الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الخميس، مايو 07، 2009

كتاب اللغة العربية مبناها ومعناها لحسان تمام

حمل هذا الكتاب المهم في الدراسات اللسانية العربية
http://up3.m5zn.com/download-2009-5-7-09-b8hbgo029.pdf

القراءة التأويلية

مقدمـــة


مخطط المقدمة.
توطئة عامة
1-تطور الألسنيات وازدهار مفهوم التداولية.
2-النقد الأدبي ونظرية القراءة.
3-هوامش المقدمة.
توطئة عامة
لقد شرع محترفو تحليل النصوص الأدبية من نقاد وجامعيين وصحفيين اختصاصيين في دراسة القراءة في أواسط السبعينات من هذا القرن. وكانوا حتى ذلك التاريخ يحاولون أن يفهموا النص وأن يشرحوه لجمهورهم على ضوء عصره، وهو ما كان يطلق عليه بعض نقادنا اسم "أضواء على عصر الكاتب أو على بيئته" وكانوا يقسّمون فصلهم هذا إلى أبواب ثانوية من قبيل "الحياة الاجتماعية" أو "الحياة السياسية" أو "الحركة الفكرية" أو "الحياة العقلية" أو "الحياة الأدبية" وإلى غير ذلك مما نجده في كتب النقد المدرسية.1
وكان بعضهم الآخر يقارب النص الأدبي عن طريق حياة كاتبه وما مر به من صروف الأيام أو من خلال لا وعيه ورغباته الدفينة أو من خلال قضاياه الجنسية وسلوكه في حلها. ولقد مثّل الناقد السوري جورج طرابيشي (حلب 1936) في كتبه المختلفة هذا النمط من النقد الأدبي الذي يستوحي كارل ماركس (1818-1883) وسيجموند فرويد (1856-1938) معاً.2
وهناك مدرسة أخرى في النقد الأدبي تحاول استيعاب النص من خلال أسلوب الكاتب وطريقته في التعبير واستخدام أدوات البلاغة والمحسنات البديعية ومن خلال مقارنته مع غيره من الكتّاب وأساليبهم وطرقهم في استخدام أدوات التعبير نفسها.
وها هم يبدؤون في دراسته من خلال الشخص الذي ينفخ في النص الحياة والذي لولاه ما وُجِد نص ولا أُلّف كتاب. ونعني القارئ. لقد بدأ المهتمون بالأدب في منتصف العقد السابع يدركون أن السؤالين الجوهريين اللذين طالما شغلا الناس وهما ما الأدب؟ وما أفضل السبل لدراسة النصوص الأدبية؟ إنهما يعنيان في حقيقة الأمر أن نتساءل لماذا نقرأ كتاباً؟
ما هي أفضل السبل للإحاطة بخلود مقامات الهمذاني أو بعظمة رسالة الغفران أو بإخلاص القارئ العربي لبخلاء الجاحظ ؟. أيكون ذلك في دراسة الحياة الفكرية في القرن الثامن العباسي وتياراتها في البصرة بالنسبة لأبي عثمان أو في القرن العاشر وفي خراسان أو سوريا بالنسبة لأبي الفضل وأبي العلاء؟. أم يكون ذلك في تقصي حياة عمرو بن بحر (775-868) والتنقيب في أسرار حياة أحمد بن الحسين (968-1007) وكشف النقاب عما خفي من معيشة أحمد بن عبد الله التنوخي (979-1058)؟. أم أن ذلك يكون بأن نوجه أبحاثنا في طريق أخرى وهي أن نسأل القارئ العربي عما يجده أو يعتقد أنه واجده في هاتيك المؤلفات؟. فهذه الكتب جميعها وكل الكتب الأخرى لم تظهر للوجود إلا بفضل القارئ ولا تستمر بالبقاء إلا بفضل العناية الخاصة التي يوليها لها!
لقد ظهر الاهتمام بالقراءة حين راح ضعف المناهج النقدية التي كانت تستوحي النظريات البنيوية يبدو جلياً للعيان. ثم راح هذا الاهتمام يتزايد بمقدار ما كان يكبر وعي بعض النقاد بأنه من العبث بل من الحماقة أن يلخص النص الأدبي بسلسلة من الأشكال المجردة كما كانت تقترح الدراسات البنيوية.
لقد كان النقد الأدبي قد سلك درباً مسدوداً.
فالدراسة التي تنحصر في بحث البنية الهيكلية كان لا بد لها أن تنتج نماذج نقدية مفرطة في العمومية أو غاية في الغموض!. ولقد تم البرهان على أن الأنساق التي كان المنظرون الجماليون قد أعلنوا أنها لحمة الأدب وسداه وأنها تخص الأشكال الأدبية دون سواها موجودة كذلك في أشكال غير أدبية. ولقد طبق الفرنسي رولان بارت، وبدون صعوبة تُذكر، المنهج البنيوي على أفلام جيمس بوند!. واكتشف مواطنه جريماس، وبدون كبير عناء، الأشكال الأدبية الكبرى في الوصفات التي تقترحها كتب المطبخ!.
والنقد الجمالي البنيوي، بصفته علم لما هو عام وشامل، يقصر عن إدراك خصوصية هذا النص الأدبي أو ذاك. فهو إذ يحاول أن يصف القواعد التي تنطبق على مجموع الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى الصنف الأدبي المدروس كرواية السيرة الذاتية أو الرواية التاريخية أو غيرها فإنه لا يرى بصمة الأديب المميزة ولا مهارة صنعته والتي تسبغ على النص هويته الخاصة. فتعدّد وجهات النظر الروائية هو أكثر ما يشدنا في الرواية الديستويفيسكية مثلاً ولكن لا بد لنا من الإقرار أن هذه الوسيلة لا تبلغ نفس الغاية حين يستخدمها كتّاب ضعفاء. ولقد قلد أبو الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي (1143م) كل محسّنات الحريري (1054/1122م) وسلك طريقته في التأليف والنظم ولكننا ما زلنا نقرأ مقامات الحريري ونعجب لأحابيل أبي زيد السروجي ولتمكّنه من اللغة وآدابها ونكاد نجهل كل شيء عن السرقسطي!.
إن قيمة العمل الفني لا تقاس بوجود هذه التقنية الفنية أو تلك فيه ولا بغيابهما عنه. إنها تعود إلى أسباب لم يستطع علم الجمال البنيوي الإحاطة بها. ولقد حث قصور المنهج البنوي الدارسين على تجديد طرقهم في النقد الأدبي. ثم صار هذا التجديد ممكناً حين خرجت الدراسات الألسنية الحديثة من الميدان الذي كان مؤسسوها قد رسموه لها فأشرفت على آفاق جديدة.
1-تطور الألسنيات وازدهار مفهوم التداولية
إن ظهور مفهوم التداولية واغتناءه المستمر في صلب الدراسات الألسنية هو الذي دفع بأهل الأدب إلى إيلاء مسألة التلقي اهتمامهم. لقد ظل علم الألسنيات خلال فترة من الزمن يتفرع إلى قسمين تقليديين أساسيين هما "النحو التركيبي" وهو يدرس علاقة العلامات اللغوية بعضها ببعض و"الدلالية" وهو يبحث في علاقات العلامات اللغوية بالمعاني التي تدل عليها. وكان هذان الفرعان يطمحان إلى وصف عمل اللغة البشرية. ثم أضاف اللغويون قسماً ثالثاً أطلق عليه اسم "التداولية" وهو يعنى بعلاقات العلامة اللغوية بمستخدميها.
ويعود الفضل في إنشاء هذه العلاقة الثلاثية إلى الفيلسوف الأمريكي موريس C. Morris وإلى كتاب نشره سنة 1938 بعنوان أسس نظرية العلامات اللغوية (Foundations of the Theory of Signs) وفي هذا الكتاب أشار الفيلسوف إلى أهمية دراسة "ما يصنعه" المتكلم عن طريق اللغة.
ثم ازدهر هذا الفرع الجديد من الألسنيات ازدهاراً اعتباراً من سنوات العقد السادس من قرننا هذا. ولنكتف بالإشارة إلى كتابين أساسيين في هذا المجال أحدهما للانكليزي أوستين J.I.Austin بعنوان كيف نصنع أشياء بالكلمات (1962) (How to do things with words) والآخر للفرنسي دوكرو O. Ducrot وهو بعنوان القول والفعل (1984).
ما الجديد الذي تضيفه التداولية؟
لقد أبان الفيلسوف الانكليزي بأن وظيفة اللغة لا تنحصر بأن تنقل خبراً أو بأن تصف واقعة ولا بأن توصل إلى المرسَل إليه معلومة يبعث بها عن طريق العلامات الصوتية المتكلمُ الأول أي المُرسِل كما وقع الاتفاق على تسمية الطرفين. فهناك في اللغة أفعال تنجز أو تحقق ما تحمله من المعاني بمجرد التلفظ بها.
ولنهب جملاً من طراز: "نهض زيد من نومه" أو "أنا مشتاق لأهلي" أو "عبّرت الحكومة عن استيائها". إن هذه الجمل جميعها تخبر عن شيء أو تكشف عن حالة نفسية أو عن موقف سياسي. ولنأخذ الآن جملة: "أنتِ طالق بالثلاثة". فإن هذه الكلمات إن قيلت على نحو معين وخلال ظروف معينة تخلق وضعاً جديداً تماماً. فالزوج تطلّق حقاً والخلية العائلية تتفتت مع كل النتائج الاجتماعية التي يسهل تصورها.
واقتفى الفرنسي دوكرو إثر الانكليزي أوستين فأظهر كيف أن الكلام يتوجه دائماً نحو مُرسَل إليه وأنه يسعى دائماً على نحو مكشوف أو مستتر أن يؤثر فيه على نحو بيّن أو لا.
إن المحادثة هي دائماً محاولة لجر الآخر إلى اتخاذ موقف ما.
إن ما تظهره التداولية للعيان هو أهمية التأثير والتأثر في قلب الخطاب العادي. فإذا صح أن وظيفة الكلام هي بأن يؤثر في الآخرين أكثر مما يسعى إلى إخبارهم فهذا يعني أنه من الصعوبة بمكان أن نفهم كل الفهم خطاباً ما إذا اكتفينا بإرجاعه إلى صاحبه. وهذا يعني كذلك أن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الثنائي الذي يشكله الشخص المتكلم والشخص الذي يوجه إليه كلامه.
ونرى هنا بوضوح نتائج مفهوم التداولية الألسني على دراسة النصوص الأدبية. فإن كان الكلام في اللغة اليومية يهدف دائماً إلى التأثير على الآخر وإلى تحقيق غاية ما، فإن الأمر هو ولا ريب أكثر وضوحاً وأشد قوة في الأعمال الأدبية حيث يسعى الكاتب على ان لا يترك شيئاً للصدفة، وحيث تنتقي إرادة المؤلف الواعية الصارمة المفردات وتنظمها بعد تفكير وإمعان نظر.
وعليه فإن الكتاب لا يمكن أن يقتصر على الكشف عن بنيته الهيكلية العميقة أو على البحث عن الوشائج القائمة بينه وبين مؤلفه. ولكنه يفرض علينا أن نحلل علاقات التأثير والتأثر بين الكاتب والقارئ.
2-النقد الأدبي ونظرية القراءة
ولكن ماذا تعني دراسة القراءة؟
إذا كان موضوع النقد الأدبي هو العمل الأدبي فما هو موضوع نظريات تلقي العمل الأدبي؟. أهو كفاءات القارئ؟. أهو النص الذي تظهر من خلاله هذه الكفاءات؟. أهو علاقة التأثير والتأثر بين النص وقارئه؟.
ولكن هذه الأسئلة تتضمن أننا نستطيع أن نقصر عملية القراءة على تبادل بين طرفين وحيدين وحسب!. أيمكننا قبول هذا؟ أليست علاقة المرء بالقراءة علاقة ترتبط بالعادات الثقافية وبالنماذج الثقافية التي تقترحها البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد القارئ كما أنها ترتبط كذلك بثوابته النفسية؟.
ومن جهة أخرى أليس أخذنا بكل هذه العوامل يعني الرجوع إلى ميدان النقد الأدبي التقليدي؟. إن هناك طرقتين، في حقيقة الأمر، لمعالجة هذه المشكلة. إن تحليل نصٍّ ما يعني إما أن نتساءل عن كيفية قراءة النص أو أن نتساءل عما نقرؤه أو عما يمكن أن نقرأه في النص. فإذا كانت دراسة "كيفية القراءة" تضفي على نظريات "التلقي" بعضاً من صفاتها المميزة فإن البحث في "محتوى القراءة" يؤدي في أغلب الأحيان إلى التساؤل عن معنى النص أو عن معانيه. ويقود الباحث في هذا الطريق كذلك غموض المصطلحات التي يستخدمها. فينشأ عن ذلك خلط بين دراسة القراءة ودراسة العمل الأدبي.
ولقد تردد الدارسون دائماً أمام هذين المنهجين وكيفية اللجوء إليهما وتطبيقهما. وظهرت نتيجة لهذه المواقف المتباينة تيارات نقدية يمكن أن نميز بين أهمها مدرسة كونستانس الألمانية ومدرسة التحليل الدلالي (السيميوطيكي) ومدرسة تحليل الرموز ونظريات القارئ الحقيقي.
ومدرسة كونستانس هي أولى المحاولات الكبرى لتجديد دراسات النصوص على ضوء القراءة. وكان اهتمام الباحثين قبل ذلك منصباً على كشف الروابط القائمة بين النص ومبدعه، فراح أتباع المدرسة الألمانية ينادون بانتقال البحث من العلاقة بين الكاتب ونصه إلى العلاقة بين القارئ والنص.
غير أن مدرسة تحليل كونستانس تتفرع في واقع الأمر إلى منهجين يتميز أحدهما عن الآخر. فبينما يعنى الأول "بعلم جمال التلقي" وأبرز ممثليه هو هانز روبر جوس Hans Robet Jaus يهتم الثاني بفرضية "القارئ الضمني أو القارئ المستتر" ويقوده إيزير W. Iser.
لقد ظهر "علم جمال التلقي" في مطلع العقد السابع تحدوه الرغبة بإعادة النظر في طرق دراسة تاريخ الأدب. ويلاحظ جوس أن العمل الفني عامة والعمل الأدبي على وجه الخصوص لا يفرض نفسه ولا يستمر في الحياة إلا من خلال جمهور ما. وعليه فإن التاريخ الأدبي هو تاريخ جماهير القراء المتعاقبة أكثر من تاريخ العمل الأدبي بحد ذاته. وبما أن الأدب هو نشاط تواصلي فإنه ينبغي علينا أن نحلل الأدب من خلال الآثار التي يتركها على مجموعة المعايير الاجتماعية.
وأما نظرية إيزير بخصوص القارئ الضمني فقد نشرها عام 1976. فبينما كان جوس يستقصي أبعاد التلقي التاريخية كان اهتمام إيزير منصباً على تحليل أثر النص الأدبي على الفرد القارئ. وينطلق إيزير من أن القارئ هو الغاية الكامنة في نية المؤلف حين يشرع في الكتابة. وعليه فإن واجب النقد الأدبي هو أن يبين كيف ينظم الكتاب المدروس طريقة قراءته ويوجهها بغاية الحصول على الأثر المُبتَغى ثم عليه أن يظهر ردة فعل الفرد القارئ في ملكاته الإدراكية أمام السبل المختلفة التي يقترحها النص المقروء.
إن نموذج التحليل الدلالي الذي اقترحه الإيطالي أمبيرتو إيكو Umberto Eco عام 1979 في كتابه القارئ في النص (Lector in fabula) لا يختلف اختلافاً كبيراً عن النموذج الذي دافع عنه إيزير . وهو يقترح تحليلاً لما يسميه "بالقراءة المتعاونة أو المستجيبة". وغاية التحليل كما يراها العالم الإيطالي هي دراسة كيف يبرمج النص شكل تلقيه ودراسة ما يقوم به القارئ وبالأحرى ما ينبغي أن يقوم به القارئ الفطن كي يستجيب على نحو حسن للنداء الكامن في البنية النصية.
ويعود الفضل في ظهور نظريات التحليل "الرمزية" لفيليب هامون Hamon ولأوتين Otten. وقد عرضاها في العقد الثامن وهي تقوم على الرغبة بدراسة عملية القراءة من خلال تفاصيل النص. وليست الغاية هنا هي اقتراح نماذج تأويلية عامة تصلح لكل النصوص وإنما الغاية هنا هي اقتراح تحاليل محددة وغاية في الدقة تلقي الضوء على ما يميز هذا الجانب أو ذاك من عملية القراءة. ومع ذلك فقد حاول أوتين أن يقترح منهجاً تركيبياً نستطيع بفضله أن نفهم نشاط القراءة من خلال ثلاثة ميادين رسم حدودها بدقة. وهي ميدان النص المعروض للقراءة ثم ميدان هذا النص كما يقرؤه القارئ وأخيراً طبيعة علاقة ذلك النص مع قارئه.
ولكننا نجد عند هذه النقطة من منهج أوتين تفاصيل كثيرة يقتبسها من دراسات سابقيه وخصوصاً إيزير وإيكو.
ثم ظهرت طريقة جديدة لدراسة عملية القراءة تأخذ بعين الاعتبار القارئ الحقيقي. وقد عرض الفرنسي ميشيل بيكار منهجه ذاك في كتابين نشر أولاهما عام 1986 بعنوان القراءة كلعبة وظهر ثانيهما بعد ثلاث سنوات بعنوان قراءة الوقت (Lire le temps). ويأخذ بيكار على المهتمين بدراسة القراءة أنهم يحللون في واقع الأمر قراءات نظرية ومجردة يقوم بها قراء نظريون ومجردون. وهو يرى أن الوقت قد أزف لنطرح جانباً تلك القراءات الموهومة والتي لم توجد قط ولندرس القراءة الوحيدة الصائبة وهي القراءة الملموسة المحددة التي يقوم بها القارئ الملموس المحدد.
وعلى نقيض القارئ المجرد الذي يقترحه نموذجا إيزير وإيكو فإن القارئ الحقيقي الملموس يدرك النص بذكائه وبرغباته وبثقافته وبقيوده الاجتماعية والتاريخية وكذلك بشخصيته اللاواعية.
ولقد اقترح الفرنسي فينسان جوف في كتابه الشخصية الروائية بصفتها أثراً في الرواية (1992) (L’Effet-personnage dans le roman) منهجاً في التحليل قريباً من منهج بيكار ولكنه أكثر اعتماداً على التحليل النفسي منه.
إن هذه النظريات المختلفة والتي لن نكف خلال دراستنا هذه من العودة إليها ومن اقتباس مفاهيمها وعلى الأخص كتاب الناقد فينسان جوف القراءة (La lecture) تقدّم نفسها على أنها شاملة مانعة وتزعم أنها تصلح لتحليل كل نصوص الحقل الأدبي!. وبما أن كثيراً من آثار القراءة يرتبط بطبيعة العمل الأدبي الخطية فإن من عادة الباحثين أن يستقوا أكثر أمثلتهم من النصوص الروائية من غير أن يهملوا بقية الأنواع الأدبية. وسوف نحذو حذوهم في دراستنا هذه.
لقد اعتمدنا في توثيق معظم الروايات العربية المعاصِرة وكتّابها المذكورين في دراستنا هذه على معجم الروائيين العرب3 للدكتور سمر روحي الفيصل وعلى معجم أعضاء اتحاد الكتّاب العرب في القطر العربي السوري والوطن العربي (4) والذي أعده أديب عزت وسليمان عامود وراجعه عبد الله أبو هيف. فلذلك ولهؤلاء عرفاننا بالجميل. وإذا تعذّر ذلك فقد رجعنا إلى مصادر عديدة من معاجم المؤلفين والكتّاب المتوفرة.
ولقد سعينا إلى أن يكون اسم الكاتب حين يذكر للمرة الأولى بالأحرف الغليظة مشفوعاً بتاريخ وفاته. فإذا تعذر ذلك فحرف (ت) متبوعاً بتاريخ الوفاة. وإلا فتاريخ الولادة.
وعملنا على أن تكون أسماء الأعلام بالأحرف الغليظة. وليس كذلك أسماء الشخصيات الأدبية. فالهمذاني بالأحرف الغليظة واما عيسى بن هشام فبالأحرف العادية.
وجعلنا اسم الكاتب الأجنبي بالأحرف اللاتينية حين يذكر للمرة الأولى وألحقناه برديفه بالأحرف العربية. وسلكنا في ذلك التهجية الشائعة. وألحقناه كما في الأعلام العربية بتاريخ الولادة ثم الوفاة.
وذكرنا عنوان الرواية الأجنبية حين يُذكر للمرة الأولى كما هو في اللغة الأجنبية وذكرنا تاريخ نشره. ثم ترجمناه إلى العربية. فإن كان قد سبق ونقل إلى العربية فقد اتخذنا العنوان الذي اختاره من سبقنا.
لقد حاولنا أن تكون الأمثلة من الأدب العربي. فإن تعذر علينا ذلك فمن الآداب الأجنبية. وعندها بذلنا جهدنا لكي تكون من تلك التي ترجمت إلى اللغة العربية. وذلك كي يستطيع القارئ العربي الذي لا يتقن لغة غير لغة الضاد أن يرافقنا في هذه الطريق ولقد وفقنا إلى ذلك غير مثالين أو ثلاثة، فعذراً من القارئ الكريم.


¡¡


¡ الهوامش
1- انظر كتاب المُفيد في الأدب العربي الذي كان يعالج مادة الأدب العربي المقررة للسنة الثانية للبكالوريا اللبنانية. تأليف: أحمد أبو حاقة، أحمد أبو سعد وإيليا حاوي وجوزيف الهاشم. بيروت. دار العلم للملايين 1987 الطبعة 14. من الصفحة 12 حتى الصفحة 44.
الأدب والنصوص للصف الثاني الثانوي الأدبي في سوريا لمؤلفيه فالح فلوح وندوة النوري وياسر علايا وخير الدين صيادي ومحمد النميري. دمشق. المؤسسة العامة للمطبوعات والكتب المدرسية 1990-1991. من الصفحة 5 إلى الصفحة 25.
النصوص الأدبية للسنة الأولى الثانوية الصادر عن وزارة التربية الوطنية في المملكة المغربية سنة 1992. ففي الفصل المخصص لأدب القصة نجد تقديماً له (ص61-62) ثم نصاً لمحمود تيمور (ص63-65) ثم ثلاثة سطور عن مصدر النص (انتصار الحياة 1963) ثم تعريفاً بالكاتب ثم بظروف النص ثم تحليلاً للنص وأخيراً تعليقاً عليه ( ص66-67).
2- انظر كتبه لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم. أو دراسته شرقٌ وغرب، أنوثة ورجولة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية وكذلك رمزية المرأة في الرواية العربية. وقد ظهرت منها طبعات عديدة عن دار الآداب في بيروت.
3- سمر روحي الفيصل معجم الروائيين العرب طرابلس. لبنان. دار جروس برس. 1995.
4- أعضاء اتحاد الكتاب العرب في القطر العربي السوري والوطن العربي إعداد: أديب عزت وإسماعيل عامود ومراجعة عبد الله أبو هيف دمشق. منشورات اتحاد الكتّاب العرب. 1984. الطبعة الثانية.



¡¡¡




الفصـــل الأول :في القراءة عامة وفي القراءة الأدبية وأشكالها خاصة


مخطط الفصل الأول:
1-القراءة نشاط متعدد الوجوه
1-1-القراءة نشاط عصبي وفيزيائي.
1-2-القراءة نشاط معرفي.
1-3-القراءة نشاط عاطفي.
1-4-القراءة نشاط حجاجي.
1-5-القراءة نشاط رمزي.
2-القراءة تواصل مؤجل.
2-1-شروط فعالية القراءة.
2-2-مقام النص المقروء.
2-3-هل كل قراءة مشروعة؟
3-القراءة الساذجة والقراءة النقدية.
3-1-جمهور القراء الأوائل.
3-2-القراءة الخطية.
3-3-القراءة الثانية.




