذا التصور حتى ورثته عنها بعض الاتجاهات النصية القائمة على فكرة التحويل عند هاريس ، إلا أن الفارق المميز بينه وبين فان ديك في دراسة العلاقات النحوية بين الجمل في حقل اللسانيات الشكلية ، هو شمول الوصف النحوي لهذه العلاقات في المستوى السطحي والعميق دون الاقتصار على التغيرات الطارئة على البنية الظاهرة كما يقرّها التحويليون ويحرض فان ديك على ضرورة الارتباط المنطقي في البحث عن اتساق النصوص وانسجامها (6) حيث استعمل ديك مفهوم الترابط للإشارة إلى علاقة خاصة بين الجمل والانسجام إشارة إلى عدم تأويل الجمل أو القضايا بمعزل عن الجمل والقضايا السابقة عليها ، فالعلاقة بين الجمل محددة باعتبار التأويلات النسبية (7).
والحقيقة أن الاتجاه من نحو الجملة إلى نحو النص لم يفرض وجوده إلا حين نشر هاريس دراستين مهمتين في أثره تحليل الخطاب 1952 Discours analysisبعد أربعين سنة من رسالة I.Nye ، وقدم بذلك أول تحليل منهجي للنصوص ، وتجاوز التقليد الذي أرساه بلومفيلد والمسلّم بأن النص ليس إلا مظهرا من مظاهر الاستعمال اللغوي غير قابل للتحديد (8) كما كان للسانيات النص ارتباطا وثيقا بالنظرية التوليدية التحويلية لتشومسكي من خلال تركيزه على الوصف العملي والعلاقة بين التركيب اللغوي والخصائص الفكرية حيث كللت جهوده باجهاد هايد ولف K.E.Heidolph 1966 في استباط القواعد السياقية للجمل في النحو التوليدي وأبز نبرج 1968 أول من حاول أن يطور نحو شاملا للنص ، واتسعت قواعد النحو التوليدي لإنشاء الجمل لتشمل النص ، ومثله كالتالي : (9)

ن
...
ج1 ج2 ج3
م أ م ف م أ م ف م أ م ف

ن = نص ، ج = جملة ، م أ = مركب اسمي ، م ف = مركب فعلي .
وهذا الوصف يجسد ما أكّده ج . م أدام من أن النص إنتاجا مترابطا متّسقا ومنسجما وليس رصفا اعتباطيا للكلمات والجمل وعدت الآراء السالفة لهاريس نقطة تحول داعية إلى أهمية تجاوز الدراسات اللغوية مستوى الجملة إلى مستوى النص والربط بين اللغة والموقف الاجتماعي ، مشكلين بذلك اتجاها جديدا (10) وأخذت ملامحه في التبلور منذ الستينات تقريبا وعرف هذا الاتجاه بلسانيات النص Text linguistcs واللسانيات النصية Texual linguistcs ، ونحو النص Text grammaire ، وعلى الرغم من التداخل بين الاتجاهات اللغوية والاتجاهات النصية فإن الاتجاهات النصية حاولت الانفصال تدريجيا ، وعدّ المصطلح الذي استخدمه هارقج Harwig.R للدلالة على هذا الاتجاه الجديدة في بحث النص ، و هو مصطلح Textologie وكان أكثر قبولا ، وأما التقسيم الذي استخدمه درسلر R.Dressler وهو علم دلالة النص وعلم نحو النص والتداولية النصية فهو أفضل في رأي – سوينسكي (11) .
إن لسانيات النص فرع من فروع اللسانيات تعنى بدراسة النص وأبرز مميزاته وحدّه وتماسكه واتّساقه والبحث عن محتواه الابلاغي التواصلي ، حيث تحتل النصـية فيها مكانا مرمـوقا لأنها تجري على تـحديد الكيفيات التي ينسـجم بها النص/ الخطاب (Texte/Discours) وتكشـف عن الأبنية اللغوية وكيفية تماسكها وتجاورها ، من حيث هي وحدات لسانية ؛ تتحكم فيها قواعد إنتاج متتاليات مبنينة (12) ويتسم هذا العلم بتشبعه إلى حد بعيد إذ أننا لا نجد إلا قدرا ضئيلا من الاتفاق حول مفاهيمه وتصوراته ومناهجه فقد استوعب حدا لا يستهان به من المفاهيم نظرا لكثرة منابعه ، وأخذت اتجاهات البحث في هذا العلم أشكالا عدة تبعا للأسس التي يستند إليها هذا العلم ، فنجد اتجاها يعتمد على علم اللغة الوصفي وآخر يعتمد على علم اللغة الوظيفي وثالثا يقوم على علم اللغة التركيبي ...لا شك أن هذا التشعب جعل مهمة ما توصل إليه مهمة صعبـــة .
قد حدد ديبوغرند ودريسلار معايير النصانية التي لم تستوفها أطروحات هاريس والتوليدين لأنها لم تستطع أن تحدد موقفا محددا من النصوص غير النحوية واختلاف الأساليب داخل النصوص وأهم هاته المبادئ النصانية (13) :
1- السبك (cohésion) (14) : الترابط الرصفي القائم على النحو في البنية السطحية ، بمعنى التشكيل النحوي للجمل وما يتعلق بالإحالة والحذف والربط وغيره .
2-الحبك (cohérence): وهو حبك عالم النص أي الطريقة التي يتم بها ربط الأفكار داخل النص ويظهر هنا الربط المنطقي للأفكار التي تعمل على تنظيم الأحداث والأعمال داخل بنية الخطاب .
3-القصد (Intentionnalité): وهو التعبير عن هدف النص الذي يغدو وسيلة متاهة لحظة معينة بغية الوصول إلى هدف محدد .
4-المقامية (Situtionalite): متعلقة بالسياق الثقافي والاجتماعي للنص أي مؤسسة على تحكم المقام في دلالات النص .
5-التناص (Intertextualité): هو أهم عنصر من العناصر المحققة للنصانية وهو أن تشكل النصوص السابقة خبرة للنصوص اللاحقة .
6-الإخبارية (Informative): تقتضي الإعلامية والإخبار حيث يحمل كل نص قدرا معلوما من القدرات الإخبارية.
7-الاستحسان (Acceptabilité): يتحقق من خلال مستوى علاقة النص بالملتقى ، من خلال إظهار موقف المستقبل للنص إزاء كونه صورة من صور اللغة ينبغي أن يكون مفهوما ومقبولا (15) .
ونرى أغلب اللسانيين يصرّون على وحدة وتماسك النص وهو القاسم المشترك لكل التعريفات التي تراهن على أن النص وحدة متكاملة تشدّها خاصية الترابط حيث يقوم النظام الكلي للنص على مبدأ التماسك المتمثل في الخاصية الدلالية الجامعة للخطاب التي يعنى التحليل اللساني في النص بوصفها وتحديدها في ضوء نحو النصوص .
ثانيا : نحو النص
يتجاوز التحليل اللساني النصي في ضوء نحو النصوص نظرة التحليل النحوي التقليدي والأسلوبية ، حيث تتجلى مهامه في دراسة الخواص التي تؤدي إلى تماسك النص وتعطي عرضا لمكونات النظام النصاني ، وان كانت مبعثرة يجب حينها على المحلّل اكتشاف الآلية الحدسية والعرفية التي تمكنه من إيجاد فتيل الربط لتكوين البناء المتميز ، وهذا يعني أننا نرى توظيف عبارة نسيج كمعادل للنص ونلمح هذا في تعريف لنظرية النص يبين أن كلمة texte تعني نسيج (Tissu) الذي تختفي وراءه الحقيقة ، هذا يعني أن فتيل الربط هو ذلك الرابط المضمر مقابل الروابط المتجلية في تشكيله السطحي التي كانت ترومها الدراسات التقليدية ، وقد حاول مجموعة من الدارسين عنو في وقت مبكر بدراسة نحو النص تأسيس نظرية شاملة تبحث في الترابط النصي من حيث أشكاله ووسائله (16) وقد صور جارلسون خصيصة الترابط هذه من خلال تخيل النص حوارا جيّد التكوين ، حيث تكون كل كلمة وكل جملة هي رد على أخرى سابقة عليها ، وفي الوقت نفسه مثيرة لأخرى لاحقة لها ، وهكذا حتى يصبح لنا في النهاية حوارا تتعالق كل أجزائه بعضها ببعض ، ومن ثم يدعونا جارلسون – إذا ما أردنا معرفة ترابط نص ما – إلى أجزاء أو تخيل لعبة الحوار هذه (17) .
وينبغي أن نفرق هنا بين الربط الذي يمكن أن يتحقق من خلال أدوات الربط (النحوية ) /( الروابط ) والتماسك الذي يتحقق من خلال وسائل دلالية في المقام الأول ، ويمكن تتبع الأول على المستوى السطحي للنص (18) ويرى فان ديك أن التماسك يتم على مستوى الدلالات (19)،واستعمل مفهوم الترابط للإشارة إلى علاقة خاصة بين الجمل ، ولما كانت الجملة مقولة تركيبية والترابط علاقة دلالية فقد فضل الباحث الحديث عن العلاقة بين قضيتين أو قضايا جملة ما (20)، وتقضي أدوات الربط الطبيعية أن الجمل الفرعية والرئيسية تعبّر عن ارتباط القضايا قصديا ، وتترابط القضايا إذا صارت الأحداث المدلول عليها مرتبطة في حالة أو مقام ممكن .
ونجد إبراز خصيصة ترابط النص في معظم تعاريف النص عند علمـاء لغة النص ، فهو عند هارفج (21) ترابط مستمر للاستبدالات السنتيجمية التي تظهر الترابط النحوي في النص ، وعند فاينريش (22) يكون حتمي تحدد عناصره بعضها بعضا لفهم الكل ، فالنص كل تترابط أجزاؤه من جهتي التحديد والاستلزام ، إذ يؤدي الفصل بين الأجزاء إلى عدم وضوح النص ، ويفسر هذا بوضوح مصطلحي "الوحدة الكلية" و"التماسك الدلالي" ، وعند بريكنز (23) تتابع متماسك من علامات لغوية أو مركبات من علامات لغوية لا تدخل تحت أي وحدة لغوية أخرى ( أشمل ) ، ويشير هاليداي ورقية حسن إلى أن النص هو مقطع منطـوق أو مكتوب ويشكل كلا متّحدا ، ويرى جون لاينز(24) أن النص في مجمله عليه أن يتسم بسمات التماسك والترابط ، اننا لا نستطيع أن ندخل في تفاصيل التمييز بين التماسك والترابط فلهذا التمييز بصورة عامة علاقة بالفرق بين الشكل والمحتوى ، ويعتبر التمييز من هذا النوع جذابا وحدسيا ويمكن تبريره نظريا (25) .
أن الحذف واستخدام الضمائر وأدوات الربط تساعد على تكوين ما يصطلح عليه بـ " التماسك الشكلي " (26) .
كان التراث النحوي السابق الأساس الفعلي الذي بنيت عليه الاتجاهات النصية بكل ما تتسم به من تشعب في أفكارها وتصوراتها ، وقدمت دراسات خاصة بأجزاء الجملة ومتواليات الجمل ولم تخرج عن الظواهر التي يختص بها نحو الجملة ، ونظرا لقصور نحو الجملة على تفسير بعض الظواهر لجأوا إلى الإشارة إلى وحدة أكبر من الجملة يمكن أن تكون وحدة النص ، غير أن نحو النص يراعي في وصفه وتحليلاته عناصر أخرى لم توضع في الاعتبار من قبل ، ويلجأ في تفسيراته إلى قواعد دلالية ومنطقية إلى جوار القواعد التركيبية ويحاول أن يقدم صياغات كلية دقيقة للأبنية النصية وقواعد ترابطها ، لقد عني الدرس اللساني النصي في دراسته لنحو النص بظواهر تركيبية نصية مختلفة؛علاقات التماسك النحوي النصي،وأبنية التطابق ، والتقابل ، والتراكيب المحورية والتراكيب المجتزأة ،و حالات الحذف ، والجمل المفسرة ، والتحويل إلى الضمير ، والتنويعات التركيبية وتوزيعاتها في نصوص فردية ، وغيرها من الظواهر التركيبية التي تخرج عن إطار الجملة المفردة (27) .
يرى فان ديك أن نحو الجملة يشكل جزءا غير قليل من نحو النص ، وتتنوع فوائد نحو النص وتتداخل مع أسباب الحاجة اليد (28) ، فأهم مهمة لنحو النص هي صياغة قواعد تمكننا من حصر كل النصوص النحوية في لغة ما بوضوح ومن تزويدنا بوصف الأبنية (29) .
ويتحقق للنص نصانيته حسب درسلر و دبيوغراند من خلال المعايير السبعة التي ذكرت آنفا وجعلا معيار [ السبك ] الربط النحوي الأول و[ الحبك] التماسك الدلالي المعيار الثاني ، حيث يتحقق البناء بوجود هاته المعايير ، وهذا لا يعني وجودها في كل نص ، ولذلك لم تعد تراعى الجوانب النحوية فحسب بل يشترط في النص جوانب أخرى بعضها يتعلق بالدلالة بمفهوم واسع(30) .
وينبغي أن يفهم هنا نحو النص على أنه فهم أوجه الترابط المتجاوزة للجملة وتغير التركيب في كل جملة على حدى على أساس معطيات نصية ، والملاحظ أن نحو النص يضّم أشكالا مختلفة من الأنحاء التي تنصب على النص ، غير أنها تختلف اختلافا شديدا باختلافات الاتجاهات اللغوية والأصول التي قامت عليها .
غير أن نحو النص يضيق ويتسع نشاطه في معالجة النصوص وتحليلها باختلاف الآراء ، وتشبعها تبعا للتطور الحاصل في لسانيات النص ، فيرى سعد مصلوح أن نحو النص يهتم في تحليلاته بضم عناصر جديدة منطقية ودلالية وتركيبية ليقدم شكلا جديدا من أشكال التحليل لبنية النص ، وتصور معايير التماسك والترابط والانسجام ولهذا تضافرت تقريرات اللسانين من أمثال بايك وهارتمان وجيلسون وساندرز لونجاكر وفان ديك وغيرهم على أن نحو النص بالنسبة لأي لغة بعينها هو أكثر شمولا وتماسكا واقتصادا من النحو المصور في حدود الجملة (31) ،أما ريزر H.Rieser فقد اقترح في كتابه مقالات في علم لغة النص نحوا للنص وفق نموذج نحو تركيب الضمائم الثنائي اللاسياقي ، وهو ذو أساس نصي فوق تركيبي ، محدد أفقيا من تتابعات جميلة ومكون نحوي لتوسيع الجملة ومكون تحويلي محدود ، ومكون دلالي ، ومعجم وعدد من وظائف التبعية للمعاني المركبة وحاول بتوفي (Petofi) تطوير نموذج" نحو النص التقليدي" من خلال إدخال عناصر أو مكونات دلالية وتداولية وعلاقات سياقية داخل النصوص ، وفي مقابل علاقات خارج النص ، وقد نتج عن ذلك النموذج نظرية أطلق عليها نظرية تركيب / بناء النص وأسس صور التماسك النصية في البنية العميقة للنص ودفعه هذا إلى أن يقتصر على أسس النحو التي لا تختلف في النص ، في مقابل النظام الأفقي ( أي المحدد بسطح النص ) .
ويقابل" نحو النص" في اللغة الأجنبية (Grammaire de texte) استعمله النحاة بهدف الوصف والدراسة اللغوية للأبنية الوصفية وعند أغلب الدارسين لا يختلف عن لسانيات النص الذي استعمله محمد خطابي وتمام حسان ، وبشير ابرير واستعمل سعيد حسن بحيري وإلهام أبو غزالة وعلي خليل محمد علم لغة النص ، واستعمل صلاح فضل ، جميل عبد المجيد علم النص وهو أشمل من نحو النص ولسانيات النص لأنه لا يقتصر على نوع واحد من التحليل بل يتجاوزه إلى أشكال أخرى من النصــوص ( إعلانات ، إشهار ، المقال الصحفي والعلمي ، والفلم السينمائي وكل منتوج ثقافي معاصر يتشكل في هيئة نص ، أما صبحي إبراهيم وفالح بن شبيب العجمي فقد استعملا مصطلح علم اللغة النصي ) أما إبراهيم خليل فاستعمل نظرية النص ، بينما أحمد عفيفي فقد استعمل " نحو النص " الذي يرى أن مهمة النحو الذي يتجه إلى النص قد غير أهدافه بتعديها ، أو بوجود أهداف جديدة لم تكن موجودة في نحو الجملة فالتحليل اللغوي اتجه إلى النص وبالتالي جاء تغيّر المنهج والأهداف عاملا أساسيا لضرورة الحاجة إلى نحو النص .
إن صفة التتابع والتواصل والترابط بين الأجزاء المكوّنة للنص تحقق للنص استمرارية من منظور نحو النص ، حيث تتجسد هذه الاستمرارية في ظاهره ، ويقصد بظاهر النص الأحداث اللغوية المنطوقة أو المسموعة أو المكتوبة أو المرئية في تعاقبها الزمني ، فينتظم بعضها مع بعض تبعا للمباني النحوية ولكنها لا تشكل نصا إلا إذا ما تحقق لها من وسائل السبك ما يجعل النص محافظا على كينونته واستمرار يته .
ثالثا : أدوات السبك النصي
لقد فضلنا استخدام مصطلح " السبك " بدل الا تساق أو التضام أو الترابط الرصفي وغيرها علما أنها كلها تقابل مصطلح (Cohésion²) وقد اعتمدنا هذا بناء على ترجمة سعد مصلوح ، فالمترجم أشار إلى أنه ( السبك ) أقرب شيء إلى المفهوم المراد وأكثر شيوعا في أدبيات النقد القديم (32) ويمكن توضيح هذا القرب والشيوع بالرجوع إلى التراث النقدي والبلاغي عند العرب ، فالجاحظ يقول " وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج ، فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا جيدا و سبك سبكا واحد ا، فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان" (33) وورد عند ابن أبي الاصبع المصري في ( باب الانسجام ) فقد عرفه بقوله وهو" أن يأتي الكلام متحدّرا كتحدّر الماء المنسجم بسهولة سبك و عذوبة ألفاظه ، وسلامة تأليف ، حتى يكون للجملة من المنثور ، والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس بغيره (34).
فالسبك يعني العلاقات أو الأدوات الشكلية والدلالية التي تسهم في الربط بين عناصر النص الداخلية ، وبين النص والبيئة المحيطة من ناحية أخرى ، ومن بين هذه الأدوات المرجعية "(35) وعليه فالسبك يهتم بالعلاقات بين أجزاء الجملة ، وأيضا بين العلاقات بين جمل النص وبين فقراته ، بل بين النصوص المكونة للكتاب ومن ثم يحيط [ السبك ] التماسك بالنص كاملا داخليا وخارجيا (36) ، فالسبك يهتم بتعالق وترابط القضايا ومنه تحدد النصية (Textulité) كما يلي :
النصية : الوحدة الترابط داخل الأجزاء
الوحدة الارتباط فيما بين الأجزاء
يوجد السبك حينما توجد علاقة قضوية بين الجمل يعني أن السبك علاقة صريحة بين القضايا تعبر عنها الجمل ، وتتجلى هاته العلاقة من خلال المرور على مستويين ، وهما المستوى النحوي والمستوى المعجمي اللذان يؤكدان فعالية [السبك ] الاتساق وإبراز حدوده (37) ـ وانطلاقا من الشبكة التي وضعها هاليداي ورقية حسن حيث ينقسم السبك إلى سبك معجمي وسبك نحوي ويمكن تمثيل ذلك كالآتي :
السبك (Cohésion)
معجمي (Lexical) نحوي (Grammatical)
1- السبك المعجمي :
ويتحقق السبك المعجمي بين المفردات أو الألفاظ عبر ظاهرتين لغويتين : التكرار : Reccurence المصاحبة / التضام : (38)Collocation .
أ-التكرار:
يعرف هاليداي ورقية حسن التكرار بأنه" أية حالة تكرار يمكن أن تكون الكلمة نفسها أو مرادف أو شبه مرادف ، كلمة عامة أو اسما عاما" (39) لكن هذا لا يعني دوما أن العنصر المكرر له نفس المحال إليه ، بمعنى أنه قد تكون بين العنصرين علاقة احالية وقد لا تكون ، وفي الحالة الأخيرة نكون أمام علاقات أخرى فرعية (40) ،وعندما يجعل اللاحق إلى السابق أو العكس يحدث السبك بينهما ، لتوضيح ذلك يذكر هاليداي ورقية حسن المثال التالي :
- أغسل وأنزع نوى ست تفاحات ، ضعها في صحن مقاوم للنار .
فالضمير (ها) في الجملة الثانية يحيل إلى ( ست تفاحات ) في الجملة الأولى ، كما أنه لا يمكن تفسيره إلا بالرجوع إلى ما يحيل إليه ، وبالتالي ترتبط الجملتان وتشكلان نصا قد قدم الضمير (ها) وظيفة الاحالة القبلية والتي أدّت إلى السبك وهو شكل من أشكال الإحالة ؛ فالإحالة إلى سابق (Anaphore) تكون عندما تحيل إلى عنصر لغوي متقدم وقيل أنها إحالة بالعودة حين تعود إلى مفسر أو عائد (Antécédent) ومنها يجري تعويض لفظ المفسر الذي كان من المفروض أن يظهر حيث يرد المضمر، فالإحالة هي بناء جديد للنص (41) ويرى الأزهرالزناد أنه يمكن تقسيم الإحالة بوجه عام إلى قسمين:
* الإحالة داخل النص Endophora تنقسم إلى قسمين (42) :
أ-إحالة على السابق ( قبلية ) Anaphora : تعود على مفسر سبق التلفظ به .
ب-إحالة على اللاحق ( بعدية ) Cataphora : تعود على عنصر إشاري مذكور بعدها في النص .
* إحالة خارج النص / خارج اللغة وتسمى مقامية / معجمية Exphora (43) :
تجمع كل الإحالات التي تعود على مفسّر دال على ذات ، وهي متوفرة في كل النصوص وهذا لا يعني أنها ضرورية ويمكن توضيح الإحالة كالآتي :
الإحالة