1-القراءة نشاط متعدد الوجوه


إن نشاط القراءة نشاط معقد ومتعدد ينمو في اتجاهات كثيرة. ولقد ظهرت محاولات نظرية عديدة للإلمام بها من خلال أبعادها الكثيرة. وسنعرض هنا لواحدة منها ترى في القراءة نشاطاً ذا أبعاد خمسة أساسية.
1-1-القراءة نشاط عصبي وفيزيائي
القراءة هي قبل كل شيء فعل مادي ومحسوس تمكن ملاحظته ويعبئ ملكات محددة في الكائن البشري. فالقراءة تتعذر مثلاً إن أصاب الجهاز البصري أو بعض أقسام الدماغ عطب كبير فالقراءة إذن وقبل أن تكون تحليلاً لمضمون هي إدراك حسي لرموز الخط وتعرف عليها وتذكّر لها. ولقد حاولت دراسات أن تصف مراحل عملية القراءة هذه وصفاً دقيقاً ومنها كتاب فرانسوا ريشودو : المقروئية (1969). Francois Richaudeau La lisibilité. ولقد برهنت جميعها على أن جهاز العين لا يلتقط رموز الخط الواحد تلو الآخر ولكنه يأخذها "مجمّعة" في رزم صغيرة. وعليه فمن الشائع أن تقفز العين فوق بعض الكلمات أو أن تخلط بين حرف وآخر.
ولقد أثبتت تلك الدراسات كذلك أن حركة النظرة ليست أفقية ولا متناسقة. ولكنها تقفز قفزات مفاجئة ومتقطعة تفصل بينها وقفات قد تطول أو تقصر. ويتراوح طول هذه الوقفات بين ربع الثانية وثلثها. وهذه الوقفات هي ما يسمح لنا بإدراك الحروف. فخلال هذه الوقفات "تسجّل" العين سبعة أو ثمانية رموز وتستبق في نفس الوقت بقية الرموز "فتلقي نظرة" عليها بفضل محيط العين الجانبي.
ويسهل على القارئ إدراك رموز الخط بقدر ما يكون النص المقروء مؤلفاً من كلمات قصيرة مألوفة قديمة وسهلة ذات معانٍ متعددة. ومن جهة أخرى فإن قدرة الذاكرة المباشرة تتراوح بين ثمان كلمات وست عشرة كلمة. وهذا يعني أن أفضل الجمل تلاؤماً مع هذا الاستعداد الذهني الطبيعي هي الجمل القصيرة ذات البنية المتماسكة. ولقد لفت ريشودو النظر إلى أن إهمال الكاتب لشروط "المقروئية" العامة هذه قد يتسبب في أن ينزلق القارئ في سبل معانٍ كثيرة. وعندها لا يكون النص "المقروء" عين النص "المكتوب".
وانزلاق معنى النص ليس أمراً نادراً في ميدان الأدب. ولنذكر غموض الصوغ عند أبي تمام (779-845) أو وحشية مفرداته وما آلت من صعوبات شتى في التأويل. ولنذكر من بين معاصرينا أسلوب حيدر حيدر (سورية 1936) في روايته المضنية الزمن الموحش (1973) أو رواية ادوار خراط (مصر 1926) المعقدة رامة والتنين (1980).
إن هذا وحده يكفي للدلالة على أن فعل القراءة ذاته هو نشاط ذاتي إلى درجة بعيدة. وهكذا فإن القراءة تظهر، حين ننظر إليها من جانبها الفيزيائي العضوي، على أنها نشاط استباقٍ وتنظيم وتأويل.
1-2- القراءة نشاط معرفي
بعد أن ينظر القارئ إلى رموز الخط وبعد أن "يفكّها" يحاول عندها أن يفهم ما الأمر وعما يدور الحديث. إن تحويل الكلمات أو "رزم الكلمات" إلى عناصر ذات معنى يفترض أن يبذل القارئ جهداً كبيراً للتجريد.
وقد يظل فهم القارئ ضمن حده الأدنى، وهو يكتفي عندها بأن يرافق الأحداث الجارية أمام ناظريه. فينصب اهتمامه على توالي الأحداث وليس له من هم إلا أن يبلغ نهاية الكتاب وخاتمة وقائعه. وهو ما يحدث على الأغلب عندما نقرأ روايات بوليسية أو ذات لغز بوليسي كأعمال الكاتبة الانكليزية أجاتا كريستي (1891-...) أو عندما نقرأ روايات تعتمد المغامرة كعنصر جذاب كروايات جرجي زيدان (لبنان 1861- القاهرة 1914) التاريخية الانقلاب العثماني (1911) أو أسير المتمهدي (1892) مثلاً. وهو ما يحدث كذلك في النصوص الأدبية التي تبني حبكتها حول التشويق الغرامي كما في بعض روايات إحسان عبد القدوس (القاهرة 1919-1990) الناجحة (في بيتنا رجل، 1957).
ويقع نقيض ذلك حين يكون النص أصعب أو أعقد. فعندها يستطيع القارئ أن يهمل تعاقب الأحداث في سبيل تأويلها. فيتوقف عند هذا المقطع أو ذاك يُعمل فيه نظره ويسعى لإدراك كل معانيه المضمرة وكل تفسيراته الممكنة.
والحقيقة أن نشاط القراءة في النصوص الأولى يمضي قدماً في سبل الحبكة الروائية ومنعطفاتها. وهو لا ينظر إلا إلى رقعة النص وانتشارها. ولا يعبر اهتمامه قط لتراكيب اللغة وبنى جملها. فحين يقرأ أحدنا يوسف السباعي (القاهرة 1917- قبرص 1978) فإنه يقرأ بسرعة فائقة وإذا أهمل شيئاً من خطاب الكاتب فإنه بدون ريب لا يفقد شيئاً يعيق قراءته. وأما قراءة النصوص الأخرى فإنها لا تُفلت شيئاً وهي تتفحص كل شيء وتلتصق بنصها التصاقاً. فهي إذا صح القول قراءة مجتهدة ومتحمسة. وهي تطارد في كل نقطة من نقاط النص مهارة الفن وإتقان الصنعة. وهي تبحث باستمرار عما يربط أطراف الجملة ببعضها وعما يربط الجمل ببعضها وليس ما يربط وقائع الحبكة وأحداثها.
وبطبيعة الحال فإن هناك سبيلاً وسطاً بين السعي حثيثاً إلى نهاية الكتاب لمعرفة خاتمة الأحداث وبين القراءة المتأنية التي تهدف إلى فهم تفاصيله الدقيقة. ويمكن أن نجمع بين القراءتين بأن نأخذ من كل منهما بنصيب قد يكبر أو يصغر. ومهما يكن الأمر، وفي جميع الأحوال فإن عملية القراءة تتطلب كفاءة. ويفترض النص أن القارئ يمتلك حداً أدنى منها إذ يرغب بمتابعة القراءة.
1-3- القراءة نشاط عاطفي
تكمن جاذبية القراءة إلى درجة كبيرة في الأحاسيس التي تثيرها فينا. وإذا كان تلقي النص يعبئ عند قارئه ملكاته الفكرية فإنه يهيج كذلك، وربما على نحو أشد، نزعاته العاطفية. فالأحاسيس هي التي تقوم خلف مبدأ تقمص القارئ للشخصيات الروائية. وهذا المبدأ هو المحرك الأساسي لقراءة الأعمال المتخيلة. ولأن الشخصيات الروائية تثير استحساننا أو استنكارنا ولأنها توقظ فينا الغيرة أو الشفقة والمودة أو البغضاء فإننا نهتم بمصائرها ويشغل بالنا ما يقع لها من خير أو شر. ولقد أشار الناقد الروسي توماشفسكي Tomachevski ومنذ مطلع القرن العشرين إلى أهمية العواطف الأولى في "لعبة" النص. وكلما كبُرت موهبة الكاتب كلما كبرت صعوبتنا بأن نقاوم سيطرته على انفعالاتنا وكلما ازدادت كذلك قوة نصِّه على الإقناع. وقوة الإقناع هذه هي منبع افتتاننا بالنص الأدبي وسبب تأثرها به وذلك لأنها إحدى وسائل التعليم والتبشير.
ولقد أشار فرويد Freud كذلك إلى ضعف مقاومتنا العاطفية هذه. وكان يرى أنها سبب انخراطنا في عالم النص الروائي وهي بالتالي سبب العظة التي نستخلصها من تلك التجربة. وذلك لأننا جميعاً وعلى وجه العموم نظل سلبيين أمام شؤون الحياة اليومية وممتثلين لنتائجها. ولكننا نستكين لنداء الشاعر وهو يستطيع بفضل الحالة النفسية التي يثيرها فينا وعن طريق الآمال التي يلوِّح بها أمامنا أن يعبث بعواطفنا فيوجهها حيث يشاء.
ويسهل علينا أن ندرك أثر الانفعالات في نشاط القراءة. فأن نتعلق بشخصية روائية يعني أن نوجه أنظارنا إلى ما يقع لها. أي إلى الحكاية التي تُخرج الشخصية الروائية من فراغ العدم إلى عالم الوجود ثم تدفع بها إلى ساحة الحدث الروائي. ولأن وشائج عاطفية تربطنا بمصطفى سعيد فإننا نتابع قراءة رواية الطيب صالح (السودان 1929) موسم الهجرة إلى الشمال) (1965) ونهتم بالأسباب النفسية والاجتماعية التي قادته إلى الضياع. ولأن شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ (القاهرة 1911) جذابة ومنفرة، كريهة ومحبوبة تثير ابتسامتنا أو تهيج غضبنا فإننا نسافر راضين في كون الثلاثية (1956-1957) فنرضى في نفس الوقت بتصور العالم والفن الذي يتمثل من خلالها.
وإنه لمن الجلي أن عنصر التقمص هو واحد من أهم طرق القراءة وأكثرها شيوعاً بين القراء. وأن ارتباط القارئ العاطفي بالنص المقروء هو مكوِّن أساسي من مكوّنات القراءة وأنه سيبقى كذلك حتى زمن بعيد ولا شك. وعليه فإن استبعاد التماهي بين القارئ والشخصية الروائية وبالتالي استبعاد العنصر الانفعالي من التجربة الجمالية كما نادى بذلك بعض الكتّاب والمنظّرين المعاصرين هي محاولة قد حُكِم عليها مسبقاً بالإخفاق.
1-4-القراءة نشاطٌ حجاجي
وبما أن النص هو نتيجة إرادة الكاتب الخلاّقة الواعية ومجموعة عناصر منظّمة فإنه من الممكن دائماً أن نحلله على أنه خطاب. أي على أنه موقف يتخذه الكاتب من الكون ومن الكائنات ولا يعدّل من ذلك شيئاً أن يلجأ الكاتب في روايته إلى ضمير الغائب.
وإذا استخدمنا مصطلحات النظرية التداولية في النقد قلنا بأن النية في تعديل سلوك من يتوجه إليه الخطاب والتأثير عليه هي صفة لازمة في النصوص الروائية. فالسرد، أي ما يقوم به الحاكي حين يروي حكايته، يسعى إلى أن يقود المؤوِّل الغائب (أي القارئ الذي يقرأ النص المسرود) أو القارئ الحاضر (المستمع الذي يصغي للنص المروي) إلى تبني خاتمة ما أو إلى الإعراض عنها. ونية الإقناع هذه موجودة في كل حكاية سيان ظهرت واضحة جلية أم توارت عن عين القارئ المتسرّع.
وتظهر الوظيفة الحجاجية بوضوح في الروايات التي تنافح عن فكرة ما أو تدافع عن قضية محددة. كأغلب روايات حنا مينه التي تهدف إلى إقناع القارئ بصحة موقف الطبقات الكادحة السورية أو كبعض الروايات التي تريد تصوير فساد المدينة الجديدة كما في رواية عبد النبي حجازي (جيرود، سورية 1938) قارب الزمن الثقيل (1970) أو في رواية أحمد يوسف داوود (طرطوس سورية 1945) دمشق الجميلة (1977).
ولكننا نجد هذه الوظيفة كذلك في نصوص تنتمي إلى أنواع أدبية أخرى. فالجاحظ يحاول مثلاً في كتابه البخلاء أن يعدل من طريقة القارئ في النظر إلى مسألة الشح من خلال عرضه لوجهات نظر متباينة حول هذا الموضوع. فهو يترك سهل بن هارون وأبا يوسف الكندي يشرحان لنا كيف يكون البخل صلاحاً والشح اقتصاداً. ويكاد القارئ يوافقهما الرأي ويقرّهما على ما هما فيه. ثم يدعو أبو عثمان آخرين فيذمّون البخل ويظهرون مساوئه ويردون على حجج سهل بن هارون وصاحبه بحجج أخرى لا تقل عنها بلاغة ولا إقناعاً. ويصبح من الصعب بعدها على القارئ أن يطرح وجهة نظر هؤلاء كاملة ليتبنى رأي أولئك بمجموعه. فكل منظور يلغي الآخر. وكل طريقة لها ما يدعمها. وهكذا يقود أبو عثمان عمرو بن بحر قارئه قوداً هيّناً إلى غايته الأولى وإلى نيّته الأساسية. وهي نسبية الإحالة المرجعية وتعذّر تبني أحكام مطلقة.
ومهما يكن نوع النص الأدبي فإنه يدعو دائماً قارئه دعاء سافراً أو مستتراً بإلحاح قد يقوى أو يضعُف، إلى تبنّي موقف ما. ومع ذلك فللقارئ الحق بأن يأخذ بالحجج المطروحة أو أن يرميها، ويستطيع كذلك أن يرضى بالنقاش القائم أو يشيح عنه.
1-5- القراءة نشاط رمزي
إن المعنى الذي يستخلصه القارئ من قراءته (بردة أفعاله أمام القصة المسرودة، وبتأثره بالحجج المعروضة وبتعدد زوايا السرد والرواة) يمضي مباشرة ليتخذ مكاناً له في البيئة الثقافية التي يعيش فيها ذلك القارئ.
وكل قراءة تؤثر وتتأثر معاً بالثقافة وبالبنية السائدة في عصر ما وفي بيئة ما. وسيان أنكرت القراءة النماذج الفكرية المهيمنة في الخيال الجماعي أو عزّزت من مواقعها فإنها تؤثر بها فتؤكد بذلك بعدها الرمزي. ويكتسب المعنى الذي ترتديه قراءة ما في وسط ما أهميته بالنسبة لبقية أشياء العالم التي يألفها القارئ في ذلك الوسط. ويثبت هذا المعنى في خيال ذلك القارئ. وبما أن هذا القارئ ينتمي بالضرورة إلى مجموعة بشرية وإلى خيال جماعي تتميز به هذه الجماعة عن غيرها من الأقوام فإن المعنى الذي ثبت في خياله يرفد كذلك الخيال الجماعي.
وهكذا فإن القراءة الفردية تظهر هنا كجزء لا يتجزأ من ثقافة جماعية. ونحن نعرف الآن كيف أثّرت كتابات الثلث الأول من القرن العشرين تأثيراً كبيراً في تطوّر المجتمع العربي الثقافي. فإذا ذكرنا أن طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي (حلب، سورية 1848-1902) وتحرير المرأة لقاسم أمين (1865-1908) والشعر الجاهلي لطه حسين (المغاغة، مصر 1889-1973) ومسألة الحكم في الإسلام لعلي عبد الرزاق قد ظهرت جميعها بين عام 1900 وعام 1925 أدركنا كيف يمكن للقراءة أن تغير من الذهنية الاجتماعية خلال بضع سنوات!.
2- القراءة تواصل مؤخّر!
2-1- شروط فعالية القراءة
إن أهم ما تتميز به القراءة إذا ما قارناها بالمحادثة الشفهية هو أنها تواصل مؤجّل إلى حين. فالكاتب بعيد عن قارئه في أغلب الأحيان. ويفصل بينهما الزمان والمكان معاً. ولنتخيل قارئاً من دمشق يقرأ اليوم رسالة ابن المقفّع (ت756) في الأدب الكبير.
والعلاقة بين الكاتب (المرسل) وقارئه (المتلقّي) هي علاقة غير متوازية البتة. ولهذه الميزة بطبيعة الحال نتائج هامة.
إن المحادثة الشفهية تتلافى الغموض أو سوء الفهم عن طريق إحالات دائمة وفورية إلى الوسط المكاني والمحيط الزماني الذي يشترك به المتكلّمون أطراف المحادثة. غير أن النص المكتوب يقع بين يديّ القارئ مقطوعاً عن وسطه المكاني بعيداً عن محيطه الزماني وليس يشترك القارئ والكاتب في شبكة واحدة من المرجعية. فما يُحيل إليه أحدهما يجهله الآخر. وعليه فإن القارئ يتكئ على بنية النص، أي على نسيج علاقاته الداخلية، كي يخلق السياق العام الضروري لفهم النص المقروء.
وبينما يعتمد الحوار الشفهي القائم بين شخصين مثلاً اعتماداً مستمراً على الموقف الذي يجمعهما بصفته إطاراً يتم فيه التواصل بين الطرفين المتحاورين، فإن القارئ يدرك النص وكأنه موضوع مستقل قائم بذاته مغلق على نفسه.
فحين يلتقي رجلان مثلاً ويقول أحدهما للآخر:
-ذهبنا أمس لبرزة ورأينا صاحبنا.
فإن الآخر يدرك فوراً ما المقصود. برزة المدينة أم ضاحية برزة أم سوق برزة أم مدرسة معينة في برزة الخ.. ويعرف كذلك وبدون تردد ما المقصود بفعل (رأينا). هل كانوا جماعة أم أن المتحدث يستخدم ضمير الجمع للدلالة على شخصه الفريد. وهل رأى الآخر رؤية العين حقاً وبالصدفة أم رآه عن عمد ليطلب إليه شيئاً يعرفه الطرفان. أم أن اللقاء هذا كان غير متوقع ("صاحبنا" هذا كان غائباً) وبالتالي فإن المتكلم الأول يعلن للآخر عن دهشته.. الخ..
وليست "الرسالة" الأدبية المكتوبة كذلك. فهي إذ تُقْطَع من سياقها تغدو نظاماً داخلياً مُغلَقاً ليس لعناصره المكوِّنة من معنى إلا من خلال علاقاتها المشتركة بعضها ببعض. وبما أننا لا نستطيع أن نحيل هذا العنصر المُكوِّن أو ذاك إلى السياق العام (الذي نجهله) فإننا نتلمّس وظيفته في قلب البناء العام الذي هو العمل الأدبي الذي نقرؤه. ويتم الأمر وكأن النص الأدبي ينشئ بالنسبة لقارئه نظام مرجعيته الخاص.
وخصوصية التواصل الكتابي هذه ليست مثلبةً أبداً.
إن الخطاب الذي تحمله الحكاية مقطوع فعلاً عن الموقف المرجعي الذي تضمن معرفته الكاملة والدقيقة أن يتحقق الفعل اللغوي على نحوٍ كامل. ولكن هذا النقص البيّن لا يقضي أبداً على خطاب الحكاية بالفشل ولكنه يشكّل نقطة انطلاق لإدراك ما يتميز به هذا الخطاب إدراكاً أفضل. فما قصور وعجزٌ في خطاب وظيفته الأساسية أن يخبر عن شيء ليس كذلك في الخطاب الروائي الذي يهدف كما نعرف إلى غايات أخرى.
2-2- مقام النص المقروء
يستمد العمل الأدبي ثراءه بالتحديد من خاصية التواصل المُؤخّر التي تميز النص المكتوب. وبما أن تلقي العمل الأدبي يحدث خارج إطاره الأصلي فإنه ينفتح على أكثر من تأويل ويقبل أكثر من تفسير. ذلك أن كل قارئ جديد يحمل معه تجربته الخاصة وثقافته الفردية وقيم عصره وهمومه وينظر إلى النص من خلالها.
وهكذا رأى بعضهم في نصوص الجدل دفاعاً عن آراء الشعوبية وأهل التسوية أو تفنيداً لها والذي قام بين الجاحظ وابن قتيبة (828-889) وسهل بن هارون في القرن التاسع إرهاصاً بالقومية العربية وبالفكر القومي كما ظهرا في النصف الأول من القرن العشرين. وهكذا وجد بعض معاصري أبي العلاء المعري في رسالة الغفران إعلاناً عن الزندقة وخبث طوية أعمى المعرة. بينما يجد بعض معاصرينا في النصوص ذاتها صوغاً لشك منهجي سبق الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650) وتعبيراً عن نفسٍ معذّبة وقلقة.
إن المعنى في العمل المكتوب أكبر من الواقعة التي يقصها ويتجاوزها. بمعنى أنه يتحرر من صفة العرضية التي تميز الحديث الشفهي. فالكلمة تخرج من الشفتين ثم تختفي إلى الأبد. ولكن الكتاب ينقذ المعنى عن طريق أربعة أشياء.
فهو يصونه من الضياع عن طريق تثبيته كتابة.
وهو يعزله عن مؤلفه فيطلقه من نية الكاتب.
وهو ينتزعه من حدود موقف المحادثة الشفهية الضيقة فيفتحه على العالم الواسع.
وهو يرتقي به إلى الشمولية إذ يجعل له جمهوراً لا ينفذ من القراء على مرّ العصور.
إن هذه الصفات الأربع تُبرز بجلاء إمكانيات النص المكتوب الرائعة. فبينما يموت الخطاب الشفهي مع اندثار الصوت واختفائه، يظل الخطاب المكتوب قائماً على مرور الزمان. ولأن أبا عبيدة (728-825) والمفضّل الضبّي (ت780) وأبا عمر الشيباني (719-820) والأصمعي (740-828) قد جمعوا كتابة في القرنين الثامن والتاسع شعر طرفة بن العبد البكري الذي عاش في القرن السادس فإننا نصغي اليوم لنشيد الشاعر الجاهلي.
وإذ يفصم المكتوب الوشائج القوية التي تربط المتكلم بما يقول في موقف المحادثة الشفهية، فإنه يبيح للقارئ أن يرى في النص شيئاً آخر غير ما كان ينتويه كاتبه. وإن تنوع التأويلات التي تسمح بها مسرحيات شيكسبير (1564-1616) وتعددها يعود أساساً إلى أننا نجهل كل شيء أو نكاد عن شخصية المؤلف وحياته. وبما أن الكاتب ليس بعد بيننا فينكر علينا هذه القراءة أو ذلك التفسير فإن ميدان المعاني يمكن أن يمتد إلى غير نهاية!
وإذ ينفلت النص المكتوب من الموقف الخاص الذي تجري خلاله المحادثة الشفهية عادة والذي يحدّ منها فإنه يوسع أفق القارئ ويجعله مشرفاً على آفاق طريفة وعلى كون جديد. ومراجع هذا الكون الجديد غامضة وغائبة المعالم في أغلب الأحيان بالنسبة للقارئ فهو يجهل أكثرها أو أنه يراها على نحو مختلفٍ. فحين نقرأ اليوم كتاب الإمتاع والمؤانسة فإننا لا نكتشف في مسامراته دولة البويهين ولا أيام صمصام الدولة ولا وزارة أبي عبد الله الحسيْن بن أحمد كما كانت عليه تلك الدولة أو هاتيك الوزارة. وإنما سنكتشف فيها ما قد وصل إلينا منها خلال القرون العشرة التي تفصلنا عن مؤلّفها أبي حيّان التوحيدي (922-1023) أي مجموعة من الصفات المجرّدة التي عبرت تلك الأزمنة والتي يمكن لنا أن نشغلها رمزياً.
وإذ يستبدلُ النص العدد المحدود بالضرورة والذي يكوّنه المشاركون في المحادثة الشفهية بعدد يمكن ألا يتناهى من القراء فإنه يكتسب بعداً كونياً. وعليه فللقرآن الكريم وهو الكتاب تعريفاً قرّاءٌ من كل العصور، ومن كل أصقاع الأرض، ومن كل الأقوام على اختلاف منازلها.
إن انتزاع النص من سياقه هو، كما نرى، الشرط اللازم والضروري لتعدده.
2-3-هل كلّ قراءة مشروعة؟
إن لنا أن نتساءل، وقد رأينا ما يتميز به التواصل الأدبي على نحو خاص، إن لم يكن لكل الحق بأن يقرأ النص وبأن يؤوله كما يحلو له. وبما أنه يندر أن يُقرأ نص أخرج من سياقه كما أراد مؤلفه منه حين باشر في كتابته أفليس من المنطقي والأمر كذلك أن نعزف عن كل محاولة لاستخلاص نية الكاتب الأساسية وغايته التي أراد من مؤلّفه؟ أوليس من المنطقي أن لا نرى في النص إلا ما يحلو لنا أن نراه؟
لئن كان من الصعب أن نفرض تأويلاً وحيداً لنص ما فإنه، والحق يقال، يوجد معايير تثبت شرعية التأويل أو عدمها. وإن كان النص يجيز لنا قراءات كثيرة فإنه لا يأذن لنا أن نقرأ كما نشاء وكيفما اتفق حسب أهوائنا. إذ لو جاز لنا أن نقرأ ما نشاء في أي نص نشاء لتساوت النصوص جميعها ولاختفت الحدود بينها. ونحن نعرف بتجربتنا أن الأمر ليس كذلك البتة.
فلكي تكون القراءة مقبولة يجب عليها أن تلتزم بما يمكن أن نسميه بقاعدة التماسك الداخلي أي أن موضوعية النقد لا تقوم في اختيار مفتاح القراءة أو في انتقاء زاوية التأويل وإنما في تطبيق نموذج التأويل الذي يختاره الناقد تطبيقاً صارماً على كل النص المقروء.
ويمكن لنا أن نصوغ ذلك في ثلاث قواعد كبرى إن تمسك بها التأويل كان مقبولاً. يجب أن يكون من الممكن تطبيق شبكة التأويل أو نموذجه على مجموع العمل الأدبي وليس على بعض مقاطعه وحسب. ويجب أن تلتزم شبكة التأويل هذه بالمنطق الرمزي كما ظهر من خلال علوم التحليل النفسي. ويجب كذلك أن ينحو نموذج التأويل دائماً نفس الاتجاه. وبكلمة أخرى فإن التأويل يقاس بمقدار "صحته". أي ليس المقصود أن نستخلص من العمل الأدبي هذه الحقيقة أو تلك. ولكن المطلوب أن نتفحصه على ضوء "لغة" أخرى كلغة التحليل البنيوي أو لغة التحليل الواقعي أو الرمزي الخ..
وإلى مبدأ التماسك الداخلي هذا ينبغي علينا أن نضيف مبدأ التماسك الخارجي. فليس للقراءة أن تخالف شيئاً من المعطيات الموضوعية التي نعرفها عن النص وظروف تأليفه أو حياة الكاتب وعصره أو غير ذلك. فليس لنا مثلاً حين نقرأ الجاحظ ونؤول كتبه أن نتجاهل أنه كان معتزلياً وأنه عاصر المحنة التي قادها أصحابه حول موضوع خلق القرآن. وليس لنا أن نتجاهل حين نقرأ صدقي إسماعيل (إنطاكية، سورية 1924- دمشق1972) أنه كان مناضلاً بعثياً وأنه كتب رواية العصاة (1964) من خلال مفاهيم الحزب في الصراع ضد الاستعمار وتحليله للبنية الاجتماعية.
وعليه فليس لكل القراءات قيمة واحدة. وليس على التفسير أن يكون ممكناً أو محتملاً وحسب وإنما يجب أن يكون ممكناً أو محتملاً أكثر من بقية التفاسير الممكنة أو المحتملة.
فهناك معايير كذلك لتفضيل قراءة عن غيرها.
ولكن أكثر الأجوبة إقناعاً على مسألة التأويل وتعدد القراءات هو الجواب الذي يظهر من طريقة علم الدلالات في النظر للنص الأدبي. وهذا الجواب قائم على الواقعة التالية وهو أن النص يبرمج وإلى حد كبير كيفية تلقيه. أي أنه ليس باستطاعة القارئ أن يفعل بالنص ما يشاء ولا أن يؤوله كما يحلو له. فعليه نحو النص واجبات لغوية لا محيد عنها. وعليه أن يكتشف أحسن الاكتشاف التعليمات التي يتركها الكاتب منثورة هنا وهناك ضمن نصه. فإذا غابت عنه جميعها أو أكثرها أو أخل بها قاده ذلك إلى تأويلات خاطئة أو غير مقبولة.
وهناك مثل شهير على سوء التفاهم الأدبي هذا نأخذه من الأدب الفرنسي. فلقد كتب أوجين سو Eugene Sue (1804-1857) روايته المشهورة أسرار باريس وبدأ بنشرها على حلقات متسلسلة في عام 1842. وكان يتوجه بها إلى جمهور من القراء الميسورين ويهدف أن يقدّم لهم لوحات طريفة من أزقة باريس بغاية تسليتهم والترويح عنهم. ولكن بروليتاريا باريس فهمت الرواية على نحوٍ مختلف تماماً وتوهمت أنها إدانة شديدة لأوضاع حياتها البائسة وفضح لفقرها ودعوة سافرة للثورة.
وعندما أدرك أوجين سو أن عمّال باريس فهموا الحلقات الأولى من روايته على نقيض ما أراد حاول أن يقنعهم في الحلقات التالية أن معيشتهم ستتحسن بفضل الحركات السياسية الإصلاحية وعندما تمتثل الطبقة العاملة لإرادة الطبقات السائدة.
ولكن خطأ التأويل ظل قائماً وأدى إلى نتائج خطيرة. ولقد شوهد قراء أسرار باريس وهم ينصبون متاريس للثورة العمالية التي هزت العاصمة الفرنسية عام 1848. ولقد "تلاعب" قراء أوجين سو بنصه "وغشّوا" إذ قرؤوا رواية إصلاحية حقاً على أنها رواية تدعو إلى الثورة.
ليست القراءات كلها إذن مشروعة. وهناك فارق أساسي بين قراءة تستخدم النص أي تُكرهه على قول شيء ما وبين قراءة تؤول النص أي أنها تستجيب إلى ما يُبرمجه.
3- القراءة الساذجة والقراءة النقدية:
3-1- جمهور القراء الأوائل
ما هي القراءة التي ينبغي علينا أن نختارها موضوعاً للتحليل من بين كل القراءات التي يبيحها النص الأدبي؟ إن الألماني جوس H.R. Jauss يقترح أن نأخذ بعين الاعتبار القراءة الأولى التي استقبل بها النص حين ظهر للوجود. وموقف الناقد الألماني هذا يعود إلى رغبته بالحفاظ على موضوعية التاريخ الأدبي. فالوسيلة الوحيدة لإدخال دراسة التلقي ضمن مواضيع تاريخ الأدب هي أن نكشف النقاب عن التأويل الذي ساد بين القراء في العصر الذي نُشِر فيه النص للمرة الأولى.
كيف قُرئ كتاب زينب حين نشره محمد حسين هيكل (كفر غنام، مصر 1888- القاهرة 1956) باسم مستعار عام 1914؟. إن إعادة بناء ما يمكن أن نسميه بأفق الانتظار أو أفق التوقع الذي يحيط بجمهور القراء الأوائل يُنقذ، والحق يقال، التحليل الأدبي من الانغماس في تحليل نفسي مفرط يتهدده حين يتجاهل ذلك التأويل الأول. وإعادة بناء أفق الانتظار ذاك أو إطار الفهم العام الذي يتحكم بالقراءة ويوجهها أمر لا غنى عنه إذا شئنا أن نقيّم طرافة العمل الأدبي لحظة ظهوره وأن نفهم لماذا ترك هذا الأثر أو ذاك في ضمير القراء.
ويعرّف الناقد الألماني أفق التوقع بمعايير جمالية في الدرجة الأولى. ويمكن أن نلخصها بما يلي. معرفة جمهور القراء الأوائل بنوع التجربة الأدبية التي يقرؤها (رواية أو قصة صغيرة أو حكاية الخ..). وتجربة ذلك الجمهور الأدبية من خلال أعمال سابقة عوّدته على أشكال أدبية محددة وعلى مواضيع أدبية محددة تعالج على نحوٍ معين. وأخيراً الحدود التي يقيمها ذلك الجمهور بين اللغة الأدبية واللغة اليومية السائدة.
وعليه فإن دراسة تلقي "أول رواية عربية فنية" تطلب تذكيراً بالروايات التي كان قد اعتاد قراءتها القراء العرب في مطلع القرن العشرين من أمثال كتب نقولا حداد (لبنان 1872-القاهرة 1954) أو أحمد شوقي (القاهرة 1868-1932) أو زينب الفواز العاملية (صيدا، لبنان 1860- القاهرة 1914) أو طانيوس عبده (بيروت 1866-1932) وتحليلاً لما كان ينتظره هذا الجمهور من الرواية الجديدة ولما كان يتطلع إليه من مواضيع أكثر واقعية وألصق بحياته اليومية من كله نصيب لنقولا حداد (1903) أو من ورقة الآس لأحمد شوقي (1905) أو من الملك قورش لزينب الفوّاز (1905) أو من غرام واحتيال لطانيوس عبده. وإعادةُ بناء أفق الانتظار الذي وجّه قراءةَ زينب تفترض تحليلاً للغة العربيّة السائدة إذّ ذاك وتردّدها بين السجع والنثر في مقامات محمد المويلحي (1898-1900) أو في ليالي سطيح لحافظ إبراهيم (1906) وبين العربيّة الركيكة والعامية الطاغية في عذراء دنشواي لمحمود طاهر حقّي (1909) وبين العربيّة والعجمة في رواية أمين الريحاني (الفريكة، لبنان 1876-1940) خارج الحريم (1917).
إن تحليلاً دقيقاً لما استقبل به القرّاءُ رواية زينب حين ظهرت في مطلع القرن العشرين يفترض بالناقد أن يدرس هذه النقاط وأن يأخذها بعين الاعتبار.
وينبغي أن نلاحظَ أن البعدَ الاجتماعي غائبٌ عن أفق التوقّع كما يُعرّفه جوس. وأنّ هذا الأخير يهمل أصلَ القيم الجماليّةِ الاجتماعيَّ. وهذا يعني أنّ على دارس زينب أن يعير اهتمامه كذلك لأخلاق القرّاء العرب المصريّين في بداية هذا القرن ولنظرتهم إلى العلاقة بين الرجل والمرأة ولمعرفتهم أو لجهلهم بالريف وبأهله وعاداتهم.
ومهما يكن الأمر فإن تحليل الناقد الألمانيّ تحليلٌ تاريخيٌّ. وإذا أهملنا جمهورَ النصِّ الأوائل أي إذا أهملنا مجموعَ القرّاء العاديين فإننا لن نفهمَ البتّةَ ما صار إليه هذا العمل الأدبيّ أو ذاك ولن نفهمَ أبداً تطوُّرَ الأدبِ ولا تاريخ الأنواع الأدبيّة.
3-2-القراءة الخطيّة.
إن الانتقالَ من نظرية التلقي كما صاغها منظّرو مدرسة كونستانس والتي تخضع للمنظور التاريخيّ إلى مختلف نظريّات دلاليّة القراءة والتأويل التي تولي عنايتها للبنيّة النصيّة يعني أن تُطرَح المسألةُ من جديد وبمفردات مختلفة.
والأمر أنه ما إن يبدأ الناقد بكشف النقاب عن سبل القراءة الكامنة في النص حتى يضع خيارُه النظريّ الجوهريُّ وجهاً لوجهٍ القراءةَ "الساذجة" والقراءة "العارفة" أو القراءة "ذات الخبرة". ونقصد بالقراءة الساذجة تلك التي تلتزم بمسيرة الكتاب الخطيّة الأفقية. وأما القراءة العارفة أو ذات الخبرة ففيها يوظِّف القارئُ معرفته العميقة بالنص والتي نتجت عن قراءةٍ سابقةٍ لذات النصِّ فيروح يقرأ الصفحات الأولى من النص على ضوء ما يعرفه من خاتمة الكتاب.
إنّ القراءة "الساذجة" هي أكثر القراءتين شيوعاً ولا ريب. والنصُّ الأدبيُّ يكتَبُ كي يُقرأَ وهو ينمو مع الزمن. ولابدّ من الأخذ بعين الاعتبار بهذه النقطة الأساسية إذا أردنا أن نفهم كيف يعمل النص.
ولنأخذ على سبيل المثال رواية نجيب محفوظ اللصّ والكلاب (1961) لإيضاح ما نقصده. إن الرغبةَ بالانتقام هي حافزُ سعيد مهران الشخصية الأولى وما يفسر أغلب ما يأتي به. ومعرفة القارئ بهذا تثير تطلُّعَه وتدفعه إلى متابعة القراءة. وككلّ فنانٍ ماهر يتقن صنعته يرمي نجيب محفوظ ببطله، وبقارئه كذلك، ومنذ الصفحات الأولى في قلب المغامرة. ومنذ السطور الأولى يشير إلى من سيلاحقهما سعيد مهران بكراهيته ويصبُّ عليهما جام غضبه، نبويّة زوجته الخائنة وعليش صديقه الغادر.
وكلّما خُيّلَ لسعيد مهران وبالتالي للقارئ أن لحظة الانتقام قد أزفت كلما دفع بها الكاتب إلى أجلٍ آخر. فمن الواضح أن عقاب الخائنْينِ سيعني نهاية الرواية. وعليه فإن هذا العقاب يجب أن يقعَ في صفحات الكتاب الأخيرة. ولكن إيهام القارئ بشيءٍ ثم إظهار غيره وسيلةٌ ناجعةٌ لإبقاء تطلُّعه يقظاً ورغبته في معرفة الخاتمة شديدةً.
ففي الفصل السابع مثلاً، أي في منتصف الرواية تقريباً، يُطلق سعيد النار على عليش من خلال بابٍ مغلقٍ ويحسب أنه قد نال مأربه وأنه قد أوقع بالخائن ما يستحقه. وكذلك القارئ الذي يرى الأحداث من خلال عينيْ البطل فإنه يشاطره ذلك الوهم ويؤمن أن جزءاً من خطّة البطل قد تحقق.
ولكن يقظة القارئ تتضاعف وفضوله يشتدُّ حين يكتشف في الفصل الثامن أن القتيل لم يكن عليش وأن قوى الأمن تلاحق بطل الرواية بتهمة القتل. وهذا تطوّر مفاجئٌ في الرواية يُعقّد أحداثها ويضيفُ إليها بعداً عاطفيّاً جديداً وهو بالتالي يضاعف من رغبة القارئ في معرفة ما سيأتي.
إنّ تلاعب النصِّ بالقارئ وبأعصابه وهو من أجمل مفاتن القراءة قائمٌ بأكمله على أفقيّة السرد وعلى "خطيّة" القراءة. ولولا القراءة الساذجة لفقد القارئ كثيراً من متعة القراءة وسحرها.
3-3-القراءة الثانية.
إن كانت القراءةُ الأفقية هي أقربُ أشكال القراءة من طبيعتها وأكثرها احتراماً لأصول تنظيمها فإنها ليست أغناها ولا أكثرها أهميّةً. وليس تتابع الأحداث هو صفة الحكاية الوحيدة.
وليس النصُّ الأدبيُّ سطحاً أو خطاً مستمراً وحسب ولكنّه "كتلةٌ" لا تظهرُ الوشائجُ القائمةُ بين أطرافها ولا طبيعةُ العلاقةِ بين هذه الحادثة السرديّة وتلك أو بين هذا المقطع وذاك إلاّ عقب قراءة ثانيةٍ. وعليه فإن تكرار القراءة هو أكثر ما ينسجم مع النصوص الأدبية المعقدة.
إنّ شرحَ النصوص الأدبيّة شرحاً مفصّلاً وهو ألف باء الدراسات النقديّة كما يمارسُه المدّرسون والنقّادُ ومحترفو الأدبِ يجعلهم يُدركون أنّ إعادةَ القراءة ليست نشاطاً عابراً أو جزئيّاً كما يحدثُ مثلاً حين يلجأ إليها القارئُ بسبب شرودهِ أو ضعفِ انتباهه عند القراءة الأولى. وهم يعرفون كذلك أن إعادة القراءة ليست كذلك نشاطاً منهجياً شاملاً ولكن محصوراً بالهواة ذوّاقةِ الأدبِ. إن خبرتهم تجعلهم يتساءلون إن لم تكن القراءةُ الثانيةُ أمراً لابد منه على الإطلاق خلال القراءةِ العاديّة نفسها لإدراك الرواية إدراكاً شاملاً. ولابد من معرفة بعض التفاصيل التي لا نستطيع رؤيتها إلاّ عقيْب القراءة لفهم المقصود من هذا المقطع أو ذاك.
نحن نرى في الفصل الأول، بل في الصفحات الأولى من عصفور من الشرق (1938) شابّاً يأكلُ بلحاً في شوارع باريس ويلفظُ نواتها تحت مطرٍ عارمٍ ويتخيّلُ نفسه في ميدان المسجد بحيِّ السّيدة زينب وهو يتخيل أن نافورة ميدان الكوميدي فرانسيز هي سبيل مسجد السيّدة.
ولن يتذوّق القارئُ تمام التذوّق هذا المشهد إلاّ إن كان يعرِفُ أنّ هذا الشاب هو مصريٌّ وأنّ السيدة زينب هي رمزُ الطهارةِ والقدسية، وأن براءةَ المسجد هي التي ستنقذُه من تدهورِه الأخلاقيّ وأنّ الفنّ الذي يرمز إليه الكوميدي فرانسيز سيكون ملجأه وبرجه العاجي بعد مغامرته العاطفية. وهذه التفاصيل لن يعرفها القارئ إلاّ في الفصول التالية من الرواية. وعليه أن يعود ثانية إلى الوراء أو أن يعيد قراءة الفصول الأولى كي يربطَ هذا بذاك وأوّلها بآخرها.
وكذلك عنوان الرواية، وهو لقبُ البطل أيضاً، لن يستوعبه القارئُ إلاّ إذا كان يعرفُ أن الشرقَ هو رمزُ الروحانيّةِ والبُعدِ عن الماديّة الغليظةِ التي تميّز أوروبا كما سيقول توفيق الحكيم (الإسكندريّة، مصر 1898- القاهرة 1987) فيما سيأتي من صفحات الرواية.
إنّ كلّ هذه العناصر المثقلة بالمعاني (عنوان الرواية وإهداؤها: إلى حاميتي الطاهرة السيّدة زينب، والفصلُ الأولُ) لا يمكن فهمها على حقيقتها إلا إذا كنّا نعرف "سلفاً" ماذا سيحدث. أي بعد قراءةٍ ثانيةٍ.
ليست إعادةُ القراءةِ أمراً مستحباً وحسب حين نقرأُ روايةً ذات حدٍّ أدنى من الفنيّةِ، ولكنها ضرورةٌ لازمة.


¡¡¡



الفصل الثاني :القارئُ ووجوهُه المتعدّدة.

مخطّطُ الفصل الثاني:
1-القارئُ وأقنعتُه
1-1-مكانةُ المُتلقّي.
1-2-القارئ بصفتِه فرداً أو صورةً أو عُضواً في جماعةٍ.
1-3-النصُّ وخارجهُ.
2-في البدء كان المَرويّ له.
2-1-أهو نظيرُ القارئ؟
2-2-وجوهُ المَرويِّ له الثلاثةُ.
3-ذريّةٌ عديدةٌ.
3-1-من القارئِ الضمنيِّ إلى القارئ النموذجيّ.
3-2-من تحليلِ الحكاية إلى نظريّاتِ القراءة.
3-3-القضايا المُعلّقة.
4-القارئُ الحقيقيُّ.
4-1-التلقّي الملموس.
4-2-أنموذجٌ يُستَكمَل؟.
4-3-الأسسُ النفسيّةُ.
5-هوامشُ الفصلِ الثانيّ.



1-القارئ وأقنعته.
1-1-مكانة المتلقّي في عمليّة التواصل الأدبيّ.
هل نستطيعُ أن نحيطَ بعمليّة القراءة على عملنا بأن عددَ قرّاء نصٍّ ما يمكن أن يكونَ لا متناهياً؟. وبكلماتٍ أخرى هل يمكن أن نضعَ نظريّةً يكون القارئُ موضوعَها؟
وللإجابة على هذا السؤالِ ينبغي علينا أن نتفحّصَ بعنايةٍ مقامَ المتلقّي في عمليّةِ التواصلِ الأدبيّ. لقد درسنا في فصلٍ سابق ما يختصُّ به الخطابُ المكتوبُ. وقلنا بأن هذا الخطابَ يُنشِئُ بفضل المفرداتِ وعن طريقها فقط كون مرجعيّته وذلك بقدر ما تنقطعُ صِلاتُه عن الوسطِ الذي ظهر فيه إلى الوجود. وعليه فإن المُرسِلَ والمُتلقّي يكونان قائميْنِ في فعلِ الكتابةِ ذاته قبل أن يتجسّدا في شخصيْن ملموسيْن وواقعيّين.
إنّ الطرفين يزدوجان في التواصل الأدبيّ.
فمن جهة المرسِل، لقد صار من المتعارَف عليه أن نميّزَ بين الطرف الذي يخلُق النصَّ ويُظهِرُه إلى الوجود، ونعني بذلك الكاتبَ عينه، وبين الطرفِ الذي يظهرُ إلى الوجود مع النصِّ وينهض بمهمّةِ إعلانه، ونعني بذلك الراوي. فالذي يكتبُ ليس الذي يسرُد. ونحنُ لا نخلطُ البتّةَ بين شخص الكاتب توفيق الحكيم (1898-1987) وشخصيّة موظّفِ القضاء الذي يروي لنا مشاهداته في الريف المصريّ رغم أنّ الرواية تقدّم نفسَها على أنّها مذكّرات نائب في الأرياف!(1937).
وكذلك يتميّز الكاتب شكيب الجابري(1912-1996) ذو الحياة المعروفة والمدروسة بعنايةٍ والموثّقة في معجم الروائيين العرب للدكتور سمر روحي الفيصل عن راوي قدرٌ يلهو (1938) والذي لا نعرف عن حياته إلاّ شذرات مبعثرة هنا وهناك في أرجاء الكتاب.
فإذا شدّنا الفضولُ لمعرفةِ حياة الكاتب أو لمعرفة شيءٍ ضئيلٍ منها فلابدَّ لنا من تحقيقٍ وبحثٍ قد يكونان طويليْن وشاقيْن وجمعِ وثائقَ قد يكون بعضُها رسميّاً وقراءةِ مذكّراتٍ تركها المؤلّفُ نفسُه أو بعضُ معاصريه، وقد يضطرّنا الأمرُ كذلك إلى سفرٍ مُنهِكٍ وترحالٍ إلى بلادٍ بعيدةٍ لتقصّي آثار الرجلِ ومراحلِ أيّامِه.
ولكنّه يكفينا أن نقرأ الروايةَ لنلمَّ بكلِّ ما يمكن أن يُعرَفَ عن الراوي!.
إنّ الراوي هو إذن خليقةُ الكاتب وصنيعتُه وهو يتفرّدُ عنه بجنسِه وبمشاربه وبطبائعهِ وبمثُلِه الأخلاقية.
فراوي حماري قال لي (1945) على ذكائه وفطنته المدهشة ودعابته ينتمي إلى جنس البهائم، وليس كذلك بطبيعة الحال كاتبُ النصِّ توفيق الحكيم!
وأمّا من جهةِ المُتلقّي فهو في نفس الوقتِ قارئٌ حقيقي من لحمٍ ودمٍ ذو صفاتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ تتنوّعُ حتى لا يكاد ينضبُ تنوّعُها، وهو كذلك شخصيّةٌ وهميةٌ يفترضُ وجودَها وجودُ الراوي نفسِه. فكلُّ نصٍّ يتوجّه بالضرورةِ لقارئٍ أي لمُتلقٍّ.
ومن خلال ما يقوله وبالطريقة التي يقولُها فإنّ النصَّ الأدبيَّ يفترِضُ دائماً نمطاً خاصّاً من القرّاء, فراوي إدوار خرّاط (1926) في رامة والتنّين أو ساردُ جبرا إبراهيم جبرا (1919) في رواية البحثُ عن وليد مسعود (1987) لا يتوجّهان إلى ذات القارئ الذي يقصدُه إحسان عبد القدوس (1919-1990) في أنا حرّة (1954) أو مثيله عند يوسف السباعي (1917-1978) في جفت الدموع (1961)!.
ويمكنُنا أن نستنتجَ من خلال هذه النصوص أن القرّاء الذين تتوجّه إليهم ليسوا جميعاً على ذات الدرجةِ من الثقافةِ النظرية ولا تشغلهم ذات الهموم وأن أعمارهم متفاوتةٌ.
كيف نصل إلى هذه النتيجة؟
إننا نستخلِصُ ذلك من خلال المواضيع التي يطرقُها النص الأدبي ومن خلال اللغةِ التي يلجأ إليها لمعالجة تلك المواضيع. ونستطيع كذلك بفضل هذه الإشارات أن نُظْهِرَ ملامحَ القارئ الذي يخاطبه الساردُ.
وعليه فإن المَروِيَّ له، شأنه في ذلك شأنُ الراوي، لا وجود له إلاّ في ثنايا الحكاية، وهو ليس إلاّ حصيلة الإيماءات التي تُنشِئه.
1-2-القارئ بصفته فرداً أو صورةً أو عضواً من جماعة.
إن ذهبنا من التمييز الذي رأيناه فيما سبق استطعنا أن نحصي الأشكالَ التي يتخذُها القارئُ أو الأقنعةَ التي يحملُها. فلنا أن نراه كفردٍ فذٍّ قائمٍ بذاته المتفرّدة أو كعضوٍ من جماعةٍ بشريّةٍ معروفةٍ أو كصورةٍ كامنةٍ من النصِّ يُنشئها النصُّ بوجودِه. ولنا أن ننظرَ إليه كجميع ذلك معاً وفي ذات اللحظة.
فلننظر الآن إلى القارئ الفرد المتميّز. إنّه لمن الصعب والحقُّ يقال أن نحيطَ بالقارئ حين نعتبره شخصاً محدّداً وذلك لأن ردودَ أفعاله أمام النصِّ الأدبيّ تخضعُ لأسبابٍ نفسيةٍ وأخرى اجتماعيّةٍ وثالثةٍ ثقافيّةٍ متنوّعةٍ تنوّعاً شديداً. ولكنّ علم التحليل النفسيّ، كما سنرى في خاتمة هذه الدراسةِ، قد يساعدنا على استخلاص بعض الثوابت الكامنة في القارئ.
ويمكننا أن نحيطَ بالقارئ، في ميدان التاريخ الجماعيّ، من خلال القومِ الذين ينتمي إليهم. فالقارئ الفعليُّ لا يرجعنا إلى الجماعةِ التي شهدت ظهورَ الكتاب للمرّة الأولى وحسب، ولكنه يُحيلُنا كذلك إلى كلِّ الجماعات التي مرَّ بها الكتاب منذ ظهر حتى وقع بين يدي قارئنا. وإن كان من المفيد أن نأخذ بالحسبان كلَّ هذه الأقوام القارئة فذلك لأن كلَّ قراءةٍ لنصٍّ ما تحمِلُ في ثناياها القراءات الماضية التي سبقتها.
ونحنُ ما كنّا لنقرأَ مقامات الحريري (1054-1122) على النحوِ الذي نفعلُه اليومَ لو أنَّ أبا العباس أحمد بن عبد المؤمن الشُريْشي قرأها قبلنا على نحوٍ غير الذي قام به. وكذلك فإن قراءتَنا اليوم لنجيب محفوظ (1911) لابدّ أن تأخذَ بعين الاعتبار ما قاله عنه الناقد جورج طرابيشيّ في الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزيّة (1973).
ولكن القارئ وقبل أن يكون ذا حقيقةٍ تاريخيّة ملموسةٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ فإنه حالةٌ أو هيئةٌ أو صورةٌ تكمن في خلايا النصِّ. أي أنّه المرويُّ له المستتر الذي يتوجه إلي الحديث.
وصورةُ القارئ هذه التي يُنشئها النص لا يحدّدها نوعُ النصّ الأدبي وحسبُ (تفترضُ الرواية البوليسيّةُ قارئاً مُحققاً بينما تفترضُ القصةُ الفلسفيّة قارئاً ناقداً) ولكن يُحددها كذلك شكلُ التعبير الخاص بكل نوع أدبيٍّ. فكتاب طه حسين (1889-1973) في الشعر الجاهليّ (1926) لا يتوجّه بسبب لغته وأسلوبه على الأقل إلى ذات الجمهور من القرّاء الذي يهدِفُ إليه إحسان عبد القدوس في رواية لا أنام! (1956).
1-3-النصُّ وخارجه.
إن المحاولات السابقة للإحاطة نظريّاً بالقارئ تُظهِرُ للعيان أنّ حدوداً واضحةً تفصِلُ بين العالم الذي يُنشِئه النصّ وبين العالم الذي يقوم بنفسه خارج النصٍِّ. فهناك القارئُ الوهميُّ الذي يفترض النصُّ وجودَه ويحمِله في ثناياه وهناك القارئ الفعليّ الحيُّ الذي يُمسكُ بالكتاب بين يديْه.
ومن السؤالُ التالي. كيف نعرّفُ العلاقةَ القائمةَ بين القارئِ المُجرّدِ الذي يوجد بوجودِ النصِّ الأدبيِّ والقارئ الحقيقيّ الذي يأكل ويشرب؟.
والحق أن الجواب بسيطٌ. يجب أن ننظُرَ إلى القارئ الأول على أنه دورٌ يُقتَرَحُ على القارئ الثاني أن يقوم به. وأن باستطاعة هذا الأخير أن يرفضَ هذا الدور المقترحَ ويكفيه لذلك أن يُغلقَ دفتي الكتاب. وهذا ما يحدثُ عادةً حين تكون شقّةُ الخلافِ واسعةً بين الآراء التي يقترِحُ النصُّ على القارئ الفعليّ أن يتبنّاها مؤقّتاً خلال القراءة وبين ما يؤمنُ به القارئ فعلاً.
وعلى سبيل المثال فإنّ أحداً لا يقسِرُ قارئاً على أن يتبنّى نموذجَ القارئ الذي تتوجّه إليه سلسلةُ كرم ملحم كرم (1903-1959) ونعني قارئاً مشغولاً بالسبلِ المُلتويةِ التي تطرقها العاطفةُ المشبوبةُ التي تحسُّ بها فتاةٌ من أصلٍ وضيعٍ نحو شابٍ حسن الصورة فاء عليه القدرُ بالنعم وذلك قبل أن يلتقيَ الحبيبان في خاتمة الروايةِ لقاءً يسعدهما بلا شكٍّ ولا ريبٍ.
وكذلك يمكننا أن نطرحَ بعيداً عنّا دورَ قارئٍ تغلبُ نَزعتُه لعقيدةٍ معيّنةٍ وهو الدورُ الذي كانت تقترحهُ مثلاً روايات الدعاية الشيوعيّة والتي كانت تظهرُ عن دار التقدّم في موسكو بلغاتٍ عديدةٍ منها العربيّة.
ويغلُبُ أن يثيرَ ردّةَ الفعلِ هذه عند القارئ الحقيقيِّ ما يمكن أن نسمّيه بالحكايات "الخصامية". ونعني بذلك الروايةَ ذات البنية الثنائيّة التي توزّعُ أبطالها بين شخصيّاتٍ خيّرةٍ إطلاقاً وأخرى شرّيرةٍ إطلاقاً كذلك. وهذا النوع من الرواية لا يسعى إلى سوقِ القارئ سوقاً هيّناً لطيفاً إلى حقيقته المسبقةِ وإنما هو ينظرُ إلى القارئ على أنّه مؤمنٌ بتلك الحقيقةِ مسلّمٌ بصدقها قبل أن يشرعَ في القراءة أو هو ينظر إليه على أنه رجلٌ تميل به أهواؤه نحو أولئك الذين يحملون لواء تلك الحقيقةِ في الرواية أو يناضلون في سبيلها.
ونستطيع أن نطلِقَ على هذا النهج في الرواية اسمَ الإقناع بالانتقاء. فهو ينتقي، ومنذ مطلع الأمر، قارئه من معسكر بطلِ الرواية. فرواية الدعاية الشيوعيّة مثلاً تتوجّه إلى قارئ شيوعيّ أو يتعاطف مع الأفكار الشيوعية. وكذلك روايات الدعاية الإسلاميّة عند نجيب الكيلاني مثلاً فإنها تتوجّه إلى قارئ مسلمٍ أو يتعاطف مع الدعاية الإسلامية. ويجد القارئ نفسه بالتالي، وبحكم بناء الرواية نفسه في معسكر الشخصيات الإيجابيّة ذات الأعمال الحميدة.
فحين يعتبر يحيى حقّي (1905-1992) في رواية قنديل أم هاشم (1944) كأمرٍ مسلّمٍ به أم البطلة الإنجليزيّة ماري تجسّد في ذاتها كلّ سيّئات الغرب ليس لسبب إلاّ لأنها أوروبيّةً، أو حين ينظر زكريّا تامر (1926) في دمشق الحرائق (1973) أو في النمور في اليوم العاشر (1978) كأمر بدهيّ أن مهنةَ الشرطيّ أو رجلِ لأمن أو نشاط المسؤول كافيةً بذاتها لمسخِ الشخصيّة القصصيّة أو لأن ينظر إليها القارئُ على أنها سخيفةٌ أو مُهينةٌ أو آثمة، فإنَّ من حق القارئ أن يرفضَ الدور الذي يقترحه عليه يحيى حقّي أو زكريّا تامر.
ثمة نصوصٌ يصعبُ الدخولُ إليها حقاً ويندرُ أن نقرأها من "الجلدةِ حتى الجلدة".
2-في البدء كان المَرويُّ له.
2-1-أهو نظيرُ الراوي؟.
لقد اقترحَ تعبيرُ المرويّ له أو المسرود له للإحاطة بفكرة القارئ الكامن في ثنايا النص. لقد عرّفه الناقد الفرنسيُّ جيرار جينيت Gerard Genette على النحو التالي فقال: "إنّ المَرويَّ له، مَثله في ذلك مَثل الراوي، هو واحدٌ من العناصرِ التي تكونُ الموقفَ القصصي. وهو يشغلُ بالضرورة ذات الموضع السردي. أي أنّه لا يختلطُ مع القارئ حتى حين يكون مُضمراً كما أنّ الراوي لا يختلطُ مع الكاتب.".
إنّ من الصعبِ علينا أن نقبلَ بهذا التعريف كما صاغه الفرنسيُّ وذلك بسبب كلمة مُضمَر. فإن وافقناه على أنّه من الضروريِّ أن لا نخلطَ بين المَرْويَّ له، بصفتهِ واحداً من أطرافِ النصِّ وبين القارئِ الحقيقيِّ فإننا لا نرى بوضوح ما يُميّزُ القارئَ المَرْويّ له عن القارئ المُضمَر الذي يفترضه النصُّ.
ويبدو أن جينيت يُميّزُ بين نمطيْنِ اثنينِ من المسرود له تماماً كما يفعلُ بخصوص الراوي. فهو يأخذ تارةً بعيْنِ الاعتبار عمليّة التواصلِ الخارجية (أيّ نشاط القراءة ذاته وفيه تكون الحكايةُ المسرودةُ هدفَ القراءة وموضوعها) وتارةً أخرى يدرسُ عمليّة تواصل "داخليٍّ" تتجسّدُ في الحكاية المسرودة فهي إذن جزءٌ منها، كما يحدث على سبيل المثال حين تتبادل الرسائلَ شخصيّتان أو أكثر من شخصيّات الرواية.
وعليه فإننا نعتقد أنه من الملائم أن نُميّزَ بين مَرويٍّ له داخلي (أي داخل الحكاية) وبين مرويٍّ له خارجيٍّ أو غريب (أي غريب عن الحكاية ويقوم خارجها). ففي رواية شكيب الجابري قدر يلهو تكتب إيلزا بطلةَ الرواية رسالة لعلاء شخصية الرواية الأساسية، وكذلك في رواية سهيل إدريس (1922) الحيّ اللاتينيّ (1953) تكتب الفتاةُ الفرنسية جانين عدداً من الرسائل لسامي بطل الرواية خلال زيارته لبيروت ويكتب لها بدوره. ولكن المرويّ له الداخليّ (علاء أو سامي أو جانين) هو دائماً واحدٌ من شخصيات الرواية ولا يُغيّرُ من ذلك شيئاً أن يكون شخصيّةً قارئةً!
وليس على شيءٍ من ذلك المسرود له الخارجيّ. فهذا ليس شخصيّةً من شخصيّات الرواية ولا يتدخّلُ في أحداثها. إنّه صورةٌ وهميّةٌ مُجردةٌ هي صورةُ القارئ الذي يتوجّهُ إليه كلُّ نصٍّ بالضرورة ويفترضُ وجوده. وعليه فإننا نستطيعُ أن نقولَ بأنّ المَرويّ له الخارجيّ يتطابق مع ما سبق لنا أن أسميناه القارئ الضمني أو المضمر، بل إنه القارئُ الضمنيُ ذاته.
وإذن فالراوي والمَروي له الخارجيّان عن النصّ والغريبان عن الحكاية هما تعبيران "نصيّان" يُكمِلُ أحدهما الآخرَ ويضمنُ وجودُ الأوّلِ وجودَ الثاني. إنهما هيئتانِ مُجرّدتانِ تظهران من بنية الحكاية ذاتها. وعليه فإن من واجبنا أن نفرّقَ في رواية الطيب صالح (1929) موسم الهجرة إلى الشمال (1965) من جهةٍ بين مصطفى سعيد الذي يكتب للراوي ومدام روبنسن التي تكتبُ إليه كذلك بخصوص مصطفى فهم جميعاً رواةٌ داخليّون ومَروي لهم داخليّون، أي أنهم جميعاً شخصياتٌ روائيةٌ تعيش في عالم الحكاية. ومن طرف آخر بين تلك الجهة المُجرّدة التي تُنشئُ تلك الشخصيات جميعاً حين تبني النصَّ كما تبنيه (أي الراوي الخارجيّ) وهي تتوجّه إلى قارئٍ مضمَرٍ تفترضُ أنّ هذه الحكايةَ ستثيرُ اهتمامه وربما ستبعث فيه شيئاً من المتعة (ونعني المَرويّ أو المسرودَ له الخارجيّ). ولكن من هو هذا القارئ الضمنيّ؟ ما هي سماتُ المرويّ له الجوهريّةُ والتي تنطبقُ على كلّ قارئٍ مستترٍ في كلّ نصٍّ قصصيٍّ على الإطلاق؟
إذا طرحنا بعيداً الصفات الخاصّة التي تنسبُها بعضُ النصوص أحياناً لقارئها (كأن يخاطبُ النصُّ تحديداً شخصاً معيناً) فإنّ المرويّ له الذي يولد مع النص نفسه وبمجرد خروج هذا الأخير إلى حيّز الوجود يتصفُ بصفاتٍ بعضُها إيجابيٌ وبعضُها الآخرُ سلبيٌّ.
وأمّا صفاتُه الإيجابية فهو ذو عددٍ معينٍ من الكفاءات. وهو ليسَ يُتقنُ لسانَ الراوي ولغَتَه وحسب (فكلُّ حكايةٍ تفترضُ أن قارئها يفهم الأداةَ اللغويّةَ المستخدمةَ) ولكنّه يُظهِرُ كذلك بعضَ المهاراتِ العقلية. فهو مثلاً ذو ذاكرةٍ لا تهن أبداً تجعله قادراً في الصفحاتِ الأخيرة من روايةٍ مؤلّفةٍ من مئاتِ الصفحات على تذكّرِ ما جرى في صفحاتها الأولى. وهو يدركُ كذلك قواعدَ السردِ وخليقٌ بقبولِ مسلّماتها والرضى بنتائجها.
وأمّا ما يميّزه سلباً فإنّه لا يتقنُ من القراءات إلاّ القراءة "الخطية" الأفقية، وليست له أيّة هوية نفسيّةٍ أو اجتماعية، وهو عارٍ من كلّ تجربةٍ أو حسٍّ سليمٍ.
وتُنشِئ كلُّ حكايةٍ مسرودها الخاصّ بها أو مَرويّها بأن تُعدّلَ من هذه الصفةِ أو تلك من مجموع الصفات الأصليّة المشتركة تعديلاً لطيفاً أو شديداً.
2-2-وجوهُ المَرويّ لَه الثلاثة.
إنّ مضمونَ مفهومِ المَرويِّ له يتغيّرُ إذن إن تمَّ الحديثُ عن مستوى الحكايةِ (أي عن النصِّ كنصٍّ) أو جرى النقاشُ حول الأحداث المرويّةِ. ولقد اقترحَ الباحثونَ أنماطاً عديدةً للإحاطة بهذه المتغيّرات. وبإمكاننا أن نميّزَ بينَ أنواعٍ ثلاثةٍ من المَرويٍّ له.
فهناكَ أولاً المرويّ له أو المسرودُ له والذي هو في نفس الوقت شخصيةٌ روائيّةٌ. وفي هذا النمطِ يشتركُ المَرويُّ له في أحداثِ الحكاية المسرودة. وهذا النموذج يطابق ما رأيناه عندما نظرنا فيما أسماه جينيت بالمَرويّ له الداخليّ.
ففي مجموعة عبد السلام العُجيليّ (1918) الخيلُ والنساء (1965) نجد قصّةً بعنوان ثلاث رسائل أوربيّة. وفي الرسالةِ الأولى تكتبُ الراويةُ أدنا إلى مروان (المَرويّ له) فتحدّثه عن ذكرياتها وعن حياتها الزوجيّة وعن حادثةٍ أليمةٍ جرت لها خلال زيارتها لباريس أبّان حرب التحرير الجزائريّة.
(عاملٌ جزائريُّ يتحرّشُ بها ثم يبصقُ في وجهها). وتتغيّرُ الأدوارُ في الرسالةِ التاليةِ فيُصبحُ مروان هو الراوي والسيّدة الألمانيّةُ هي المَرويّ له. وفي الرسالة التي يكتُبُها مروان يفضحُ ما رآه تعبيراً عن عُنصريّةٍ مفاجئةٍ في رسالة أدنا ثم يصفُ مظاهرةَ شَهِدَها في أحد شوارع باريس يوم 17 تشرين الأوّل عام 1961 ويذكر كيف قمع البوليس الفرنسيُّ مظاهرةَ الجزائريّين بشدّةٍ بالغةٍ.
وتتغيّرُ الأدوارُ تارة أخرى حين تكتبُ أدنا (الراوي الآن) إلى مروان (المَرويّ له حاليّاً) فتعتذرُ عمّا كتبته وتتمنّى له إقامةً سعيدةً في أوروبّا.
إنّ هذا ما تتميّزُ به على وجه الدقّةِ رواية الرسائل. إنّها تبني عقدتَها وتدفع قُدُماً بأحداثها عن طريقِ رسائل تتبادلها الشخصيّاتُ الروائيّةُ فتُغيّرُ بذلك من موقِعها. فهي تَروي تارةً، ويُروَى لها تارةً أخرى.
وأمّا النمطُ الثاني فهو نمطُ المَرويّ لَه المُنادى. ونعني بذلك القارئَ النكِرةَ الذي لا هويةَ حقيقيّةً له، والذي يُناجيه الساردُ خلال مجرى الأحداث ويلفتُ اهتمامَه إلى هذه النقطةِ أو تلك. وهذا المَرويّ لَه المُخاطَبُ ليس شخصيّةً روائيّةً فهو لا يتدخّلُ أبداً في أحداثها ولا يُؤثّر في تطورها. ونحن نعرف مثلاً أنه كان من عادة جرجي زيدان (1861-1914) أن يلجأ في كثيرٍ من الأحيان إلى هذا النموذج. وهو يستخدمه ليُعلّقَ على هذه الصفةِ أو تلك من صفات بعضِ الشخصيّات الروائيّة أو لإيضاحِ نقطةٍ من أحداث التاريخ."وأنت تعرِفُ أنّ العباسييّن ينتسبون إلى..) أو "ولا ينسى قارئنا أنّ السلطان عبد الحميد قد تسنّمَ العرشَ في عام…"
وفي أحيانٍ كثيرةٍ يستخدمُ جرجي زيدان المَرويَّ له المُخاطَبَ ليتحلّلَ من دراسةِ الشخصيّة الروائيةِ دارسةً عميقةً. "وأنتَ تعرفُ أيها القارئُ أنّ النساءَ من عاداتهن..". ونجد استخداماً آخر لهذا النوع على صيغةِ الجمع في رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال ومنذ سطورِها الأولى حين يبدأ الراوي بقوله: عُدت إلى أهلي، يا سادتي، بعد غيْبةٍ طويلةٍ..". ولكنَّ هؤلاء أيضاً مَثَلُهم مَثَلُ المَرويِّ لَه الفردُ، لا يفعلون في أحداث الروايةِ لأنهم ليسوا من سارديها ولا من شخصيّاتها وليسوا كذلك من قرّائها المُضمرين.
إنّ آخر أنماطِ المَرويِّ له. هو ذلك المُنزوي جانباً أو المستتِر. وهو ليس موصوفاً في النصِّ ولا يحمِلُ اسماً ولا هويّةً، ولكنّه موجودٌ ضمناً من خلال الثقافة والقيم التي يفترضُ الراوي أنها موجودةٌ عند من يتوجّه إليه النصُّ.
ونسوقُ مثالاً على هذا المقطعَ القصيرَ التالي الذي نأخذه من أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه البخلاء.
"وزَعمتُ أنّ كسْبَ الحلالِ مُضمّنٌ بالإنفاقِ في الحلال، وأنّ الخبيثَ ينزعُ إلى الخبيثِ وأنّ الطيّبَ يدعو إلى الطيّبِ، وأنّ الإنفاقَ في الهوى حِجابٌ دون الحقوقِ، وأنّ الإنفاقَ في الحقوقِ حجازٌ دون الهوى، فعِبتُم عليَّ هذا القولَ، وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قطّ إلاّ وإلى جانبهِ حقٌّ مُضيَّعٌ. وقد قال الحسنُ: إذا أردتُم أن تعرِفوا من أين أصابَ مالَه. فانظروا في أيّ شيءٍ يُنفقُه.(1)
هذه بعضٌ من الحججِ التي يسوقُها سهل بن هارون (بدء القرن التاسع) في معرض ردّه على بني زياد بعد أن ذمّوا مذهبَه في البُخل. ولن يفهمَ قارئ اليومَ برهانَ ابن هارون إن جهِلَ أنَّ معاويةَ المشار إليه هو معاوية بن أبي سفيان (توفي 680) مؤسّس الدولة الأمويّة وأنَّ الحسن هذا هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصريّ (642-728). وإن جهِل كذلك أن أوّلهما كان يرمز في الثقافة العربيّة السائدة أيّام الجاحظ إلى العظمة والثراء مع حُسنِ السياسة وأنَّ ثانيهما كان يجمع بين الفقه والزهد وأنَّ الاثنين معاً قد عُرِفا بالنظر الثاقبِ وقوّةِ العبارة. وإذن فإنَّ المَروي له المنزوي في كتاب الجاحظ كان لابدَّ له من أن يلمَّ بحدٍّ أدنى من الثقافة العربيّة السائدة في القرن التاسع الميلاديّ وهكذا يتضح لنا أنّ المروي له أو المنزوي هو عينُ المرويِّ له الخارجي الذي وصفه الناقد الفرنسيّ جينيت ، وأنّه النمطُ الوحيد من بين أنماطِ المرويّ لـه الثلاثة الذي نستطيعُ بفضلهِ أن نُحيط نظريّاً بعمليةِ القراءة.
فالمَرويُّ له الشخصيةُ ينتمي فعلاً وحقاً إلى الحكاية، وليس المروي لـه المُخاطَب إلاّ مخلوقاً روائياً يستطيعُ القارئُ الحقيقي كلَّ الاستطاعةِ ألاّ يتماهى معه. فحين نقرأُ جرجي زيدان مثلاً نستطيعُ تماماً أن نطرحَ بعيداً عنّا الأسئلة التي يتوهمُ الساردُ أنّها أسئلتُنا حين يقول:
"ولا شكَّ بأنّ القارئ يُريدُ أنْ يعرِفَ… ولا شكَّ بأنَّ القارئ لا يجهلُ.."
والحقُّ يُقالُ فإنّ المرويّ لـه الخارجي بصفته دوراً يقترحهُ النصُّ على القارئ الحقيقيِّ هو أنموذجُ القرّاء المُفتَرَضينَ أو الوهميينَ أو المُجرّدينَ الذي تُحاولُ شتى النظرياتِ الأدبية أن ترسُمَ ملامحه وأن تُبرِزَ صفاته.