(Textual) نصية مقامية

(Endophora) داخلية



قبلية كسر الأفق القديم بعدية احتمال قديم
تأويل / وهم تأويل
أفق توقع
الاحتمال الجديد ( اختيار / تهميش )

اتساق عناصر الاحتمال
تتفرع وسائل السبك الاحالية إلى الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنـــة ( التشبيه وكلمات المقارنة : أكثر وأقل ... إلخ) ، ونعطي نموذجا من القرآن الكريم يبين الإحالة القبلية (44) :
قال تعالى : " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ، يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليل ما تشكرون" : [ السجدة ، الآيات 4-9 ] .
إح1 – ارتبط لفظ الجلالة [ الله ] بمجموعة من الإحالات البارزة ضمائر ( خلق ، استوى ، دونه ، يدبر ، أحسن ، خلقه ، سوّاه ، نفخ ) .
إح2 – اسم الإشارة ( ذلك عالم الغيب ) إشارة إلى الله
إ ح 3 : اسم الموصول ( الذي أحسن )
الرمز إح : إحــالة
نتيجة : حققت الآيات قدرا كبيرا من السبك النصي
الإحالة على اللاحق ( البعدية ) : في الصباح أدرك أن ناقته في حالة هياج ، عودها أن تشترك معه في تدخين سجائره (45) ، هذه القصة ليوسف الشاروني – الذي بدأ القصة بمجموعة من الإحالات لضمائر بعضها بارزو بعضها مستتر دون الإفصاح عن مسمى هاته الضمائر ( أدرك – ناقته – عودها (هو) – معه سجائره – وقف يدخن ... إلخ ) .
النتيجة : تأخر ذكر حمدان وعادت عليه الضمائر من أول النص = [ إحالة بعدية ]
وينقسم مدى الإحالة بحسب العنصر المحال إلى قسمين :
1- إحالة المدى القريب : تكون على مستوى الجملة الواحدة يمكن العودة إلى مثال الشاروني.
2- إحالة المدى البعيد : تكون بين الجمل المتصلة أو الجمل المتباعدة ،والإحالة هنا لا تتم في الجملة الأولى ( الأصلية ) ويمكن العودة إلى الآيات السابقة لتمعن تعدد الإحالات والقياس عليها .
ويمكن تصنيف الإحالة حسب الظرفية الزمانية ( الآن ،غدا ) ، المكانية ( هنا، هنالك)حيث الظرف في هذه الحالة محيلا على زمان أو مكان .
* وقد يقوم بوظيفة الإحالة التكرار : في قوله تعالى : "وإذا قيل آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون" .[ البقرة / 13] .
فقد تمت الإحالة من خلال تكرار لفظ ( السفهاء ) وبهذا يصبح التكرار المعجمي وسيلة من وسائل السبك ، وللتكرار أنماط عديدة عند هاليداي ورقية حسن مكون في شكل هرم من أربع درجات ، ويمكن توضيحه كالآتي :
1



إعادة عنصر معجمي

الترادف أو شبه الترادف

الاسم الشامل

الكلمات العامة

2

3

4







ويشير ديبوغرد ودريسلر إلى وظيفة أخرى فضلا عن السبك يؤديها التكرار متمثلة في تجسيد وتقوية المعنى (46) .
أما الإحالة المقامية فهي إحالة إلى خارج النص مثال :
يقول تعالى : " قد أفلح المؤمنون الذين في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون "[المؤمنون] .
يتقدم العنصر الاشاري المركزي في السورة وهو المؤمنون وتعود عليه عناصر الإحالة التالية المتمثلة في ضمير الجمع ( هم ، واو الجماعة ) ثم يدل عن تلك البنية الإحالة إلى بنية أخرى تكون فيها الإحالة إلى خارج النص اللغوي هي الذات الإلهية ، فالإحالات المقامية تسهم في إبداع النص لأنها تربط اللغة بسياق المقام ، غير أنها لا تسهم في اتساقه بشكل مباشر (47) .
ب-التضام / المصاحبة / Collocation:
قدم هاليداي ورقيةحسن المثال التالي :
"لماذا يتلوى هذا الولد الصغير طوال الوقت ؟ البنات لا تتلوى ".
فكلمة البنات هنا ليس لها المرجع الذي لكلمة ( الولد ) ، أي ليس بينهما علاقة تكرار معجمي ، لكن السبك هنا يتجلى بشكل نمطي (48) تبرزه علاقة التضــاد بين (الولد) و (البنت) ، وحسب هاليداي ثمة أزواج من الألفاظ متصاحبة دوما ، فذكر أحدها يستدعي ذكر الآخر ، أي تتشكل العلاقة الرابطة لكلمة ما في لغة بكلمات أخرى معينة وذكرها هاليداي ورقية حسن بعضها (49) وهي :
1-التباين : له درجات عديدة ، قد يكون اللفظان :
متضادين (Opposites) : ولد / بنت
متخالفين ( Antonyms) : أحب / أكره
متعاكسين (Convers): أمر / طاع
2- الدخول في سلسلة مرتبة ( ordered Series):الثلاثاء / الأربعاء ، اللواء / العميد .
3- الكل للجزء (Par to whole )اليد / الإنسان ، الإصبع / اليد ...
4- الجزء للجزء ( Part To part ): الأنف / الرئة
5- الاندراج في صنف عام( Genaral Class ):الأمعاء / المعدة تشملها كلمة هضم
وهناك علاقات أخرى غير هذه الكلمات مثل العلاقات الجامعة بين الأزواج : الضحك / النكتة ، الحديقة / الحرث ، المريض / الطبيب ، المحاولة / النجاح ، الطائرة / المطار ، القوس / الرمح ... .
لقد أشار هاليداي ورقيةحسن إلى الصعوبة التي تعترض تصنيف العلاقات المعجمية بين الكلمات وينتهي الباحثان إلى أن" الأمر في الاتساق المعجمي لا يعني مع ذلك أن هناك عناصر معجمية لها دائما وظيفة اتساقية،فكل عنصر يمكن أن يؤسس علاقة اتساق ،لكن العنصر في ذاته لا يحمل أية إشارة عما إذا كان منشغلا اتساقيا أم لا . إن [ السبك ] الاتساق يمكن أن يتأسس فقط بالإحالة إلى النص" (50) ،وبالنظر إلى الاتساق من هذه الزاوية يتجلى أن ورود العنصر في سياق العناصر المتـعالقة هو الذي يعطي للمقطع صفة النـص وبالتالي يهيئ السبك .
إن المصاحبة / التضام تحدث قوة سابكة/ Cohersuire Force عندما تظهر الجمل المتجاورة .
2- السبك النحوي
خلافا لدلالة النص و براغماتية النص يقتصر مجال نحو النص على الوسائل اللغوية المتحققة نصيا والعلاقات بينها (51) لأن توالي الجمل يشير إلى مجموعة من الحقائق وعلى نحو النص أن يكشف عن العلاقة المعنوية بين مجموع هذه الحقائق ذلك أن أدوات الربط تظهر عن طريق الأدوات بين الجمل أكثر وضوحا لأنها المصدر الوحيد لخاصية النص وهذا ما يجعل من كلام هاليداي ورقية حسن أن الربط بالأدوات أكثر أهمية من الربط المنوي مع اعترافهما بأن العلاقات الضمنية هي التي تملك قوة الربط واقتصرا في حديثيهما عن أدوات الربط على الإحالة Referens ( تناولها في السبك المعجمي ) والاستبدال Substitution والحذف Ellipse وهذا ما جعل براون ويول ينتقدان تصريحاتهما لأنهما يتحدثان عن وحدات الغوية ظاهرة في سطح الكلام لا عن علاقات ضمنية ، لأن الترابط النصي المقتصر على أدوات الربط غير كاف لضمان التعرف على النص (52) .
والحقيقة أن الربط النصي يتجاوز المستوى السطحي إلى المستوى المعنوي وقد قسم جون كوين الربط إلى صورتين :
أ- الربط الواضح : يجري من خلال وسائل تركيبية قوية يمكن أن تكون حرف عطــف ( الواو ، لكن ... ) أو ظرف ( مع ، أن ... )
ب- الربط التضميني : يتم من خلال التجاور البسيط وعلى هذا يمكن القول :
- الشمس زرقاء و الشمس تتلألأ
- الشمس زرقاء ، الشمس تتلألأ
ثم يقول : نحن نرى أن العبارة الثانية خالية من حروف العطف ، وهي مساوية مع ذلك في المعنى للعبارة الأولى ، وفي الواقع فإن التجاور أكثر وسائل الربط شيوعا ، فالربط بين الشمس والسماء هو التجاور الذي جعلهما ينتميان إلى حقل دلالي واحد (53).
والربط لا يكون إلا بين جملتين غير متفككين دلاليا نحو :
-اشتعلت النار أمسا ، وفتح الإسكافي محله قبل سنوات .
فكل ربط يستلزم وحدة إلى حد ما وحدة في المعنى بين الأجزاء التي يربط بينها، ومنه فالترابط المنطقي لن يصنع مع افتقاد علاقات التجانس والتقارب الدلالي بين أجزاء النص ومن أشكال الترابط النحوي نذكر:
أ- الترابط الرصفي: الذي هو أقرب إلى ظاهر النص ويرتبط بالدلالة النحوية التي تعنى بكيفية انتفاع المتلقي بالأنماط والتتابعات الشكلية في استعمال المعرفة والمعنى ونقلها وتذكرهما (54) .
ب-التعريف Definiteness : هو وضع للعناصر الداخلية في عالم النص حين تكون وظيفة كل من هاته العناصر لا تحتمل الجدل في سياق الموقف ، بمعنى أن تحدّد الوضع باسم علم أو بصفة معرفة ، فالتعريف يمكن أن يشمل عنصرا من عناصر عالم النص في نطاق دلالي مربوط بمركز الضبط ونموذجه قول الشاعر :
-وتلفتت عيني فمنذ غربت عين الديار تلفت القلب....
فالقلب ذو صلة وثيقة بمركز الضبط وهو المتكلم لأن كل إنسان له قلب ولا يقال هنا مثلا تلفت الولد إلا أن قد سبق ذكره بخلاف القلب (55) وهذا يدل على أهمية الترابط المفهومي بين الأجزاء في النص من خلال الإطار المعرفي المشترك أو المذكور من قبل ، ويذكر براوين ويول النص التالي :
" عندما تذهب إلى مركز الاقتراح أدل باسمك وعنوانك إلى الموظف فقد ارتبط جزء النص عن طريق كلمة الموظف حيث يقصد به موظف مسؤول في مركز الاقتراع فلست بحاجة لأن تعلم بوجود مركز الاقتراح ولا بد أن يحتوي على موظف مسؤول [ الموظف ]، ولعل النموذج الوارد عند هاليداي ورقية حسن الكلام عن الربط عن طريق التكرار لا ينفي دور التعريف .
ب- الاستبدال : Substitution
الاستبدال عملية تتم داخل النص هو تعويض عنصر بعنصر آخر ، والاستبدال يحيل على الاستمرارية الدلالية من نماذجه قوله تعالى :
" قد كان لكم آية في فئتين فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار ( سورة آل عمران 13 ) .
استبدال (الله) كلمة (أخرى) بكلمة ( فئة ) وتم الاستدلال من النموذج القرآني وينقسم الاستبدال إلى ثلاثة أنواع :
استبدال اسمي : يتم باستخدام عناصر لغوية اسمية ( آخر ، آخرون ، نفس )
استبدال فعلي : يتم باستخدام الفعل ( يفعل )
استبدال قولي : يتم باستخدام ( ذلك ، لا )
ج- الحذف :
يتم الحذف عندما تكون هناك قرئن معنوية أو مقالية تؤمئ إليه وتدل عليه ويكون في حذفه معنى لا يوجد في ذكره ، وفي نحو النص يجب أن تراعى القرائن المعنوية و المقامية ، لأن السياق والمقام من أساسيات الحذف . حيث تكون الجمل المحذوفة أساسا للربط بين أجزاء النص من خلال المحتوى الدلالي وتتنوع أنواع الحذف عند هاليداي ورقية حسن (56) .
الحذف الاسمي : حذف اسم داخل المركب الاسمي
أي قميص ستشتري ؟ هذا هو الأفضل / أي هذا القميص
الحذف الفعل :المحذوف يكون عنصرا فعليا
السفر الذي يمتعنا برؤيته / أنوي السفر
الحذف داخل ما يشبه الجملة
كم ثمن هذا القميص ؟ خمسة جنيهات
ولارتباط الحذف بالبنية السطحية جعل البعض يربط طروحات النحو التحويلي التوليدي بالنحو التقديري في النحو العربي الذي نقده ابن مضاه القرطبي حينه(57).
وقد لخص صبحي ابراهيم الفقي عناصر[ السبك]التماسك Cohesion كالآتي :