3-ذريّةٌ عديدةٌ
3-1-من القارئ الضِمني إلى القارئ النموذجي.
إنَّ فكرةَ القارئ المُستَتِرِ في ثنايا النصِّ والذي يقوّي من دور القارئ الحقيقيّ قد أنجبت بدورها سلالة عريضة تثير الدهشة. إنّ هذه الفكرة تشغلُ، والحقُّ يقالُ، واسطة العِقدِ في كبرى النماذجِ التحليليّة. وسوف نذكر، فيما يأتي، أهم المحاولات التنظيريّة مرتّبةً حسب تاريخ ظهورها. فهناك أنموذج القارئ "الضمني" الذي أبرزَ ملامحه إيزير W.Iser. وهناك أنموذج القارئ"المجرد" كما طرحه لينتفيلت J. Lintvelt وهناك أخيراً أنموذج القارئ "المثاليّ" الذي اقترحه منذ فترة قريبةٍ الناقد الإيطاليّ أمبيرتو إيكو Umberto Eco.
ويعتمد أنموذج إيزير على التوجيهات التي يمكن أن تُستَخلَص من النصِّ والتي تصلح بصفتها هذه لكلِّ القراء. أي أنّه يتضمّنُ كلّ الإرشادات الكامنة في نصِّ الحكاية والتي يتعذّر تلقي النص وفهمه بدونها.
ما المقصود بذلك؟.
المقصود بذلك أن معنى النصِّ ينبني بنفس الطريقة بالنسبة لجميع القرّاء. ولكن الاختلاف في فهم هذا المعنى من قارئ إلى آخر يعود إلى اختلاف العلاقة التي يُنشئها هذا القارئُ مع النصِّ عن تلك التي يُنشِئها القارئُ الآخر مع نفس النصِّ. فكلُّ قارئٍ ينفعل انفعالاً خاصّاً به مع أنّه يسلكُ عينَ سُبلِ القراءة التي يفرضُها النصُّ على جميع القرّاء.
وعلى سبيل المثال فإنّ كلّ قرّاء رواية سهيل إدريس الحي اللاتينيّ يطلعون على كلّ الرسائلِ التي تبادلها سامي وجانين والتي تذكرُها الرواية بنصّها. وهم يطلعون كذلك على مذكّرات الفتاة الفرنسية التي يقرؤها سامي والقارئ معه خِلسةً. وعليه فإنّ القرّاء يُطلّون على الأحداث الروائيّة من خلال وجهتيْ نظر الشخصيتين الروائيتين ويتماهون معهما.
ولكن ردود أفعالِ هؤلاء القرّاء أمام هذا التماهي الآلي الذي تُثيره المعرفةُ المشتركةُ تختلفُ اختلافاً قد يكون كبيراً. فمنهم من يرى في كلّ ذلك إثراءً في معرفةِ الشخصيّات وخبايا نفوسها ويوافق بالنتيجةِ على سلوكها أو يقبل بعض الشيء. كما يفعلُ جورج أزوط في سهيل إدريس في قصصه ومواقفه الأدبية (1989). ولكن بعضهم قد يرى في ذلك مبرِّراً لإدانة سامي أخلاقيّاً، وقد ينظرُ إلى سلوكه على أنّه محاولةً تثير الازدراء تريد أن تصوّرَ نذالةً شخصيّةً على أنها تجربةٌ حضاريّةٌ عظمى! كما يفعل جورج طرابيشي في كتابه شرقٌ و غربٌ، رجولةٌ وأنوثةٌ. (1977).
ولكن المُهم هو أن هذيْن القارئيْن كليهما قد انطلقا من نفس التجربة في القراءة، أي تجربة التماهي الآليّ الذي تفرضه بنيةُ النصِّ مع سامي ومع جانين.
ويمكن أن نضربَ مثلاً مختلفاً نأخذه من رواية شكيب الجابري قدرٌ يلهو. فقارئ الرواية الضمني يُرغم القارئ الحقيقيَّ على أن ينتظرَ حتى خاتمة الكتاب قبل أن يكشِفَ له عن حقيقةِ العاهرة المريضة بالسلِّ.
إنّ القارئ الذي يطلق عليه لينفيلت في نظامه التأويليّ اسم القارئ "المُجرّد" يعادل القارئ الضمني الذي رأيناه في الفقرة السابقة. ويرى الناقدُ أن القارئَ يتصرّف من جِهةٍ كأنّه صورة المَرويّ له والذي يفترضُه النصُّ الأدبيُّ ومن جهةٍ أخرى كأنّه صورة المتلقّي النموذجيّ القادر على استخلاص معنى النصّ الشامل بفضل قراءته النشيطة الإيجابية.
ويتحدّث لينفيلت كما يتحدّثُ جينيت عن المَرويِّ لـه. ولكنه يخصُّ بالتسمية القارئ الوهميَّ الذي يتوجّه إليه الراوي وهو الذي ناقشناه فيما سبق باسم المَروي له المخاطَب. ولكي يشرحَ ما يُريدُ فإنه يستشهِد بالمقطع التالي وقد أخذه من كتاب الرواية الهزليّة للفرنسيّ بول سكارون P. Scarron (1610-1660). وفي هذا الكتاب يستخدِمُ الراوي ضميرَ المُتكلّم فيقول "إنّ مكانتي العاليةَ وسموَّ شأني يدفعاني إلى أن أحذِّرَ القارئَ الذي يريدُ أن يقرأ كتابي هذا فأقول له: "إن أغضبتْكَ الدعاباتُ التي صادفتَها حتى الآن في الكتابِ الذي تُمسِكُ به بين يديْكَ فأنصحك بأن ترمي به بعيداً عنك. فإنّك لن تجد به شيئاً آخر حتى ولو صار بحجم الجبال ضخامةً".
ويرى لينفيلت أنَّ هذا المقطع يُرغمنا على أن نُميّزَ بين جهاتٍ ثلاث. هي المَروي لَه والقارئ المُجَرّدُ والقارئ الماديّ المحسوس. وعلينا كذلك حسبَ ليفيلنت أنّ نميّز ما يسمّيه بالقارئ المُتطَوّع الذي يتوجّه إليه الحديثُ بصفته جهةً وهميّةً عن القارئ المُجرّد الذي يُفترَضُ به بالضبط أنّه يستْملِحُ هذا الصنف من الدعابة والهزل. ويرى كذلك أنّ علينا أن نُميّزه عن القارئ المحسوس الذي يقرأ حقّاً.
وبطبيعة الحال فإن من المُمكن أن يتبنّى القارئُ المحسوسُ موقفَ القارئ المُجَرّد الفكري فيرضى بالدعابة. ومن المُمكن أيضاً أن يُشاطرَ القارئُ المحسوسُ موقفَ القارئ الوهميّ المستاء من تلك الدعابة فيطرح عنه الكتابَ. ومهما يكن أمره فهذه الجهات الثلاث تبقى مُتفرّدةً وذات طبيعةٍ مختلفةٍ.
وأمّا نحن فإننا نرى بكلّ بساطةٍ أنّ المَرويّ له المذكور، أي ذلك القارئ المتطوّعُ المغرور بعض الشيء وسريع الغضب هو إيماءةٌ ساخرةٌ يُوجهها الراوي إلى المَرويِّ له الكامن في ثنايا النصِّ. ونقصد ذلك القارئ الفطن الذي يظهر مع ظهور النصِّ والذي يعرفُ حقَّ المعرفةِ أن تلميح السارد لا يعنيه ولا يقصده.
وأمّا الإيطالي أمبيرتو إيكو فهو يُعرّف القارئَ النموذجيَّ بأنه مجموعُ شروط النجاح أو مجموع عناصر التوفيق التي تنشأُ نصيّاً والتي لابد أن تحقّقَ كي ينتقلَ النصُّ ونعني هيئةَ المُتلقّي النشيطِ الفعّال والذي تفترضُ وجوده عمليّةُ فكّ رموز الحكاية على أحسن ما يكون. وبمعنى آخر، فإنَّ القارئَ النموذجيَّ هو إذن القارئُ الذي يستجيبُ استجابةً حسنةً (أي استجابةً تطابقُ رغباتِ الكاتب) على كلّ ما يتطلّبُ النصُّ سيّان كان ذلك طلباً صريحاً خالصاً أو طلباً مضمراً مُبطّناً.
وقد تفرضُ بعضُ النصوص الأدبيّة على قارئها أن يقترحَ على سبيل الجواب على مسألة فهم الأحداث فرضيّةً خاطئةً. ويكون عندها خطأُ التأويل الذي برمجه النصُّ واحداً من شروطِ نجاح القراءة التي سبق أن ألمعنا إليها.
وتحضُرُنا كمثالٍ على نصِّ "يغشُّ" قارئه ويقوده إلى سبلِ تأويلٍ وهميّةٍ قصةٌ لإبراهيم عبد القادر المازنيّ (1890-1949) بعنوان عودةُ الحاج من مجموعته صندوق الدنيا.
في هذه الأقصوصة يحكي لنا راوٍ كهلٌ بعض ذكرياته كطفلٍ. فيحدّثنا عن زيارة يوميّةٍ كريهةٍ على قلبه كانت أمّه تُرغِمه عليها كلَّ يومٍ مساءً. فهذه المرأةُ طيّبةُ القلبِ كانت تُرسِلُ، حين يجنُّ الليلُ، ابنها يحملُ شيئاً من الطعام إلى امرأةٍ عجوزٍ تثير في قلبه رعباً كبيراً. وكانت الأم تطلبُ من ابنها كتمان الأمر عن بقيّةِ أفراد العائلة.
وذات يومٍ يشهدُ في بيت العجوز ما يُشبه العرسَ ويبصر نساءً كثيراتٍ يملأنَ البيتَ لَغَطاً وصَخَباً، ضحكاً وغِناءً، بينما تزيّنُ أخرياتٌ المرأةَ العجوزَ كأنها صبيّةٌ في مقتبل العمر تهمُّ باستقبال زوجها لأول دخوله بها. ويفهم الصبيُّ ذاهلاً أنّ زوجَ المرأةِ سيعود بعد قليلٍ إلى منزله بعد رحلةٍ طويلةٍ وغيابٍ شاقٍ في زيارةٍ لبيتِ الله الحرام مؤدّياً فريضةَ الحجِّ. وينتظِرَ الصبيُّ مع النسوةِ المُنتظِرات يملؤها التلهّفُ والترقّبُ. وتمضي الساعاتُ بطيئةً ومُرهِقةً. وتفقد العجوزُ قواها فتقعُ أرضاً بلا حراكٍ غائبةً عن الوعي. وتنصرِفُ النسوةُ إلى بيوتهنَّ وقد ترَكْنَ العجوز على حالها، ودون أن ينتظرن عودةَ الآيب. وحين يسألهن الصبيُّ تفسيراً لسلوكهنّ الشائن تجيبه إحداهُنَّ بأنَّ الرجلَ قد مات منذ عشرِ سنينَ خلال زيارته لمكّة ففقدت زوجتُه عقلها وأصابها من الجنون عارضٌ. وفي كلِّ عامٍ، وفي اليومِ الذي كان ينبغي فيه أن يرجعَ من رحلته تلك تعاودها هذه اللوْثةُ، فتحِفُّ بها جارتُها، ويُعلّقْنَ الراياتِ ويتظاهرنَ أمامها بانتظار الغائب.
إنّ القارئَ يكتشفُ في نهاية القصّةِ ما كان يعرفُه الراوي منذ بدايتها، أيّ أنّ العجوزَ مجنونةٌ. ولكن الراوي لا يكتفي بأنه أخفى على قارئه جزءاً من الحقيقةِ فهو يضيف في السطر الأخير جملةً تقلب من جديد مفهومَ القارئ للقصةِ ولحبكتها رأساً على عقب. فهو يصرّح: "كانت هذه المرأةُ المسكينةُ ضرّةَ أمي!".
وبطبيعة الحال فإنّ المازني كان يعرفُ بأنّ القارئ سيؤوِّلُ الأشياء حسب مظاهرها وعلى غير حقيقة ما تُشيرُ إليه، ولقد بذل الجهدَ كلَّه لتضليلِ القارئ.
وينبغي على القارئ أن يسلكَ، على غير علمٍ منه، هذا السبيلَ الخاطئَ كي تبلُغَ الحكايةُ مأربها وكي تترك فيه أثرها. والقارئُ الحقيقيُّ الذي يخامره بعضٌ من الضجر وشيءٌ من نفاذ الصبر حين يتوهّمُ أنّه يعرفُ نهاية الرواية التي يقرؤها لابد أن تسعدَه الخاتمة التي لم يكن يتوقّعها ولابدَّ له من أن يعترفَ بجميل الراوي الذي كذب عليه طيلة فصولِ الحكاية.
إنّ القارئَ الضمنيَّ والقارئَ المُجَرّدَ والقارئَ النموذجيَّ يُظهِرون جميعهم وبجلاءٍ، وبقطع النظر عمّا يختلِفُ فيه أحدُهم عن الآخر مبدأً أساسيّاً في نظريّة الرواية هو أنَّ المُتَلقّي ينشأُ نشوءاً موضوعياً في جسدِ النصِّ نفسه. وسيّان أن يكونوا صورةً مُسبَقةً للقارئ تفترضُها الحكايةُ أو أن يكونوا أعواناً نشيطينَ يُساهمون في مجرى القصّة فإنهم يقومون جميعاً على المبدأ الذي يقول بأنّه يوجَدُ في بنيةِ كلِّ نصٍّ دورٌ يُقتَرَحُ على القارئ. وهم يُشبِهون غايةَ الشبّه صاحِبنا المَرويَّ له الخارجيَّ حتى لنكاد لا نُميّزهم عنه.
3-2-من تحليل الحكاية إلى نظريّات القراءة.
إنَّ تعدّدَ أنماط القرّاء المُحتَمَلين وتعقُّد طرق التحليل باستمرار كما رأينا فيما سبق قد نتجا عن تحوّلِ اهتمام الباحثين عن نظريّات القصّة إلى الأثر الذي تتركه القصّة.
لقد كانت النظريّات التي تعنى بالسرد ترى أنَّ غايَتها الأولى هي وصفُ الطرق السرديّة.
ولم يكن لها بالتالي أن تذهب أبعد من الجهة السرديّة. وبما أنّها كانت تعتمد منهجاً وصفيّاً لدراسة النصِّ الأدبيِّ فقد كانت تنظر إليه كما لو أنّه شيءٌ قائمٌ بحدِّ ذاته يستخدمُ بنىً وتقنيّاتٍ يمكن للتحليلِ أن يُحيطَ بها إحاطةً كاملةً.
ولكن وبقدْر ما كانت مفاهيمُ الراوي أو المَرويّ له تنتمي إلى ميدان دراسة الطرق السرديّة باعتبار أنّ الراوي والمَرويّ له يظهران بظهور النصِّ بقدر ما كان مفهوم القارئِ المُضمَر يفرِضُ على المُنّظرِ فرضاً ألاّ يكتفيّ بالوصفِ فقط.
والأمرُ أن المنظورَ يتغيّرُ تماماً إذا كانت غايتُنا هي دراسةُ عمليّة القراءة. فبدلاً من النظر إلى النظام السرديّ على أنّه بنيةٌ قائمةٌ بذاتها ومستقلّةٌ بذاتها يصبح من الواجبِ علينا أن نحلّلَه من جهةِ علاقته مع القارئ. ولا يعود من الكافي عندها أن نكتشِفَ المَرويَّ له وأن نصِفَه بل يُصبِحُ من واجبنا كذلك أن نتساءلَ كيف يتصرّفُ القارئُ حيالَ الدور الذي يقترحه عليه النصُّ الأدبيّ.
وفي الحقيقة فإن إيزير وإيكو يتطلّعان إلى ما وراء حدود النصّ حين يدرسان مفهومَ القارئ الضمنيّ أو مفهومَ القارئِ النموذجي. وليس من شكٍّ في أنَّ تحليلَهما ينصرف إلى كيف "يُجسِّدُ" القارئُ الحكايةَ أكثر من انصرافه إلى الحكايةِ ذاتها.
3-3- القضايا المُعلّقة.
تنبع الصعوبات التي استعرضناها حين درسنا مختلفَ أنماط القارئ النظريّة من أن تلك الأنماط ليست بالضبط نظريّةً تماماً ومن أنّ البرهانَ لم يقم بعدُ فاصلاً قاطعاً على حقيقةِ وجود هذه الأنماط وجوداً مستقلاً عن المُحلِّلِ يضمن سلامةَ التحليلِ وشموليّتَه.
فحين يشرعُ أمبيرتو إيكو بوصفِ ردودِ أفعالِ قارئه النموذجيِّ فإنه يصفُ في واقع الأمرِ ردودَ فعلِ أمبيرتو إيكو ذاته. وهو يقرُّ بذلك مُحرَجاً:
"إنّه ليسَ من السهل دائماً أن نفرّقَ بين التأويل النقديِّ (أيّ تأويلِ الناقدِ نفسه) وبين المُشارَكةِ المُؤوِّلةِ التي يُبرمِجُها النصُّ نفسُه والتي يضعُها في متناول جميع القرّاء. إنّ الحدودَ بين هذيْنِ النشاطيْنِ واهيةٌ تماماً. وعلينا أن نُنشِئها على قوّةِ المُشاركةِ المُؤوّلةِ وعلى بسطِ نتائجها بوضوحٍ ودقّةٍ."
وعليه فإنّ المعاييرَ التي قد تُساعِدُنا على أن نُفرّقَ بين تلقّي قارئٍ ما وتلقّي القارئِ النموذجيِّ ليست بيّنةً البتّة. ولقد استخلصَ أمبيرتو إيكو سمات القارئ النموذجي الذي اقترحه، وحسب اعترافه، بفضلِ قوّةِ مُشاركتِه المؤوِّلةِ ووضوحها ودقّتها لأقصوصةٍ كتبها الفرنسيّ ألفونس ألليه Alphonse Allais بعُنوان مأساة باريسيّة حقّاً. ولنا كلّ الحقّ بأن نشكَّ كلَّ الشكِّ بأن مُنظّراً آخرَ سيصل إلى ذات السمات وإلى ذات النتائج.
ومهما يكن الأمرُ فإنّ علينا الإقرارَ بأنّ القارئَ الذي يفترِضه النصُّ الأدبيُّ هو على الدوامِ قارئٌ وهميٌّ وأنّه ليس إلاّ فرضيّةً يُقيمُها الكاتبُ ليبنيّ حكايَته. والحقُّ أنه ليس بإمكان كاتبٍ ما حتّى ولو كان الجاحظ أو الهمذاني أن يتوجّه كتابةً إلى قارئٍ حقيقيٍّ.
إنّ الكاتبَ يتوجّهُ على الدوام إلى قارئٍ مُحْتَمَلٍ.
هل يستطيعُ هذا القارئُ أن يُعلّمنا شيئاً عن الطريقة التي يتصرّفُ بها القارئُ الحقيقيُّ الملموسُ؟.
4- القارئُ الحقيقيُّ.
4-1- التلقّي الملموسُ.
إن قصورَ النماذجِ القائمةِ على مفهومِ المَرويّ له المُجرّدِ وعجزَها عن الإحاطةِ بعمليّةِ التلقّي قد دفعَ بكثيرٍ من الباحثينَ من أمثالِ ميشيل بيكار M...Picard إلى التخلّي عن فكرة القارئ النظري وإلى توجيه اهتمامهم إلى دراسة القارئ الحقيقيِّ ذلك الفرد المَخلوق من لحمٍ ودمٍ والذي يأخذُ بالكتاب بين يديه. وهؤلاء يعتبرون أن تلك هي الوسيلةُ الوحيدةُ التي تجعلنا نفهمُ قراءةَ النصِّ الأدبيِّ على نحو مفيد ويقولُ بيكار ناطقاً بلسان زملائه إنَّ مفهومَ القرّاء المُجرّدين كان بلا ريبٍ خطوةً علميّةً هامةً قادت البحثَ النقديَّ إلى الأمام. ولكن الإيغالَ في متاهاتِ المَرويِّ له المُجرّدةِ كالقارئِ القائم في النصِّ أو القارئ الضمنيِّ أو القارئ النموذجيّ وإلى غير ذلك من دقائقَ وتصوّراتٍ طريفة يبدو في كثيرٍ من الأحيان وكأنه هروبٌ خجولٌ من مواجهةِ حقيقةٍ شائنة. وهي، ببساطة، أنَّ للقارئِ الحقيقيِّ جسداً يعيشُ فيه ويقرأُ فيه كذلك. والقارئُ الحقيقيُّ ليس أبداً روحاً تائهةً تنفلتُ في سماواتِ الحكاية دون ما قيدٍ. إنّه إنسانٌ موجودٌ حقاً ينفعلُ بصفته هذه أمام النصِّ وأمام ما يقترحُه النصُّ من عواطفَ وأهواءٍ أو من أشكالٍ فكريّةٍ وعقائديةٍ. كيف نستطيع أن ندرسَ دراسةً مُثمِرةً رواية توفيق الحكيم عصفور من الشرق بدون أن نعملَ على اكتشاف الأساليب التي تأخذُ بعواطفِ القارئِ (وهو مخلوقٌ حيٌّ يتنّفسُ ويهتزُّ انفعالاً) فتُقحِمُهُ في عالمِ الرواية إقحاماً وتجعلُهُ مُتحفّظاً قبالةَ نوايا الكاتب؟. فالنفور الحقيقيُّ الذي يشعرُ به القارئُ حيالَ محسن، وهو نفورٌ يُبرمِجُهُ النصُّ الروائيُّ ذاته (إن كان على نحوٍ مقصودٍ أو غير مقصودٍ) هو الذي يجعلُ منه رمزاً للتسامي ولقوةِ الفكر.
كيف نستطيعُ أن نُقدّرَ حقَّ تقديرها روايةَ جرجي زيدان أسير المُتمَهدي (1892) إن أغفلنا الجانبَ العقائديّ الكامنَ فيها؟ إنَّ القارئَ الحقيقيَّ مدفوعٌ على نحوٍ خفيٍّ، وراءَ سلسلةِ المغامراتِ الحربية التي تغصُّ بها الرواية ووراء قصّةِ الغرام الذي يربِطُ بطليْها، إلى قبولِ مشروعِ مصر الخديويّة وبريطانيا العظمى في احتلال السودان وبسطِ هيمنةٍ استعماريّةٍ غريبةٍ عليه؟.
إن النظريّات السرديّة لا تكفي وحدها للإحاطةِ بكلِّ أبعاد النصِّ الأدبيِّ. وليس يكفي أن نُبرهِنَ على فعّاليّةِ البنيةِ القصصيّة. بل لابدَّ لنا بعد ذلك أن نستخلِصَ تأثيرَها على القارئِ المحسوس ويبقى الأمرُ طبعاً أن نعرفَ كيف نُحيطُ بهذا القارئ تحليلاً.
4-2- أطرافُ القارئ
يقترح ميشيل بيكار في كتابه القراءة كلعبة أن نُميّزَ في كلِّ قارئٍ ثلاثةَ أطرافٍ أساسيّةٍ أو ثلاث جهات. فهناك الطرفُ القارئُ الذي يُمسِكُ بالكتابِ أثناء المطالعةِ ويحافظُ على العلاقةِ مع الوسط المحيطِ به. وهناك الطرفُ اللاواعي في القارئ والذي ينفعِلُ ببنى النصِّ الوهميّةِ ويستجيبُ إلى مؤثراته. وهناك أخيراً الطرفُ الناقِدُ الذي يصرِفُ عنايَته إلى إدراك تعقُّدِ النصِّ. وعليه فإن القراءة في نظام بيكار تبدو على أنّها علاقةٌ مُعقّدةٌ بين ثلاثة مستويات متباينةٍ في علاقتها مع النصِّ.
وليكن المقطعُ التالي الذي نقتبِسُه من سيرة ابن هشام:
"قال ابن إسحاق: وقد كان ثابت بن قيسٍ بن الشمّاس، كما ذكر لي ابن شهاب الزهريّ، أتى الزبير بن باطا القُرَظيّ، وكان يُكنّى أبا عبد الرحمن، وكان الزبير قد منَّ على ثابت بن قيس بن شمّاس في الجاهليّةِ. ذكر لي بعضُ ولَدِ الزبير أنه قد منَّ عليه يوم بُعاث- أخذه فجزَّ ناصيَته ثمَّ خلّى سبيلَه- فجاءه ثابتٌ، وهو شيخٌ كبيرٌ فقال: .."(2)
ولدينا في هذا المقطعِ شاهدٌ على الانتقالِ الدائمِ بين المستوياتِ المذكورة. فهذا النمطُ من الكتابةِ الذي يُقدّمُ للقارئِ خبراً يُلحِقُهُ مباشرةً بخبَرٍ آخر يشرحُه أو يعدّل منه يعيقُ استكانةَ القارئِ للنصِّ ويعبِّئُ كلَّ طاقته. فإن كانت الجملةُ الأولى تنتمي إلى الوهم السرديِّ وتُبشِّرُ بمتعةِ الحكاية- كان الزبير قد منَّ..- أي أنها تقصدُ طرفَ القارئِ الذي يستجيبُ لنداء السردِ، وإلى الطرفِ الذي يأخذُ بالكتابِ بين يديْه، فإنّ تعليقَ ابن إسحاق- ذكر لي بعضَ ولد الزبير أنّه قد منَّ عليه يوم بُعاث- يتوجّهُ إلى طرفِ القارئ الناقدِ الذي يمسكُ بمجموعِ النصِّ المُعقّدِ وبعلاقته مع التاريخ.
ويمكن أن نضرِبَ على ذلك مثالاً آخر نأخذه من موسم الهجرة إلى الشمال وخصوصاً الفصل السابع منها. ففي هذا المقطع يختلطُ خطابان ويتداخلان فيُؤثّرُ كلٌّ منهما في الآخر ويُظهِران بجلاء العلاقةَ بين أطراف القارئِ الثلاثة. فالهذيانُ المحمومُ تحتَ أشعّةِ الشمسِ الحارقةِ والصورُ المُلوَّنةُ لنساءٍ عارياتٍ والجملُ المُتألّمةُ على لسان نُسوةٍ تُعذّبهُنَّ الشهوةُ والإثمُ يبدو ذلك كلُّه تعبيراً عن الرعبِ الذي يجتاحُ الراوي بسبب جنونِ مصطفى سعيد وهولِ الرغبات التي أثارها. ومن شأن هذا كلّه إقلاق طرف القارئ اللا واعي.
ولكن لقاء السيّارة الحكوميّة المُعطّلة وبها خمسةُ عساكر ثم قصّة المرأة التي قتلت زوجها توقفُ مؤقّتاً سيلَ الهذيان الذي يجتاحَ طرفَ القارئ الذي يُمسكُ بالكتاب ويعيه تمامَ الوعي طرفُه الناقدُ الذي يُدركُ أنَّ هذا المشهدَ إرهاصٌ بجريمة القتلِ الطقسيّةِ التي سترتكبُها حسنة بنت محمود أرملةُ مصطفى سعيد.
ولكن تقسيم بيكار هذا، وعلى أهميّته، يُثيرُ بعض التحفّظات. فإن كان وجودُ الطرفِ الأوّلِ الماديّ أمراً لا ريب فيه فإن مفهومَه لا يُساعدُنا كثيراً على تحليلِ النصِّ بالمعنى الدقيق. ويصعُبُ علينا كذلك أن نقبلَ بمبدأ سلبيّة الطرفِ الثاني. ونرى أن هناكَ موقفاً مُتوسّطاً بين المُشاركةِ النقديّةِ في النصّ والاستجابة السلبيّة لنداءاته. ومن جهةٍ أخرى إن كان ما يُميّزُ الطرفَ الثالثَ في القارئ هو أنه يتّخذُ بينه وبين النصِّ مسافةً تساعده على النقدِ فإنه من الضروريّ ولا شكَّ أن نُنشئَ درجاتٍ في تلك المسافة.
4-3- أنموذجٌ يُستَكمَلُ؟
إن نظام بيكار الذي عرضناه فيما سبق ناشئٌ بطبيعةِ الحال عن طريقته العامة في تحليلِ النصِّ الأدبيِّ، أي الإحاطة بعمليّة القراءة بوصفها لعبة ذات قواعد. ولكن إن طرحنا بعيداً عنّا هذه الطريقة في التحليل ورغِبنا أن نحيطَ إحاطةً نظريّةً بمختلف الجهات القارئةِ لوجب علينا أن نعيد النظر في هذا النموذج. فنُهمل مفهومَ الطرفِ الأوّلِ القارئ ونهذّبُ تعريفَ الطرفِ الناقد.
لقد سبقَ لنا ورأينا أن طرفَ القارئ الناقد لا يغيبُ عنه أبداً أن النصَّ هو بناءٌ يُبنى قبل أن يكونَ أيّ شيءٍ آخر. وكلُّ بناءٍ يتطلّبُ مهندساً. وعليه فإنَّ عينَ هذا القارئِ مشدودةٌ على الدوام إلى طيفِ الكاتبِ الذي يقودُه من خلال علاقاته مع النصِّ. ويُمكن أن يُنظَرَ إلى الكاتب بطريقتيْن.
إنّ المؤلّفَ هو الجهةُ السرديّةُ التي أنشأت العملَ الأدبيَّ وهو كذلك الجهةُ المُثقفةُ الواعيةُ التي تسعى من خلال النصِّ أن تنقلَ رسالةً ما.
وعليه فإننا نستطيعُ أن نعتبرَ أن الطرفَ القارئ ذو وجهيْنِ أو ذو شخصيّتيْن. فهو قارئٌ يلهو حين يحاولُ أن يُخمّنَ سياسةَ النصِّ السرديّة وهو قارئٌ مؤوّلٌ حين يسعى إلى فكِّ رموز الغاية التي يقصدها النصّ بأكمله.
إن قارئَ موسم الهجرة إلى الشمال يتسلّى مع الراوي الأول ويحاولُ أن يتنبّأَ بخاتمة مصطفى سعيد وبمصير الراوي النكرة بينما يسعى إلى تحليل الرواية لاستخلاص ما تهدف إليه. إن سؤال كيف ستنتهي مغامرة مصطفى سعيد يرافقه باستمرار سؤالٌ آخر هو ماذا يُريدُ أن يقولَ لنا الطيب صالح من خلال سيرة بطله؟.
وإذا كان طرفُ المشاطرةِ النقديّةِ في القارئ يُدركُ النصَّ من خلال صلتِه بمؤلّفه فإنّ الطرفَ اللاواعي الذي يستجيبُ لبنيةِ النصِّ الروائيّةِ يستوعبُ عالم الرواية بذاته ولذاته. وهذا الطرفُ من القارئ هو الذي يقعُ في حبائلِ الوهم السرديّ الذي يجعله يحسب، خلال فترة القراءة، أنّ عالم النصّ عالمٌ حقيقيٌ وموجودٌ حقاً. ولأنه ينسى طبيعة النصّ اللغويّة فإنه يُصدّقُ ما يُقالُ له فيه. وهذا الطرفُ هو الذي يجعلنا نتعاطفُ مع مصطفى سعيد ونثور لنهاية حسنة بنت محمود ونحسُّ صقيع لندن يدبُّ في أعطافنا.
وينبغي علينا كذلك أن نضيفَ تأثير بعض دوافعنا الغريزية اللاواعية. فثمّة مستوى من القراءة يجدُ القارئ في بعض مشاهده صدىً أو انعكاساً لأحلامه الخفيّة ولهلوسته التخيّليّة. وعندها تنشُطُ علاقةُ القارئ مع ذاته وعلاقته مع لا وعيه. وليس انجذابُ القارئ لمشاهد العنفِ أو لوصف العلاقات الغراميّة إلاّ تنشيطاً آنيّاً لغرائزَ فيه أسكنتها التربيةُ والكبتُ. وكذلك النزوعُ إلى السلطة ومراكز القوّة التي تحرّك بعض الشخصيّات الروائيّة فإنها ترضي الرغبات الدفينة في القارئ.
4-4- الأسُس النفسيّة
إنّ القوْلَ بأنّ كلّ قارئٍ يحملُ في تكوينه كقارئٍ أطرافاً أساسيّةً مُعيّنةً ثم العملَ على استخلاص تلك الأطراف وتحديد معالمها يفترضان أن جميع القراء يمتلكون عدداً من الثوابت النفسيّة المشتركة. وفي حقيقة الأمر فإنّه ليس من المُمكن أن نأمل بأن نحيط بعمليّة القراءة وأن نفهمَ إن غابت عنّا هذه المُسلّمة. إنّ كلّ إنسان يحملُ بالإضافة إلى صفاته الشخصيّة الفريدة الفذّة عدداً من الصفات العامّة الموجودة عند كلّ الآخرين.
إنّ هذه الطريقة بتحليل نشاط القراءة تنسجم مع معطيات التحليل النفسيّ. ونحن نعرف مثلاً أن بعض مفاهيم سيجموند فرويد تفترض بالفعل وجود وقائع نفسيّة ثابتة تجتاز التاريخ ويعرّف التحليلُ النفسيّ مثلا الاستيهامات الأولى بأنها البنى التخيّليّة الوهمية النموذجيّة (الحياة في بطن الأم والمشهد الأصليّ والخصاء والإغراء) التي تُنظّمُ الحياة الاستيهاميّة لكلّ منا مهما كانت تجربتُه الشخصية.
وإذ نعرّفُ القارئ الحقيقيّ على أنّه موضوعٌ بيولوجيّ وبسيكولوجيّ معاً فإننا نضعُ في متناول يدنا الأدوات اللازمة التي نحتاجها لتحليل تجربة القراءة تحليلاً دقيقاً. وإذا كان مفهومُ القارئ المُجرد يساعدُنا على فهم كيف يعملُ ظاهرُ النصّ فإنّ النظر إلى القارئ الحقيقيّ على أنه حامل لردود أفعال نفسيّة ولنزوات يشتركُ بها الناسُ جميعاً يساعدنا على فهم كيف يعملُ باطنُ النصّ.
وبعد أن درسنا المروي له الخارجيّ، أي بعد أن رأينا كيف يتخيّلُ النصّ قارئه، علينا أن نحلّل الآن كي يتصرف القارئُ أمام الدور الذي يقترحه عليه النصّ.
نحنّ نعرفُ مثلاً أنّ المرويّ لـه في رواية دوستويفسكي Dostoieveski الجريمة والعقاب يشهد أحداثَ الرواية من خلال زاوية راسكولنيكوف القاتل. فهو يطّلع بذلك على خبايا نفسه ويدركُ مقدار عذابه.
ما هي نتائجُ هذه المعرفة الحميميةِ بذات القاتل على القارئ الحقيقيّ؟ ما هي نتائجُ هذا التفهّم لفعل آثمٍ يُدرَكُ من داخله ويُبرّرُ ولكنه يُرفضُ بلا ريبٍ في الحياة الواقعيّة؟
إنّ تحليل القارئ على أنّه موضوعٌ بيولوجيّ وبسيكولوجيّ يمكن له أن يُجيبَ على هذا النمطِ من التساؤلات.

¡¡
¡ هوامش الفصل الثانيّ
(1) الجاحظ ، كتاب البخلاء تحقيق طه الحاجريّ، القاهرة، دار المعارف بمصر، سلسلة ذخائر العرب، بدون تاريخ، صفحة 13.
(2) ابن إسحاق السيرة النبويّة برواية ابن هشام، تحقيق مصطفى السقّا وإبراهيم الإبياريّ وعبد الحفيظ شلبي، القاهرة، شركة ومطبعة مصطفى الحلبيّ، الطبعة الثانية 1955 الجزء الثاني، صفحة 242.


¡¡¡




الفصل الثالث :كيف نقرأ النصّ الأدبيّ؟


مخطّط الفصل الثالث:
1-العلاقة بين النصّ وقارئه
1-1-نقصانُ النصّ
1-2-التلقّي بصفّته استكمالاً للنص
1-3-الثابتُ والمضطرب
2-النصّ الأدبيّ من حيث أنّه ترجمةٌ
2-1-عقدُ القراءة
2-2-المراسي
2-3-منازلُ الظنّ والتخمين
3-دور القارئ
3-1-الاستباقُ والتبسيطُ
3-2-القراءةُ بصفتها توقعاً
3-3-كفاءاتُ القارئ
3-4-خبراتُ القارئ
هوامشُ الفصل الثالث