أدوات التماسك (58)



خارجية داخلية

شكلية دلالية مشتركة
السياق الإحالة الخارجية
- العطف
- التكرار
الدلالية
السياق يعبر عن الادوات التماسكية الضمنية

- المعجم

- الرتبة
- المرجعية
- الإبدال
- الحذف المقارنة
- التكرار بالمعنى
- الترادف
- الأنضواء
- السببية الزمنية
- التخصيص
- التعميم – التوكيد
- الإضراب
- العطف
- العطف

كل هذه تساهم في سبك النص النحوي والمعجمي .
قائمة المصادر والمراجع :
1-جميل عبد المجيد،البديع بين البلاغة العربية و اللسانيات النصية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1998،ص65-66.
2-روبرت ديبوغراند،النص والخطاب والإجراء ، ص 126 . ينظر نعمان بوقرة،المصطلح اللساني النصي ،قراءة تأصيلية سياقية،أعمال ملتقى "اللغة العربية والمصطلح"يومي19-20مايو2002،منشورات مخبر اللسانيات واللغة العربية،+كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة باجي مختار-عنابة ،ص231 .
3-باحثة أمريكية قدمت أطروحتها للدكتوراه سنة 1912 ، ويشار بوجه خاص إلى فصلة من رسالتها تتعلق بربط الجملة ، ينظر / سعيد حسن البحيري ، علم لغة النص ، المفاهيم والاتجاهات ،مكتبة لبنان،الشركة المصرية العالمية للنشر،لونجمان،ط1،1998 ص 18 .
4- فولجانغ هاينه من وديتر فيهنيجر،مدخل علم اللغة النصي ، ترجمة فالع بن شبيب العجمي،سلسلة اللغويات الجرمانية،الكتاب رقم 115،جامعة الملك سعود،1999، ص 21
5-سعيد حسن بحيري ، علم لغة النص ، ص 20 .
6- نعمان بوقرة ، المصطلحاللساني النصي ، ص 232 .
7- محمد خطابي اللسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب،المركز الثقافي العربي،بيروت الدار البيضاء،ط1،1991،ص34
8- سعيد حسن بحيري ، علم لغة النص ، ص 19 .
9- يعرف ايزنبرج النص بأنه متوالية متماسكة من الجمل ، كما نجدها مستعملة في الاتصال اللغوي ، وأكد على أن مصطلح متوالية ينبغي أن يفهم بالمعنى الرياضي للكلمة ينظر فلفجانغ هاينه من و ديتر فيهفيجر ، علم اللغة النصي ، ص 42 ، 45 .
10- جميل عبد المجيد ، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية ، ص 22 .
11- سعيد حسن بحيري ، علم لغة النص ، ص 52 .
12- أحمد مداس بن عمار ، تحليل الخطاب الشعري من منظور اللسانيات النصية ، تحولات الخطاب النقدي المعاصر ، كلية الآداب ، جامعة اليرموك ، عالم الكتب الحديث اربد-الأردن ، 2006 ، ص 495 .
13- روبرت ديبوجراند : النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط1 ، 1998 ، ص 103 .
14- فضلنا ترجمة السبك (Cohésion) والحبك (Coherence) باعتبارها أكثر تداولا في التراث النقدي عند العرب ، فقد استعمله الجاحظ في البيان والتبيين ، أنظر ص 67 ، وأبو هلال العسكري في الصناعتين ، ص 175 .
15- فضلنا كلمة استحسان ، مقابل مصطلح Acceptabilité باعتبارها كلمة تراثية استعملها سيبويه عند حديثة عن الكلام المستحسن ، ينظر : بشيرا برير ، من لسانيات الجملة إلى علم النص ، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية التواصل ، ع 14 ، جامعة باجي مختار عنابة،2004 ، ص 100
16-بوقرة نعمان ، المصطلح اللساني النصي ، قراءة تأصيلية سياقية ، ص 248 .
17- lauri garlson., Dialogue games, D.reide publishing, cxompany, london, 1982 p148 149.
18- سعيدحسن بحيري ، علم لغة النص ، ص 122 .
19- محمد خطابي ، اللسانيات ، ص 61
20- فان ديك ، النص والسياق ، ترجمة ع القادر قنيفي ، افريقيا الشرق ، 2000 ، ص 132 .
21-سعيد حسن بحيري ، علم لغة النص ، ص 106 .
22- المرجع السابق، ص 107
23- المرجع السابق،ص108
24- جون لاينتر ،اللغة والمعنى والسياق، ترجمة عباس صادق الوهاب، ط1، 1987ص 219 .
25- المرجع السابق،ص 220 .
26- سعيد حسن بحيري ، علم لغة النص، ص 135.
27- سعد مصلوح ، من نحو الجملة إلى نحو النص ، جامعة الكويت ، الكتاب التذكاري بقسم اللغة العربية ، إعداد طه نجم وعبده بدوي 1990 ، ص 408 . أنظر أحمد عفيفي نحو النص ، مكتبة زهراء الشرق ، جامعة القاهرة ، 2001 ، ص 39 .
28-29 -سعيد حسن بحيري ، علم لغة النص ، ص 158 .
30- أحمد عفيفي، نحو النص ، ص 40 .
31- جميل عبد المجيد ، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية ، ص 76 .
32-سعد مصلوح ، نحو أجرومية للنص الشعري ، ص 116 .
33- الجاحظ ، البيان والتبييت ، ج1 ، ص 67 .
34- ابن أبي الاصبع المصري ، بديع القرآن ، ص 166 ، وينظر: جميل عبد المجيد ، البديع بين البلاغة العربية و اللسانيات النصية ، ص 78 .
35-David Carter(1987),Interpreting anaphrsing natural language texts, Ellis Horwood ,limited England,p32.
وينظر في هذا صبحي إبراهيم الفقي ، عالم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق ، ج1 ، ص 96 حيث يقابل مصطلح (Cahesion) بمصطلح ( التماسك ) .
36- صبحي إبراهيم الفقي ، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة)، ج1 ، 2000،ص 97 .
37- محمد خطابي ، لسانيات النص ، ص 237 .
38- جميل عبد المجيد ، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية ، ص 79
39- محمد خطابي ، لسانيات النص ، ص 237 .
40- جميل عبد المجيد ، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية ، ص 79 .
41- سعيد حسن بحيري ، دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة ، مكتبة الأدب ، 2003 ، ص 104 .
42- أحمد عفيفي ، نحو النص ، ص 117 .
43- سعيد حسن بحيري ، دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة، ص 104 .
44- أحمد عفيفي ، نحو النص ، ص 118 .
45- يوسف الشاروني ، مختارات ، رياض الريس للنشر ، لندن ، قبرص ، 1992 ، ص 355.
46- جميل عبد المجيد ، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية ، ص 80
47- مصطفى قطب ، دراسة لغوية لصور التماسك النصي ، ص 173 .
48- محمد خطابي ، لسانيات النص ، ص 238 .
49- أنظر جميل عبد المجيد ، المرجع سبق ذكره ، ص 107 .
50-Helliday,and R.Hassan ,cohesion in english, longman, london,1976,p286.
ينظر : جميل عبد الحميد ، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية ، ص 108 ، ومحمد خطابي ، لسانيات النص ، ص 238 .
51- زتسيسلاف واوزنياك ، مدخل إلى علم النص مشكلات بناء النص ، ترجمة سعيد حسن بحيري ،مؤسسة المختار للنشر والتوزيع ، 2003 ، ص 60 .
52- براون وديول ، تحليل الخطاب ترجمة وتعليق محمد لطفي الزليطي و منير التريكي جامعة الملك سعود ،1997، ص 234 ، 235 .
53- أحمد عفيفي ، نحو النص ، ص 101.
54- المرجع السابق ، 103.
55- نقلا عن المرجع السابق، 115-116
56-Helliday,and R.Hassan ,cohesion in english, longman, london,1976,p142.
57- طاهر سليمان حمودة ،ظاهرة الحذف ، ص17
58- صبحي إبراهيم الفقهي ، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق ج1 ، 120. http://www.ulum.nl/c98.html
السنة الخامسة: العدد 35: خريف 2007 - 5th Year: Issue 35 Automn

النظرية التوليدية التحويلية لتشومسكي

النظرية التوليدية التحويلية :

الأستاذ : صالح غيلوس
تقديم :
ظهرت هذه النظرية إلى الوجود في أمريكا على يد اللساني نعوم تشو مسكي Noom Chomsky، الذي حافظ على نهج سابقيه في بادئ الأمر أمثال : بلومفيلد
وسابير ومارتني ، فألف كتابه الأول الموسوم : ( البني التركيبية Structures syntaxiques) عام 1957 وفي كتابه طور ( أوجه النظرية التركيبية Aspects de théorie syntaxique ، برز نضجه اللساني ، فأنهال نقدا على النظرية السلوكية وروادها (سكينر وبلومفيلد ) ، وأعتبرها غير صالحة في الأساس ، فهي تهتم بالسلوك فقط دون مراعاة العقل .
لقد استطاعت النظرية التوليدية التحويلية في وقت قصير أن تفرض نفسها كبديل ناجع للنظريات اللسانية السابقة ، بتمجيدها للقدرات العقلية واعتمادها على المنهج العقلي. الذي يبحث في القدرة الكامنة وراء الفعل اللساني وكيفية إنتاج الجمل وتحويلها ،وفي هذا الشأن دعا تشو مسكي اللسانيين إلى تبني الأسلوب التحليلي للغة ، باعتباره شرح وتعليل للعمليات الذهنية التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتكلم بجمل جديدة
إن جديد تشو مسكي للنظرية اللغوية هو الوضوح و الدقة المتناهيان، حيث استعملهما في القواعد التي جاء بها والتي أصبحت تدعى القواعد التوليدية التحويلية . التي بوساطتها يتم ربط المعنى مباشرة بالبنية النحوية، والتي لاغنى عنها باعتبارها خطوة متوسطة للتركيب والمعنى وتسهم بقدر كبير في حل المشاكل المتعلقة " بالمعنى لغموض بعض العبارات مع المعاني المختلفة لجملتين تركيبهما الخارجي واحد " .1 .
افترض تشومسكي بنية عميقة تفسر داخل جزء من الجملة والذي يتعلق بالمعنى وهذه دراسات تتم مباشرة دون وسيط . وقد أكد تشو مسكي أن هدف الوصف اللغوي التوجه نحو بناء نظرية لسانية قادرة على معرفة الكم الهائل الذي ينتجه المتكلم باللغة في لغته فمثل هذه النظرية يمكن" أن تشرح ما هي متتابعات الكلمات التي تشكل جملاً وما هي تلك المتتابعات التي لا تشكل جملاً ".2 ، كما توفر وصفاً للبنية النحوية لكل جملة لذا أُطلق على هذه النظرية في ما بعد بما يسمى (النحو التوليدي ) ؛ لأنها اتجهت إلى تعيين هدف علم اللغة .
وما يمكن قوله أن تشو مسكي قد قاد ثورة فعلية نجم عنها بروز نموذج جديد للتفكير في اللغة. الذي أفرز مجموعة من الإشكالات يجب أن يعتني بها اللساني وضمنها الاهتمام بالجهاز الذهني للمتكلمين .
1- تعريف التوليدية : " تولد : إنتاج وتقابل من ناحية الاصطلاح التحويلية ، وهو يعني التنبؤ بما يمكن أن يكون جملا في اللغة إذا فالنحو يجب أن يولد – ويحدد – ويتنبأ – بالجمل . 3 ؛ أي وضع القواعد القادرة على معرفة توليد الجمل من عدد متناه إلى عدد لامتناه .
2- التحويلية : وتعني التبديل والتغيير ، ليس له تعريف لساني مضبوط فهاريس يعتبر التحويل ، اشتقاق جملة من جملة منفصلة عنها تماما ، أما تشومسكي يشترط الجانب الذهني للمقولات النحوية .
3- طريقة وصف اللغة عند تشومسكي :
3-1- الطريقة الأولى : تُعنَى بجمع أمثلة من اللغة ثم وصفها و فهمها و استنتاج قواعدها بدون النظر إلى خواص العقل البشري ، ويرى تشومسكي أن القواعد مجموعة من العبارات التي تصف لنا اللغة بصورة خارجية.
3-2 - الطريقة الثانيــة : تركز القواعد الداخلية على ما يعرفه المتكلم وعلى مصدر معلوماته وكيف يختزن العقل هذه المعلومات؛ أي أنها تنظر إلى اللغة بصفتها خواص داخلية للعقل البشر ، ويتضح من خلال آرائه أنه يفضل الطريقة الثانية في نظريته ، لكونه شغوفا بالعقل الإنساني وقدراته.
ويبدو أن جذور هذه النظرة الثنائية إلى اللغة . قد ظهرت لديه عندما أراد التفريق بين الكفاءة اللغوية compétence والأداء performance .
4 المهارات الإنتاجية والإبداعية عند تشومسكي :
4-1- الكفـاءة compétence : منظومة القوا عد المختزنة في عقل الفرد و التي تحدد " البنية العميقة للغة تصدر عنها الجمل التي تظهر( البنية السطحية ) ، في حين أن النظرية اللغوية تحاول الكشف عن الحقيقة اللغوية الكامنة خلف الاستخدام اللغوي " 4, بمعنى أكثر وضوحا أنها المعرفة الضمنية بقواعد اللغة والتي بوساطتها ينتج ويبتكر ويبدع جملا لم يسمع بها من قبل ، وهي لسيت تكرارا أو تقليدا ، ومن خلال هذه القواعد يتمكن المتكلم المستمع المثالي من معرفة وبتلقائية وعفوية الجمل التي تنتمي إلى لغته . الصحيحة منها أو الخاطئة وإن كان لا يملك تفسيرا محددا لذلك .
الكفاية اللغوية إذا هي مجموعة من القواعد المتحكمة في السلوكات اللغوية. ليست قابلة للملاحظة، ولا هي في متناول وعي الذات المتكلمة، و الدليل على وجودها القدرة على تعلم اللغة والقدرة على إنتاج عدد لا نهائي من الجمل المنطوقة الجديدة .
4-2- الأداء Performance : هو الاستعمال الفعلي للغة في سياق معين.بمعناه هو التجسيد المادي لنظام اللغة في إحداث الكلام ، فيكون" خروج الكفاية اللغوية من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل . أو هو عبارة عن الجمل التي ينجزها المتكلم في سياقات التواصل " 5 . وبناء على ما ذكر فإن قواعد الكفاءة تفسر اللغة داخليا (عقليا) بينما الأداء يتجسم في فردية الشخص ويتغير بحسب الحال والسياق وغايات المتكلمين وعوامل أخرى.
يعطي تشو مسكي للكفاية بعدا جديدا. إذ يعتبرها ملكة " الانسجام والتلاؤم ، لأنها تسمح بأن تصير الكلمات منسجمة ومتلائمة حسب كل وضعية. حيث نميز بين المهارتين . فنقول أن الأداء " ملاحظ ولا يخلو عادة من بعض الانحرافات عن قوانين اللغة. لذلك لا يعكس الكفاءة اللغوية مباشرة ولا بشكل تام ... بل هو الانعكاس الحاصل في عملية التكلم للكفاية اللغوية ". 6
4-3- الإبداعية : قدرة المتكلم على الإنتاج اللامتناه من الجمل انطلاقا من القواعد الثابثة في الصندوق الأسود بعقله ، الذي يحتوي على العناصر الدقيقة المتحكمة في هذه القواعد. وبفضل الطاقة الترددية لهذه القواعد بإعتبار اللغة خلاقة بطبيعها ، ويتجلى الإبداع في التأدية وتغيير النظام بحسب السياق .7
4-4- السلامة النحوية : يتم من خلال القواعد السالفة الذكر التميز بين الجمل الصحيحة والجمل المنحرفة ، أي الخروج على نظام اللغة الثابث .
4-5- الحدس : بفضله يتم التمييز بين الجمل ؛ أي هو التنبؤ بسلامة اللغة بفضل القواعد الضمنية التي تتواجد بعقل الإنسان.
4-6- ظاهرة الغموض : ظاهرة تلازم بناء الجمل الذي ينتج معنيين يؤدي إلى الغموض ، لذا وجب البحث عن البنية الأصلية للتركيب النحوي .
أ- البنية السطحية : إن بناء الجمل في اللغة يتمظر في الشكل الخارجي والمتمثل في الشكل الصوتي ( الأصوات والرموز ) والتركيبي للجملة ( البناء النحوي ) .
- سرق اللصوص البيت .
- البيت سرق من طرف اللصوص .
ب – البنية العميقة : البنية التجريدية ؛ بمعنى التفسير الدلالي الموجود في الذهن ، ترتبط ارتباطا وثيقا بالبنية السطحية ، وبفضلها يتم تحديد المعنى المقصود .
وفي الأخير سعى تشو مسكي من خلال نظريته إلى تعليل العمليات الذهنية التي بوساطتها يمكن للفرد أن يتكلم بجمل لم يسبق له أن استعملها، والغاية من منهجه هو استكشاف الكفاية التي يمتلكها ( المتكلم / المستمع) والسعي من أجل تعليل الآلية الكامنة وراء بناء الجمل .
وعلى هذا الأساس نشير إلى هذه النظرية تقوم على ركنيين هامين هما :
إنسانية اللغة وعلمية الدراسة. باعتبار أن اللغة ينتجها العقل البشري ولها قواعد قائمة بشكل أو بآخر في عقله، كتنظيم والذهن يستعمل عمليات معقدة لأجل إنتاج جمل الغرض منها التواصل والتفاهم والتعبير عن الأغراض الحياتية للفرد .
وأن " ملكة الخلق والإبداع موجودة لدى من يتكلم أي لغة بغض النظر عن جنسيته ، إذ يكفي أن يترعرع الفرد في بيئة تتكلم اللغة التي سوف يكتسبها " 8، ومهما كان الشخص كبيرا أو راشدا أو طفلا فإنه يبدأ بتعلم اللغة عن وعي وإدراك حيث يستوعب القواعد المختلفة التي تقوم عليها لغته. وبإمكانه تركيب ما شاء من الجمل بحسب الظرف والمقام دون أن يكون قد سمع بذلك من قبل .

المذهب المعرفي الذي تبنى النظرية اللغوية لتشومسكي لتعليم اللغات أهتم كثيرا " بالفروق الفردية لدى المتعلمين، وبخاصة في المهارات الأربع؛ لأن كل إنسان لديه قدرة خاصة في تعلم مهارات معينة دون غيرها؛ ... فهي تمنح المتعلم فرصة المشاركة من خلال إدارة الحوارات والأنشطة اللغوية؛ مما يساعد على بناء الكفاءة اللغوية" .9
بالإضافة إلى ذلك فإن المذهب المعرفي يهتم اهتماماً كبيراً بالكفاءة اللغوية؛ حيث يقضي المتعلمين معظم وقت الدرس " في التدرب على القواعد والكلمات الجديدة، واستعمالاتها في سياقات ومحادثات، وأنشطة يغلب عليها الابتكار والإبداع لا التقليد والتكرار، وبخاصة في نهاية البرنامج ... والتأكيد على التعلم الواعي من خلال الفهم الكامل لما يُقَّدم في الفصل". 10
يمتاز هذا المذهب بالمرونة وعدم التقيد بنهج معين في تعليم اللغة " بل يستثمر كل أسلوب أو وسيلة ناجحة لتوصيل معلومة أو فهم قاعدة؛ فقد يرى المعلم أن استنباط المعنى أو القاعدة هو الأسلوب الناجح في التعامل مع نوعية من المتعلمين في ظروف معينة، وقد يرى أن أسلوب الاستقراء أفضل مع نوعية أخرى من المتعلمين في ظروف مختلفة، وقد يجمع بين الأسلوبين إذا دعت الضرورة " . 11
5- نقد النظرية :
نجد أن هذا المذهب قد انتقد بشدة من طرف الاتجاه الاتصالي الذي صب نقده على تشومسكي.و بالأخص إلى ما سماه ( الكفاءة اللغوية ) ، حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الكفاءة اللغوية الني نادى بها تشومسكي. ماهي إلا كفاءة نحوية تقتصر على معرفة قواعد الجملة .
اعتبروا أن الغاية من اللغة هي التواصل بين أفراد المجمتع من أجل قضاء حوائجهم وأغراضهم ، وأن نظرية تشومسكي قاصرة على أداء هذه الوظيفة التي تأسس من أجلها مذهب بكامله والموسوم بالمذهب الاتصالي . الذي نادى بـ:
الكفاءة الاتصالية Communication Competence، والتي تتمظهر في معرفة المتكلم أصول الكلام وأغراضه وأهدافه والمقدرة على تحويل الكلام بحسب المقام والسياق ، وتعني كذلك المعرفة بقواعد اللغة وقوانينها النحوية والصرفية والصوتية، مع القدرة على استعمالها بطريقة صحيحة لغويا مقبولة اجتماعياً ". 12
ينطلق هذا المذهب من مفهوم وظيفة اللغة الحقيقية هي التواصل وتعلم اللغة هو لتطوير الكفاءة الاتصالية وقد أوجزها هاليداي في سبع وظائف هي:
الوظيفة الأدائية، والتنظيمية، والتفاعلية، والشخصية، والاستكشافية، والتخيلية، والتمثيلية. بينما الكفاءة اللغوية هي جزء لابد منه للكفاءة الاتصالية.

يوم : 19/04/2009
الهوامش :
عبد القادر الفاسي الفهري : اللسانيات واللغة العربية ، دار توبقال ، المغرب ، 1985، (ط1) ، ص 23
أحمد حساني : مباحث في اللسانيات ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، (دط) ، (دت) ، ص 119
عبد الرحمان ممدوح : من أصول التحويل في النحو العربي ، دار المعرفة الجامعية ، مصر ، 1999، ص 22
محمود فهمي حجازي : البحث اللغوي ، دار غريب ، مصر ، (دط) ، (دت) ، ص 138
نور الهدى لوشن : مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي ، المكتبة الجامعية ، مصر ، 2000 ، (دط) ، ص 337
ميشال زكرياء : قضايا ألسنية تطبيقية ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1993 ، (ط1) ، ص 61.
عبد الراجحي : النحو العربي والدرس الحديث ، دار النهضة ، بيروت 1970، ص 14
ميشال زكريا : قضايا ألسنية تطبيقية ، المرجع السابق ،(ط1) ، ص97
طعيمة رشدي أحمد : تعليم العربية لغير الناطقين بها مناهجه، وأساليبه، ( المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو ) ، الرباط، 1990 ، (دط) ، ص 141
طعيمة رشدي أحمد : المرجع نفسه ، ص142.
العصيلي عبد العزيز :النظريات اللغوية والنفسية وتعليم اللغة العربية ، مطابع أضواء المنتدى ، الرياض ، 1420 هـ ، ص 109.
العصيلي عبد العزيز: المرجع نفسه : 357 .
رتشاردز، جاك وروجرز، ثيودور. مذاهب وطرائق في تعليم اللغات ترجمة ،عمر الصديق،ا دار عالم الكتب ، الرياض 1410، ص 16.