1- العلاقة بين النص وقارئه

1-1-نقصانُ النصّ
إن الإجابة على سؤال (كيف نقرأ نصاً أدبيّاً؟) تقتضي أن نحدّد نصيب كلّ من النص وقارئه في عمليّة تجسيد معنى النص، أي في عمليّة إخراج المعنى من حالة الكمون إلى حالة الظهور. فالقراءة ليست تلقياً سلبيّاً أبداً. وإنما هي تفاعل خلاّق ومشاركة حقيقيةٌ بين النص والقارئ. والعمل الأدبي يحتاج، تعريفاً، وبسبب طبيعته وبنيته، إلى مساهمة الموجّه إليه الإيجابيّة. فالعالم الذي يُنشئه النص لا يمكن له إلاّ أن يكون ناقصاً. إذ أنه ليس من المستحيل وحسب أن ننشئ عن طريق النص الأدبي عالماً كاملاً بديلاً للعالم الواقعي، بل إنه من المستحيل كذلك أن نصف فيه العالم الواقعي وصفاً شاملاً جامعاً وليس في مقدور الرواية قط أن تعرض كوناً يختلف الاختلاف كلّه عن العالم الذي نعيش فيه. فحجم الكتاب وعدد صفحاته لا يبيح ذلك. وهي كذلك لا تستطيع أن تذكر كلّ التفاصيل التي تتعلّق بالوسط الذي نتحرّك فيه وإلاّ صار الوصف بلا نهاية.
ويكفي أن ننظر في شخصيّات العالم الروائي. كيّ ندرك هذه الاستحالة المركّبة. فالنص الروائي يعجز عجزاً كاملاً عن إبداع شخصيّات تختلف اختلافاً كاملاً عن الشخصيّات الحيّة التي يحتكّ بها القارئ في حياته اليوميّة. بل وإن أكثر المخلوقات غرابة، كتلك التي نجدها في روايات الخيال العلمي مثلاً، تظلّ تحتفظ بصفات وخصائص يستعيرها المؤلّف من تجربة العالم الحقيقي الواقعي وليست هذه المخلوقات في نهاية المطاف إلاّ كائنات بشريّة مشوّهة. ولنتأمّل وصف العفريت التالي من ألف ليلة وليلة.
"ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض، فتعجّب غاية العجب، وبعد ذلك تكامل الدخان، واجتمع ثمّ انتفض فصار عفريتاً رأسه في السحاب ورجلاه في التراب برأس كالقبة وأيدٍ كالمداري ورجلين كالصواري وفمٍ كالمغارة وأسنان كالحجارة ومناخير كالإبريق وعينين كالسراجين، أشعث أغبر.."(1)
وهذه كلّها صفات بشريّة اكتفى الكاتب بتضخيمها.
وكذلك الأمر في كتاب زكريّا بن محمّد القزويني (1201-1283) الشهير عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. فهو حين يريد وصف شياطين الدنيا الذين حشرهم الله أمام النبيّ سليمان يستعير التفاصيل من عالمي الإنسان والحيوان:
"فرآهم سليمان على صور عجيبة. منهم من كانت وجوههم في أقفيتهم وتخرج النار من فيهم، ومنهم من كان يمشي على أربعٍ، ومنهم من كان له رأسان، ومنهم من كانت رؤوسهم رؤوس أسدٍ وأبدانهم أبدان الفيل. ورأى سليمان شيطاناً نصفه صورة كلب ونصفه صورة سنّور وله خرطوم طويل.."(2).
وسبب ذلك أنّه يستحيل على القارئ أن يتصوّر مخلوقاً يختلف عنه كلّ الاختلاف! وكذلك يستحيل على المؤلّف أن يصف وصفاً كاملاً إنساناً حقيقياً!
ولنفترض جدلاً أن بإمكاننا وصف مظهره ورسم طباعه على نحو يقارب الحقيقية، فإنّه ينبغي علينا كذلك، من أجل إنشاء صورته الكاملة أن نذكر كلّ العلاقات التي تربطه بالآخرين، وبألوف الأشخاص الذين صادفهم في طفولته ثمّ في صباه ومراهقته، والعلاقات التي تشدّه إلى البيئة المحيطة به كالطبيعة والبحر والهواء والحرارة.. إلخ وهذه حلقات من سلاسل لا تنتهي أبداً بالمعنى الحرفي الكلمة.
فأبو سفيان بن حرب (توفي نحو 652) أو أميّة بن أبي الصلت (؟- 630) أو امرؤ القيس (500؟- 540؟) أو جبلة بن الأيهم (توفي نحو 644) هم فوق ما يصفهم به معروف الأرناؤوط (1892-1948) في روايته سيد قريش (1928). وفي ما ينوف عن 480 صفحة من القطع الكبير! (3) والنبي العربي محمّد بن عبد الله هو أكثر مما يقوله عنه نفس الكاتب في روايته المذكورة ومحمّد ابن إسحاق (توفي 767) في تهذيب سيرة ابن هشام والواقدي (747- 822) في المغازي معاً.
فهؤلاء الأشخاص التاريخيّون يستمدّون كثافتهم وقوامهم من ثقافة كلّ قارئ عربي والتحامه بتاريخه وهم يعيشون بكلّيتهم في ضميره. وبما أنّ الرواية تعجز عن الإحاطة الشاملة بهم فإن سيد قريش تسكن إلى معرفة قارئها بتاريخه ليُكمل ما لا يذكره النص الأدبي.
1-2- التلقّي بصفته استكمالاً للنصّ:
إنّ النص الروائي ناقصٌ بنيوياً ولا بدّ له من مشاركة القارئ. ويمكننا القول بأن على القارئ أن يُكمل النص في أربعة ميادين أساسيّة ألا وهي ميدان الاحتمال أو مشابهة الواقع، وميدان تلاحق الأحداث وتتابعها، وميدان المنطق الرمزي، وأخيراً ميدان مغزى النص العام. وسنناقش فيما يلي كلاً من هذه النقاط الواحدة تلو الأخرى.
وبما أنّه من المستحيل على المؤلّف أن يصف الشخصيّات الروائيّة أو إطارها الجغرافي أو الموقف الروائي وصفاً كاملاً فإن القارئ يُكمل السرد من خياله حسب ما يظهر له على أنّه محتمل أو قريب الوقوع.
ولنقرأ كيف يصف لنا علي عقلة عرسان (1941) زينب زوجة بطل روايته صخرة الجولان (1982) حين يذكرها للمرة الأولى:
"وتراقصت صورتها أمام ناظريّ وهي تعود من الحصاد، ثوبها مغمس بالعرق، والتراب يكسوها حتى أخمص قدميّها، وفمها ممتلئ بالغبار حتى لتغص به، ولا يكاد وجهها الحبيب يظهر من بين طبقات التراب المتراكمة عليه ورائحة الشقاء البشري تفوح منها إلخ" (4) وهذا الوصف يكاد يخلو من إشارة واحدة إلى شخص زينب. أهي طويلة أم قصيرة؟ سمراء أم شقراء؟ ما لون عينيها؟ ما شكل أنفها؟ هل تقاطيع وجهها متسقة أم لا؟ هل وجهها بيضاوي أم متطاول أم مستدير؟ الخ. وبعد صفحات قليلة يضيف النص إشارة توحي بأكثر مما تُظهر:
"وعلى صفرة الأسى في الوجه النحيل تطفو بقعة ربيعية كواحة ترتفع لظامئ في الصحراء"(5).
إن زينب الفقيرة التي تكافح أثناء غياب زوجها لإطعام عائلتها الصغيرة تهم راوي علي عقلة عرسان أكثر مما تعنيه صفاتُها الجسديّة. وعلى القارئ بلا ريب أن يستكمل ملامحها. وهي ستبدو لأغلب القرّاء امرأة ناحلة، سمراء أو قمحيّة اللون وذات عينين واسعتين سوداوين ترتدي ثوباً طويلاً غابت ألوانه. الخ.
فالإطار الجغرافي (حوران) الذي تشير إليه الرواية يفرض على القارئ مجموعةً من الصفات العامة التي يعرف بثقافته أو يعتقد أنها تميّز هذه المنطقة من سورية. وكذلك الأمر حين يتخيل بطلُ الرواية ابنه فإنه يقول:
"زيد بعيونه العسلية ووجهه الناعم وشعره الأسود الأملس"(6).
ولا بد للقارئ هنا كذلك من أن يُكمل من خياله بقية ملامح الطفل.
وكذلك يهمل السرد عادة ذكر تفاصيل الحركات الثانويّة فيلجأ القارئ إذّ ذاك ومن تلقاء نفسه إلى إعادة تركيب الوقائع وبناء مجموع الحركات الغائبة معتمداً في ذلك على منطق الحدث.
ولنأخذ على سبيل المثال وصف إطفاء اللفافة فهذه الحركة تفترض أن يمد المدخّن يده باللفافة التي يلتقطها بين إبهامه وسبابته فيطفئ جذوتها بأن يسحق طرفها في المنفضة. ولكن أحمد زياد محبك (حلب 1949) يكتفي بجملة قصيرة:
"وداد تُطفئ بقيّة سيجارتها"(7).
أي أنه يكتفي بذكر حركة واحدة من مجموع الحركات الضروريّة لإطفاء اللفافة ويقوم القارئ تلقائيّاً بتخيل الحركات الناقصة.
ونجد كذلك عند حسن حميد (1956) الجمل التالية ولعلّه من أكثر الكتّاب لجوءاً إلى هذا الإيجاز الشديد:
"ووضعوا رجلاً فوق رجل ودخنّوا الأراكيل كذلك"(8).
وكل من هذه الجمل يصف جزءاً واحداً من عمليّة معقّدة فيها كثير من الحركات ولكن القارئ يملأ الفراغ من مخيلته ومن ثقافته الحياتية. ولكنّه قد يعجز عن ذلك فيبقى هذا الجزء من السرد غامضاً يستغلق فهمُه عليه. كما هي حالة قارئ لا يعرف ما هي النرجيلة مثلاً ولا كيف تدخّن!
ولكن السرد قد يتطلّب مساهمة القارئ في تخيّل مجموعة من الأحداث أعقد بكثير مما ذكرناه ولننظر في المقطع التالي من ابن إسحاق:
"قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبد الله بن سلاّم، كما حدّثني بعض أهله عن إسلامه حين أسلم، وكان حبراً عالماً، قال: لمّا سمعت برسول الله صلّى الله عليّه وسلم عرفتُ صفته واسمه وزمانه الذي كنّا نتوكّف له، فكنت مُسراّ لذلك، صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فلّما نزل بقباء في بنى عمرو ابن عوف، أقبل رجل حين أخبر بقدومه.."(9).
فهذا النص يتراكب في ثلاثة طوابق. فالراوي الأول محمّد بن إسحاق بن يسار كتب مؤلفه في القرن الثاني للهجرة /القرن الثامن للميلاد ومات في بغداد (767م) والراوي الثاني عبد الله بن سلاّم توفي في القرن الأول للهجرة / القرن السابع للميلاد (664م) وهذا بدوره يحكي قصةً جرت معه قبل عام (622) سنة جاء الرسول العربي فيها يثرب. وإذا استطاع القارئ أن يسافر عبر القرون من ابن إسحاق إلى ابن سلاّم ومنهما إلى رسول الله خلال بضعة أسطرٍ، ودون أن يشعر بانقطاع في الزمن أو في المكان السرديّين فلأنه استعان بثقافته التاريخية وملأ بها الفراغ الذي يفصل بين الراويين والأحداث التي يذكرانها.
ولقد يشير النص في أحيان كثيرة إلى شيء آخر غير ما يُظهره أو غير ما يظهر أنّه يعنيه، وهنا يتوجّب على الطرف المتلقّي أن يفكّ ألغاز اللغة الرمزية، ولكي يبلغ مراده هذا لا بد له أن يأخذ بعين الاعتبار انتقال النص من السرد المباشر إلى الإيحاء أو التشبيه أو التمثيل.
فالحب الذي يعيشه محسن وسليم وعبده في رواية توفيق الحكيم عودة الروح (1933) مثلاً هو الشكل الفني لمشاعر البورجوازيّة الصغيرة في مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وتعلّق محسن وأعمامه بسنّية، الفتاة التي ترمز إلى مصر، هو الترجمة الروائية لتفتح المشاعر الوطنيّة عند تلك البرجوازيّة وبداية وعيها بانتمائها إلى ماضٍ تليدٍ. وبطبيعة الحال يمكن أن يرى القارئ العجول هذين الجانبين في عودة الروح على أنّهما منفصلان لا علاقة لأولهما بثانيهما أو على أنهما لحظتان متعاقبتان أو متوازيتان في السرد الروائي. ولكن قراءة يقظة يمكن لها أن تزيح النقاب عن سلسلة المعادلات الرمزيّة تلك وعن دورها في تنظيم الحكاية.
وفي مكنة القارئ أخيراً أن يكتشف المعنى العام الذي أراد المؤلّفُ أن تحمله روايتُه. ولهذا ليس على القارئ أن يرصد تدخّل الراوي المقصود في النص وحسب وإنّما عليه أن يُحيط ببنية النص العامة كذلك.
ولقد بنى توفيق الحكيم مثلاً روايته عصفور من الشرق على مجموعةٍ من المعارضات الجوهريّة والتي تتفرّع عنها متناقضات أخرى ثانويّة ينظّمها ذاتُ المنطق. ولا بد للقارئ من أخذها بعين الاعتبار ليدرك هدف الرواية العام أي إدانة الحضارة الأوربية الحديثة إدانةً شاملةً قاطعةً باسم قيم القرون الوسطى النخبوية الأرستقراطية التي مثلها الشرق بقسميه، البوذي من جهة ومجموعة الديانات الموحّدة من جهة أخرى، حسب ما يراه توفيق الحكيم، ومثاقفة محسن بطل الرواية يُفترض بها أن تبرهن للقارئ على التناقض الجوهري القائم بين الشرق والغرب. وهذه المثاقفة تتحقق خلال تجارب وفي ميادين تهدف إلى إبرازي التناقض الأساسي.
يشغل ميدانُ الأسرة الفصول الستة الأولى من الرواية . وهي تسعى إلى إقناع القارئ بتمزّق الروابط في صدر الخليّة العائليّة الأوربيّة، وتلخّص سيّدة فرنسية عجوز هذا الوضع بقولها:
"في زماننا كان البيت كل شيء! لقد ذهب كل شيء طيّب بذهاب زماننا.. ولم تعد هنالك أسرة.. الرجل والمرأة في المصنع طول النهار.. ولا أمل في أن ينشأ الولد على الخلق القويم . يا له من زمن عجيب!"(10).
وأما الميدان الثاني فهو ميدان العلاقة بين الرجل والمرأة. وفيها يمثّل محسن الرجلَ الشرقي وهو الطهر جُعل إنساناً ورمز الشعر والفن والخيال. وأمّا سوزان ديبون الفرنسيّة فهي ترمز إلى أوروبا وإلى نزوة الجسد وإلى لون الصلصال المحترق. وباختصار إلى الحيوانيّة الثقيلة والأنانيّة المجرمة اللتين تسمان كل النساء وخصوصاً نساء أوروبا منهن، كما يرى توفيق الحكيم.
وأمّا تجربة المثاقفة الثالثة ونعني صداقة محسن المصري مع العامل الروسي المهاجر إلى باريس فتهدف إلى رفض الفكر الأوروبي الحديث برمته وإلى إدانته بشقيه اليساري واليميني الغربيّين معاً.
وهذه السلسلة من المعارضات هي التي تقود القارئ إلى فهم غاية الكاتب من كتابه: إدانةُ النموذج الحضاري الذي تمثّله أوروبا الصناعيّة واستنكار افتتان النخبة الشرقيّة بمبادئها..
"كل هذا العلم الحديث الذي يبهرك ليس في حقيقته غير طريقة وأسلوب. نعم إن الجديد حقاً في العلم الأوروبي الحديث هو أسلوب التفكير المنتظم وطرائق البحث العقلي المرتب. أما أكثر من ذلك فلا […] إنها مدنيّة لا تدرك ولا تعترف إلا بما يقع تحت لمسها وبصرها ومنطقها. ولا تقوم إلاّ على عالم المحسوس. وإنّي أصرّ على أن هذه الحضارة إن هي إلاّ مدنيّة ناقصة"(11).
ولكن يندر في العادة أن يجدّ القارئُ في الرواية الناضجة هذه المعارضات الصريحة والمكشوفة. وهي أكثر ما توجد في الروايات التعليمية أو في الروايات التي تهدف بصورة أساسيّة إلى الدفاع عن قضيّة عقائديّة معينة. وأمّا الروايةُ الفنيّة الناجحة فإنها تكتفي عادةً بإشارات رقيقة أو بتلميحات لطيفة فتترك للقارئ مهمة أن يُنشئ بمشاركته الفطنة معناها العام.
1-3- الثابتُ والمضطرب:
وإذا كان القارئ حرّاً ومقيّداً في آن واحد خلال عمليّة القراءة الأدبيّة فذلك لأن تلقّي النص يتحققُ حول قطبين أو محورين أحدهما ثابت واضح ويقيني والآخر قلق مضطربُ وظني.
وأما القطبُ الأول فهو الأماكن الصريحةُ في النص والمقاطعُ الواضحة فيه والإحالات البيّنة به. واستناداً إليها نتبين معنى النص العامَ. وأمّا قطبُ التلقّي الثاني فهو المقاطعُ الغامضة والإشارات المُلتبسة والتي تقتضي مساهمةَ القارئ لتأويلها.
والمقاطعُ الواضحة التي تؤّول أو تُقرأ مباشرة هي تلك التي تنشأ على القواعد النصيّة وعلى قواعد السرد كما أظهرتها المدارسُ ذات النزعة البنيويّة أو ذات الاتجاه الدلالي. وحين يكون أمامنا نصٌ كثيف يستغلق فهمُه فإنه من المثمر في أحيان كثيرة أن نؤسس التأويلَ على وشائج التشابه في مقاطع النص أو على تعارضها واختلافها أو على طريقة توزيعها وانتظامها انتظاماً هرميّا.
ومهما يكن الأمرُ فإنه من الضروري أن نميّز في كل قراءة بين جهتين أو بعدين الأولى هي تأويل يُبرمجه النص ويفرضه على القارئ، والثانية تأويلٌ لا يتعلّق إلاّ بالقارئ نفسه.
2-النص الأدبيّ من حيث أنه "برمجة".
2-1-"عقدُ" القراءة
إن النص الأدبي "يبرمج" شكلَ تلقيه بأن يقترح على القارئ مجموعةً من القواعد العامة المتفق عليها وكذلك نقاطاً يلتزم بالعمل بها وبتطبيقها. وهذا ما أسماه النقّادُ "بعقد" القراءة.
ويُحدّد النصُ الأدبي على وجه العموم طريقةَ تأويله إذ ينخرط في نوع أدبيّ معين أو حين يتخذّ مكاناً له ضمن المؤسسة الأدبيّة الرسميّة. فالنوعُ الأدبي مثلاً يحيل القارئ إلى مجموعة من القواعد التي تواضع النقّاد على أنّها تميز هذا النوع عن غيره. فيثير هذا عند القارئ توقعاً معيّناً. ويجعله في حالة "نفسيّة"خاصة".
فهو قد يتقبّلُ أن ينهض ميتٌ من قبره في الرواية الخيالية وقد لا يجد غضاضة في أن يظهر جني من قمقم أو أن يطير بساطٌ يحمل رجلاً حين يقرأ حكاية شعبيّة من حكايات ألف ليلة وليلة ولكنه سينكر هذه الأحداث بقوة إذا وجدها أو ما يماثلها في الرواية الاجتماعية أو في الرواية الواقعية مما يكتبه عادة نجيب محفوظ! ولقد رضي القارئ السوري على سبيل المثال أن يبعث زكريّا تامر عمر المختار أو يوسف العظمة من قبريهما هجاءً للواقع العربي المعاصر في بعض قصصه الصغيرة الغاضبة. ولكن هذا القارئ سيستغرب كثيراً إن رأى سيّارة مثلاً في رواية جرجي زيدان (1861-1914) الحجّاج ابن يوسُف الثقفي (1902) أو رأى جبلة بن الأيهم يدخّن لفيفةً تبغ في سيد قريش لأن هاتين الروايتين التاريخيتين تتناقضان عندئذ مع حقيقة التاريخ الذي يقتضي نوعُهما الأدبي أن تلتزما بها التزاماً صارماً.
وقد يحدث أن يكون النص غامضاً أو يصعب تصنيفُه بين الأنواع الأدبية المعروفة أو أن يثير حيرة القارئ فعندها تتجه أبصارُ هذا الأخير نحو المؤسسة الأدبيّة وهيئاتها ينتظر منها أن "تفتيه" حول شرعية النص الأدبية أو أن تضمن له على الأقل انتماءه إلى الأدب، أيّ أنّه ينتظر منها شهادة "حسن سلوك" تمنحها لنصوص تثير ريبته وشكوكه. وهذا ما قامت به المؤسساتُ الأدبيّة العربيّة في العقد الخامس من هذا القرن حين ظهرت كتاباتٌ من نوع جديد لا تنتمي إلى ما كان يألفه القارئُ من الأنواع الأدبية ولا إلى ما كان قد تواضع عليه النقّادُ في ميدان الشعر "فأفتى" بذلك المجددون في الأدب وقبلتها المؤسساتُ وأسمتها شعر التفعيلة وأدخلتها في صنف الأنواع الأدبيّة الشرعيّة!
وهذا ما قامت به هذه المؤسساتُ كذلك حين ظهرت بعضُ الروايات التجريبية التي كانت تعتمد ما كان كتابها يحسبون أنه تيار التداعي أو تيّار اللاوعي، كنصوص إسماعيل فهد إسماعيل (البصرة العراق 1940) كانت السماء زرقاء – 1970 والمستنقعات الضوئيّة 1971 والحبل 1972 "فقد أثارت حيرة بعض القرّاء وتحفظهم قبل أن تضمن الهيئاتُ الأدبيّة قيمة هذه النصوص الفنية.
والحق أن ميثاق القراءة ينعقد بين النص وقارئه في مكانين على الأقل، في فاتحة النص الأدبي ومطلعه أولاً وفي هامشه ثانياً.
وينعقد ميثاق القراءة ويظهر على نحو ضمني وغير مباشر في مطلع النص ومستهلّه. والأسطر الأولى من النص تحدد بشكل حاسم طريقة تلقيه.
فهناك: "حدثنا عيسى بنُ هشام: قال: … "الشهيرة التي تستهل أغلبَ مقامات بديع الزمان الهمذاني (969-1007) وهناك قرينتها التي لا تقل عنها شهرة: "حدث الحارث بن همام: قال .." التي تفتح مقامات الحريري (1054-1222) مع تنويعاتها حكى وروى وأخبر . وكلها تؤذن منذ مطلع النص بأننا نلجُ بفضلها باباً يقودُنا إلى عالم الكدية والمغامرة الهازئة بالأعراف والتقاليد الاجتماعية. وهناك كذلك "كان يا ما كان، في قديم الزمان.." التي تهمسُ بها جداتُنا حين يُدخلننا جوَ الحكاية الشعبية السحرية.
ولكن لمطلع النص وظيفةٌ أخرى. وهو غالباً ما يحدد ميدانَ قراءة النص. ولنعدْ إلى رواية علي عقلة عرسان فهي تبدأ على النحو التالي:
"وقفتُ اليوم على سفح الجبل الذي ارتبطت به ارتباط جذر الشيح بالأرض ونظرت من فوقه باتجاه الشرق كما هي عادتي منذ أصبح الجبل الدنيا بالنسبة لي. كانت القرى والمزارع على مد النظر، منبطحة تحت مرمى ذراعي ككائن جريح.."(16).
فالكاتب يرمي بقارئه رمياً لا هوادة فيه في عالم واقعي تغشاه نزعةٌ عاطفية أليمة: رجلٌ ينتصب واقفاً على جبل يشرف على وادٍ كأنه حارس للأرض والسماء معاً يضرب بجذوره عميقاً في أرض الوطن وتاريخه. إنه رمزٌ للمقاومة وللصمود يغرس في زمن الرواية ولكن هذا لا يحيط به
ثم يضيف علي عقلة عرسان، اعتباراً من السطر الثامن، تفاصيل جديدةً تحدد انتماء هذا الرجل الاجتماعي: فلاّح فقير أرغمته ظروفُ الحياة القاسية على الاغتراب بعيداً عن أسرته وقريته قبل أن يلبي نداء الوطن. وهذه العناصر تشكلُ الإطار الدلالي الذي ستنمو فيه أحداثُ الرواية.
وأخيراً فإن عقد القراءة لا يفتأ يظهر طيلة النص من خلال التزام هذا الأخير بمجموعة من القواعد والأعراف وتقيده بها. وهذه المعايير تُنظّم شكلَ التلقي. والحق أن كل نص ينخرط في لغة معينة يفرضُها نوعُه الأدبي وفي أسلوب وتقاليد يستعين بها القارئ حين يُؤول ما يقرأ. فأقاصيصُ عبد الله عبد (1928-1976) لا تثير عند قارئها ما يتوقع أن يجدَه حين يأخذ بين يديه أقاصيص يوسف إدريس (1927-1991) مثلاً. تماماً كما أن قارئ إحسان عبد القدوس ينتظرُ أن يقرأ في مؤلفاته غير ما ينتظره حين يشتري روايات عبد الكريم ناصيف (1939)! فلغةُ النص في كل هذه الأمثلة، ومفرداته وبنيتُه، وطريقته في انتقاء الصور والتشابيه وشكلُ تنظيمها وتسارعُ الأحداث وتساوقُها تمتثل جميعها لمبادئ تختلفُ كل الاختلاف بين نوع أدبي وآخر. والقارئُ لا يبحث عن ذات المتعة ولا عن ذات الأثر عند هذا الكاتب أو عند ذاك.
وأمّا هامشُ النص فنعني ما يحيطُ به من توطئة وفذلكة ومقدّمةٍ ومدخلٍ وتحذير وتنبيهٍ وكذلك الإهداء والشكر والتذييل.. الخ.. وغايةُ كل هذه النصوص الجانبيّة هي توجيهُ القارئ وإرشاد خطاه إلى كيفية قراءة النص.
وإن كانت نسختي من رواية علي عقلة عرسان صخرة الجولان عاريةً من كل توطئةٍ أو مقدّمةٍ أو إهداءٍ فإنها تحمل التذييل التالي:
"هذا الكتاب رواية تحكي قصة أبطال واقعيين من أرضنا ليس بأسمائهم بل بانتمائهم الحقيقي إلى هذه الأرض. جنود مقاتلون في صفوف الجيش ضد العدو الصهيوني الشرس وفلاّحون بسطاء يتعلّقون بوطنهم وبمبادئهم في الشرف والكرامة رغم كل الظروف القاسية التي يعيشونها"(12).
وهذا التذييلُ يشير بوضوح قاطعٍ إلى الاتجاه الذي ينبغي أن يسلكه القارئ عند تأويله لصخرة الجولان.
ولنذكر كذلك نصّاً مشهوراً في الأدب العربي ألا وهو مقدّمة عبد الله بن المقفع لكليلة ودمنة. فهو يطالب القارئ بأن يُديم النظرَ في كتابه وأن يلتمسَ جواهر معانيه ويُحذّره من القراءة الخاطئة إذا حسب أن غايته من الكتاب هي الإخبارُ عن حيلةِ بهيميتين أو محاورة سبع لثور. ثم يكاشف ابن المقفّع قارئه بسره فيقول:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومُقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراض: أحدها ما قصد من وضعه على ألسن البهائم ليتسارع إلى قراءته واقتنائه أهلُ الهزل من الشبان فيستميل به قلوبهم […] والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنساً لقلوب الملوك[ ] والثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه وينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك يخص الفيلسوف خاصة أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة."(13).
وعليه فللتوطئة أو للمقدّمة غايةٌ مزدوجة تسعى إليها: إنها تشرح للقارئ غايةَ الكاتب من وضعه للكتاب وتضعه على طريق التأويل الصحيح معاً. ولكنها قد تلجأ إلى سبل متعرّجة ومسالك ملتويةً كي تبلغ مرامها ذاك. فبعضُها يزعم للقارئ أن النص الذي بين يديه قد كُتب على عجالة أو أن نية الكاتب لم تكن في نشره أو أن هذا الأخير قد نزل على إلحاح أصدقائه إلخ.. وإنه بالتالي يأملُ أن يُظهر القارئ كثيراً من التسامح. وبطبيعة الحال فإن مقدماتٍ كهذه تسعى في حقيقة الأمر إلى إثارة فضول القارئ وتتمنّى مشاركته.
ولكن بعضُ المقدّمات يكتبها أشخاص آخرون غير المؤلّف. كتلك التي تُكتب لنصوص مات أصحابُها كمقدمة مُعاصرنا عبد السلام محمّد هارون لكتاب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الحيوان(14). أو كتلك التي يوافق الكاتبُ على نشرها مع كتابه لأنها تصدرُ عن شخصيات معروفة في الأوساط الأدبية أو لأنها تتوافق مع ما يراه هو نفسه في مؤلفه. ونجد ذلك كلّه في المقدمات التي تسبق رواية معروف الأرناؤوط سيد قريش فهناك كلمةٌ لسامي الدهّان في ثنية الغلاف السميك، وهناك عرضٌ كتبه يوسف إبراهيم يزبك عام 1971 يؤرّخ فيه للرواية ولمؤلّفها الذي توفي في دمشق عام 1948 وهناك نصٌ وجهه الشاعرُ خليل مطران (1871-1949) لمؤلّف الرواية بعد ظهورها في عام (1928) يمدح فيه الكتاب ويشرح فيه للقارئ مصادر الرواية التاريخية، ثم كلمةٌ لشفيق جبري يصرّح فيها بأن سيد قريش . راوية جديدة في الأدب العربي دخلها معروف الأرناؤوط وهناك أخيراً كلمة للدكتور منير العجلاني يؤكد فيها:
"هذه رواية سيد قريش بين يديكم فيها عطر وفيها موسيقى، وفيها عنصر من الشعر، كتبها صاحبها لا ليلعب ولا ليبذّر منحة الكتابة التي أعطيها، ولكنه كتبها كما أتنفس أنا وأنت، بسائق القيام بالواجب وليس بسائق البذخ"(15).
2-2- المراسي:
إن عقد القراءة يُوجه خطا القارئ، كما رأينا، فينشئ هذا تأويله حول النقاط الراسخة التي يقترحها النصُ المقروء. وهذه النقاط الثابتة، كالمراسي تعقل القراءة وتجنبها سلوكَ سبل خاطئة وبالتالي تمنعها من التيهان.
ومن هذه الأنصاب عنوانُ الكتاب والنوعُ الأدبي الذي ينتمي إليه النص ويجد القارئ عادة هاتين الإشارتين على صفحة الغلاف. صخرة الجولان، رواية، وليس كذلك غلافُ الشراع والعاصفة (1966) لحنا مينة (17) مثلاً فهو لا يُشير إلى طبيعة النص وعلى القارئ أن يبحث في الصفحات الداخلية عن ذلك. وإضافةً إلى هذه النقاط الثابتة يمكن للقارئ أن يكتشف في كل نص شبكات دلالية تُنظّم بنيته، وقد تنتظم الوحدات التي تكوّن هذه الشبكات حسب ترادفها وتجانسها (كلمات متعددة تحيل جميعها إلى موضوع واحد) أو حسب تعارضها أو حسب تبعاتها (نتائجُ الحدث تُشكّل وحدةً واحدة).
ففي قصيدة عمر بن أبي ربيعة (644-711).
هيّجَ القلبَ مغان وَصِيبَرْ

دارساتٌ قد علاهُنّ الشجرْ(18)
تنتظم أغلبُ معانيها حول موضوع ظهور ما كان باطناً وانكشاف ما كان مستتراً: هاج، علا، شجر، ذرى، أنار، غشّى، زهر، زان، غام، بدا، سرّ، عرف، الخ.. وهذه الأفعال تنتمي إلى ذات الحقل الدلالي فتنسّق النصَ في شبكة معانٍ واحدة فالنبت يَظهر فيُظهر عاطفة الشاعر وتكشف الفتيات خبيئةَ أنفسهن كما تُخرج الأرض زهرها وعندها يُبرز الشاعر ذاته. وعلاقاتُ المشابهة والترادف هذه تحدد حقلَ القراءة وتقود بخطا القارئ خلال سبل التأويل.
وأما ابن الرومي فإنه يبني لامتيه التالية على تنافي الصفات وتناقضها:
وجهُك، يا عمرو، فيه طولُ

وفي وجوه الكلاب طولُ(19)
فهو إذ يبدأ بأن يُعلن اتحاد عمرو والكلب في صفة الوجه الطويل فذلك كي يُبرز على أوضح ما تكون بقية الصفات التي يختلف فيها الحيوان ومهجو ابن الرومي ففي البهيمة فضائلُ حسان، فهو كلب وافٍ(4) وقد يحامي عن المواشي (5) وأما عمرو فالمثالبُ كلّها، غادرٌ وسافلٌ(4) لا يحامي ولا يصول(5) من بيت سوء(6) أهلُه ذميمو الخلقة وضراطون(7) ثم ينهي الشاعر قصيدته فيوحّدها بأهم ما فيها: مجموعة أصوات (مخلّع البسيط).
(11) مستفعلن فاعلن فعولن