حوار الداخل د ، جمال حضري

حوار الداخل، نموذج التجاذب التراثي حول النص القرآني
مقولة الإعجاز نموذجا

٭د جمال حضري

كانت لي مناسبة سابقة لإثارة الحديث حول "حوار الحضارات"1ومما أبرزته خلالها المفارقة الواضحة لحال "الأنا" في مقابل "الآخر"، مفارقة تعكس خللا في التوازن كان من نتائجه ضرورة توجه حهد الخوار نحو الداخل أولا باعتباره شرطا أوليا وضروريا لحوار حقيقي نحو الخارج.ولا داعي في هذه المناسبة لإثارة ما كنت أثرته في المناسبة من مشاهد التمزق الداخلي، ثم عدم جدوى التوجه نحو الخارج في ظل عدم وجود تقليد حواري بين مكوني الساحة الفكرية والسياسية المحلية، في هذه الفرصة أريد العودة إلى الماضي، ليس من أجل التغني ولكن لطرح مشاهد نموذجية لقضية تشكل اليوم هاجسا لكل مفكر ومراقب لساحة التدافع الفكري والتجاذب الفلسفي. هاجس يطرح ذاته كممر مصيري نحو تشكيل طرف جدير بالحوار مع الآخر، هو "النص الموحى" وتوليد قيم المواطنة و"المُعَالمَة" إذا قبل هذا المصطلح من قبل المنظرين لمصطلحات التعايش الدولي.
والقيمة النفعية لمثل تلك المقاربات هي تشكيل فضاءات عقائدية وفكرية استطاعت أن تستوعب كل شرائح المجتمع والارتفاع - في غالب تلك الفترة التاريخية- بالنقاش من هراش الحراب إلى تلاسن العقول والأفئدة.
ولا داعي للإشارة إلأى أننا اليوم استطعنا بكفاءة غير محمودة لفّ جميع المواضيع الحرجة في طيات التجاهل والتأجيل. حتى تفجرت بين أيدينا فكانت حمامات الدم التي أدهشت القريب قبل البعيد.
نموذج الحوار الداخلي التراثي هو مقولة " الإعجاز" المتعلقة بالنص القرآني، والتي تبدو اليوم قضية منتهية، خاصة وهي محفوظة بين أيدينا في مجلدات صقيلة بعناوين جذابة تمجيدية تطفئ وهجها وتسكت صوتها الذي طالما أثار حلقا من النقاش المثير والمدارسات الحارة.
تبدو القضية منتهية بالنسبة لمتلق هو اليوم متعبد بمجمل النصوص التراثية، انطلاقا من أفق يعتبر السابق مقدسا ولو بتراتبية باهتة.
في هذا العرض طرح يحاول إعادة الحرارة لموضوع يستحق أن يلهب موائد الحوار ومدارات الدراسة لتشكيل أفق فكري يجعلنا جاهزين لحوار الآخر. بل إن مثل هذه القضية مفروض على عقولنا خاصة وأننا- محكومين بجريرة قوم منا- مطالبون بمراجعة منظوماتنا الفكرية والتربوية والتشريعية التي عشنا بين ثناياها والتي يراها الآخر اليم غير مؤهِّلة لنا لاقتسام الماء والهواء معه.
عناصر الموضوع:
أ‌- كلام الله: الأصوات والمعنى النفسي
ب‌-الإعجاز
ت‌-النص، الظاهر والباطن والتأويل
٭ أستاذ الأدب العربي
جامعة المسيلة
تمهيد:
لا تبدو طبيعة نشأة الدراسات القرآنية مخالفة للمسار المعرفي عامة، وقد تبدو أكثر واقعية بالنظر إلى السياق التاريخي بشقيه السياسي والاجتماعي الذي واكب تلك النشأة.
نزل القرآن الكريم على العرب وهم أنضج ما يكونون بيانا ولسانا، يحمل الهداية الدينية ويحوطها بالتحدي. رسالة وحّدت لأول مرة في تاريخ الرسالات بين الدليل والمعجزة2. وأيا ما كانت المواقف الفردية القليلة فقد بدا التسليم له شاملا، بالتفوق والسبق والإعجاز. وربما كان الاعتراض على شخص الرسول أشد بروزا منه على الرسالة أو على الإرسال ذاته3.
هذا الواقع لا يمكن أن يحجب وجود ما يستدعي في النص القرآني التساؤل عن الدلالة والمغزى، وهذا رجل من أقرب صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتساءل عن بعض ألفاظه، ولا يرده عن الإلحاح في التقصي، إلا الجو العملي الذي طبع تلك المرحلة، حيث السؤال الذي يعقبه أو ينوى به العمل هو من قبيل التمحل أو التكلف.
ودون إرادة القفز على مراحل "تشكل النص"4 في تلك الفترة الممتدة ثلاثة وعشرين عاما ووقائع الجمع التي خضع لها النص، والتي مرت في هدوء يعكس همّ البناء والتأسيس التي شغلت ذلك الجيل عن كل ما عداه، فإن البداية الفعلية لمحورية حضور النص في خضم التجاذب السياسي خاصة لم تكن إلا في نهاية فترة الخلفاء الراشدين، أي خلافة الإمام علي رضي الله عنه.
في تلك المرحلة وصلت إلى سمع الناس مقولتان يمكن اعتبارهما إرهاصا لما سيتعرض له النص القرآني من عكوف دراسي واعتصار مفهومي مذهبي وهما: التحكيم والمحاجة بالكتاب، حيث قالت الخوارج:"لا حكم إلا لله، ولا يحكّم رأي الرجال في كلام الله، وقال الإمام علي لابن عباس وكان ينافح عنه فكريا ضد هذه الهجمة: لا تحاججهم بالقرآن فإنه حمال أوجه"5. وابن عباس ذاته هو الذي سيكون بعد وقت ما على رأس من يقول في تفسير آية التأويل:"وما يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا "7، أنا من أولئك الراسخين"8 ويقول "لا توجد في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم متى أنزلت وفيم أنزلت"9 وفوق ذلك فقد تناول بالفعل الكثير من الآيات بالتأويل وهي الآيات التي يؤدي ظاهرها إلى التشبيه10.
وغير بعيد عن ابن عباس، تطورت الحركة السياسية للخوارج إلى مواقف مذهبية اتكأت على النص ونحتت منه ما يرسخ موقفها المقاوم للظلمة من الحكام، والذي يبرره مذهب الاختيار والحرية الإنسانية، التي يقابلها بنو أمية بتشجيع اتجاه مقابل أطلق عليه في التأريخ للمذاهب "المرجئة" و"الجبرية" على تفصيل يضيق عنه المقام، والمدرسة الأضخم التي تتشكل في هذه الظروف هي آراء مدرسة البصرة الفكرية في حلقة الحسن البصري، الذي كان مناوئا للأمويين مشايعا لبيت علي، ومن محيط الحسن البصري نشأ اتجاه واصل بن عطاء الذي اعتزله وأسس لنفسه توجها سيعرف فيما بعد بالاعتزال حتى يحفظ للتاريخ خروجه الفكري عن أستاذه الحسن بما يعكس التجاذب الفكري المتحضر في ذلك الزمن الحي.
ولما كانت الأفكار والسياسة في لعبة احتواء مستمرة، يحصل أن تتبنى السلطة توجها من التوجهات، أو ينتصر توجه منها بسلطة من السلط فتكون فكرة في التمكين وأخرى في الدفاع، وهو ما حصل بالفعل حين انتظم تيار سني قوي يعارض الاعتزال وهو تيار الأشعرية، وأبعد من هؤلاء أكثر نشأ تيار أشد نصية قد يمثله الإمام أحمد أو داوود الظاهري وابن حزم ومن المتأخرين ابن القيم وأستاذه ابن تيمية.
هذا المسح التاريخي الخاطف هدفه التوطئة للإشارة إلى أهم مقولات الفرق في أكثر ما يهم البحث من مفاهيم خصوصا: كلام الله، والمجاز والتأويل والإعجاز ومنط المزية فيه.
الحراك الاجتماعي المواكب للسياسي كان له أثر لا يقل خطورة، ذلك أن الفتوح المتسارعة أكسبت أقاليم واسعة وشعوبا مختلفة التقاليد والعادات واللغات. وليس غريبا أن تكون حواضر العراق والشام مراكز جذب لنخب هذه التجمعات الوافدة على الدين الجديد، مع ما يترتب على ذلك من تدافع في الطبائع وطرق التفكير ومستويات الالتزام الديني والولاء السياسي.
في ظل هذه المستجدات تنمو التساؤلات التي ما كانت لتظهر في مراحل البناء، ويجد العلماء أنفسهم في مواجهة قوادح دراسية جديدة لعل أخطرما فيها هو زعزعة ما استقر من تعامل تقديسي مع النصوص والمأثورات.
وإذا تم إجمال أهم الإشكالات التي طرحت وكانت الباعث على تشكل التوجهات المذهبية فهي: الطعن في مفهوم انسجام النص القرآني وهو إشكال لم يقف عند حد الخلاف الفكري المتعلق بالنص فقط ولكنه يتعداه إلى زعزعة صلاحية النص دلالة على الإعجاز أي باعتباره معجزة، وحقيقة التحدي الواقع به وحقيقة المتحدى به إليهم، وكذا حقيقة عجزهم وطبيعته.
هذا التساؤل المحوري تفرعت عنه مئات الإشكالات وطرحت إزاءه اجتهادات لا حصر لها، لعل عناصر هذا الموضوع تجمع شتات أهمها.
أ‌- كلام الله: الأصوات والمعنى النفسي:
المطاعن التي وجهت إلى النص القرآني، وتركزت أساسا على وجود التفاوت والاختلاف، فرضت على الدارسين الأوائل مناهج إجرائية تمثلت أساسا في ردّ ما أشكل إلى كلام العرب وأشعارهم، والوسيلة الأساسية في ذلك مفهوم المجاز باعتباره الإجراء الذي يعيد الانسجام إلى ما يبدو من نتوءات لغوية أو معنوية في النص. ولكن المجاز لم يسلّم به الجميع، فهو ينطوي على صفة نقص يجب أن يتنزه عنها الله تعالى. وفي الحالة الثانية كيف يخاطب الشارع المكلفين بما يستغلق عليهم فهمه؟ وهي تساؤلات تفضي مباشرة إلى تناول مسائل العقيدة الأساسية وهي: معرفة الذات والصفات وما هي صفات الذات وصفات الفعل وأين يندرج الكلام، ثم هل الكلام الإلاهي قديم لارتباطه بالذات العلية أم محدث لارتباطه بإيجاد العالم ؟ وفي الحالتين كيف الوصول إلى معنى كلام الله أو قصده؟ هل اللغة دلالة مشروعة وأولية أم هي تابعة وثانوية؟
والآراء الأساسية في هذه المجالات تعود للمعتزلة والأشاعرة أساسا، مع إيراد آراء الظاهرية، وهذا الفرز قد لا يساير الواقع بحال، ففي الاتجاه الواحد قد تتعدد الآراء، وبين الاتجاهات ذاتها قد يتقارب الأقطاب بعضهم من بعض حتى يبرز موقف واحد لاتجاهين في قضية من القضايا.
1- المعتزلة:
ينطلق المعتزلة من اعتبار أساسي هو مخالفة القديم للمحدث، وينسحب هذا الاعتقاد التنزيهي على كل ما ينسب لذات لله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وهو مبدأ في التوحيد يرسخ المفهوم القرآني عن الله، وهو مفهوم يؤكد الهوة الواسعة بين الله والإنسان، وان استخدم تعبيرات وصفات لها طابعها الإنساني بحكم طبيعة اللغة الإنسانية11. يترتب على هذا المبدأ التفرقة الحاسمة بين صفات الذات الإلاهية وصفات الأفعال. صفات الذات قديمة ليس لها تعلق إلا بالذات، فهو عليم وقادر وحي ومريد، أما صفات الأفعال فمتعلقة بإيجاد العالم وإحداثه، فلا تتصف بالقدم كما تتصف صفات الذات.
هذا الفصل له أثر جوهري في تحديد مفهوم الكلام بكونه:"ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف المعقولة، حصل في حرف أو حرفين ..وإن كان من جهة التعارف لا يوصف بذلك حتى يقع ممن يفيد أو يصح أن يفيد "12 وهو تحديد يربطه بوضوح بالدلالة الصوتية. والباعث على ذلك هو اعتبار الكلام من صفات الفعل المتعلقة بإيجاد العالم، ولذلك اعتبروا كلامه محدثا والقرآن مخلوقا وهذا لتنزيه الخالق ونفي صفة القدم أن تكون خارج الذات حتى لا يكون إيهان بالتعدد. وهذا التحديد قد يبدو مفتقرا إلى المعنى وهو محض وهم، لأن المعتزلة لا ينكرون المعنى ولكنهم يتفادون اعتبار المعنى النفسي كلاما كما ذهبت إليه الأشاعرة، ولو فعلوا لكان الكلاك من صفات الذات وكان قديما، ولذلك يؤكدون أن المتكلم يرتب في نفسه المعنى وليس الكلام، وإلا لكان تناقضا تسمية النطق كلاما "فهم يفرقون بين الكلام النفسي والعبارة عنه، لأنه لا نسبة بينهما فلا يصح أن يقال في العبارة أنها تدل عليه .. ذلك أنهم لو اعتبروا الكلام معاني نفسية قائمة في النفس لكانت من صفات الذات، والكلام عندهم من صفات الفعل وهم لا يثبتون لله صفة مغايرة لذاته كما يفعل الأشاعرة"13 ولهذا أطلقوا على المعنى مفهوم "القصد" الذي يتوصل إليه بأدلة "الدواعي والاختيار" والقائمة على مبدأ قياس الغائب على الشاهد. مما سبق يتفرع أمران هاماّن هما بيان ثنائية الإسم والمسمى وأدلة المعرفة، فالعلاقة بين الاسم والمسمى عند المعتزلة علاقة انفصال حتى يتم تنزيه ذات الله تعالى عن التعدد، ومن هذا تفريقهم بين المعنى النفسي والكلام واعتبار الأسماء والصفات إشارات هي في حالنا أقوال نطلقها14: عالم، قدير ... أما أدلة المعرفة فهي ثلاثة بما يعكس المسار التصاعدي للاستدلال المعرفي:
- أدلة تدل بالصحة والوجوب وتعرف بها صفات توحيد الله تعالى
- أدلة الدواعي والاختيار وتعرف بها صفات عدل الله واختياره للحسن وتركه للقبيح وما يليق به.
- أدلة تدل بالقصد والمواضعة وتعرف بها الشرائع والنبوات.
وأهمية هذه الأدلة وترتيبها ترجع إلى مكانة العقل باعتباره وسيلة المعرفة الأساسية عندهم. بل هو مناط التكليف القائم أصلا على التوحيد، ويأتي الدليل الشرعي السمعي في المرتبة الثالثة مشروطا بمعرفة القصدوالمواضعة على اللغة، مما يعني وجود القصد أو المعنى خارج اللغة15. هذا الترتيب للغة وربطها بالقصد يستدعي ضرورة أن تكون مواضعة سابقة على كلام الله تعالى حتى يقع مفيدا، فلا يحسن أن يقع العبث منه تعالى. وهي مواضعة بين البشر أو الملائكة، نزل بها خطاب الله تعالى، ولا مانع بعد ذلك أن تكون مواضعة ثانية مستأنفة.وإذا كانت المواضعة محسومة، فإن المعتزلة أضافوا إليها خيار الاصطلاح من منطلق تنزيهي دائما، لأن المواضعة من الله تعالى تستدعي الإشارة الحسية ومع أن هذا لا يجوز في حق الله تعالى، "فقد جوزنا من القديم تعالى تعليمه لغة (لآدم) بعد تقدم المواضعة على لغة، ولم نجوز أن يبتدئ بالمواضعة لاستحالة المواضعة عليه سبحانه"16، فإن للمسألة جانبا آخر أهم له مكانته في المنظومة الفكرية الاعتزالية وهي التفرقة بين العلم الضروري والعلم الكسبي، لأن الإسم إذا نطق مقترنا بالإشارة الحسية: فتعلمه يكون بمجرد إدراكه مما يعني دخوله في العلم الضروري غير الاستدلالي، والقصد علم كسبي يعلم بالعقل والاستدلال لأن معرفة القصد تكليف، كما إن الإشارة الحسية علم بالذات ضروري وهو محال، "فمعرفة الله وقصده كلاهما معرفة نظرية كسبية استدلالية وهذا ما يتنافى وأن يبدأ الله الملائكة أو البشر مواضعة على لغة، لأن شرط المواضعة الإشارة الحسية التي تؤدي إلى معرفة قصد المتكلم باضطرار وهو قول يهدم مبدأ التكليف العقلي زيادة على تشبيه الله بالمحدثين."17.
2- الأشاعرة:
الكلام عندهم ليس أصواتا ، لأن الأصوات أعراض لا يتصور وجودها في الباري تعالى ولذلك قالوا:"الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل له أمارات تدل عليه، فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى به وجعل لغة لهم "18 وهو تعريف يفرق بين المعنى النفسي ويعتبره كلاما قائما بالنفس، وبين الأصوات باعتبارهاإشارات مثل الرمز والخط وغيرها مما يفيد قدم الكلام الإلاهي ومعارضة حاسمة للقول بخلق القرآن، لأن الله تعالى لم يزل متكلما بكلام منذ القدم، والكلام صفة للذات ولا تفريق عندهم للصفات، كما إن الصفات هي الموصوف وهوموصوف واحد والأسماء مجازات تطلق عليه19. لا يخفى الهدف التنزيهي عند الأشاعرة مع أن الموقف مختلف، فالقول بأن كلام الله محدث هو نسبة النقص إلى الله تعالى قبل كلامه(الخرص) ويردّ الأشعري بسلاح معتزلي:"ومما يدل من القياس على أن الله لم يزل متكلما أنه لو كان لم يزل غيرمتكلم وهو ممن لا يستحيل عليه الكلام لكان موصوفا بضد من أضداد الكلام من السكوت والآفة. ولو كان لم يزل موصوفا بضد الكلام لكان ضد الكلام قديما، ولو كان ضد الكلام قديما لاستحال أن يعدم وأن يتكلم الباري لأن القديم لا يجوز عدمه كما لا يجوز حدوثه، فكان يجب أن لا يكون الباري تعالى قائلا ولا آمرا ولا ناهيا على وجه من الوجوه، وهذا فاسد عندنا وعندهم وإذا فسد هذا صحّ أن الباري لم يزل متكلما قائلا "20 والقول بأزلية الكلام الإلاهي يفضي إلى نتائجه الطبيعية وأهمها القول بتوقيفية اللغة تناسقا مع المسار التنازلي للمعرفة، والنقل مقدم على العقل في الاستدلال المعرفي، وهذا لا يلغي العقل ولكن يحدد له وظيفة تابعة هي الاستدلال على صحة الشرع والنبوة في إطار اجتهادي استنباطي لفهم الشريعة21، يقول الأشعري "لا مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته وتسميته وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته"22. ومع إنهم يقولون بالمواضعة أيضا لكنهم لم يشترطوا معرفة القصد الذي يقع خارج اللغة ووسيلته العقل، لأن المعنى عندهم لا يعرف إلا بدلالةالكلام ولذلك وحدوا بين مفهوم الكلام والمعاني النفسية واعتبروا المعنى النفسي كلاما تمّ ترتيبه بالنفس وهوقائم بها، والأصوات أمارات عليه وأدلة، والبحث عن المعنى إذا يكون في الكلام لأنه ليس منفصلا عنه بينما هو منفصل عند المعتزلة يفهم قبل مباشرة الكلام23.

ب- الإعجاز:
إذا استقر التحديدان الأساسيان للكلام على ما تم بيانه، فأين يكمن الإعجازالذي تحدى الله به الناس؟ أفي كلامه القديم أم المحدث؟ أفي المعنى النفسي أم في الأصوات أم فيهما معا؟ أم خارجهما؟
• الإعجاز صرف دواعي التحدي لدى المتلقي:
وأوّل من قال به إبراهيم بن سيار النظام، الذي جعل الإعجاز متعلقا بالخالق سبحانه، وبصفة التوحيد تحديدا لا صفة الفعل كما هو عند المعتزلة. فالعرب عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن لصارف صرفهم عن ذلك وليس لعامل في ذات النص القرآني. ولربما أحسّ النظّام بضعف هذا الرأي فأضاف إليه الإعجاز في المعنى والمضمون من خلال ما تضمنه النص القرآني من أخبار سابقة وأخرى لاحقة. وتبعه في القول بالصرفة آخرون مثل الجاحظ والرماني والخطابي، ولكنها لم تبلغ حدة ما قال به النظّام من إن العرب لو تركوا دون صارف لكان في مقدورهم الإتيان بمثله. يقول ابن الخياط:"وكان يزعم أن نظم القرآن وتأليفه ليسا حجة للنبي -ص- وإن الخلق يقدرون على مثله " وعقّب قائلا:"إعلم علّمك الله الخير، إن القرآن حجة للنبي -ص- على نبوته عند إبراهيم من غير وجه، فأحدها ما فيه من الإخبار عن الغيوب ..مثل إخباره بما في نفوس قوم وبما سيقولونه وهذا ما أشبهه في القرآن كثير .. فالقرآن عند إبراهيم حجة على نبوة النبي -ص- "24 وقال الأشعري:" وقال النظّام: الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد، لولا أن الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم "25، وللزرقاني رأي يردّ نسبة القول إلى النظّام كلية فيقول في المناهل: "إني لأعجب من القول بالصرفة في ذاته، ثم ليشتد عجبي وأسفي حين ينسب إلى إلى ثلاثة من علماء المسلمين نرجوهم للدفاع عن القرآن ونربأ بأمثالهم أن يتيروا هذه الشبهات في إعجاز القرآن، على أني أشك كثيرا في نسبة هذه الآراء السقيمة إلى أعلام من العلماء "27.
هذا الموقف السلبي للمتلقي لم يقل به النظام وحده باعتباره معتزليا بل قال به غير واحد من الأشاعرة والشيعة أيضاوقد استدعى المقام الإشارة إليه لأنه شكل منظورا جديرا بالاعتبار لأنه يفرد للمتلقي حالة متميزة تجعل حركته العادية المقدور عليها والمسلوبة الانفعال وجها إعجازيا.
• إعجاز مضمون الرسالة:
وهو وجه إعجازي آخر عند كثير من الدارسين للقرآن الكريم، ويتعلق مثل سابقه بالعلاقة الثلاثية للتواصل: مرسل- رسالة- متلقي، وإن كان منظور المرسل بارزا في الوجه السابق باعتبار أن صفة القدرة في الذات الإلاهية سلبت قدرة المتلقين على التحدي، فإن صفة العلم في الذات الإلاهية أعجزت المتلقين عن التحدي، ومناط التحدي الذي كان في ذوات المتلقين فهو في هذا الوجه في النص القرىني من جهة مضمونه الإخباري المتعلق بماضي الزمن وقابله. واعتبر هذا الجانبَ الإعجازيَّ كثيرون أولهم النظام الذي يعد أول من فصل بين شكل القرآن ومضمونه حيث اعتبر النظم غير معجز وعدّ الإخبار عن الغيب مزية28 . ثم قال بالرأي ذاته الرماني والخطابي والباقلاني وابن حزم ولكنهم تحفظوا من اعتباره المقصود بالاعجاز والتحدي لأن التحدي شمل القرآن كله والأخبار لا تأتي إلا في بعضه29.يقول الخطابي: "ولا يشك في أن هذا –يعني الإخبار عن الغيب- وما أشبهه من أخباره نوع من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها، لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها، فقال: "فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم إن كنتم صادقين" من غير تعيين فدلّ على أن المعنى فيه غير ما ذهبواإليه"30.
• الإعجاز اللغوي والبلاغي:
لعل هذا الوجه يضع البحث في صميم التقاطع الكلامي اللغوي، بما ينطوي عليه من آراء الدارسين في ملامح التميز اللغوي القرآني إلى حد الإعجاز والتحدي. ولئن أصبح الفرز المذهبي منذ تناول وجوه الإعجاز صعبا لتداخل الآراء بين الدارسين، فإن المنظور اللغوي والبلاغي يعيد شيئا من التمايز الكلامي لوجهات النظر، ولذلك تدرج الآراء في شقين: الأول يضم أهم الآراء الاعتزالية والثاني أهمها من منظور أشعري. في البدء نشير إلى ما برر هذا التصنيف، إذ باعتبار الكلام الإلاهي أصواتا هي صفة للفغل، أمكن للمعنزلة القول بالصرفة بداية، والضم المخصوص في قمة النضج الاجتهادي عند القاضي عبد الجبار الأسد أبادي، وباعتبار الكلام الإلاهي معاني نفسية أمكن للأشاعرة ربط الإعجاز اللغوي والبلاغي بسرذ لا يمكن إدراكه إلا لمن وهبه الله إياه كما يقول الباقلاني أو للفكر والروية في كشف روائع النظم كما أحكم تقعيده عبد القاهر الجرجاني.
يرى الجاحظ أن مدار البلاغة على البيان والإفهام جاعلا وظيفة التواصل ونجاعتها معيارا للبليغ، ووحد بين وسائل البيان من لغة وإشارة وخط وعقد ونصبة، متبعا في ذلك بشربن المعتمر الذي ركز في رسالته على شرط الوضوح في التواصل عامة، ولعل الغاية المعرفية والمقام الخطابي يكمنان وراء هذا المنحى الجاحظي تجاه بلاغة الفهم والإفهام، والتي تتولد عتها مقاييس تداولية غاية في الأهمية، غير أن أبا الحسن الرماني يعطيهل بعدها الخصوصي، فليس كل من أبلغ مراده بليغا، فقد يستوي في ذلك بليغ وعيي، وإنما البلاغة"هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ"31.فجمع بين الوظيفة والشكل والتلقي، والدافع الإعجازي واضح عنده خاصة وهويعدد طبقات البلاغة نحو موقعة إعجاز القرآن البلاغي فيها فجعلها ثلاث طبقات: "منها ما هو أعلى طبقة ومنها ما هو أدنى طبقة ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة، فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس "32 وهكذا يتم تجسير لغة القرآن مع لغة الناسمن خلال اعتبار الإعجاز تم في مجال مقدور عليه وليس مصروفا عنه، فإعجاز القرآن طبقة في الكلام بلغت الذروةن ثم يتنزل إجرائيا ليحدد البلاغة في عشرة أقسام هي: الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان33. ومن التعداد يدرك إفراده للبيان بالحسن ثم حين يفصله يعود لما قاله الجاحظ مع تعديل جوهري إذ حسن البيان في الكلام "على مراتب، فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم حتى يحسن في السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبل البرد وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حق من المرتبة "34. فجعل للبيان الذي ارتبط عند الجاحظ بوظيفة الإفهام متعلقا بالصياغة التي سماها نظما وسياق كلامه يصرف هذا المفهوم إلى تأليف الأصوات لأنه المؤدي إلى الحسن في السمع والسولة على اللسان، والمنحى الصوتي المرتبط بالمذهب الكلامي واضح في هذا، ثم يربط هذه الصياغة بالتلقي فيجعل له مقياس التقبل، وبالنجاعة الذرائعية فيجعل لها مقياس تلبية الحاجة، وحين يتحدث الرماني عن التلاؤم، ينكشف مفهوم صوتي إعجازي مهم يعطي لمقولة النظم دقة أكثر "والسبب في التلاؤم تعديل الحروف في التأليف فكلّما كان أعدل كان أشد تلاؤما وأما التنافر فالسبب فيه ما ذكره الخليل من البعد الشديد أو القرب الشديد "35. إن اتباه الرماني كان منصبا على مناط الإعجاز القرآني وهو يصوغ هذا الملمح الصوتي البارز الذي بلغ فيه النظم القرآني القمة، وهو ما يلتقطه فيما بعد الخفاجي وابن الأثير، ليصير عندهما "سرّ الفصاحة" و"مثلها السائر" خاصة وأن الرماني يعتصر من مفهوم التلاؤم الصوتي نتيجته الطبيعية وهي: الأثر النفسي الذي تذهب معه النفس كل مذهب. وإن كان لا يجعل الأقسام العشرة كلها معجزة، فإنه يجعل من غير المعجز يساهم فيه ويدعمه، فالإعجاز عنده يدور عموما حول مفاهيم التلاؤم وحسن البيان وصحة البرهان36. والخاصية الصوتية التي تتولد عن نظام الفواصل يجعلها الرماني مزية باعتبار تبعيتها للمعنى37. مستثمرا البعد الصوتي الذي سيهمله الأشاعرة فيما يعد إخلالا بينا في تكامل النظرية البلاغية عندهم.
إن الإعجاز عند الرماني مناطه التأليف، لأنه الآلية التي تنفتح على التعدد واللانهائية في التصرف الدلالي والتركيبي38 .ولذلك صار التحدي بها لتظهر المعجزة، ولأنها آلية طبيعية في اللغة والكلام في مقدور المتحدى إليهم ممارستها مما ينسجم ومنظور الاعتزاليين في وجوب اتحاد أرضية التحدي وإمكانيتها.
أما القاضي عبد الجبار فيصل بالتحديد المفهومي أقصاه، فهو يردّ في مقام أوّل دعوى الإعجاز القرآني باعتباره جنسا من الكلام خارجا عن عادة العرب، لأنه كما تمت الإشارة إليه لابد من اتحاد أرضية التحدي فيما يعتقده المعتزلة من صفات العدل الإلاهي :"لأن من سبق إلى الشعر أولا لا يجب أن يكون الذي أتى به داخلا في الإعجاز وإن كان قد اختص بنظم غير معتاد، لما كان المتعالم من حال الغير أنه يساويه في ذلك، فلم يكن بالسبق اعتبار دون أن ينضاف إليه ما ذكرناه من تعدد مثله على غيره وخروجه عن المعتاد .. ولو كان السبق إلى الشعر من باب الإعجاز لكان كل وزن منه وكل بحر يقتضي الإعجاز ولصحّ ادعاء الإعجاز في كل زمان بابتداع وزن مخالف لما جرت به العادة، ف‘ذا بطل ذلك من حيث لا فرق بين المعتاد من الأمور وبين ما يتمكن الناس من فعله على حد العادة، لان كلا الوجهين سواء في أن التساوي والاشتراك في ممكن.. وإنما يدل على النبوة ما يخرج عن طريق العادة في الوقوع والتمكن فكيف يصح اعتبار السبق في هذا الباب "39.
فإذا تم استبعاد هذا الاعتبار للسبق في اختراع الجنس من الكلام، لم يبق من المجال المشترك الذي بز فيه القرىن العرب إلا الفصاحة "وليس فصاحة الكلام بأن يكون له نظم مخصوص لأن الخطيب عندهم قد يكون أفصح من الشاعر والنظم مختلف إذا أريد بالنظم أختلاف الطريقة وقد يكون النظم واحدا، وتقع المزية في الفصاحة، فالمعتبر ما ذكرناه لأنه الذي يتبين في كل نظم وكل طريقة..ولذلك يصح عندنا أن يكون اختصاص القرىن بطريقة في النظم دون الفصاحة التي هي جزالة اللفظ وحسن المعنى"40.
هذا التحديد للفصاحة دافعه إثبات الإعجاز بما هو ملموس من الصياغة والتشكيل، فإذا تم ذلك أصبح التفاوت في الترتيب مسوغا ومبررا " الكلام الفصيح مراتب ونهايات وإن جملة الكلمات وإن كانت محصورة فتأليفها يقع على طرائق مختلفة من الوجوه، فتختلف لذلك مراتبه في الفصاحة، فيجب ألا يمتنع أن يقع فيه التفاضل وتبين بعض مراتبه من بعض ويزيد عليه قدرا يسيرا أو كبيرا.. وما هذا حاله فالتحدي صحيح فيه، لأن فيه مقادير معتادة تصح فيها زيادات في الرتب غير معتادة ، وصار ذلك في بابه بمنزلة مقادير معتادة تصح فيها زيادات في مراتب غير معتادة، فكما صح فيما حلّ هذا المحل التحدي به، فكذلك القول فيما ذكرناه من الكلام"41 فنظم القرآن جاء على هذا الاتجاه الذي يتفاضل فيه الكلام ويتقدم فيه البعض على بعض، تفاضل تدخل فيه إمكانات اللغة باعتبارها جداول اختيارات، وتجربة المبدع باعتباره المتخير والناظم لها.
ولكي يرسخ القاضي هذا الاختيار الحر للمبدع لابد أن تتجاوز المواضعة حدود المفرد لأن العرب "إذا لم يفعلوا ذلك أي لم يتواضعوا على صور الكلام ووجوهه المختلفة، ووقعت مواضعتهم على هذا الحد، أي وقفوا بالمواضعة على ذات الكلمة المفردة والصفات التي تلحقها في حالات إعرابها، فيجب ألا يمتنع فيه –أي في الكلام- المزية حتى يظهر المعجز في القرآن وغيره، سواء قلنا إن اللغة توقيف أو مواضعة الكلام"42، لأن المواضعة في رأيه إذا شملت جدول الاختيار وجدول التركيب معا صار "المتكلمون حينئذ على طريق واحد، قد رسم لهم من قبل، فساروا فيه، وصار نطقهم بالكثير من الكلام أشبه بنطقهم بالكلمة الواحدة، لا فضل لأحد على أحدفي مقام النطق بها، لأن الناس قد تواضعوا على قيمتها ودلالتها ..وكذلك الحال في جملة الكلام إذا كانت المواضعة قد شملته، فأصبح لكل معنى القالب اللفظي الموضوع له، بحيث لا يستطيع أحد الخروج عليه أو إدخال صنعته فيه، بل ينقله من محفوظه اللغوي نقلا كما يستدعي الحقائق العلمية التي أودعها ذاكرته"43، فإذا كان التفاوت جوهريا ليصح منظور الإعجاز، صح اعتبار التصرف في جدول التركيب أصلا لا في جدول الإفراد لأن "الفصاحة لا تظهر في افراد الكلام وإنما تظهر في في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة "44 . فالمعاني والأغراض العامة لا تزايد فيها والقرآن –عند القاضي- قد لايكون أتى بأغراض متحدى بها فإذن "يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عند الألفاظ التي يعبر بها عنها-أي عن المعاني- فالذي تظهر به المزية ليس إلا الإبدال الذي تختص به الكلمات أو التقدم والتأخر الذي يختص بالموقع أو الحركات التي تختص بالإعراب فبذلك تقع المباينة ..ولابد في الكلامين الذين احدهما أفصح من الىخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أوبعضه ولا يمتنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره وكذلك الشأن فيها إذا تغيرت حركاتها وكذلك القول في جملة من الكلام.. فأما حسن النغم وعذوبة القول ..فمما يزيد الكلام حسنا على السمع لأنه يوجد فضلا في الفصاحة"45.
بهذا يحدد القاضي أرضية التمايز والمباينة والتفاوت كما يحدد إجراءاتها التي تتعلق بالإبدال والموقع والإعراب، فيكون التفاوت فيها جميعا أوفي بعضها وبذلك يكون جهد الرماني في جعل الإعجاز منوطا بما هو ممكن المنافسة قد بلغ عند القاضي منتهاه من خلال مفهوم الضم الذي يتناول اللفظ لا المعنى بما يؤكد المنحى الاعتزالي الذي يجعل الكلام أصواتا أما المعنى فله اعتبار آخر.
وإذا تم الاقتراب أكثر من هذا الاعتبار الصوتي اللفظي للكلام في الإطار الاعتزالي ذاته، سيقف الخفاجي على مفرق آخر، فيرى ان الارضية التي مهدها القاضي ليتميز فيها النص القرآني بالضم على طريقة مخصوصة بالغا الغاية والإعجاز، لا يصح عنده لانها من منظور التصنع والتعمّل تخرج من دائرة التحدي، فمعيار التعمّل الذي سوف يقول به الباقلاني من الأشاعرة يقول به الخفاجي، ولكن الأول يجعله مصفاة تسقط منها إجراءات بلاغية عديدة يمكن للفصحاء مجاراة القرآن فيها، أما الخفاجي فالمعيار ذاته مبرره لجعل الإعجاز غير منوط بالفصاحة أصلا ويتخذ الصرفة دلالة على الإعجاز أبين وأقوى، وهو رأي يعتبر ردا ضمنيا عل مذهب الغرابة الشعرية الذي غلب على أسرار البلاغة للجرجاني46.