مستفعلن فاعلن فعول
أصواتٌ كريحٍ
(12) بيتٌ، كمعناكَ، ليس فيه

معنى، سوى أنه فضول
فأخرس ابن الرومي أنفاس مهجوه. وهكذا إذ ينتقل القارئُ من صفةٍ إلى نقيضها ومن فضيلةٍ إلى مَثْلَبة ومن الشيء إلى ضدّه فإنه يبني تدريجيّاً وحدة النص الدلالية.
وحين يقرأ القارئ روايةً أو قصة فإنه يتلمّس طريقه خلال العالم السردي بأن يُنظّم أحداثه المتناثرة في وحدات منطقية. ولأن أحداثَ الرواية الناضجة ترتبط ببعضها حسب علاقاتٍ تكاملية أو حسب علاقة السبب بالنتيجة فهي بمثابة أنصاب يستهدي بها القارئُ لاكتشاف العالم السردي فلحظةُ شراء الببغاء في رواية عصفور من الشرق تقتضي لحظة تقديمه كهديةٍ لسوزان ديبون. فإن غاب استخدام التقديم ظلّ شراءُ الطائر معلقاً في الهواء ومقطوعاً عن شبكة معاني النص. ومشهدُ إهداء الببغاء لعاملة المسرح يستدعي مشهدَ قبولها لدعوة محسن لها وهذا يقتضي بدوره مشهدَ المطعم.. الخ.
وعليه فإن علاقات المشابهة والمعارضة واستتباع النتائج بين وحدات النص السرديّة هي أكثر ما يلجأ إليه القارئ لتأويل ما يقرأ. ولكن وحدات النص هذه قد تُنشئ بينها علاقاتٍ من طبيعةٍ أخرى.
2-3- منازلُ الظنّ والتخمين:
إن بعض النصوص تُبرمج قراءتها بأن تتركَ خلالها مساحات يتلمّس فيها القارئ طريقه بدون عون خارجي ويُؤولها ظناً وتخميناً. كتلك المساحات البيضاء في بعض التمارين المدرسيّة حيث يُطلب من التلميذ أن يملأ الفراغ حسب ما يقتضيه السياقُ العام أو حسب ما يراه مناسباً للسياق العام.
وحبسُ بعض المعلومات عن القارئ ووجودُ فراغٍ مقصود وسيلةٌ ناجعةً في برمجة مساهمة القارئ الإيجابيّة في تأويل النص. ولإيضاح هذه النقطة سنستعير مثالنا من رواية الروسي دوستويفسكي : الممسوسون (1870) وقد ترجمها المرحوم سامي الدروبي إلى العربيّة. ففي نهاية الكتاب يعزم بطل الرواية استافروجين وقد بلغ من تعذيب ضميره له حدّاً لم يعد يطيق معه صبراً أن يعترف بما يؤرقه للمطران تيخون. فحرّر اعترافاته على وريقات وأعطاها لرجل الدين فراح هذا يقرؤها بصوت عالٍ. وحين يبلغ المطرانُ في قراءته مشهداً يعترفُ فيه استافروجين كيف شرع ذات مرة يُقبّل طِفلةً بشهوانية ثقيلة يكف فجأةً عن القراءة. ويكتشف عندئذٍ أن الورقة التالية ناقصة فينظر إلى استافروجين مُستفهماً فيرد هذا وعلى شفتيه ابتسامةٌ خرقاء:
- إني أحتفظ لنفسي بما حدث بعد ذلك. مؤقتاً.
ولن يعرفَ القارئُ أبداً مضمون الورقة الناقصة. ويتابع المطران قراءته اعتباراً من الورقة التالية، وهنا نكتشف أن الطفلة قد ساورها رعب شديدٌ حين شاهدت استافروجين غداة اللقاء المذكور في الصفحة الناقصة. وأن المسكينة قد شنقت نفسها بعد ذلك بقليل.
إن مفتاح لغز هذه النهاية المخيفة مذكورٌ طبعاً في الاعتراف المثّبت في الورقة التي أخفاها البطلُ نفسه كما اعترف بذلك صراحةً. وغيابُ هذه الورقة المقصودُ هو فراغٌ سرديٌ يُرغم القارئ على ملئه من عنده ومن خياله الخاص. وحين "يُورّطُ" النصُ قارئه ويرغمهُ على اتخاذ موقفٍ من السرد المكتوم وعلى تبنّي رأي بخصوص المساحة البيضاء فإنه يضبط نشاطه ويُوجّهه.
3-دور القارئ
3-1- الاستباق والتبسيط
إن الاستباق والتبسيط هما ردّتا فعل القارئ الأساسيتان أمام النص الأدبي. وهما قائمتان في صلب عملية القراءة والتأويل. ويمكن تفسيرُ ذلك بفضل واحدٍ من مبادئ النشاط اللغوي الجوهري التي كشفت عنها الألسنية الحديثةُ.
لكي يفهمَ الموَجّه إليه مقولةً ما لا بد له من إدراك النيّة الكامنة خلفها. وعليه ما إن يفتح القارئُ كتاباً حتى ينشئ فرضيّةً حول مضمونه العام وبمعنى آخر فإنه يشرع فوراً في استباق المضمون السردي وبالتالي في تبسيطه. فهو إذ يُنشئ في قرارة نفسه فرضيةً حول النص فهو يستبق أحداثَ الرواية مثلاً أو تطورات الحكاية. وهو يصوغ فرضيته على نحو مبسط كما لو كان يطرح على نفسه أسئلةً من طراز: عمّ يتحدّث الكاتبُ؟ ماذا يقصد؟ ويحاول الإجابة على ذلك: أغلب ظنّي أنه يتحدّث عن كذا وكذا. أو يبدو لي أنّه يريد كيْت وكيْت.
فلقد يفترض القارئ أمام رواية عبد الكريم ناصيف (سلميّة، سوريّة 1939) المخطوفون (1991) أول ما يفترض أنها رواية مغامرات يُخطف فيها أشخاص عديدون وأن الرواية تعرض ما جرى لهؤلاء المساكين من وقائع ومصائب! وقد تتعزّز فرضيّته عند قراءة السطور الأولى من مقدمة محمد توفيق البجيرمي التي يذكر فيها الأدويسة ورحلات غليفر ثم رحلات الفيلسوف الإغريقي لوسيان السمياطي ومغامرات سندباد جميعاً! ولكن الوحدات المعنوية التي تنتظم الفصل الأول من الرواية تجعل القارئ يرمي بعيداً فرضيته الأولى ليدخل في عالم سردي آخر. ولينشئ فرضيةً جديدةً تتوافق مع معطيات الفصل الأول.
وأما نزعةُ التبسيط فإنها تكشف في حقيقة الأمر عن ضرورة الفهم التي ترتبط ارتباطاً عضوياً بعملية القراءة. والقارئ إذ يحتاج إلى معرفة أين تقودُه خطاه في طرق النص يميل باستمرار إلى التبسيط. فبينما يسعى الكاتبُ الفطن دائماً إلى مضاعفة الأنظمة الرمزية وإلى تعقيد البنية الدلاليّة قدر إمكانه يسعى القارئ إلى اختزالها وتبسيطها قدر إمكانه كذلك.
إن الميلَ إلى تعقيد صفات الشخصية الروائية ومطاردة دقائقها والإيحاء بخفاياها ومكامن نفسها هو ما يميّز الكاتب في حين أن القارئ يميل دائماً إلى إهمال التفاصيل ورقائق الألوان فيراها بيضاء أو سوداء، خيّرةً أو شرّيرةً، شرقيةً أو غربية.
وحين يقصر بالقارئ علمُه فيعجز عن استكشاف معنى النص الحقيقي يلجأ عندها إلى تأويله تأويلاً رمزياً. فإن جعلنا عنوانُ رواية جيمس جويس (1882-1941) أوليس (1922) نظن أن هناك علاقة ما بين أوليس هذا والأوديسة فما أسرع ما نكتشف أن الإطار الزماني والمكاني اللذين تنتشر فيهما الرواية الإنكليزية لا يمتان بصلة إلى ملحمة الشاعر الإغريقي. وأن علينا، لفهم النص على حقيقته أن نؤوله تأويلاً رمزياً أي على أنه أوديسة عصرية وهي طواف بطلها بلوم في أرجاء مدينة دوبلن الإيرلندية. ونشعر بذات الضرورة أمام عنوان ابن عربي يترجم أشواقه (فواز حجو، اتحاد الكتاب، دمشق 1994) وصقر قريش وحيداً (خالد سلامة الجويشي اتحاد الكتاب، دمشق 1993) أو تداعيات بين يدي أبي العلاء المعري التي سبق ذكرُها.
3-2- القراءة بصفتها توقّعٌ
وبسبب نزوع القارئ إلى استباق أحداث الرواية تبدو القراءةُ وكأنها امتحانٌ مستمر يفرضه النصُ لتقييم قدرات القارئ على التوقع. وإن كانت بعضُ الأنواع القصصية تعتمد الاعتماد كله على مبدأ التوقع هذا كالرواية البوليسية أو رواية الألغاز فإن الأنواع القصصية الأخرى ومنها الموصوفة بالجدية لا تستطيع إهمال هذا الجانب.
ويساهم القارئُ النموذجي في تقدّم الحكاية حين يحاول أن يتنبّأ بالأحداث القادمة. ويؤمن القارئ أن ما سيأتي لا بد أن يبرهن على صدق تنبؤه. ولكن لا بد له من انتظار خاتمة النص لمعرفة إن كانت توقعاته قد قاربت الحقيقة الروائية أم لا. إن النص آلةٌ جامدةٌ لا تنشط إلاّ حين تنفخ فيها الحياة تكهناتُ القارئ. وهذا شرط أساسي لا يستغنى عنه نصٌ أدبيٌ يريد أن يركن إليه قارئه أو مفاجأته على غفلة منه إثارة فضوله!
إن القراءة إذن علاقةٌ جدليةٌ متوترة بين توقع ما سيأتي وتذكّر ما قد أتى فالقارئ يُنشئ فرضية حول ما سيحدث في الصفحات التالية أو في بقية الفصول، والصفحاتُ التالية ستحكم بصحة التنبؤ أو ببطلانه. وفي هذه الحالة الأخيرة يعيد القارئ النظر في فرضيته الأولى فيعدل فيها أو يبني فرضية جديدة على ضوء معرفته الحالية. وهكذا دواليك. وبتعبير آخر فالقراءة انتقالٌ دائم بين ما سلف في النص والنتيجة التي يتخيلها القارئ لذلك. ثم بين النتيجة التي تتحقق فعلاً وما سلف وقد أعيد النظرُ إليه! وهذا التوترُ اليقظ ينطبق على أحداث الرواية الثانوية كما ينطبق على أقسامها الكبرى. ففي نهاية الفصل الثالث من اللص والكلاب يودّع رؤوف علوان صديقه القديم سعيد مهران الذي جاء ينتظره أمام بيته. ويسدي رؤوف النصح لسعيد بأن يبدأ حياة جديدةً وأن يبحث عن مهنةٍ أخرى غير اللصوصية ثم يعتذر منه لضيق وقته ويُعطيه شيئاً من المال. فيشكره سعيد بحرارةٍ لكرمه ولنبل أخلاقه و(تناول الجنيهات باسماً وصافحه بحرارة ثم قال بنبرة رجاء
-ربنا يتم نعمته عليك)(20).
وفرضيةُ القارئ هنا هي أن سعيداً هذا سوف يأخذُ بنصيحة صديقه فيبدأ بالبحث عن عمل شريف من ساعته وأن النقود قد تساعد الرجل على اتخاذ طريق جديدة في الحياة، فماذا يجري في الفصل الرابع؟ يحاول سعيد أن يسرق بيت رؤوف علوان! وهذا يرغم القارئ على إعادة النظر في تحليله لشخصية سعيد ولإحساسه بالخيانة ثم بالوحدة.
إن جهد التكهّن هذا أمرٌ جوهري في نشاط القراءة. وهو إذ يُكره القارئ على أن يتفحص دائماً تنبؤاته وأن يقترح على الدوام أجوبةً جديدةً فإنه يُرغمه في ذات الوقت على النظر في أغوار نفسه واكتشاف أسرار وجدانه وشخصيته.
إن هذا واحد من أهم آثار القراءة الجوهرية على القارئ.
3-3- كفاءات القارئ
لكي يُؤولَ القارئ النصَ فإنه يفكّ ألغاز مختلف مستوياته الواحد تلو الآخر. وينتقل من البنى البسيطة إلى البنى المعقدّة أي أنه يُخرج من القوة الكامنة إلى الواقع المفسّر بنية النص الخطابية ثم بنيتَه السرديّة ثم الوظيفية فالعقائديّة.
ويتوافق إظهارُ البنية الخطابية مع مرحلة شرح المعاني. وعندما يفك القارئ رموزَ الكلمات فإنه لا يعير اهتمامه إلاّ للمعاني اللازمة لفهم النص أي للعناصر التي تتضمنها شبكاتُ النص الدلاليةُ والأمرُ أنه يستحيل على القارئ أن يستدعي أمام كل كلمة جميعَ معانيها التي يحصيها القاموس، فدلالات وقفَ وهو الفعلُ الذي يبدأ رواية صخرة الجولان تشغل ثلاثَ صفحات عند ابن منظور (توفي 1311) ويكرس لسان العرب صفحتين تقريباً لفعل بطحَ الذي يستخدم علي عقلة عرسان اسم فاعل مزيده انفعل في السطر الرابع من كتابه، وعلى القارئ أن ينتقي من كل هذه المعاني المتقاربة ما يوافق الرواية التي بين يديه.
ثم يجمع القارئُ هذه البنى الخطابية وينظُمها في سلسلة من الاقتراحات تساعده على استخلاص العقدة القصصية، وهذه البنى السرديّة تجعله قادراً على إطلاق حكمٍ مبدئي بعد قراءة بضع صفحات من روايته أو قراءة فصل منها أو مقطع طويل.
ويمكننا أن نستخلص البنى السردية العامة التالية بعد قراءة جزء من صخرة الجولان: عامل بسيطٌ وفقيرٌ من أصل ريفي (من حوران) أُستدعي إلى الجيش (السوري) خلال حربه (ضد العدو الإسرائيلي) وفُرز مع زملاء له إلى الجبهة (جبل الشيخ) وخلال المعارك تشغله قضيتان هما الدفاع عن الوطن ومصاعب عائلته البائسة (زوجة اسمها زينب وأولادهما الثلاثة). وبين المعركة والأخرى يستعرض شقاءه كعامل أكره على الهجرة إلى بلاد النفط وكفاح زينب للقيام بأعباء العائلة وجشع أحمد الحسن التاجر الذي يُضاعف ثرواته بعيداً عن أرض المعركة بينما يموت الآخرون الفقراء فيها ومن أجله.
إن البنى السردية تؤلّف كما نرى هيكل الرواية العظمى. وهي ما تحتفظ به حين نسعى إلى تلخيص الرواية. وحين ينتقل القارئُ إلى مرحلة أعلى من التجريد فإنه يجمع إلى سلسلة الاقتراحات السردية هذه مخطط الرواية الوظيفي. ونحن نعرفُ بفضل النقد الأدبي الحديث أنه من الممكن أن نميز في كل حكاية ست وظائف. وهي وظائفُ الفاعل والموضوع والمرسل والمرسَل إليه والمعارض والظهير فبطلُ صخرة الجولان محمد المسعود (الفاعل) تكلّفه زوجته وأمّه وقريته (المرسِل) بالدفاع عن أرض الوطن وكرامةِ أبنائه جميعاً (الموضوع) في صفوف الجيش العربي السوري (المرسَل إليه) ويعمل محمد المسعود على تحقيق هدفه هذا عن طريق التصدي لإسرائيل وجنودها (المعارض) بمساعدة نزار والضابط ثم مجموعة السجناء (الظهير).
لقد رأى الأستاذ محمد حيدر في دراسةٍ ممتازة للرواية (21) أن دور زينب لا يقل أهمية عن دور زوجها بل لعلّه أكثر منه شأناً. وأن النزاع مع أحمد الحسن أساسيّ لفهم الرواية. وإذا أخذنا بتحليله استطعنا أن نُضيف المخطط الوظيفي التالي: زينب (الفاعل) يكلّفها زوجُها الغائب وحبّ أطفالها
(المرسِل) بالحفاظ على كرامتهم (الموضوع) التي يهددها أحمد الحسن (المعارِض) بالتعاون مع أم سليمان (الظهير) في إطار قرية الكحيل العريض (المرسَل إليه).
ونجد هذا المخطط الوظيفي كذلك في الروايات ذات النزعة الذاتية.
وعندما يتراءى للقارئ في المخطط الوظيفي توسِيمٌ أخلاقيٌ واضحٌ فهو يستطيع عند ذاك أن يكتشفَ بنى النص العقائديةَ. وإذا استعدنا مثال صخرة الجولان فمن الواضح أن التعارضَ بين محمد المسعود وزينب من جهة وجنود العدو وأحمد الحسين من جهة أخرى هو من ذات التعارض الجوهري بين القيم الإيجابية والقيم السلبية. أي أن الصراع القومي الوطني بين سورية وإسرائيل هو كذلك من طبيعة الصراع الطبقي بين البؤساء والفقراء والمستغلين الأغنياء.
3 ـ 4 ـ خبرات القارئ:
والقارئُ الذي يستطيع أن يقرأ على نحو مُثمِر أي أنّ يُجسِّد كلَّ مستويات النص هو قارئٌ ذو خبراتٍ محددة. والخبراتُ التي يمتلكها القارئُ المثالي هي معرفتُه بما يمكننا أن نُسمّيه بالمعجمِ الأساسي وبقواعد الإحالة والإسناد وقدرتُهُ على تمييزِ سياق المقطع المقروءِ وظرفِه وعلى فهمِ التعابير البيانية والصيغ الأدبية المطروقةِ وألفته بالسيناريو العام وعقيدتُه في الحياة.
وإتقانُ القارئُ للحدِّ الأدنى من القاموس أمرٌ ضروريٌ لتحديد مضمونِ الكلمات الدلالي ومعانيها. ولن يستطيعَ القارئُ أن يغوصَ في غامض النص ولا أن يسبرُ أغوارَهُ إن لم يكن قادراً على فهمِ الرموزِ اللغويةِ الابتدائية. وقارئٌ لا يعرفٌ ما تعنيهِ كلماتٌ مثل تتكأكأُ وتتساندُ وينهدُ ويرومُ ويحتجزُ لن يدرك الصورةَ العامةَ التي يريد نص علي عقلة عرسان أن يرسمها لبيتٍ يكاد يكون خراباً ولكنه ما يزال قائماً. (22).
وأمّا خبرةُ القارئ بشبكاتِ الإحالةِ فهي تُساعدُهُ على أن يفهمَ فهماً صحيحاً الرموزَ الإشاريةَ (التي تُحيل إلى الموقفِ الإخباري الحاضرِ) ورموزَ الإعادة (التي تُحيلُ إلى عنصرٍ سبقَ ذكرُهُ). وخبرتُهُ بإسناد الفعل إلى الأسماء أوإلى الضمائر تجعله قادراً على إدراك حركةِ النص الداخلية ومتابعةِ ذبذباتِ السردِ. ونجد في رواية أحمدزيادمحبك المقطعَ التالي:
"أعودُ إلى تدقيق كتاب أمامي أحاولُ ألا يظهر على وجهي شيء من علامات الاستياء. وكيف لا أستاءُ؟ هو لا يدعوكَ إليه بنفسهِ، بل يطلب من السكرتيرةِ أن تفعل، لا بأس، هذا خير من أن يصب في أذنك صوته الأجش الغليظ.... ولكن ماذا عساه يريد مني؟..." (22).
في هذا المقطع ينتقلُ الراوي من ضمير المتكلّم إلى ضمير المخاطَب ثم يعود إلى ضمير المتكلّم قبل أن ينتقل إلى ضميرٍ آخر. وفهمُ المقطع يفترض أن القارئَ يعرف أن نفس الشخصية الروائية تستخدم تارةً أنا وتارةً أنت لتعبِّرَ عن ذات الحديث الوجداني.
وخبرةُ القارئِ بظروفِ تأليف القطعة الأدبية تُساعُدُه على تأويل المفرداتِ تأويلاً ينسجمُ مع تاريخ النص أي مع المعنى الأول الذي أراده المُؤلّف لها. فقراءةٌ صحيحةٌ لقصيدة نزار قباني ( 1923-1998). (هوامش على دفتر النكبة) ـ لابد لها أن تستند إلى خبرة القارئ بشعر نزار قباني وما تميز به شعرُهُ قبل أن يكتب قصيدتَهُ هذه بُعيْد الخامس من حزيران... ولن يفهمَ القارئَ كذلك أن العروبةَ التي ينتسب إليها محمود درويش في قصيدته:"سجّل أنا عربي.. ورقم بطاقتي خمسون ألف.) "ليست تقريراً عن الهوية الشخصية وإنما انتماء ونضالٌ إذا جهل الظروفَ التي كتب فيها الشاعرُ قطعته تلك.
ومعرفةُ التعابير البيانيةِ وتقعيدِها والقوالب الأدبية تجعل القارئ أحسن فهماً وأقرب إدراكاً للأنواع الأدبية التي أورثنا إيّاها التاريخ الأدبي والتراث التاريخي. فما إن يطالع القارئُ الخبير: حدّثنا عيسى بن هشام، قال: حتى يدركَ بدون عناءٍ وبدون أية إشارةٍ صريحة أنه أمام نوع أدبي عربي خاص هو المقامة وأن الأحداث التي يعرضها النص قد وقعت في زمن تاريخي معين وفي رقعة جغرافية محددة، وأن هذه الوقائع المذكورة ليست "واقعية"، وأن هدفَ الكاتب ليس وعظنا ولا إرشادنا وإنما يريد أن يقصَّ علينا حكايةً لإمتاعنا وتفريج كربنا..
وأما الخبرة في قواعد الكتابة المسرحيةِ فهي التي تجعل القارئَ الفطنَ يرى أمراً طبيعياً أن يتكلّم رجلٌ في مسرحية (تحولات عازف الناي) (1993)... بلغةٍ شعريةٍ عذبةٍ طيلة عشر صفحاتٍ وبدون انقطاع!.. (24). فهذه أمورٌ يقبلها النوع المسرحي، ولهذا لا يجد القارئ غضاضةً في أن تتبادل شخصياتٌ مسرحيةٌ أطرافَ الحديثِ بالبحر الطويل أو الكامل والمديد!... كما هو عليه الحال عند أحمد شوقي أو خليل مطران...
وأما السيناريو العام فنعني به مجموعَ الحوادث المتسلسلة حسب قواعدَ اجتماعيةٍ عامة يشترك فيها أبناءُ الثقافة الواحدة. وهذه المعرفةُ المشتركة تجعلنا نفهمُ ونؤولُ ما يفعله الشخصُ الآخر على نحوٍ صحيحٍ. والنصُّ الأدبي قائمٌ على تنظيم وسائل متعارف عليها في وسط ثقافي ما لبلوغ أهداف محددة. فشعائر الصلاة والدفنِ والتعزيةِ والولادةِ واستقبالِ الضيوف وتنظيمُ المكان الاجتماعي والمكانِ العائليِّ خبراتٌ عامةٌ يمتلكها القارئُ ويُحسنُ بفضِلها تفسيرَ سلوكِ الشخصياتِ الروائية وغاياتها، ولقد يمكن أننا لم نشهدْ في حياتنا إطلاقاً هذه الأحداثَ تقع على هذا النحو ولكن خبرتنا العامة بالناس وبالكون الذي نعيش فيه تسمح لنا بتأويلها..
وأما سيناريو التناص فالقارِئُ لا يكتسبه من التجربة الاجتماعية العامة وإنما عن طريق معايشته الطويلة لنصوص ثقافته الأساسية. فحين يقرأ نصاً من نوع أدبي معين فإن القارئ يتوقع بشكل منطقي أن يصادفَ سلسلة من الأحداث التي تميز هذا الفنَ الخاص. فقارِئُ القصة العاطفية يتوقع أن ينتهي الحدثُ نهايةً سعيدةً وقارئُ القصة البوليسية أن يُماط اللثامُ عن الشرير وأن يعاقب على ما فعلته يداه. وبطبيعة الحال فإن الراوي قد يستغلُ ثقافةَ القارئ وخبراتِه بالنصوص الأخرى فيفاجِئُهُ بغير ما يتوقع فتنتهي الرواية العاطفية نهاية مؤلمة ويُفلت المجرم من يد العدالة. وبشكلٍ عامٍ فبقدر ما يكونُ النوعُ الأدبي صارماً ذا حدودٍ منيعةٍ بقدر ما تفرضُ قواعدُهُ الداخلية سيرَ الحدث ونهايتهَ. وإن كان يصعبُ علينا أن نتخيلَ خاتمةً سعيدةً لمحمد المسعود بطل (صخرة الجولان)، أو لزوجته فذلك عائدٌ لضرورة الرواية الواقعية الفنية وقواعدها بقدر ما هو عائدٌ لحركة النص المأساوية.
وأخيراً.. فإن خبرةَ القارئ العقائدية تحدد شكلَ تلقيه للبنية الأخلاقية التي تنتظم النصَّ المقروء. فهو حين يشرع في القراءة يفعل ذلك مستنداً إلى قيمه الخاصة، وهو قادرٌ بالتالي على أن يرفض رؤيةَ الراوي الفكرية.
¡¡
¡ هوامشُ الفصل الثالث:
1ـ ألف ليلة وليلة، 4أجزاء، بيروت، المكتبة الثقافية، الطبعة الثانية، 1981، الجزء الأول، ص 25.
2 ـ مجاني الأب شيخو، بإدارة فؤاد أفرامِ البستاني، 5 أجزاء، بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1966، الجزء الخامس، ص 281.
3 ـ معروف الأرناؤوط، سيد قريش، بيروت، الطبعة الثالثة، دار القلم، 1971، 4أجزاء في مجلدين.
4 ـ علي عقلة عرسان، صخرة الجولان، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، الطبعة الثانية، 1987، ص 12-13.
5 ـ صخرة الجولان، ص 16.
6 ـ صخرة الجولان، ص 11.
7 ـ أحمد زياد محبك، الكوبرا تصنع العسل، حلب، دار القلم العربي، 1996، ص 18.
8 ـ حسن حميد، تعالي نطير أوراق الخريف، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1992، ص 29.
9 ـ السيرة النبوية لابن هشام، القاهرة، جزءان، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية 1955، الجزء الأول ص 516.
10ـ توفيق الحكيم، عصفور من الشرق، القاهرة، المطبعة النموذجية، بدون تاريخ، ص 44-45.
11ـ عصفور من الشرق، ص 189-190.
12ـ صخرة الجولان، الطبعة الثانية، صفحة الغلاف الأخيرة.
13ـ عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، نشر الأب لويس شيخو، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثامنة، 1969، ص 59.
14 ـ الجاحظ ، كتاب الحيوان، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار الجيل، 1988، ص 3-43.
15 ـ سيد قريش، ص 24.
16ـ صخرة الجولان ، ص 7.
17ـ حنا مينة، الشراع والعاصفة، بيروت، دار الآداب، الطبعة الخامسة 1986.
18ـ عمر بن أبي ربيعة، الديوان، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الأندلس، بدون تاريخ، القصيدة، رقم 33، ص 150-151.
19ـ المجاني الحديثة، الجزء الثالث، ص 143.
20ـ نجيب محفوظ، اللص والكلاب، القاهرة، مكتبة مصر، بدون تاريخ، ص 36.
21ـ محمد حيدر، رأي في صخرة الجولان في مجلة الكاتب العربي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، العدد رقم 5، عام 1983، ص 75-92 ا.ه.
22ـ صخرة الجولان، ص 7.
23ـ الكوبرا تصنع العسل، ص 7.
24ـ علي عقلة عرسان، تحولات عازف الناي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1993.


¡¡¡




الفصل الرابع :ماذا نقرأ في النص الأدبي


مخطط الفصل الرابع:

1 ـ مستويات القراءة:
1 ـ 1 ـ تعدد الأصوات.
1 ـ 2 ـ نصوص تُنسَخ ونصوص تُقرأ.

2 ـ القراءة الجابذة أو التوحيدية.
2 ـ 1 ـ تأويل النص وثوابت الحياة النفسية.

3 ـ القراءة النابذة أو التفكيكية.
3 ـ 1 ـ المعنى المنفلتَ دائماً!..
3 ـ 2 ـ دور القارئ.

مراجع الفصل الرابع.





1- مستويات القراءة:

إِننا نقرأُ دائماً عدّة أشياءٍ معاً في نصِّ ما، وفكرةُ تعدّد معاني النصِّ الواحدِ أو تعدّد مستوياتِ القراءة هي قديمةٌ قِدَمَ القراءة ذاتِها.
ومنذ الإغريقِ كان التدريسُ مُدرِكاً للصعوبات التي يُثيرُها تأويلُ النصوصِ ويُؤكِّد على ضرورةِ الاعتمادِ على منهجٍ واعٍ في القراءة. وكان السوفسطائيون أولَ من وضع قواعدَ ذلك المنهج وجاء بعدهم أرسطو، ومؤلّفاتُهُ ونخصُّ منها كتاب البلاغة وكتاب الشعر. وثبتَ عندهم أن القافيةَ ووقعَها على نفس القارئ"، وأسلوبَ المؤلِّفِ وفنونَ الخطابةِ والبديع، كلّ ذلك عناصرُ موضوعيةٌ نستطيع بفضلِهِا إنشاءَ تحليلٍ للنصّ وبالتالي أن نقبضَ على ناصيةِ معنىً من شأنِهِ الإفلات أبداً.
ولقد قطعَ فقهُ اللغة مرحلةً جديدةً في عهدِ أوج الاسكندرية وازدهارِها أيام البطالمة (بين القرن الرابع والأول قبل الميلاد)، فقد كان تجميعُ التراث الأدبي الإغريقي وتصنيفهُ في صدور مكتباتِها يقتضي نشاطاً فكرّياً ونقديّاً كبيريْن. ولم تكن غايةُ علمِ اللغةِ عند كتّابها تحقيقَ النصوص الأدبية المحمولة من كل الأصقاع وحسب وإنما تحليلَها وتأويلَها ونقدَها. وكان نهجُ علماء الاسكندرية في ذلك صارماً يسعى إلى التدقيقِ ومقاربةِ ظاهر النصِّ فكانَ ذلك إيذاناً بالقطيعة مع التقاليد اليونانيةِ التي أسسها الرواقيون، ويرفع لواءَها علماءُ بيرغاموس في آسية الصغرى الإغريقية وكانت تزاحمُ مدينة الاسكندرية على الصدارة. وكان هؤلاء يدعون إلى تأويل النصوص تأويلاً مجازياً ويعملون على إظهار معنى النصِّ الخفيِّ وكشف النقاب عن نيِّةِ الكاتبِ ومراميهِ الخبيئة. وكانت نصوص هوميروس بطبيعةِ الحالِ مادّةَ دراستهم المفضَّلة.
والحقيقةُ أن هاتين المدرستين ورغم البون الشاسع بينهما كانتا تطلبان أمراً واحداً هوإيجادُ طريقةٍ في التأويلِ تلمّ بكلِّ أبعاد النص الأدبي. وسوف تُخصِبُ كلٌّ منهما الأخرى.
وأما في العصور الوسطى الأوروبيةِ فإن تأويلَ التوراة بشقيْها العهد القديم والعهد الجديد، هو الذي سيُنشِئُ منهجاً تفسيرياً حقيقياً. وكان هذا يُميزُ بين أربع مستويات في معنى تلك النصوص المقدسة. فهناك المعنى "الحرفي" (أي القصة المحكيّة)، والمعنى "المجازي" (العهدُ القديمُ يُبشّرُ بالعهد الجديد). والمعنى "الوعظي" (مغزى القصةِ الأخلاقي)،وأخيراً المعنى "الباطني" (قيمةُ الرسالة التوراتية عند خاتمة الإنسان).
ثم ما لبثَ هذا المذهبُ في التفسيرِ أن راحَ يُطبَّق على النصوصَ الأدبيةِ الدنيويةِ. وكان دانته الياري (1265-1321)، يُطالب بأن يُطبّق النقّادُ كذلك منهجَهم هذا على ملحمته الشعرية الألعوبة الإلاهية.
وأمّا في ميدان الحضارة العربية فنستطيع القولَ بأن كلَّ علوم اللغة العربية وربما كذلك كل علوم الثقافة الإسلامية قد نشأت في أول عهدها حول مسألة قراءة النص المُؤسِّسِ لهذه الحضارةِ وتأويلهِ ونعني القرآن الكريم، ووضع منهج علمي في التفسير.
ولقد بدأَ الجدلُ الفكري منذ العقد الخامس من القرن السابع الميلادي أي بعد مقتلِ الخليفةِ الثالث عثمان بن عفّان وانقسام الأمّة إلى أحزاب وشيعٍ يبذلُ أنصارُها كلَّ جهدهم لتبرير مواقفهم السياسيةِ تلك بآياتِ القرآن، وبنصوص الحديث يفسّرونَها ويُؤولونَها لدعم قضيتِهم أو لنقضِ دعاوى الخصمِ.
ثم ظهرت مع اتساع رقعة الدولة العربية ودخول أمم أخرى ذات لغات غير العربية وثقافات مختلفةٍ وانتشار الإسلام كدين للدولة الجديدة قضايا جديدةٌ ومسائل طريفة سُئِلَ النصُ القرآني عن إجابة لها وظهرت مذاهب في تأويل القرآن عديدةٌ تعتمدُ على أسس فكرية وطرق علميةٍ مختلفةٍ.
فكان ما أسمي بالتفسير بالمأثور. وأجلُّها تفسيرُ ابن جرير الطبري (839-923)، جامع البيان في تفسير القرآن. وقد عرض فيه لأقوال الصحابة وآرائهم وذكر بعض وجوه الإعراب والقواعد لتعزيز هذا التأويلِ أو ذاك ولتفضيل هذه القراءة على غيرها. ومن التفاسير بالمأثور تفسير ابن كثير، في القرن الرابع عشر وكتاب السيوطي (1407-1475)، الدرِ المنثورِ في التفسير بالمأثور.
وكان ما أسمي بالتفسير بالرأي. وقد أثار جدلاً شديداً بين العلماء فمنهم من حرّمه ومنهم من جوّزه. ولكن اختلافهم كان يقوم في الحقيقة حول شروط القراءة والقواعد التي ينبغي الأخذ بها حين التأويل وليس حول مشروعية تعدد قراءات القرآن الكريم. ولقد يستطيع القارئُ الراغبُ في معرفةِ هذا الجدلِ وبمختلف شروط النهج التي لابد منها لقبول التفسير بالرأي أن يعود إلى مؤلّف قاضي دمشق بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (1344-1391)، البرهان في علوم القرآن (1) وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها تلك الشروط تفسيرُ فخر الدين الرازي (1149-1209)، المسمى مفاتيح الغيب والمشهور بالتفسير الكبير، وتفسيرُ عبد الله بن عمر البيضاوي (توفي نحو 1282)، المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
وظهرت تفاسير للقرآن تدافع عن الفرق الإسلامية وتنتصر لها وتعتمد في تأويلها للنص المُؤسِّس على مقدمات فكرية أو فلسفية مختلفة عن التفاسير التي سبق ذكرُها. من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوّفة والباطنية وغيرها. فقام تأويل المعتزلة على المذهب الكلامي وحسب مسلّمتهم الفكرية: الحسنُ ما يستحسنُهُ العقلُ والقبيحُ ما يستقبحهُ العقلُ. ولم يعتمدوا إلاّ نادراً النصوصَ النبوية في أدواتهم لشرح معاني الآيات. وخيرُ ممثّل لهذه النزعة العقلية في القراءة محمود بن عمر جار الله الزمخشري (1075-1144)، في كتابه الكشّاف عن حقائق التنزيل.
ويغلب على تفسير المتصوّفة التعقيدُ والإحالةُ إلى أنظمةٍ معرفيةٍ أخرى لتأويل النص القرآني. ذلك ممّا يجعل كلامهم غامضاً إلاّ على المشتغلِ بالشؤونِ الروحية والذي تعلم أساليب المتصوفة ومرن عليها. وأشهر التفاسير التي من هذا النوع كتاب التفسير المنسوب إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الأندلسي (1165-1240)، وهو في حقيقة الأمر من تأليف كمال الدين أبو الغنائم الكاشي (توفي 1329).
ومذهبٌ آخر في قراءة النصّ الكريم هو ما يسمى بالتأويل الإشاري. وفيه تؤوّل الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والباطن. أي أن المفسِّرَ يوردُ تفسيرَ الآيات حسب ظاهر الحرف ثم يشير إلى ما يعتبره معاني خفيةً يستنبطُها بطريق الرمز والإشارة. ومن ذلك تفسير الألوسي روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
وهناك تفاسير الباطنية وهم يقتصرون على الأخذ بما يعتبرونه باطن القرآن ويهملون ظاهرَهُ أي بنيته القواعدية ونظامَهُ الصرفي.. ولكلٍ من هذه المذاهب طريقته في التأويل. ولكل طريقةٍ في التأويل قواعدها العلمية ومسلماتها النظرية أي ترابط وتماسك داخليان تقوم بهما ويفسران نتائجها. وهي تشير جميعها، وبغض النظر عن الصراعات التي نشأت بين أنصار كلٍّ منها وعن الأحكام التي أطلقها بعضُهم على بعضهم الآخر، إلى وعي العرب المسلمين بتعدد مستويات القراءة في القرآن الكريم أي إلى وجود قراءات عديدة لذاتِ النص الواحد.(2).
وبطبيعة الحال فإن هذا الوعي لم يتوقف عند علوم قراءة الكتاب التأسيسيَ ولا عند العلوم الدينية التي ظهرت بفضلّها. ونحن واجدون، ومنذ منتصف القرن الثامن، نصّاً يشير بوضوح قاطع إلى وعي تعدد القراءات في النصوص الأدبية وإلى ضرورة أخذها بعين الاعتبار حين تحليلها. ففي مقدّمة عبد الله بن المقفع (724-759)، لكتابه كليلة ودمنة والتي اقتبسنا منها مقاطع في الفصلِ الثالث من كتابنا هذا يطالب الكاتبُ قارئه بأن يديم النظرَ في كتابه وأن يلتمسَ معاني خبيئةً خلف المعاني الظاهرة وأن يغوصَ إلى ما وراءَ سطح المعنى المباشر التماساً لجواهر المعاني. ويُحذّرُهُ من قراءة متوحّدة إذا حسب أن غايتَه من الكتاب هي الإخبارُ عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور. ثم يبسط ابن المقفّع لقارئه مستويات التأويل التي يراها في نصّه فيقول:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومُقتنيه أن يعلمَ أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراضِ: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسنة البهائم ليتسارع إلى قراءته أهلُ الهزل من الشبان فيستميلَ به قلوبَهم [ ] والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوفِ الألوان والأصباغِ ليكون أنساً لقلوب الملوكِ.[ ] والثالثُ أن يكون على هذه الصفة فيتخذهُ الملوكُ والسوقةُ فيكثر بذلك انتساخُهُ وينتفع بذلك المصوّر والناسخ أبداً. والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك يخص الفيلسوف خاصةً أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة"(3).
وهذه الأمثلة من ثقافات متباينة وعصورٍ مختلفةٍ توضح أن مسألة تعدد التأويل النظريةَ هي من بنية النص المكتوب ذاته وأن القراءةَ لم تكن لتستطيع الاكتفاء بمعنى واحد ضيق ومحصور في النص الأدبي.
1 ـ 1 ـ تعدّد الأصوات:
هناك إذن عدّةُ مستوياتٍ في قراءةِ النصِّ الأدبي أو عدّةُ أصواتٍ في النصِّ الأدبي الواحد..!..
كيف يُمكننا أن نشرحَ هذه الحقيقةَ التي يقبلُها جميعُ النقّاد اليوم؟
إننا نشرحُها ببنيةِ النصِّ الداخليِّةِ أولاً. فنحن نعرفُ أن الخطابَ الجمالي وعلى الأخص الشعر منه يفضّلُ المبنى على المعنى أي أنّه يعطي الأسبقيةَ لظاهرِ العلامة الصوتية ولجمالِها الموسيقي أو الشكلي. أي أنّه مضطرٌ للغموض والإبهام. وبتعبيرٍ آخر لأن المبنى يفرض نفسَه على حساب المعنى ولأن الشكلَ يطغى على المضمون فإن الأدبَ يلدُ معانيَ غامضةً وأفكاراً مضطربةً!...
وبما أنّ النصَّ الأدبيَّ يُنَظِّم المفرداتِ حسب جماليتها ويفرضُ عليها سياقَه الخاص فإن المفردات تنفصلُ عن معانيها الأصليةِ الأولى وتبتعدُ عنها مسافةً قد تضيقُ أو تعرضُ. وفي هذه المسافةِ التي يُحرِّرُها الهاجسُ الجمالي تفقد المعاني حدودَها الصارِمةَ وتتداخلُ ببعضها ويتأثرُ بعضهُا ببعضها الآخر فتتولّدُ معانٍ جديدةٌ وتتعدّدُ إمكانيات التأويل. إنّ الخطاب الشعريَ خاصةً يسمحُ للألفاظِ أن تهتزَّ، وأن تموجَ وتتحركَ في حريّةٍ وطلاقةٍ، وعندما يفعل ذلك فإن اللفظ لا يستدعي إلى الخاطرِ المعاني الجانبيّةَ والإضافيةَ المرتبطةَ بمعناه المباشر أو الشائعِ وحسب، ولكنّه قد يقترح معاني أخرى مختلفةً أو يوحي بصورٍ جديدةٍ لم يألفها القارئُ. الخ... وكلّنا يعرف بيتَ المتنبي (915-965)، الشهيرَ الذي قذفه متحدِّياً في وجوهِ نقّادٍ كانوا يأخذون عليه غموضَ شعرِهِ أو التباسَ معانيهِ:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها

ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصِمُ
(البحر البسيط)..
أليست شواردُها هذه هي موسيقى الكلمات وتناغِمِها في أذن الشاعر تفرض نفسَها عليه فيُطلقُها كما تجيئُهُ أوسع من معناها أو أقصرَ أو أبعد؟.. وبين هذه وتلك يَنتشر غموضُ الشعرِ وسحرهُ المبهمُ ولنذكر بيتَ الأعشى الأكبر التالي من لاميته المشهورة: ودّعْ هُريرةَ..
وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يَتبعُني

شاوٍ، مِشَلٌّ، شَلولٌ، شُلْشُلٌ، شَوِلُ
وأغلبُ ظني أن الشاعر الكبيرَ قد نظمَ عجزَ بيتِهِ على هذا النحو لعذوبةِ السلسلةِ الصوتية التي يحصلُ عليها بتراصفِ الشين واللام، وبسقوطِ أحرفِ المدِّ بينها، فأخذها عليه نقّادٌ يرون أن وضوح المعنى أجدر باهتمام الشاعرِ من رصفِ الكلمات.(4)..
وتقوى صفةُ تعدِّدِ التأويلِ هذه بتعدِّدِ الشبكاتِ الدلاليةِ التي تمتازُ بها أغلبُ النصوصِ الأدبيةِ فهذه تقيمُ في نفسِ الوقتِ شبكاتٍ دلاليةً متنوعةً وتسلك في ذات اللحظة سبلَ معانٍ متشعّبةً فتقودُ قارئها إلى سبلِ تأويلٍ متباينةٍ ومتكاملةٍ معاً وإلى استخلاص وحداتٍ معنويةٍ مختلفةٍ... ماهي الشبكةُ الدلاليةُ الأساسيةُ في كتاب كليلة ودمنة؟ تربيةُ السلطانِ أم تسليةُ العوام؟ مباهاةُ العربِ بتراثِ الفرسِ وإعلاءُ حزبِ الشعوبيةِ المتعاظِمِ بعد سقوط الأمويين أم مساهمةً لوجهِ الله في إغناءِ أدبٍ بنوعٍ يجهلُهُ بعدُ؟ الخ... كيف نحدِّدُ كتابَ حي بن يقظان لابن طُفيْل (توفي 1185)؟ حكايةٌ رمزيةٌ عن الخُلقِ والخليقةِ أم قصةٌ فلسفيةٌ إشراقيةٌ ذات نزعةٍ أفلاطونيةٍ مستحدثة؟ تمثيلٌ للمخلوقِ يبلغُ ميدانَ الحكمةِ بقوة العقلِ أم وصفٌ لتخبِّط الإنسان في ميدان الواقع والمادة؟ كيف نُؤوّل بقيةَ العنوان أسرار الحكمة الإشراقية؟ أهي روايةٌ باطنيةٌ؟ ما غرضُ كتاب الحيوان الأساسي؟ دراسةٌ علميةٌ للعالم الحيواني أم محاولةٌ للاستدلال على عظمة الخالق بدراسة المخلوقات؟..
إنّ أهميةَ النصِّ الأدبي تقوم بالضبط على أنه يستحيلُ علينا أن نأخذَ بقراءةٍ دون غيرِها أو أن نُعلنَ شرعيةَ تأويلٍ وإنكار سواه..
1 ـ 2 ـ نصوص تُنسخُ ونصوص تُقرأ!
إذا كانت القراءةُ تميل إلى مُضاعفةِ المعاني فإن طبيعةَ مستوياتِ هذه المعاني وعددَها يختلفان حسب طبيعةِ النصوصِ، فليس لكلِّ النصوص ذاتُ العدد من المستويات. ولقد ميّز بعضُ النقّاد بين النصوص التي يُمكن "نسخُها" وتلك التي تُمكن "قراءتُها".. والنصوصُ الأولى هي نصوصٌ يمكن أن "ينسخها" القارئُ أي أن يؤوِّلها عدداً لا ينتهي من المرّات. أي أنّه "يكتبُها". من جديدٍ كل مرةٍ يأخذُ فيها الكتابَ بين يديْه... والنصوصُ الأخرى هي تلك التي تتضمّنُ عدداً محصوراً من القراءاتِ. أيْ أنَّ التحليلَ الأدبيَّ يكشفُ عن شبكاتِ المعاني التي ينظمها النص فينسِّقُها ويُحصيها في قراءاتٍ محدودة. وعليه فإنَّ هناك نصوصاً ما يزالُ القارئُ العربي عاجزاً عن الإحاطة بكل معانيها بسبب ما أُخْضِعَت إليه لُغتُها من جهدٍ وصنعةٍ وبسبب موهبةِ شاعرِها المطبوع. وما يزالُ النقدُ يكتشفُ فيها شبكاتٍ دلاليةً طريفة ومعانيَ جديدةً... ونحن نضعُ بين هؤلاء أبا تمّام (788-845)، والمتبني والأقوالَ المنسوبةَ إلى الجُنَيد (توفي 910)، والنفّري (توفي 965)، الخ... وهناك نصوصٌ كنصوص بشّار (696 ـ 783)، وأبي العتاهية (748-826)، وأبي نُواس (762-813).. وأغلب النصوصِ الأدبيّةِ المدرسيّةِ التي تتقبلُ قراءات متنوعةٍ ولكن محصورة العدد.
ومهما يكن الأمرُ وسواء كان النصُّ الأدبيُّ "نسخياً" أو "قرائياً".. فإنه دائماً وبسبب بنيتِه متعددُ المعاني ومتعددُ الأصوات، وهذه التعددية التي تظهرُ لنا عند القراءةِ هي التي تحدَّد النصَ على أنه أدبيٌّ.
2 ـ القراءة الجابذة أو التوحيدية:
إذا كان النصُّ يضع القارئَ أمام سبلٍ في القراءةِ متعددةٍ فإنِّهُ من الأكيد أن ليسَ لكلِّ هذه القراءات الممكنة ذات الأهميّةِ.
ونحنُ نستطيعُ أنْ نقرأَ وقد وضعْنا كمسلمةٍ وجودَ معنى جوهريٍّ أو أصليٍّ تتعلّقُ به المعاني الأخرى أو تنبثقُ عنه كما تنجُمُ فروعُ الشجرةِ المختلفةِ عن أصلٍ واحدٍ أساسي. وهذه العلاقةُ التي يُنشئِها القارئُ "العادي" تلقائياً مع النص يدافعُ عنها بعضُ النقّادِ اليوم ويجعلون منها أساسَ العمليةِ التأويليةِ.
ويُطلقُ هذا التّيارُ النقديُّ على أنصارِهِ اسمَ الهرمونوطيقيين. وهذه الكلمةُ الأخيرةُ من أصلٍ يوناني وتعني التعريف بالشيء والإبانةَ عنه ونقلَهُ وترجمتَهُ أو ترجمةَ معانيهِ... وهذا المذهبُ في تأويل النص الأدبي يعتمِدُ مبدأ التماسكِ والترابطِ. أيّ أنّه يوجبُ تأويلَ عناصرِ النصِّ المتفرّقةِ على ضوءِ الهيكل العام. وهو يرى أنه مهما تباينت هذه القراءاتُ فيما بينها فإنه من الممكنِ دائماً أَنْ نُرْجِعَ العملَ الأدبيَّ إلى النّيةِ التي أنشأته وإلى أصلِهِ الأوّل أو جذرهِ العميقِ الذي يضمنُ وحدةَ أجزائِهِ ووحدةَ معانيه المتفرّقة.
وواجبُ الباحثِ حسب هذه المدرسة النقدية هو أن يتركَ سطحَ العمل الفنيّ لِيستكشف مركزَه الباطني الحيّ.فعليه أن يرصدَ التفاصيلَ البينةَ على سطحِ النصِ والأفكار المنثورة الظاهرة ثم يجمعَ تلك التفاصيلِ وهذه الأفكارَ ويحاول أن ينظمها في مبدأ خلاّقٍ واحدٍ كان ولا ريب يقودُ قلمَ المبدع حين يكتب. وعلى الباحث بعدها أن يمضي إلى ميادين الملاحظة ليتحقق إن كان "الهيكل الداخلي" الذي كشف عنه يفسر كل أجزاء النص الأدبي، وبعد محاولتين أو ثلاث يستطيع الناقد أن يعرف إن كان قد بلغ قلب العمل الأدبي النابض واكتشف كوكب نظامه الشمسي وسيعرف عندها إن كان مبدأُ تأويله قائماً في مركز دائرة النص أو في نقطة ما على محيطه..
فدراسة "الجزئيات" عند أبي عثمان بحر الجاحظ (775؟ ـ 868؟)، وتنظيم "التفاصيل" التي تملأ كتاب الحيوان حسب أنواعها أو منطق استحضارها في النص ودراسة تدرُّجِ المعاني والصور وتصاعِدها عند ابن الرومي (835-896) تساعدنا بفضل مقاربات متلاحقة على فهم شامل لأدب الرجلين.
إن النقد الهرمونوطيقي يسعى إذن إلى إنشاء قراءة تأويليّة مركزية وعقلانية تربط كل تفاصيل النصوص المعقّدة بخط معنوي توحيدي، وهذا المبدأُ المُوحَّد الذي يُنظَّم القارئ بموجبه تأويله هو الموضوع الذي يسكن كل زوايا الكتاب ويتكشف فيها..
وأبعدُ النصوص عن النزعة الذاتية، وأفقرُها بالقيم الشخصية كتلك التي تلتزم المواضيع المطروقة والأشكال المألوفة (كالنسيب في القصيدة الجاهلية مثلاً)، لابد وأن يختلج فيها وعلى نحو خفي نشاطٌ روحي مركزي يشد إليه أطراف القطعة شداً قوياً مع كل ما تحمله من أفكار وعواطف وخطرات. فخلف تعدد المواضيع في القصيدة التقليدية الجاهلية تكمن فكرةٌ موجِّهةٌ قد تكشف عنها القراءة المُتأنيةِ كما فعل طه حسين حين درس لبيد (560؟-661؟)، وطرفة بن العبد (543؟-569؟)، وزهير بن أبي سلمة (530؟-627؟)، ...(5).
وليس يسعنا أن ننكر أن الموضوعَ الذي يسكن كل زوايا الكتاب هو الكاتبُ نفسه وقد انتقل إلى داخل مؤلّفه وعاش في ثنايا كتابه. وبطبيعة الحال فإننا لا نقصد هنا شخص المؤلّف كما يظهر لنفسه وفي مرآة ذاته أو في عيون الآخرين محدوداً في الزمان والمكان مشغولاً بمتاعب الحياة اليومية. وإنما المقصودُ بالمؤلف ذاتُه العميقة الفاعلة وعقله الخلاّق وهو يُعمِلُ الفكر واعياً وقد التحم بنصه وبكل الأشياء التي اختار مواجهتها التحام الأرض بالجذر. ليس الجاحظ الذي يعنينا هو الرجل المريض بالنقرس والمصاب بالفالج أو الذي ترك حاميه ابن الزيات حين نكبه الخليفة المتوكل لأنه لا يريد أن يكون "ثاني اثنين إذ هما في التنور"! هذا هو أبو عثمان عمرو بن بحر من موالي كنانة. وأما الجاحظ فهو الفكر الوثّاب والذهن المتقد والناظم المُبدِع الذي ينفث في كتابه قوة ذاكرته وفضولهِ الموسوعي ودقة ملاحظته وسلامة منطقه وقدرته على المحاجة والإقناع وتوليد الأفكار.
إن قراءة النص الأدبي تعني إذن أن ندرك حضور الكاتب في داخله..
إن الاعتقادَ بوجودِ معنى أصلي يكون مفتاحاً لقراءةِ النصِّ ليس والحق يُقال اعتقاداً يختصُّ به أنصارُ مذهبِ التأويلِ الهرمونوطيقي دونَ غيرهم ونحن نجدُ هذه الرؤية لمعنى يسكنُ النصَّ كحقيقتِهِ الأولى في علمِ الدلالات البنيوي. وإنَّ مفاهيمَ كمفهوم "البنية الدلالية العميقة" أو مفهومَ "جوهر المضمون"، والتي قَبَسْتها الألسنيةُ البنيويّةُ من الألسنية التوليديّة توحي كلُّها بوجود مضمونٍ يحجبُهُ الشكلُ. فيكونُ هدف القراءةِ إذّ ذاك هو كشف الغطاء عنه...
وهذه الطريقةُ في النظرِ إلى النصِّ تفترضُ وجودَ مستوى سرديٍ ظاهرٍ يقابلُهُ مستوى قائمٌ في الأصل فكأنّه جذرٌ بنيويٌ عامٌ تنتظم فيه الإمكانياتُ السرديةُ في حالةِ كمون قبل أن تتجسّدَ وتظهرَ على سطح المستوياتِ التالية. وعليه ففي كلِّ نصٍّ من أنواع الأدب التخيلي، حسب هذه المدرسة، معنى أوّليٌّ وعامٌ يستطيع كلُّ قارئٍ أن يدركَهُ!...
2 ـ 1 ـ تأويل النص وثوابت الحياة النفسية:
إنّ مقاربةَ التحليل النفسي للنصوصِ الأدبيةِ تنطوي في هذا التيّارِ النقدي العام الذي يبحثُ عن جذرٍ تأويلي.... ونحن نبتعدُ هنا عن القراءةِ الواعيةِ المدرِكةِ وندخل في عالم التلقّي اللاواعي. وإذا قبلنا بمبدأ أنَّ الرغباتِ الباطنيةَ الدفينةَ هي في نفس الوقتِ قليلةُ العددِ وعامةٌ يشترك بها جميعُ الناس على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم استطعنا أن نفهمَ وأنْ نشرحَ لماذا يميل القارئُ لكتبِ الخيالِ أكثر من غيرِها... فهو يكتشفُ أو يتوهّمُ أنه يكتشفُ خلالها بُنى رغباتهِ الاستيهامية الكبرى. والقارئُ لا يفتأُ يبحث دائماً عن ذات الرغبات ونفس الأشياءِ في الأدب التخَيُّلي.
وبتعبيرٍ آخر فإنَّ كلَّ قارئ، حسب منهج التحليل النفسي يجدُ خلال الحكايةِ التي يقرؤها "حكايةَ عائلتِهِ"، هو. ذلك أن َّ كلاً منا ينسجُ لنفسهِ في طفولتهِ حكايةً وهميةً يستبدلُ فيها أقاربَه الحقيقيين بأقاربِ من نسجِ خيالهِ وعلى صورةِ نزواتهِ. ويكبحُ الطفلُ فيما بعد عندما يكبرُ من جماحِ هذه الحكاية الخرافيةِ ويدفنها في أعماقهِ ولكنها لا تموتُ ولا تختفي اختفاءاً كاملاً. وربما كانَ ميلُنا للرواية الأدبية ناشئاً عن هذه الحكاية الوهمية النائمة فينا. وإيمانُ كلٍّ منا الراسخُ بحكايةِ طفولتِهِ "الوهمية" هو التفسيرُ الوحيدُ المقبولُ للوهمِ الروائي. ذلك الوهم الذي يجعل القارئَ سواءاً كان قارئاً ساذجاً أو فطناً يحسبُ أن بإمكانه حقاً أنْ يلتقيَ بمصطفى سعيد أو برؤوف علوان في الحياة اليومية وهذا الوهم هو الذي يجعلنا نحزن أو نفرح لما يصيب البطل الروائي أو على الأقلّ يجعلنا نعنى بمصيره. وهكذا فإنّ تأثّر القارئ بحياة الشخصيةِ الورائية يبرهن على قوّةِ إيمانه بما كانت تبدعهُ مخيلتُهُ في طفولته. ولقد تلعب هذه المخيلة والقصص التي تبدعها دوراً في تنظيم بنيتهِ الشخصية يبلغ من أهميتهِ أنه يصير الأساسَ النفسي لكل إيمان القارئ بالسرد الروائي. فما إن تنخرط الشخصياتُ الروائيةُ في سياقِ الحبكةِ الروائية حتّى تذكّرَ القارئَ بالحكاية الأساسية التي تخيلَها صغيراً والتي ما يزال يعتقدُ ورغمَ مرورِ الوقتِ ورغم تقدِّمهِ في العمرِ بأنَّها حقيقةٌ أو بعضٌ من الحقيقةِ!..
إنَّ ما نقرؤه قبلَ كلّ شيءٍ والكلماتِ التي نجدها تلقائياً واضحةً وما نتعرّفُ عليه بغير علمٍ منّا هو ثوابتُ الحياةِ النفسيةِ غيرُ الواعيةِ وقد امتزجت امتزاجاً يصعُبُ فكُّ عراه باستخداماتِها الإيديولوجيةِ. وبتعبيرٍ آخر إِنْ كانَ علينا أن لا نهملَ دورَ الإيديولوجيةِ الهامَ في توجيهِ تأويلِ القارئِ للنصِّ الأدبيِّ فإنّ علينا أن نعيَ أنّ ما يدركُهُ القارئُ على غير وعي منه هو تلك الثوابت النفسية.. وعليهِ فإنّه من المشروع تماماً الاعتقاد بأن الآليات النفسية التي تتحكم في الإبداع والخلق الأدبيّين لا تختلفُ كثيراً عن الآليات النفسية التي تتحكّمُ بتلقي النص وتأويلِهِ. وكما أنّ العملَ الأدبيَ يُبدعُ إرضاءً لرغباتِ الفنّان الدفنية وترجمةً لها فإنّه يُرضي كذلك رغباتنا الدفينةَ نحن القرّاءَ. والمشاعرُ التي تختلجُ فينا عندما نقرأ هي صدى أهوائنا الخبيئةِ التي يوقظُها النصُّ في أعماقنا. وهذه الأحاسيسُ من حبورٍ أو حزنٍ أو قلقٍ أو اشمئزازٍ وضجرٍ وإلى غير ذلك ليستْ إلاّ صدىً لِما توقظُهُ فينا أهواءُ الكاتب.
ولقد أصابت بعضُ الروايات شهرةً كبيرةً في أوساطِ القرّاءِ رغم سذاجةِ بنائها الفنّي ورغم تحليلِها الضعيف والسطحي للشخصيات الروائية بفضل ماكانت تُرضيهِ ـ وما تزالُ ـ عند قرّائِها. ومن هذا القبيل نجاحُ بعضِ روايات إحسان عبد القدوس أو محمد عبد الحليم عبد الله (1920-1970)، فتعبيرُ هذه الرواياتِ عن ظمأٍ شديدٍ للحبِّ وحاجةٍ قويةٍ لاختلاطِ الجنسيْن بعضهما ببعض بأسلوبٍ سردي يدغدغُ ميولَ القارئِ وغريزته كان بلا ريبٍ خلف تحمّس جمهور من القرّاء لهذا الشكل من التعبير الأدبي رغم تبسيطهِ البالغ للمسألةِ. وكان بلا ريبٍ كذلك خلف استنكارِ بعضِ الأوساطِ الفكريّة له.
إذن ولأنّ الرغباتِ الدفينةَ هي ذاتُها عند المؤلّفِ وقارئِه فإن هواجسَ الأولِ توقظُ هواجسَ الآخر. أي أن فعل القراءة هو أنْ يجد القارئ في نفسه ذات المتعة التي أحس بها الكاتبُ عند الكتابة.
3 ـ القراءة النابذة أو التفكيكية:
ولكننا نستطيعُ مقاربةَ النصِ وقراءته على نحوٍ يختلفُ عن الشكلِ الذي عرضْنا له حتى الآن فيما سبقَ من المقالةِ. وفي هذه الحالة لا تكون القراءةُ بحثاً عن انسجام النص وما يشكل ترابطه وانسجامه الداخليين ولكنها سعيٌ حثيثٌ خلف تناقضاتِ النصِّ الداخلية ومعارضاتهِ. ويمكننا أن نسميها بنزعة القراءة التفكيكية أو بالنشاط التهديمي.
ولقد نظّرَ نقّادٌ لهذا النهج في التأويل الأدبي (الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا Dérida.J وأعوانه) اعتماداً على الألسنية البنيوية وخصوصاً على علمِ الأصواتِ فيها. فالعلامةُ الصوتية (أصغر وحدة صوتيةٍ في نظام اللغة الصوتي كالصوت سين أو غين الخ...) تُنشِئُ نفسَها داخل النظام اللغوي بما تختلفُ فيه عن بقية العلامات الصوتية في ذات النظام اللغوي. أي أن العنصرَ الصوتي لا يوجد إلا بالعلاقة التي تربطه ببقية العناصر الأخرى وهي علاقةُ تمايزٍ واختلافٍ ومعارضة. وعليه فليس للغة إذن مركز ثابتٌ يشدُّ إليه عناصرَها المكوّنةَ، ولا بدايةَ لها وليس لها مستوى أصلي ابتدائي ولا مكانَ انطلاقٍ. وبالتالي يُصبح من المستحيل علينا إن سلّمنا بمقدماتِ هذه المدرسةِ النقديةِ أن نتخيّل الكتابَ على صورةِ كلٍّ كامل ويصبح من العبث أن نحاول تثبيت معنى النص والإحاطة فيه. فهذا سراب عابر لا يكاد يتركّب حتى يتفكّك ولا يكاد يتراءى حتى يغيب ويضمحل!..
إنّ هذا النهج في القراءة يناقضُ كلَّ المعارضة نهجَ القراءة المركزية التي يبشر بها أصحاب النزعة الهرمونوطيقية. فهو ينادي كما نرى بقراءة تفكك النص وتبعثِرهُ. وهو يدعو كذلك إلى تجنب أن تهيمن خطوط المعاني على القارئ فتأخذُ بلبِّه وتفرضُ عليه أوهامها التوحيدية. وينصحُ هذا المذهب القارئ بأن يعبر النص ببطءٍ وأن يقف طويلاً عند أدقِّ تفاصيلهِ وأن يتأمل رويداً في كل جزئياته. وهذا البطءُ المقصودُ يُضعفُ مقاومةَ القارئُ أمام المفرداتِ فتجرُّهُ هذه إلى اللجّةِ العميقة الساكنة خلف سطحِ الكلمات وترمي به في هذه العوالم التي لا تكاد تنتهي. فالكلمة المُنخرطة في قواعد النص ونحوه تتشقق أرضها فتبرزُ معانيها الكامنة فيها وشبكات الدلالة التي توحي بها. وهذه الشبكات تشدُّ القارئَ بدورها إلى شبكات أخرى وإلى عوالم أخرى كامنةً خلفها وهكذا دواليك. كتلك المتاهات التي تصفها سيرة الملك سيف بن ذي يزن حيث يجد البطل نفسه أمام بابٍ ويقوده البابُ إلى بابٍ آخرَ وسردابٍ في آخرهِ باب جديدٌ يفضي إلى سردابٍ جديدٍ وكلُّ سردابٍ ينفتحُ على لغزٍ جديدٍ أو على كونٍ غامضٍ لابد من استكشافهِ وفتحِ كلِّ أبوابهِ المغلقة.
إنَّ القراءة الجابذة مُتسرِّعةٌ تبحث عن بنية المعنى الأساسي أو ما تراها كبنية المعنى الأساسي وتجهلُ خلجاتِ المعاني وخفقتها الرقيقةِ وتلامسِ ثنياتِ النصِّ بظواهره اللغوية. ولكنَّ القراءة المتمهلة الدؤوب تُميطُ اللثامَ عنها وتضيء من داخلها سبلَها الملتوية.
ونجد أمثلةً لهذه القراءة التفكيكية عند جمهور مفسّري القرآن الكريم. وسوف نستشهد على زعمنا من تفسير القرآن للحافظ ابن كثير الشافعيّ الدمشقي (توفي عام 1372). فهو بعد أن يستعرض فيما يُنيف على أربع صفحات ميادين المعاني التي تقود إليها الأحرفُ الثلاثةُ الأولى من سورة البقرة {ألم} ينتقلُ إلى الآية الثانية {ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمتقين}. فيقول:
"قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جُبَيْر والسُّدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج إن ذلك بمعنى هذا والعربُ تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكانَ الآخرَ وهذا معروفٌ في كلامهم. وقد حكاهُ البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة. وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى {ألم} كما قال تعالى {لا فارضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بين ذلك} ـ (البقرة ـ 68). وقال تعالى :{ذلِكُم حُكْمُ اللهِ يحكُمُ بينكم} (الممتحنة ـ 10). وقال {ذلكم الله}، وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدَّم ذكرهُ والله أعلم. وقد ذهب بعضُ المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيرهُ أنّ ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو غير ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعَّف هذا المذهب كثيرون والله أعلم".(6).
ومن الواضح أن المؤلف لا يكتفي بمعنى واحد للجملة التي يؤولها وإنما هو يتفحص كل مفردة بعينها. ويرصدُ كل معانيها الممكنة فيوازن بينها فتقوده الكلمة من سورة البقرة إلى موضعٍ آخر من ذات السورة حيث يعرضُ القرآن الكريم لمحاجّة اليهود لموسى ثم تفضي به الكلمة إلى سورة الممتحنة في مكان آخر من القرآن وسياق آخر وهذه تستدعي آية أخرى من سياق آخر.
هذه القراءة لا تعملُ إذن على الانتقال من المجموع الكثير إلى القليل المتفرد وإنما هي تعمل على مضاعفة المعاني وتصيُّد دقائقها قدرَ الإمكان.
3 ـ 1 ـ المعنى المنفلت دائماً:
إنَّ ما تظهره النزعةُ التفكيكية هو صعوبةُ الإلمام بمعنى القراءة أو بالأحرى استحالة اختصار النص إلى معنى واحد. وذلك لأن العلامة اللغوية مكانٌ يختلطُ فيه المعنى الحرفي والمعنى المجازي اختلاطاً يبلغُ من قوِّتهِ أنه يصعب على القارئ حين يباشرُ نصاً أن يعرف على وجه اليقين إن كان عليه أن ينشئ تأويله حسب بنية الجملة القواعدية وما تفترضه أنظمة النحو والتصريف أو حسب بنيتها الخطابية وبنيتها البيانية. ولنذكر كيف أن نفس النص المسرحي يُخرج على خشبة المسرح بمعان مختلفة وأحياناً متباينة حسب شخصية المُخرِج المسرحي ونظرته إلى النص. فسؤالٌ بسيطٌ من نوع ماذا تريد؟ يمكن أن يوحي بأشياء كثيرة حسب اللهجة والنغمة التي يستعملها الممثل وهو بالتالي يوجه فهم المستمع أو المتفرج للنص الذي يؤديه... ونحن نعرف أن بشار بن برد كان يتخابث على الخليفة المهدي بعد أن نهاه عن التغزل بالنساء فكان ينظم قصائد ظاهرُها، أي بنيتها القواعدية البينةُ، يوحي بالرصانةِ والوقار وباطنُها، أي بنيتُها البيانيّة، يبشر بالعبثِ واللهو.
ألم ينظم الحطيئة (؟ ـ 678؟)، بيتاً ظاهرُهُ مدحٌ للزبرقان بن بدر وباطنُهُ هجاءٌ موجعٌ له؟...
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها

واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
فلمّا شكاه الزبرقان إلى الخليفة عمر وكان قد نهاه عن شتم الناس أنكر الحطيئة أن يكون بيتُه حسب تأويل الزبرقان. ولكن شاعراً آخر هو حسان بن ثابت (؟ ـ 674)، قضى وهو الخبيرُ بالشعرِ للزبرقان (7).
فإن كانت القصيدة كلُّها أو العمل الأدبي كله قائماً على ازدواجية المعاني والتباسها ومليئاً بهذه البنى الخطابية والبيانية الغامضة صار النص عاصفة لا تهدأ من المعاني المتداخلة والدلالات المتنافسة وأصبحَ من باب الوهم أن نغلقَ باب الاجتهاد في التأويل الأدبي. إنّ أحسن ما يستطيعُ القارئُ أن يختمُ به قراءته هو أن يقول بتواضعٍ شديدٍ أمام النص ما اعتاد قوله عظماء النقاد العربُ: الله أعلم!.. فإذا أخذنا بمذهب التأويل التفصيلي هذا يمكننا تعريفُ النص بأنه ما ينساب دائماً من بين أصابع القارئ!...
3 ـ 2 ـ دور القارئ:
وبدون أنْ نتبنّى كلَّ النتائج المتطرِّفة التي تذهب إليها مدرسةُ التأويل النابذ التفكيكية فإنه من الظاهر أن دور القارئ النشيط في بناء النصِّ، كما رأينا في دراسةٍ سابقةٍ (8)، يستبعد تلقائياً فكرة تأويل نهائي للنص الأدبي. وذلك لأن أنا القارئ التي تنخرطُ في عملية بناء النص هي كذلك نصٌّ دائماً. وموضوع القراءة ليس إلاّ النتيجة المعقّدة لمؤثرات عديدة. وبالتالي فإن الأثر الذي يحدثُ عند كل قراءة هو أثرٌ جديدٌ يحدث للمرة الأولى.
إننا لا نقرأ أبداً نفس النص مرتين.
ويظهر المعنى ليس كشيءٍ قائمٍ ثابتٍ في النص وإنما كنتيجةٍ فريدة للقاء فريد هو لقاء الكاتب والقارئ. ولقد رأى كثيرٌ من المثقفين العرب مثلاً حين عصفت بهم في العقد السادس موجة الأدب الوجودي ومواضيعه في رواية ألبير كامو (1913-1960) الطاعون (1947)، حين ترجمتها إلى العربية الدكتورة كوثر عبد السلام البحيري رواية رمزية لعبث حياة الإنسان عامة والأوروبي على وجه الخصوص أي أنهم قرؤوها قراءة فلسفية.. وأما النقاد الفرنسيون الذين قرؤوها حين ظهرت في باريس بعيد جلاء الجيوش الألمانية التي احتلت أكثر من نصف الأراضي الفرنسية فقد رأوا فيها حكاية رمزية تدين إدانة شرسة النظام النازي بفكره المخيف وبسياسته الهمجية أي أنهم قرؤوها قراءة سياسية مباشرة!
إنّ من المستحيل أن نستنفذ معنى العمل الأدبي. وإن كان بعض مستويات المعاني (تلك التي يبرمجها النص) هي، من حيث المبدأ، بمتناول جميع القراء فإنه من الصحيح كذلك أنّ كلَّ قارئ يأتي بمعنى جديدٍ إضافي.
وإن كان التحليلُ الأدبيُ قادراً على إبراز ما يقرأهُ كلُّ الناسِ فإنه عاجزٌ عن الإحاطةِ بكلِّ ما يُقرأ.

¡¡

¡ هوامش الفصل الرابع:

1 ـ الزركشي. البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، أربعة أجزاء، 1957.
2 ـ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة السابعة عشر، بدون تاريخ، ص 289-297.
3 ـ عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنة، تنقيح ونشر الأب لويس شيخو اليسوعي، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثامنة، 1969، ص 59.
4 ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق دي غويه ومراجعة محمد يوسف نجم، وإحسان عباس، بيروت، دار الثقافة، بدون تاريخ، الجزء الأول، ص 17.
5 ـ طه حسين، حديث الأربعاء، من المجموعة الكاملة، الجزء الثاني، بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1974، لبيد ص 32-59، طرفة ص 59-81، زهير ص 81-118.
6 ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق حسين بن إبراهيم زهران، أربعة مجلدات، بيروت، دار الكتب العلمية، 1988، ج1، ص62.
7 ـ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، سبق ذكره، ج1، ص 245.
8 ـ حسن سحلول مشكلة القراءة والتأويل في النص الأدبي، المعرفة، عدد 384، أيلول 1995، ص 174-194. ونجوى عبد السلام وحسن سحلول معضلة القارئ النظرية المعرفة، عدد 402، آذار 1997، ص 214-236.



¡¡¡




الفصل الخامس :القراءة ومُعاش القارئ


مُخَطِّطُ الفصل الخامس.

1-مُتْعةُ التخيَّل
1-1-الوعي المُنطَلِقُ
1-2-الدُّوارُ.
1-3-تأمّلٌ ومُساهمةٌ.

2-متعةُ اللِعب.
2-1"البليينج" و "الجيم".
2-2-تورّطٌ ومراقبةٌ

3-سياحةٌ داخِلَ الزمن
3-1-النكوصُ إلى الوراء.
3-2-الطفلُ الذي يقرأُ فينا.
3-3-رجعةُ الماضي العاطفيِّ.