في منظور مقابل يأخذ بتحديد الكلام بانه المعنى النفسي واللفظ عبارة عنه يرى الخطابي أن الكلام يقوم على أسس ثلاثة هي: لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وهذا التحديد باعثه موقفان مبدئيان، الأول صرف الإعجاز إلى لغة النص ونظمه وهدم مقولة الصرفة يقول:"وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازهالصرفة أي صرف الهمم عن المعارضة وإن كان مقدورا عليها غير معجوز عنها، إلا أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات"47 ويعلق على قول الله تعالى "قل لئن اجتمعت الإنس والجن .."48 " فأشار في ذلك إلى أمر طريقه التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التي وضعوها لا يلائم هذه الصفة فدلّ على أن المراد غيرها"49 ، كما ردّ على من قال بالإخبار عن المغيبات من خلال القول بأن التحدي وقع بكل سورة وليس سورا بعينها50. أما الباعث الثاني فهو حسه التجريبي الذي يرفض ربط كشف الإعجاز بالذوق والدربة" ذلك أنهم صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن الفائقة في وصفها سائر البلاغات وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة قالوا: إنه لا يمكننا تصوره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده، واحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع منه التفاضل فتقع في نفوس العالمين به معرفة بذلك ويتميز في أفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه..وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم ولا يشفي من داء الجهل به وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام"51. فيعمد إلى تحديد مكمن الإعجاز بعد أن يحدد طبقات الكلام على نحو ما فعل الرماني فيجعل البلاغة درجات منها البليغ الرصين ومنها الفصيح الغريب السهل ومنها الجائز الطلق الرسل، فالأول أعلى طبقة والثاني وسط والثالث قريب52. ثم يعطي رأيه الذي لم يسبق إليه في أن بلاغة القرآن إنما أعجزت لما توفرت الطبقات الثلاثة فيه في انسجام وتوافق"فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما –على انفرادهما- كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعا من الوعورة ..لذلك كان اجتماعهما في نظم القرىن فضيلة خص بها، يسّرها الله بلطيف قدرته من أمره لتكون آية بينة لنبيه -ص- ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه "53.ثم يوضح كيفية هذا الجمع بين الأساليب الثلاثة من خلال عرض الأغراض التي تناولها النص القرآني والتي تفرض تنوع الأساليب ولكنها وردت في القرآن مؤتلفة منسجمة"إنما صار القرآن الكريم معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظام التأليف متضمنا أصح المعاني من توحيد له عزت قدرته، وتنزيهه في صفاته ودعاء إلى طاعته وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم وحضر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكروإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها واضعا كل شيئ منها موضعه الذي لا يُرى شيئ أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمر أليق منه، مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلية في الأعصار الباقية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه..ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر"54 وفي إشارة لافتة إلى محور الاختيار يربط الخطابي الإعجاز القرآني بعامل يقترب من مفهوم الصرفةوهو الإحاطة باللغة54 ، "ذلك أن علم البشر لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظر التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتواصلون باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله"55 ورغم هذا النتوء العارض في أفكاره فإن مدار الإعجاز يظل على أرضية التأليف والنظم الذي يضمن وجه التحدي ويمهد أرضيته خاصة وهو يقول:"أما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان"56 وتموضع مصطلح النظم بما يفيد التركيب والترتيب أوضح حين يقول "عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام وإما ذهاب الرونق الذي يكومن معه سقوط البلاغة "57 وهو ربط واضح بين الموقع الترتيبي والاختيار البلاغي والدلالة الناتجة عن تقاطع الجدولين.
ج- النص، الظاهر والباطن والتأويل:
في هذا المستوى الدلالي يبلغ الأثر الكلامي أوجه، لأن الدلالة مرتبطة بتحديد الكلام، ومرتبطة بوجود الحقيقة في الشاهد أو في الغائب، ومرتبطة بدور المتلقي في كشف هذه الحقيقة، ومرتبطة بالتفرقة بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية والحقيقة الوجودية، ومرتبطة بالمعرفة ووسائلها هل هي في العقل أم في النقل، وغيرها من القضايا الفرعية عن هذه الأمهات، وفي صدارتها قضية المجاز بين المنظورين الكلامي والبلاغي وما اثارته من الآراء.
الدراسات اللغوية الأولى للقرآن الكريم انطلقت كما سبق بيانه من ردّ فعل تجاه تشكيك في انسجام النص القرآني، وأهم ما يثير هذا التشكيك ورود المتشابه والمشترك والغريب، وبما إن الدراسة في هذا الوقت كانت لغوية محضة فقد كان التركيز على ربط ورود المجاز في القرآن بسنن العرب في كلامها، من خلال إيراد الشواهد الشعرية، ومثاله "معاني القرآن" للفراء و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة و"تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة.
فالفراء مثلا اجتهد في ردّ العبارات إلى كلام العرب58 مستخدما مصطلح التجوز لإدراك العلاقة بين المجاز والحقيقة في إسناد الفعل إلى فاعله لوجود علاقة بين الفاعل الأصلي والفاعل النحوي في العبارة، كما استخدم مصطلح الاتساع "فهذا مما يعرف معناه فتتسع فيه العرب"59وإضافة إلى التجاوز الإسنادي، تناول التجوز في الصيغة الصرفية ومجاز الحذف واستخدام الضمائر فيما سمي لاحقا بالالتفات، وتناول التشبيه واستند في كل هذا إلى معيار لفظي أو معنوي كوضوح وضوح المعنى، والتشابه شرطا للنقل الدلالي، كما يستشف من شروحه التجوز الكلامي في الآيات التي يخدش ظاهرها نزاهة الأنبياء وأخلاقهم60، ويمكن تشبيه منهج الفراء بمنهج أبي عبيدة، فإذا بحث الأول عن استواء القاعدة النحوية فقد بحث الثاني عن استواء العبارة، وكان كلاهما يردّ إلى الشاهد الشعري من كلام العرب من منظور التناول النحوي أو اللغوي.
ولا يبتعد ابن قتيبة كثيرا عن سابقيه سوى في إدراكه لوظيفة مؤَلَّفه وهو تنزيه القرآن عن التناقض والإغراب، ولكنه في إثباته ضرورة المجاز كما تكلمت العرب ردّ على الطاعنين في وجوده من متشددي أهل السنة، وعلى المغرقين فيه من المعتزلة61 وقد قاوم الظاهرية هذا النزوع إلى إثبات وجود المجاز في القرآن وجادلوا عن ذلك وكتب ابن القيم حافلة بالمساجلات، فهم يربطون المجاز بالكذب ولا يعدل المتكلم إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وهذا محال في حق الله تعالى، فينبغي تنزيه القرآن الكريم عنه، وإذا نزه عنه كتاب الله وهو النازل على سنن العرب في كلامها، امتنع ضرورة أن يوجد في كلامها وإلا كان تناقضا، وبذا يلتقي الدليل العقلي واللغوي والشرعي عنده لنفي المجازوكل ذلك يتفق وتوقيفية اللغة والمصدر الإلاهي للمعرفة62 وعلى النقيض من هذا الموقف يرسخ الفكر الصوفي دلالة متحركة بين علمي الغيب والشهادة، فباعتبار الحقيقة مركوزة في عالم الغيب، فإن عالم الشهادة أو الموجود كله تجلي لهذه الحقيقة، واللغة من هذا المنظور تدلّ حقيقة على عالم الملك، ومجازا على عالم الشهادة، فهي تحيا بصورة المعنى في عالم الحس وروح المعنى في عالم الملكوت، ودلالة روح المعنى هي على فعل الله تعالى، أما دلالة صورة المعنى فعلى فعل الإنسان، ولا شك أن المفهوم الاعتزالي للاستدلال ينقلب من قياس الغائب على الشاهد إلى قياس الشاهد على الغائب عند المتصوفة، ويستبدل العقل بالقلب وسيلة لتلقي الحقيقة أو روح المعنى.إن اللغة تتحول في هذا المنظور إلى علامة منفتحة الدلالة. فابن عربي يجعل مراتب الوجود تجليا للحقيقة الإلاهية من جهة وموازية للحروف اللغوية من جهة أخرى، مما يفضي إلى اعتبار مراتب الوجود التي أوجدتها الأسماء الإلاهية موازية لحروف اللغة الإلاهية التي هي باطن لظاهر هو حروف اللغة البشرية الصوتية نطقا أو الخط كتابة. ومن هنا يصح إطلاق "كلمات الله" على الممكنات كما يطلق على القرآن كلام الله، وبذلك يكون كلام الله مستويين:
- مستوى الكلام الوجودي الذي يتجلّى في الممكنات
- مستوى الكلام اللغوي الذي يتجلّى في النص القرآني
وبوجود الحقيقة باطنة تصبح الدلالة قسمين: ذاتية باطنية هي الأصل، وعرفية ظاهرية هي الفرع، والقارئ فيها هو الصوفي الذي يصل إلى الحقيقة الباطنية63 واعنصار الدلالة يحكمه توتر متعدد، توتر اللغة في دلالتها الذاتيةمما يجعلها قابلة للتعدد والتفسير، وتوتر دلالتها الباطنية على الوجود، ففي المستوى الوضعي يشير الدال إلى مدلول معين ثابت مهما تكررت العلاقة اللغوية الدالة عليه، ولكن في المستوى الوجودي يمّحي هذا التكرار، فالمشار إليه في تخلق جديد يجعل له في كل مرة دالا جديدا. والصوفي القارئ العارف هو الذي يدرك أن الضمير أو الإسم المكررين لا يدل كل منهما على المدلول ذاته بل على مدلول جديد، وطريق الكشف هو الذي يمكن أن يرى للعبارات اللغوية معاني جديدة في كل لحظة ومن هنا عدم ثبات النص اللغوي والقرآني الدال على حركة الوجود ومنه مشروعية التأويل الوجودي والنصي باعتبارهما نصين سيميائيين64. والمعتزلة أيضا يجعلون الحقيقة خارج النص من خلال مفهوم القصد، ويباشرون النص لإثبات انسجامه مع هذا القصد، ولذلك كان هذا المبحث عندهم كلاميا في مقام أول، يرد مجاز القرآن إلى الحقيقة العقائدية، فكان جهد تنزيه الذات الإلاهية أفعالا وصفات عن التشيبه باعثا فعليا على تبرير وجود المجاز، ومن ثم ضرورة التأويل، فمبحث المجاز تم تناوله إذا من منظور المعيار اللغوي ومن منظور المعيار العقائدي. فإذا كانت الحقيقة خارج-نصية ووسيلتها العقل والاستدلال، فإن المجاز هو كل ما لا يلائم ظاهره الفصد والحقيقة التي تصوروها وجعلوا التأويل سلاحا لرده إلى هذه الحقيقة، واشترطوا لوقوعه المواضعة والقصد حتى تظل الوظيفة البيانية للغة قائمة محفوظة، والمجاز عندهم بيان حتى لا يكون اضطرارا لا يليق بالذات الإلاهية كما ادعت الظاهرية، ويخضع النص القرآني طبقا لهذه الخلفية إلى تقسيم على أساس مذهبي من خلال المحكم والمتشابه، فالمحكم كل ما وافق أصول اعتقادهم والمتشابه كل ما لم يوافقها.
ويتقارب الأشاعرة مع المعتزلة في مبحث المجاز كثيرا، فمن خلال التفرقة بين أدلة اللغة وأدلة العقل، يرى الجرجاني أن أدلة العقل وجوبية والأولى عرفية، ويجعل المجاز قسمين، مجاز لغة لا تفاضل فيه، ومجاز عقل أوإسنادي وفيه يتم التفاضل. وبغض النظر عن المفارقة التي يقع فيها حين اعتبر ثبات الدلالة العقلية ثم ربط المزية بها، فإن الجرجاني يجعل المجاز مقابلا للحقيقة كما فعلت المعتزلة والقاضي خصوصا، وذلك لدفع تهمة الكذب عن المجاز، فهو ادعاء للدلالة وإثبات لها، ووروده في القرآن هو للإبانة والإيضاح، ولذلك اشترط لوقوعه علاقة التشابه وإلاّ لم يعدّ مجازا، وبالتالي تبقى اللغة كما هي في مذهبه الأشعري أحد الأدلّة المقررة لاكتساب المعرفة. ومفهوم النظم الذي نقل إليه مكمن الإعجاز بعد أن كان يشيد بالمفارقة الدلالية والغرابة الشعرية في الأسرار، أطلقه حتى يعمّ الإعجاز النص كله، وأدخل ضمنه المجاز لأنه لا يوجد في كل آية، بينما يستغرق النظم النص كله. ومن خلال مقولتي المعنى ومعنى المعنى أعطى الجرجاني للمجاز صياعة اصطلاحية دقيقة، تقود من الدلالة المباشرة إلى الدلالة الحقيقية ليلتئم مجمل الآراء على وجود ظاهر وباطن للنص معبره المجاز ووسيلته التأويل.
ثبت الإحالة:
________________________________________
1 – الشروق اليومي، ع 349، 27/ 12/ 2001، ص 24
2 - نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، ص137
- المرجع نفسه، ص 343
4 – نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، ص25
5 – نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 96
7 – الآية من سورة آل عمران
8 –المرجع السابق، ص 144
9 – المرجع نفسه، ص 144
- الطبري،جامع البيان، ج6، ص203 10
11 – المرجع السابق، ص 40
12 – القاضي عبد الجبار، المغني، ج15، ص 162
13 – الاتجاه العقلي في التفسير، ص 80
14 – المرجع نفسه، ص 83
15 - المرجع نفسه، ص 68
16 – المرجع نفسه، ص 85
17 - المرجع نفسه، ص 83
18 - المرجع نفسه، ص 85
19 - المرجع نفسه، ص 83
20 – المرجع نفسه، ص 79
21 – المرجع نفسه، ص 57
22 – المرجع نفسه، ص 75
23 – المرجع نفسه، ص 87
24 – أحمد جمال العمري، مفهوم الإعجاز القرآني، ص 48/49
25 – الأشعري،مقالات الإسلاميين،ج1ص296
27 – عبد العظيم الزرقاني مناهل القرآن ج2ص310
28 – علي مهدي زيتون،إعجاز القرن وأثره في تطور النقد الأدبي ص 52
29 – المرجع نفسه ص52
30 - الخطابي، بيان إعجاز القرآن ص23
31 – الاتجاه العقلي في التفسير،ص118
32 – الرماني،النكت في إعجاز القرآن،ص75
33 – المرجع نفسه، ص 76
34 – المرجع نفسه، 107
35 - المرجع نفسه،107
36 – محمد العمري، البلاغة العربية، ص 168
37 – الرماني،النكت، ص97
38 – المرجع نفسع،ص 107
39 – القاضي عبد الجبار، المغني ج16، ص 217
40 – المرجع نفسه، ج16، ص 199
41 – المرجع نفسه، ج 16،ص 214
42 – المرجع نفسه، ج 16، ص 214
43 – أحمد جمال العمري، مفهوم الإعجاز القرآني، ص161
44 – المرجع السابق، ص 214
45 – المرجع نفسه، ص 200
46 - محمد العمري، البلاغة العربية، ص 443
47 – الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص22
48 – الآية 88، الإسراء
49 – المرجع السابق، ص 23
50 - المرجع السابق، ص 24.
51 - المرجع السابق، ص 24
52 - المرجع السابق، ص 24
53 - المرجع السابق، ص 24
54 - المرجع السابق، ص 25
54 – إعجاز القرآن وأثره في النقد الأدبي، ص 45
55 - الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص 27
56 – المرجع نفسه، ص36
57 - الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص 26
58 – الاتجاه العقلي في التفسير،ص103
59 - المرجع نفسه، ص104
60 – المرجع نفسه، ص110
61 – المرجع نفسه، ص171
62 – المرجع نفسه، ص02
63 – نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل، ص 151
64 – نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة، ص 07
ثبت المراجع:
- 1- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص،دراسة في علوم القرآن،المركز الثقافي العربي،ط 4،1998
- 2– نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل، المركز الثقافي العربي، ط4، 1998
3– نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، ط2، 1997
4- نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، المركز الثقافي العربي، ط3، 1996
5- الطبري،جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج6 ، ت محمود شاكر، دار المعارف، مصر، 1971
6- القاضي عبد الجبار، المغني، ج15، ت الخضيري وقاسم، 1965، ج16، ت الخولي 1960
7- أحمد جمال العمري، مفهوم الإعجاز القرآني، دار المعارف، 1984
8– الأشعري،مقالات الإسلاميين،ج1، ت محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، 1970
9– عبد العظيم الزرقاني، مناهل القرآن ج2، دط، دت
10– علي مهدي زيتون،إعجاز القرن وأثره في تطور النقد الأدبي، دار المشرق، ط1، 1992
11- الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل، ت أحمد خلف الله وزغلول سلام، دار المعارف، ط2 1968
12– الرماني،النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل، ت أحمد خلف الله وزغلول سلام، دار المعارف، ط2، 1968
13- محمد العمري، البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، أفريقيا الشرق، 1999

عبد الرحمان الحاج صالح

صاحب النظرية اللسانية الخليلية

عبد الرحمان الحاج صالح

عبد الرحمن الحاج صالح
(1927م)

ولد الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح بمدينة وهران بالجزائر في يوم 8 من يوليه 1927م، وهو من عائلة معروفة نزح أسلافها من قلعة بني راشد المشهورة إلى وهران في بداية القرن التاسع عشر. درس في المدارس الحكومية، وفي الوقت نفسه كان يتلقى دروسًا بالعربية مساء في إحدى المدارس الحرة التي أنشأتها جمعية العلماء الجزائريين والتحق وهو ابن خمس عشرة سنة بحزب الشعب الجزائري.
وفي سنة 1947م بعد حملة واسعة حملتها الشرطة الفرنسية على المناضلين والوطنيين رحل إلى مصر والتحق طالبًا بكلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية، وهناك اكتشف أهمية التراث العلمي اللغوي العربي من خلال ما اطلع عليه من كتاب سيبويه خاصة، واتضح له الفرق الكبير الذي لاحظه بين وجهات النظر الخاصة بالنحاة العرب الأقدمين وما يقوله المتأخرون منهم، وكان هذا دافعًا مهمًّا في حياته العلمية. ولم يستطع أن يكمل دراسته في مصر فالتحق بجامعة بوردو BORDEAUX بفرنسا بعد أن ساهم في ثورة أول نوفمبر لمدة سنوات، ثم نزل بالمملكة المغربية والتحق بثانوية "مولاي يوسف" في الرباط كأستاذ اللغة العربية، واغتنم الفرصة لمواصلة دراسة الرياضيات في كلية العلوم. وهذا أيضًا حادث أثَّر في حياته الثقافية، وقرَّبَه أكثر من اللغوي العبقري الخليل بن أحمد. وبعد حصوله على التبريز في اللغة العربية تكرّم عليه الإخوة في المغرب فأوكلوا إليه تدريس اللسانيات في كلية الآداب بالرباط باللغة العربية في 1960م (لأول مرة في المغرب العربي).
في حياة الدكتور الحاج صالح حدثان هامان شكَّلا منعرجًا كبيرًا في حياته العلمية، أولهما: دراسته في المدرسة الحرة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وهران، هذه الدراسة التي مكنت تعلقه باللغة العربية، ثم إقامته في الأزهر الشريف التي تزود في أثنائها بالتراث العلمي العربي. وثانيهما: دراسته للِّسـانيات الحديثة والرياضيات وهذا ما أداه إلى التعمّق في المفاهيم المنطقية القديمة والحديثة، ومفاهيم علم اللسان العربي وحينها اكتشف أن الخليل بن أحمد سبق أوانه 1000 سنة.
أما الشطر الثاني من حياته فهو الذي قضاه أستاذًا وباحثًا في جامعة الجزائر بعد الاستقلال. وعيّن في سنة 1964م رئيسًا لقسم اللغة العربية وقسم اللسانيات، ثم انتخب عميدًا لكلية الآداب، وبقي على رأس هذه الكلية إلى غاية 1968م. وتفرغ في ذلك الوقت للدراسة والبحث في علوم اللسان حيث استطاع بمساعدة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي (وزير التربية آنذاك) أن ينشئ معهدًا كبيرًا للعلوم اللسانية والصوتية وجهزه بأحدث الأجهزة وأسس أيضًا مجلة اللسانيات المشهورة. وفي هذا المعهد واصل الأستاذ بحوثه بفضل المختبرات المتطورة الموجودة فيه وأخرج تلك النظرية التي لقبت في الخارج "بالنظرية الخليلية الحديثة" (وهي مطروحة في الرسالة التي نال بها دكتوراه الدولة في اللسانيات من جامعة السوربون في سنة 1979م). وفي عام 1980م أنشأ ماجستير علوم اللسان وهو نسيج وحده لأنه متعدد التخصصات، وقد نوقشت أكثر من 70 رسالة منذ أن أنشئ. والمعهد (معهد اللسانيات والصوتيات سابقًا) بقي صامدًا يؤدي مهامه بفضل سهر الأستاذ على النوعية العلمية التي كان يهتم بتخريجها.
وجدير بالذكر أن هذه الأعمال الجماعية في الجزائر تعطلت عندما قرر مسؤولو التعليم العالي أن يعيدوا تنظيم الجامعات، فاغتنم بعض الأشخاص هذه الفرصة لإلغاء معهد العلوم اللسانية، وذلك في 1984م. وقد سبّب هذا الحادث المؤلم الخطير إلغاء الكثير من المشاريع المهمّة ذات المصلحة العامة وتعطيل مجلة اللسانيات.
وفي سنة 1991م عادت الأمور إلى مجاريها إلى حد مّا برحمة من الله تعالى وإلهام منه لبعض العقلاء حيث أنشئ مركز البحوث العلمية في هذا الميدان، والأستاذ ورفاقه يعملون فيه والحمد لله.
وفي سنة 1988م عُيِّن الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عضوًا مراسلاً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم انتخب عضوًا عاملاً به سنة 2003م في المكان الذي خلا بوفاة الدكتور إبراهيم السامرائي، وسبق ذلك أن عُيِّن عضوًا في مجمع دمشق (في 1978م) ومجمع بغداد (1980م) ومجمع عمّان (1984م). وهو عضو في عدة مجالس علمية دولية وعضو أيضًا في لجنة تحرير المجلة الألمانية التي تصدر ببرلين بعنوان:
Z. fuir Phonetik Sprachwissenfaft und Kummunikation forshung.

الإنتاج العلمي والمنشورات:
- للدكتور الحاج صالح واحد وسبعون بحثًا ودراسة نشرت في مختلف المجلات العلمية المتخصصة (بالعربية والفرنسية والإنجليزية) حتى عام 2002م.
- معجم علوم اللسان، (بالمشاركة)، مكتب تنسيق التعريب التابع للأليكسو،1992م.
- علم اللسان العربي وعلم اللسان العام (في مجلدين)، الجزائر.
- مقالة "لغة" و مقالة "معارف" في دائرة المعارف الإسلامية الطبعة الجديدة. ليدن.
- Arabic Linguistics and Phonetics, in Applied Arabic Linguistics and Signal Processing, New-York, 1987.
- بحوث ودراسات في علوم اللسان، في جزأين (عربية وفرنسية وإنجليزية) بالجزائر.
- أربع مقالات: الخليل بن أحمد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، في موسوعة أعلام العرب (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم).

وتكرم فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة فعيّنه رئيسًا للمجمع الجزائري للغة العربية سنة 2000م.

نشاطه المجمعي:
منذ أن عين الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عضوًا بالمجمع وهو يشارك في مؤتمرات المجمع بالأبحاث وبإلقاء المحاضرات، ومنها:
- أصول تصحيح القراءة عند مؤلفي كتب القراءات وعلوم القرآن قبل القرن الرابع الهجري. (مجلة المجمع ج 90).
- الجوانب العلمية المعاصرة لتراث الخليل وسيبويه. (مجلة المجمع ج 92).
- تأثير الإعلام المسموع في اللغة العربية، وكيفية استثماره لصالح العربية.
(مجلة المجمع ج 94).
- تأثير النظريات العلمية اللغوية المتبادل بين الشرق والغرب: إيجابياته وسلبياته.
(مجلة المجمع ج 96).
- المعجم العربي والاستعمال الحقيقي للغة العربية. (مجلة المجمع ج 98).
- حوسبة التراث العربي والإنتاج الفكري العربي في ذخيرة محوسبة واحدة كمشروع قومي. (مجلة المجمع ج 103).

نظرية الأدب

كتاب نظرية الأدب للتحميل

السبت، أبريل 18، 2009

ثورة الاتصالات وآثارها

كتاب ثورة الاتصالات وآثارها لتحميل
هذا الكتاب المقيد اضغط على الراط أدناه

منهجية البحث

تجدون كتاب قيم حول منهجية البحث
لتحميل الكتاب اضغط على الرابط التالي
http://www.savefile.com/files/2081459

أداب الحوار

سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته هذه أول مشاركة لي بهذا القروب بتلخيص شريط ( أدب الحوار ) للشيخ د صالح بن حميد , وبرأيي أن هذا الموضوع يجب أن نفهمه لأننا نتعامل يوميّاً مع أصناف شتى من الناس سواء وجهاً لوجه أو بالصوت أو على هذه الشبكة, ودونكم هذه المحاضرة :
أحمد الله تباركـ وتعالى وأصلّي وأسلّم على رسوله وخيرته من خلقه و مصطفاه من رسله نبينا محمد رسول الله وعلى آله وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..... أما بعد :أيها الإخوة : أشكر الله على هذا اللقاء الطيب , ثم أشكر من كان سببا في مثولي بين يديكم .سوف يكون الحديث حول تعريف الحوار وبيان لغايته ثم إشارة إلى أصول الحوار ومبادئه وبعض آداب الحوار.الحوار والجدال كلمتان لهما معناهما في اللغة, ويقوم إحداهما مقام الآخر .( تعريف الحوار )الحوار من المحاورة وهي المراجعة في الكلام, وهو المناقشة بين طرفين أو أطراف يقصد بها تصحيح كلام وإظهار حجة وإثبات حق ودفع شبهة.والجدال من جدل الحبل إذا فتله, وهو مستعمل فيمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق, ثم استعمل في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها. وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ).( غاية الحوار )الغاية من الحوار : إقامة الحجة ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي.يقول الذهبي : إنما وضعت المناظرة لكشف الحق وإفادته وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه.ثمّة غايات فرعية منها :1- إيجاد حل وسط يرضي الأطراف .2- التعرف على وجهات نظر الطرف الآخر.3- البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى من أجل الوصول إلى نتائج أفضل ولو في حوارات ثانيه.( الخلاف )الحوار لا يكون في القطعيات وإنما في الأمور المختلف فيها . والخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار , وهو سنة الله في خلقه , فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم و... إلخ, هذا الاختلاف الظاهري, وهذا دال على الاختلاف في الآراء والاتجاهات, وكتاب الله يقرر هذا ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ). يقول الرازي : المراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال.واللام في ( ولذلكـ خلقهم ) ليست للغاية, ما خلقهم ليختلفوا وإنما للعبادة. واللام هنا للعاقبة والصيرورة, أي خلقهم ليكونوا فريقين.( أصول الحوار )1- سلوكـ الطرق العلمية والتزامها. مثل تقديم الأدلة المثبتة بدل أن يكون كلاماً في الهواء. وصحّة النقل في الأمور المنقولة } إن كنت ناقلاً فالصحّة وإن كنت مدّعياً فالدليل {. وفي التنزيل ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ).2- سلامة كلام المناظر ودليلة من التناقض. من الأمثلة : وصف فرعون لموسى : ( ساحر أو مجنون ) والسحر والجنون لا يجتمعان.3- ألاّ يكون الدليل هو عين الدعوى, لأنه يكون إعادة للدعوى وهذا تحايل في أصول الحوار.4- الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلّمة, مثل صدق الكلمة, أو مسلّمات دينية كالإيمان بربوبية الله وعبوديّته ونبوّة محمد وتحريم الزنا..., فالقضايا المسلّمة لا يجوز أن تكون محل نقاش.ومع غير المسلم يكون النقاش معهم في أصل الديانة, في ربوبيّة الله وعبوديّته.وينبني على هذا الأصل أن الإصرار على إنكار المسلّمات والثوابت مكابرة قبيحة, وليس هذا شأن طالب الحق.5- التجرّد وقصد الحق والبعد عن التعصّب والالتزام بأدب الحوار., وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لاعوَج فيه .يقول الشافعي: ما كلّمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفّق وتكون عليه رعاية الله وحفظه, وما ناظرني فباليت ظهرت الحجّة على لسانه أو لساني.6- أهليّة المحاوِر. إذا كان الحق ألاّ يُمنَعُ صاحب الحقِّ عن حقّهِ فمن الحقّ ألاّ يُعطى هذا الحق لمن لا يستحقّه.من الخطأ أن يتصدّى للدفاع عن الحق من كان على الباطل, ومن لا يدركـ مسالكـ الباطل.والذي يجمع لكـ ذلكـ كلّه : العلم. وقد قال الشافعي: ما جادلت أحداً إلا وغلبته, وما جادلني جاهلاً إلا وغلبني.7- قطعيّة النتائج ونسبتها. من المهم في هذا العصر أن الرأي الفكري نسبي الدلالة على الصواب أو الخطأ ويندرج تحت المقولة : رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.وبناء عليه فليس من شرط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الآخر.8- الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصّل إليها المتحاورين والالتزام الجاد بها وما يترتب عليها . وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث.( آداب الحوار )1- التزام القول الحسن وتجنّب منهج التحدّي والإفحام, " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن " ويُلحق بهذا الأصل تجنّب سوء التحدّي ولو كانت الحجّة بيّنة. فإن كسب القلوب مقدّم على كسب المواقف, وليحرص المحاور ألاّ يرفع صوته فالصوت العالي لا يجلب الحجّة بل إنه لم يعلُ صوته إلاّ لضعف حجّته في الغالب, كذلكـ ينبغي البعد عن استخدام ضمير المتكلم كفعلت وقلت وتجربتنا فهذا عنوان على الإعجاب بالنفس.ينبغي ألا يستخدم الذكاء المفرط فيختزل العبارات ومن ثمّ فلا يُفهَم, كما لا يرتبط فيه الغباء فيبالغ في شرح ما لا يحتاج لشرح.من الآداب الالتزام بوقت محدّد في الكلام. يقول ابن عقيل: وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة.وأغلب أسباب الإطالة يرجع إلى ما يلي :أ‌- إعجاب المرء بنفسه.ب‌- حب الشهرة والثناء.ت‌- ظن المتحدّث أن ما يأتي به جديد على الناس.ث‌- قلّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم.2- حسن الاستماع وعدم المقاطعة.3- تقدير الخصم واحترامه.4- حصر المحاورات في مكان محدد.5- الإخلاص, ويدخل فيه توطين النفس إذا ظهر الحق على لسان الآخرين, ومن الإخلاص إيقاف الحوار إذا وجدت نفسكـ قد تغيّر مسارها ودخلت في مسار الجدال والخصام.أ-ه