1-متعة التخيُّل

1-1-الوعيُ المُنطَلِق
ماذا يحدث حين يقرأ المرء كتاباً؟ ما هي المشاعرُ أو الأحاسيس والانطباعات التي تثيرها القراءةُ فينا؟
يبدو أن علاقتنا بالنص الأدبيّ تؤدّي بنا إلى ما يمكن أن نسمّيه، وبعد كثير ممن سبقنا من النقّاد ونخص منهم جوس (Jauss)، بالمتعة الجماليّة.
ويتحرّر الإنسانُ في هذه المتعة الجماليّة مما يكوّن واقع حياته اليوميّة وقيودها بفضل خياله. وينفتح الإدراك المتخيّل في حقيقة الأمر على إحساس مزدوجٍ من التحرّر والخلق معاً. ولكيّ يبلغ الإدراك المتخيّل هذه الدرجة فإنه يجتاز مرحلتين اثنتين فهو يلغي حدود العالم الحقيقيّ ويزيله من الوجود فيتخذ القارئ مسافةً بينه وبين هذا العالم، ثم يروح في المرحلة التالية يخلق من رموز المادة التي يتأمّلها ويقرؤها بديلاً عنه. وبمعنى آخر، إنّ القراءة إذن هي نشاطٌ تحريريّ (يفك القيود التي تربط القارئ إلى محيطه) ونشاط تملئةٍ يُنشئ في الخيال واعتباراً من رموز النص المقروء عالماً تسمهُ الأهواء الشخصيّة.
إنّ القراءة بصفتها تجربة جماليّة هي وعلى وجه الدوام نزوعٌ من شيء ٍما بقدر ماهي منزعٌ إلى شيءٍ ما آخر. فمن جهةٍ هي تنزع عن كاهل القارئ عبء الحياة الحقيقية وتخفّف عليه صعوباتها وتفك من شدّة سلاسلها، وهي من جهةٍ أخرى وإذ تسلكه في عالم النص، فإنها تجدّد من إدراكه للعالم الحقيقيّ.
فالقارئ إذ تأخذه الشفقة بنفيسة إحدى بطلات رائعة نجيب محفوظ بداية ونهاية (1949) التي يضنيها جسدها كما تؤرق الحيوان غريزته، أو يلهو ساخراً من كديات عيسى بن هشام بطل مقامات الهمذاني أو تسلب الحيرة لبّه وهو يحاول أن يقتفي آثار أبطال جبرا إبراهيم جبرا خلال سبل روايته الغربية في البحث عن وليد مسعود فإنه يغفل بعض الغفلة خلال زمنٍ قد يطول أو يقصر (وهو فترة القراءة) عن هموم حياته الذاتيّة وعن متاعبها.
ولكن انشغاله عن نفسه بمصير الشخصيّات الروائيّة وتمثّله لها يجعلانه يعيش مواقف جديدةً لا يعرفها من خلال حياته الحقيقيّة ويطّلع على تجارب جديدة فتتعدلّ نظرته إلى الأشياء. ويمكننا أن ننظر إلى إحساس القارئ بانفلاته من ذاته وانفتاحه على تجربة الآخر (البطل الروائيّ) على أنّه من قبيل ازدواج الشخصيّة وتماهيها مع الشخصيّة الروائيّة أو تقمّصها إهابها.
فنحن نحط الرحال خلال القراءة في بلاد خياليّة فنقيم فيها حيناً من الوقت ونصادف فيها أشخاصاً آخرين ونخالطهم ونندمج معهم ونفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم. أي أننا نرسل أثناء القراءة "ذواتنا الوهميّة" لاكتشاف هذه الأراضي البكر وكأنّنا قد طلبنا إليها أن تُعدّ لنا تقريراً عما تراه وتسمعه خلال رحلتها. وذواتنا الوهميّة تلك هي التي تفرح أو تحزن وليس نحن. وهي التي تُشفق على نفيسة أو تسخر من سذاجة عيسى بن هشام وتتألّم على مصير وليد مسعود. وأمّا نحن فإننا نكتفي بان نعيرها جسدنا وعواطفنا كما يعير الكاهن أو المشعوذ الوسيط جسده للأرواح العلويّة أو السفليّة كي تنطق من خلاله. وكما أن وجود هذه الأرواح العلويّة أو السفليّة في الجسد المعار يجعله خليقاً بالإخبار بما حدث أو بما سيحدث أو قادراً على فهم ما جرى أو سيجري فإن ذواتنا الوهميّة التي تغوص في الرواية تشعر بمشاعر وتعيش أحاسيس أكبر وأكثف من تلك التي تشعر بها وتعيشها ذواتنا الحقيقيّة التي جفّفتها الأحداث وأقست قلوبها التجارب. ولطالما أعرب الجاحظ والتوحيديّ عن ثقتهما بدور الأدب في تهذيب الأخلاق. أو لم يكن ذلك لإيمانهما بأن ذواتنا الوهميّة أو الروائيّة، وبعد عودتها من رحلتها في ملكوت الفنون ورحاب الأدب، ستنصهر من جديد في ذواتنا الحقيقيّة فتغذّيها وتصقلها وتشذبّها؟
القراءة إذن ارتحالٌ وسياحةٌ في كونٍ آخر يُغني التجربة الفردّية ويوسع من آفاقها. والقارئ الذي يغادر أرض الواقع في بداية الرواية ليلج الكون الروائيّ يرجع إليها في النهاية وقد غذتّه الرواية.
لقد كان الشاعر العربيّ القديم يقول: اغترب تتجدّد. ويسعنا اليوم أن نقول كذلك: اقرأ تتجدّد.
1-2-الدوار
إن واحدةً من أكثر تجارب القراءة إثارةً لاضطراب القارئ هي تلك التي تجعله يتقمّص شخصيّةً تختلف عن شخصيّته وتجعله يتلفّظ بأفكارٍ وآراءٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن أفكاره وآرائه الخاصة وإذا كان هذا التماهي بين ذات القارئ والشخصيّة الروائيّة يتحقّق في كلٌ النصوص الروائيّة فإنه يتجلّى على نحوٍ قويٍّ في النصوص التي تستخدم ضمير المتكلّم. فحين أقرأ مثلاً يوميّات نائب في الأرياف فإنّي أحلّ في إهاب الراوي الذي يقص الأحداث، ويختلط صوته خلال فترة من الوقت (زمن القراءة) مع صوتي فلا أكاد أميّز أحدهما عن الآخر. ويحدث الأمر ذاته فأتيه عن نفسي مع راوي موسم الهجرة إلى الشمال أو مع راوي جان بول سارتر في (1905-1980) الغثيان. (1938).
هذه التجربة تجربةٌ تثير قلقاً في النفس. لماذا؟.
يكمن الجواب في الواقعة النفسيّة التالية. إن كلّ ما أفكّر فيه يكوّن جزءاً من عالمي الباطنيّ وعنصراً تأسيسيّاً من مجموع العناصر التي تكوّن حقيقتي الأولى وتوازني الضروري، ولكني حين أباشر القراءة فإني أحتضن أفكاراً وآراء تنتمي انتماءً جليّاً إلى عالمٍ داخليٍّ آخر غريبٍ عن عالمي الخاص. ولكن هذه الأفكار الغريبة والمشاعر الأجنبيّة تشغل ذهني وتملأ عالمي عن غير إذنٍ ولا رضىً مني كما لو أنّني لست موجوداً بعد. وهذا أمرٌ لا يطاق ويصعب قبوله خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّه لابد لكلّ فكرةٍ من كائن يفكر بها. وهذا يعني أن تلك الأفكار الغريبة عنّي والتي تسكنني ثم تنمو وتتطوّر لابدّ أن يكون لها كائنٌ أجنبيٌّ يحملها في باطني ويقيم في داخلي أنا وأجهله كلّ الجهل. فلا جرم أن يكون استبطان الآخر هذا يقلقنا بقدر ما يسحرنا. فأن نكون من لا نكون ولو لزمنٍ قصير أمرٌ تهتزّ له دعائم شخصيّتنا. والقارئ الذي يتحوّل إلى وسيلةٍ تلجأ إليها تجربةٌ غريبةٌ عليه كي تتجسّد أو يصير شاشةً تنعكس عليها حياةٌ أخرى غير حياته تختلط عليه ملامح هويّته الخاصة وتختلط عليه الأسباب ولا يعود يعرف من هو على وجه اليقين.
أن نقرأ هذا يعني أن تصبح حدود شخصيّتنا مباحةً للآخرين فتجتاحها التيّارات والانطباعات والأفكار الكامنة في الكتاب الذي نأخذ بين أيدينا. وتنطلق من قمقمها كجنّي علاء الدين وتتجسّد في عالمنا الداخليّ منذ أن نشرع في القراءة.
فأن نقرأ كتاب الأيّام (1929) لطه حسين هو أن نعيش حقّاً ما عاشه الصبيّ الضرير في قريته والألم الماحق الذي أخذته بتلابيبه حين ماتت أخته الصبيّة لإهمال أهلها الآثم وأن نجعل الإشارات أو الصرخات الغاضبة التي تصدر عن الكاتب الذي يرجع وقد بلغ مبلغ الرجال إلى موطن طفولته الشقيّة إشاراتٍ وصرخات غضبٍ تصدر عنّا نحن الذين بلغنا مبلغ الرجال ونرجع إلى موطن طفولتنا الشقيّة.
وسواء أكان الأمر متعلّقاً بالناحية النفسيّة للقراءة أو ببعدها الفيزيائيّ حقاً فإنّ تمثّل شخصٍ آخر يفترض بالضرورة أن نخرج إلى نحوٍ ما من حدودنا.
إنّ انهيار دعائم وجودنا هذا انهياراً مؤقّتاً هو ما يشرح ولا ريب ما اعتاد بعضهم على وصف القراءة بأنها حيرةٌ أو دوار يضطرب فيه الإنسان بين القلق والغبطة. ذلك أنّ القراءة تستبدل ما نحن عليه عادةً أي أجزاءٌ من خطاباتٍ شتّى تصدر عن جهاتِ شتّى تجعل منا كائنات ممزّقةً مليئةً بالتناقضات وبالعواطف المتباينة بكائنٍ مسحورٍ، كائنٍ قارئٍ فذّ ليس ينطبق كلّ الانطباق على حقيقتنا المُتشعّبة ولكنه ليس بكائنٍ آخر.
1-3-تأمّلٌ ومساهمةٌ
ولكن اندماج القارئ في عالم النصّ قد يرتدي أشكالاً مختلفةً غاية الاختلاف. ويرتبط هذا إلى درجةٍ بعيدةٍ بالمسافة التاريخيّة التي تفصل بين القارئ وبين عهد النصّ المقروء. فحين يكون القارئ معاصراً للنصّ فإنّ القراءة يمكن لها أن تجدّد من أحاسيسه وربما تجعله يغيّر من طريقة رؤيته للكون وإدراكه للأشياء.
كيف يمكن أن نشرح هذه الظاهرة؟
إنّنا نفسّرها بتحوير النصّ الأدبيّ لمعطيات العالم وبتغييره لها. إنّ رواية عبد الرحمن منيف (1933) شرق المتوسّط (1975) تجعل من القمع البوليسيّ نابضاً سرديّاً أساسيّاً في أحداثها التي تجري في دولةٍ ما من دول الشرق الأوسط العربيّة. وتعرض الرواية وقائعها وتصف رعب حامد من خلال حامد نفسه. وليس بمقدور القارئ العربيّ الذي يعي الأحداث من خلال ضمير حامد المقهور إلاّ أن يتأمّل في طبيعة هذه الأنظمة السياسيّة الحديثة والمخيفة سواء أكان هذا القارئ ينتمي إلى هذا القسم من الوطن العربيّ أو إلى قسمه الإفريقيّ.
وتقود رواية غسان كنفاني (1936-1972) رجالٌ في الشمس (1963) مجموعة من العمّال الفلسطينيين الباحثين عن سراب الثروة في إحدى الدول العربيّة المنتجة للنفط أو عن لقمة عيش فيها إلى الموت اختناقاً في صهريج حوّلته شمس الصحراء العربيّة إلى جحيمٍ ذي عجلات. وهذه الرواية تقود قارئها على نحوٍ منطقيٍّ إلى أن يتساءل عن هذا الجانب من وضع اللاجئين الفلسطينيين وإلى إضافته كبعدٍ جديدٍ في الكارثة الفلسطينيّة.
وكذلك رواية الفرنسيّ جان بول سارتر الغثيان تدفع قارئها إلى التساؤل عن معنى الوجود عامة وعن معنى وجوده الشخصيّ على وجه الخصوص.
إن إيزير يصف سلوك القارئ هذا بأنه سلوك مشاركةٍ ومساهمةٍ.
وحين تنهض مسافةٌ زمنيّةٌ كبيرةٌ بين عهد القارئ وأيام النصّ فإن أوّل ما يسعى إليه القارئ هو أن يعيد بناء ظروف كتابة النص التاريخيّة. فحين يقرأ أحدنا اليوم رواية معروف الأرناؤوط سيد قريش فإنّه يحاول خصوصاً أن ينشئ الأفق الثقافيّ الذي كان يحيط بالكاتب الشاميّ حين كتب روايته في الثلث الأول من القرن العشرين. وهذا المحيط الفكري يجعلنا قادرين على إدراك تصوّر معروف الأرناؤوط لمشكلة بعث الأمة العربيّة. وما تكشف عنه قراءتنا للرواية هو ما كان عليه وعي مثقّفٍ عربيٍّ عاش العقود الأخيرة لهيمنة الدولة العثمانيّة على البلاد السوريّة ثم هزيمتها أمام الثورة العربيّة وعاصر دخول استعمارٍ جديدٍ. وما كان يتخيّله من وسائل لبعث الأمّة العربيّة.
إنّ تجربة معروف الأرناؤوط هذه قد فرضت عليه شكل معالجته الروائيّة لتجربة بعث الأمة العربيّة الأوّل أيام الرسول العربيّ.
وتصبح الظاهرة أوضح حين نقرأ نصوصاً قديمةً أو متأخّرةً. فكتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ (1095-1188) يرغم القارئ العربيّ المعاصر على تعديل رؤيته الشخصيّة للكون بقدر ما ترغمه على إعادة بناء الأفق الثقافي الذي يسبغ على النص معناه ولحمته. فهذا النصّ الذي أملاه الأمير السوري على كاتبه مقتبساً بنية كليلة ودمنة يضع القارئ أمام حياةٍ سياسيّةٍ عاصفة في قرن يملؤه الصخب والعنف سقطت فيه القدس أمام فرسان الحملة الصليبيّة الأولى وبنى هؤلاء فيه دولاً وممالك على الساحل السوري وبزغ فيه نجم زنكي فأوقع بالصليبيّين أولى هزائمهم وطردهم من الرها في عام (1144) وكانوا قد أقاموا فيها إمارةً منذ (1097) ثم بنى فيه ابنه نور الدين دولته بعد أن دخل دمشق عام (1154) وظهر فيه أخيراً صلاح الدين بن أيوب فأنهى دولة الفاطميّين في القاهرة (1171) وأعاد مصر لبني العبّاس قبل أن يشمر عن ساعديه لطرد الصليبيّين من القدس عام 1187.
إنّ ما يعيد القارئ بناءه إذن هو إشكاليّةٌ سياسيّةٌ وثقافيّةٌ تخصّ ذلك القرن الثاني عشر المضطرب. والقارئ يكتشفها لأنها قائمةٌ في صلب النصّ الأدبي ذاته ولأنها مادة النص الخام ووعيه المجرّد معاً.
ويصف إيزير سلوك القارئ هذا بأنه سلوك تأمّلي.
وعليه فإنّ هناك مشاركةٌ ومساهمةٌ حين يتجاوز القارئ وضعه الضيّق والمحصور في حياته اليوميّة. وهناك تأمّلٌ حين يبلغ رؤية للكون ليست من عالمه الثقافي ولا من أفقه المألوف.
2-متعة اللعب
2-1-"البليينج" و"الجيم".
لقد رأينا فيما سبق أن ميشيل بيكار يقترح أن نفهم تلقّي النصوص الأدبيّة حسب أنموذج اللعب. وتجمع القراءة إذا أخذنا بهذا القول بين صنفين من صنوف التسلية مختلفين كلّ الاختلاف.
ويسمّي بيكار الصنف الأول (Playing) ويسمّي الصنف الثاني (Game). وتشير المفردة الأولى إلى أنواعٍ من اللعب تقترح على اللاعبين أدواراً يلعبونها أو يتظاهرون بلعبها. وهي تقوم بشكل أساسيّ على تماهي اللاعب مع صورةٍ أو شخصيّةٍ وهميّةٍ. ومن هذا القبيل لعبة "الحرامي والشرطي" وأمّا المفردة الثانية فهي تشير إلى ألعابٍ تحتاج معرفةً وذكاءً وحساً بالاستراتيجيّة كتلك الكفاءات التي يحتاجها لاعب رقعة الشطرنج على سبيل المثال.
وبينما تسمح طبيعة لعب الجيم باتخاذ مسافة بين الفرد والموضوع أو بين اللاعب واللعبة فإن ألعاب البليينج تضرب جذورها في خيال القارئ وتوهّمه.
وعليه فإن القراءة الأدبيّة هي لعبة أدوارٍ (بليينج) ولعبة قواعد (جيم) معاً. ومن المستحيل أن نقرأ روايةً دون أن نتماهى مع شخصيّاتها وأن نتحد بها. ولكنه من المستحيل كذلك أن نقرأها دون أن نلتزم بعددٍ من القواعد الاتفاقيّة وبمعجم الرموز الاصطلاحية وعقود القراءة.
2-2-تورّطٌ ومراقبةٌ.
لقد رأينا فيما سبق أن القارئ مسوقٌ باستمرار إلى جدليّةٍ دائمة بين استباق الأحداث وبين الرجوع إلى الوراء حين يبني تلقّيه للنص الأدبيّ. فعليه أن يبدأ بتخيّل أشكالٍ يملأ بها فراغات النص ثم ينبغي عليه أن يغيّر منها أو أن يطرحها بعيداً إذا ظهر له فيما بعد أنها لا تتفق مع بقيّة الحكاية.
ينبغي علينا إذن أن نميّز بين مسارين أو بين عمليّتين. فإذ يملأ القارئ فراغات النص بتصوّراتٍ تنبع من تجربته الفرديّة الخاصّة ومن أوهامه الذاتيّة فإنه ينخرط بكليّته في النص يتبنّاه ويتورّط فيه. ولكنه يرغم على أن يبتعد عن تصوّراته نفسها حين يعارضها النص وأن يهمل توقّعاته حين تكذّبها بقية أحداث الرواية. وعندها يستطيع أن يراقب ذاته وهي تشارك في فعل القراءة.
ولنضرب على قولنا هذا مثالاً من رواية كوكب القردة لكاتبها بيير بول. وتبدأ الحكاية حين يعثر جين وفيليس وهما يقومان بنزهة في الفضاء على زجاجةٍ مغلقةٍ تحتوي على قرطاسٍ. ويقرآن في القرطاس قصة رجلٍ حطّ عقيب رحلةٍ قام بها في رحاب الكون فوق كوكبٍ تحكمه قردةٌ فطنةٌ. وبما أن الكاتب لا يصف لنا شخصيْ جين وفيليس ولا ملامحهما فإنّ القارئ يملأ هذا الفراغ القائم في النص الروائي بتصوّرات من ثقافته العامة ومن ردود فعله التلقائيّة. ويتخيّل أن جين وفيليس زوجان شابان. ولكن الكاتب يكشف للقارئ في نهاية القصة أنّ هاتين الشخصيّتين هما في الحقيقة قردان وليسا كائنين بشريّين! وهنا يجد القارئ نفسه مرغماً على تعديل تصوّره الأول. وإذ يفعل فإنّه لا يستطيع إلاّ أن يعمل النظر بميله التلقائي إلى إسباغ الصفات البشريّة على ما يتخيّله والذي يفرض عليه نحواً من تصوّره للكون.
لقد اضطّر قارئنا هنا إلى أن يتورّط شخصيّاً في القراءة قبل أن يجد نفسه مرغماً على إعادة النظر في ردّة فعله الأولى وعلى وضع نفسه موضع التساؤل. إن تفحّص الإنسان لنفسه هذا ونقده لذاته يضفيان على القراءة أهميّةً بالغةً. وللتناقضات التي أبدعها القارئ حين تخيّل تصوّراته أهميتها الخاصة بها. فهي ترغمه على اكتشاف نقص هذه التصوّرات التي تخيّلها بنفسه، وبالتالي على أن يتّخذ مسافة بينه وبين النص الذي يساهم فيه فيصبح هو نفسه موضع المراقبة أو إنه يرى نفسه على الأقل متورّطاً في النص. إنّ قدرة القارئ على رؤية نفسه منخرطاً في مسار يؤثّر فيه لحظةٌ أساسيّةٌ في تجربته الجماليّة. واستبعاد الذات ومهما كان الشكل الذي يرتديه تجربةٌ تخصب الذات أبداً.
وتدفع بعض النصوص الأدبيّة ككتابات الأمريكيّ ويليام فوكنر (1897-1962) بهذا الأسلوب الأدبيّ حتى نهايته القصوى، ولقد لجأ نجيب محفوظ إلى هذه الطريقة على الأقل مرّةً واحدةً في روايته ميرامار (1967). فهو يقصُّ علينا حكايته من خلال عامر وجدي وحسني علاّم ومنصور باهي وسرحان البحيري.. وهو إذ يغيّر باستمرار من زاوية السرد يمنع القارئ من تبنّي منظورٍ واحدٍ عامٍ وشاملٍ يلمّ بكلّ أطراف النص. ويحرمه من رؤية مركزيّةٍ تجعل في مقدوره أن يوحّد ضمن منحى سرديّ واضحٍ أفكار شخصيّات الرواية ومناجاتها والتي تتقاطع وتتشابك طيلة النص.
وإذ يفشل القارئ باستمرار في فكّ رموز النص فإنّه مضطرٌ لأن يتساءل حول صحة طريقته بمقاربة النص. وإذ يضطر باستمرار إلى استعادة تصوّراته الأولى وتعديلها وأحياناً إلى التخلّي عنها فإنه مرغمٌ في نفس الوقت على أن يقرأ وعلى أن يراقب نفسه وهو يقرأ‍!
إنّ هذا النوسان الدائم بين الانخراط والتورّط تارةً والابتعاد وإعمال النظرة تارةً أخرى هو ما يجعل من القراءة واقعةً نعيشها.
3-سياحةٌ داخل الزمن
3-1-النكوص إلى الوراء.
إنّ القراءة تجعلنا مسافرين داخل الزمن. وليست جملتنا هذه من باب الاستعارة إلاّ قليلاً. فحين نفتح صفحات رواية فإننا نقرّ ضمناً برضانا بأن نتناسى لفترةٍ من الزمن الواقع الذي يحيط بنا كي نصل من جديدٍ الجسور التي تربط بيننا وبين طفولةٍ تملأ الحكايات والقصص كلّ زواياها. وإذ تنّبه القراءة من نومها الأنا المتخيّلة، وهذه تكون عادةً في حالة سباتٍ عند الراشد المستيقظ. فإنها تنقل القارئ من جديد إلى الماضي البعيد.
ما الذي يجعل هذا الجزء الكامن فينا والذي ورثناه عن طفولتنا ينهض من غفلته بهذه السهولة؟.
إن الجواب يكمن في التشابه القائم بين حالة القراءة وحالة النوم. فوضع المرء الذي يقرأ قريبٌ، من ناحية الطاقة النفسانيّة من وضع المرء الذي يحلم. والقراءة كالنوم تقوم على سكونٍ نسبيٍّ وعلى يقظةٍ محدودةٍ (معدومةٍ عند النائم) وعلى تعطيل دور الفاعل الإيجابي لصالح دور المتلقّي السلبي.
وعليه فإن القارئ وقد وضع على هذا النحو في حالةٍ اقتصاد للطاقة شبيهةٍ بحالة اقتصاد الطاقة عند الحالم يترك مؤثّراته النفسانيّة تأخذ طريق الرجعية أو الارتداد إلى حالة سلوك سابقة.
ولقد صاغ مفهوم الارتداد هذا كريستيان ميتز Christian Metz في كتابه Le Signifiant imaginaire الدال الخيالي. ويذهب كريستيان ميتز من التمييز بين ما يدرك في حالة اليقظة وبين ما يتصوّر في حالة الحلم.
تَرِدُ المؤثّراتُ النفسانيّة في حالة الشخص المستيقظ الفعّال من الخارج (أي من العالم المحيط) نحو الداخل (أي الجهاز النفساني حيث تنطبع هذه المؤثّرات). ويسمّي الكاتب هذا المسار أو هذا المنحى الذي تسلكه المؤثّرات بالمنحى أو المسار التقدّمي.
والأمر على نقيض ذلك عند الشخص الحالم السلبيّ. فالمؤثّرات تصدر من لا وعي الشخص (وهي كائنةٌ ومنذ البداية داخل الجهاز النفسانيّ) وتوهم بأنّها خارجيّةٌ عن طريق إنتاجها لصورٍ ذهنيّة. ويسمّي ميتز هذا المسار التراجعي أو الارتدادي.
والمسار التراجعيّ هذا (من الداخل النفسانيّ إلى التصوّرات) هو الذي يجعل ممكناً ظهور الهلوسة والهذيان.
وهذا الارتداد لا يبلغ بطبيعة الحال في القراءة الدرجة التي يبلغها في حالة الحلم. وكما أن موج الارتداد يصطدم عند الشخص الذي ينظر إلى فيلم سينمائيّ بماديّة صور الفيلم وصوته فإن موج الارتداد عند القارئ يبقى مقيّداً بحامل الهلوسة أي بالكتاب نفسه.
ويمكننا كذلك أن نضيف ملاحظةً أخرى. فبما أن الستار اللغويّ هو أقلّ كثافةً منه من شاشة السينما فإن المسار التراجعي عند القارئ يصل إلى أبعد مما يصل إليه عند مشاهد السينما. فتصورّات القارئ الوهمية تتعامل مع عنصرٍ واقعيّ هو أقل قسراً بكثيرٍ في القراءة منه في السينما. وهذا ما يفسّر تلك الصداقة الحميمة والنادرة (والتي هي بإمكان كلّ قارئِ) التي تشدّ الشخص الذي يقرأ إلى الشخصية الروائيّة التي يقرأ ما يقع لها.
ويلعب خيال القارئ الشخصيّ في التوهّم دوراً يجعلنا نستطيع الحديث عن حضورٍ للشخصيّة الروائيّة داخل شخص القارئ. وليست تستطيع أي صورةٍ سينمائيّة أبداً مهما بلغت من القوّة أن تعطينا هذا الشعور بالتوحّد الذي نجده باستمرار بين شخصٍ القارئ والشخصيّة الروائيّة التي يتصوّرها. وهذا يجعلنا بدوره نفهم الإحساس بالخيبة التي تغمرنا عادةً حين نشاهد على شاشة السينما أو التلفزيون فيلماً اقتبس من رواية قرأناها. وذلك أن الشخصيّة الروائيّة التي تبلغ درجة التواجد بفضل تصوّرات القارئ التخيّليّة تبدو على الشاشة وكأنه كائن مطلقٌ مستقلٌّ بذاته يأتي إلى الوجود دون أن يساهم فيه القارئ أبداً. وذلك أيضاً لأن الصلة الحميمة التي كانت تشدّ القارئ إلى المخلوقات الروائيّة قد قطعت تماماً في العمليّة السينمائيّة.
وما يفقده القارئ حين تنقل الرواية إلى السينما هو قدرة الخلق والإبداع الممتعة. فهو حين يقرأ يلبس الكلمات ثياباً زاهيةً حسب سبل متعته الشخصيّة المتفرّدة والمتميّزة عن متع الآخرين. وهو حين يرى ذات الرواية منقولةً إلى السينما فإنه يتشوّق لأن يجد من جديدٍ متعته الأولى بل وينبغي لنا أن نقول إنه يتشوّق لأن يرى من جديدٍ ما كانت متعته قد كست به شخصيّات الرواية. وهو يخضع إذ ذاك لقوة التكرار القاهرة والتي تكمن في قلب المتعة ذاتها فتدفع الطفل مثلاً إلى أن يلعب باستمرارٍ نفس اللعبة وتسوق المراهق إلى أن يستمع دائماً إلى نفس الشريط الموسيقيّ قبل أن تملّه نفسه فينتقل إلى شريطٍ آخر فيرتوي منه حتى الثمالة قبل أن يتركه إلى عقار آخر. ولكن قارئ الرواية لا يرى على الشاشة أمامه "فيلمه" هو!. إن الصور التي تتوالى أمام ناظريه في الفيلم "الحقيقي" هي توهّمات شخصٍ آخر ورغبات شخصٍ آخر وصور تنبع متعة شخصٍ آخر. وهو ما يندر بنا أن نجده أمراً سائغاً.
من منّا، غير مخرج فيلم اللص والكلاب، كان تخيّل سعيد مهران على صورة شكري سرحان أو كان تمثّل نور على ملامح شادية؟ من قارئٌ للثلاثيّة يرى دون أسفٍ يحيى شاهين وقد أخذ مكان أحمد عبد الجوّاد تلك الشخصيّة الفريدة والعصيّة على التمثيل والتي كان قد تخيّلها حسب حياته الخاصة الفريدة وحسب ماضيه الفريد والخاص به؟
إنّ فرض وجهٍ معيّنٍ (حتى ولو كان وجه شكري سرحان أو سعاد حسني!) على الشخصيِة الروائيّة يسلبنا حقّنا ونصيبنا منها.
3-2-"الطفل الذي يقرأ فينا".
إنّ الطفل الذي يقرأ فينا إذن هو الذي يجعلنا نؤمن بالقصص المتخيّلة ونصدّقها. إنّه زمنٌ كانت تسود فيه الخرافة ولم نكن نميّز فيه بين ماهو كائنٌ وبين ما كان يحلو لنا أن يكون!. من منّا لم يؤمن بالغول؟ من منّا لم يؤمن بعنترة بن شدّاد؟
إنّ هذا القبول الجذل بالوهم لا يختفي أبداً اختفاءً كاملاً. وإنّ ما كنّا نؤمن به أطفالاً يعود فينشط في سنّ الرّشد إذا توفّرت لذلك بعض الظروف (منها ظرف القراءة) وهو يكمن خلف ما نؤمن به كباراً. ما إن نفتح روايةً حتى يرجع الطفل الذي فينا ثانيةً ويظهر كرّةً أخرى. على هذه الدرجة من القوّة أو تلك.
وهذا الطفل الكامن فينا يصرّ ويتشبّث. إنّه هناك يقرأ ويلهو متحرّراً من قواعد المنطق الضيّق وعابثاً بمقولات الزمان والمكان. واستسلام القارئ المنافق لوهم القراءة يقوم على إيمان الطفل الساذج والعميق بعالم الخيال.
وبكلماتٍ أخرى إنّ القارئ البالغ يستخدم الطفل الكامن فيه كعذرٍ ليؤمن خلال فترة القراءة بما يرفضه منطقه كراشدٍ في مكانٍ آخر. وهكذا نجد الطفل وسيطاً أو شاهداً أو بطلاً يختبئ خلفه القارئ الراشد في كثيرٍ من القصص الخياليّة وخصوصاً منها الرواية القائمة على المبالغة أو الأحداث الخارقة للعادة أو البطولات الفذّة كسيرة الملك سيف بن ذي يزن أو سيرة فيروز شاه أو في الروايات البوليسيّة.
أن نقرأ هو إذن أن نعيد الصلة كرّةً أخرى مع ما كنا نؤمن به صغاراً. وبكلمةٍ أخرى مع ما كنّا نشعر به. والقراءة التي طالما فتحت لخيالنا في الماضي عوالم لا حدود لها تبعث ذلك الماضي من جديدٍ كلّما شاقنا الحنين إليه وفتحنا روايةً نقرؤها. وبهذا المعنى فإنّ أوّل ما قرأناه هو الرحم الذي تخرج منه قراءاتنا اللاحقة.
ما عمرنا حين نقرأ؟
ولنجب وبدون تردّد: عمر الطفولة!. إنّنا نقرأ كأطفالٍ مهما كان عمرنا حسب البطاقة الشخصيّة وعلى ضوء أوّل مرّةٍ قرأنا بها أطفالاً ومن خلال هاجسها. إنّ أوّل حرف في القراءة هو الرغبة الحارقة. والقراءة شهوةٌ طفوليّةٌ. وحين نراود النصّ بالنظر أو بالقلم فإنّنا نرتاد أرض جنةٍ سلفت ونضارةً مضت ووثبة خيالٍ جموحٍ عقل في مطلع حياتنا الواعية.
إنّ القراءة هي قبل كلّ شيءٍ ثأر الطفولة.
3-3-رجعة الماضي العاطفي.
إنّ باستطاعتنا أن نقول، وبشكل أكثر دقّةٍ، إنّ القراءة ترجعنا إلى ماضينا بكيفيتين متميّزتين كما برهن على ذلك ميشيل بيكر Michel Picard في كتابه قراءة الوقت. Lire Le temps.
نستطيع أن نلخّص الكيّفيّة الأولى بقولنا: إنّ اتحادنا مع بعض المواقف الروائيّة يجعلنا نعيش من جديد القصص الوهميّة التي أنشأناها في طفولتنا.
وأمّا الكيّفيّة الثانية فهي أنّ بعض تفاصيل النصّ المقروء توقظ فينا صوراً باطنيّةً دفينةً وهي ما يسمّى "بشاشة الذكرى".
وسوف ندرس الكيّفيّة الأولى التي ترتبط بأثر الرواية في الفصل السادس الذي نخصّصه لهذا الموضوع وسوف نكتفي هنا بأن نشير على عجل إلى النقطة الثانية.
إنّ شأننا، حين نقرأ نصّاً، بتخيّل أداةٍ ما أو بتصوّر مشهد ما أو بتمثّل شخصيّة روائيّةٍ ما يبعث فينا ومن باطننا صوراً كانت خبيئةً يصعب علينا في كثيرٍ من الأحيان أن نقول على وجه الدّقّة من أين أتتنا. فبندقيّة محمّد المسعود في (صخرة الجولان) ووجه مصطفى سعيد أو ليالي لندن في (موسم الهجرة إلى الشمال) هي تصوّراتٌ تختلف من قارئٍ لآخر وأحياناً عند نفس القارئ من عمرٍ لآخر رغم وحدة التفاصيل التي تقترحها الروايتان على القرّاء.
حين يكتب نجيب محفوظ في مطلع قصر الشوْق:
"أغلق السيّد أحمد عبد الجوّاد باب البيت وراءه، ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت في خطواتٍ متراخيةٍ، وطرف عصاه ينغرز في الأرض التربة كلّما توكأ عليها في مشيته المتثائبة". من أين تأتينا الصورة التي نكسو بها شخصيّة أحمد عبد الجواد؟ من أين تأتينا صورة الفناء الغارق تحت ضوء النجوم الباهت؟. كيف هي "الخطوات المتراخية"؟ كيف نرى "المشية المتثائبة"؟.
ليس بالأمر اليسير أن نجيب على هذه الأسئلة. ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنّ هذه الصور جميعها وعلى تباينها من فردٍ لآخر تنبثق من ماضٍ متفرّدٍ خاطفٍ ولا نعيه دائماً.
إنّ كلمةً واحدةً تبعث فينا أحياناً ماضياً قد غبر. والنصّ الأدبيّ يرجع كلاًّ منا لقصّته الخاصة.


¡¡¡




الفصل السادس :مسألة وقع القراءة وأثرها على القارئ


مخطط الفصل السادس :

1-مرامي القراءة الأدبيّة
1-1-التأثير والإمتاع
1-2-الجمعي والفردي

2-من النصّ إلى الواقع
2-1-الأثر والتلّقي
2-2-المعنى و"التعبير عنه"
2-3-تأكيد الذات
2-4-اكتشاف الذات

3-ارتدادٌ وتقدّمٌ
3-1-الاستلاب
3-2-التقدّم
3-3-القراءة الأدبية
هامش الفصل السادس




1-مرامي القراءة الأدبيّة

1-1-التأثير والإمتاع
إن كانت القراءة تجربةً فذلك لأن النصّ يؤثّر في القارئ بطريقةٍ أو بأخرى. ونحن نستطيع بشكلٍ عامٍ أن نميّز بين نوعين من النصوص الأدبيّة. فبعضها تعمل عملها في القارئ على نحوٍ ملموس فتعزّز من قناعاته الفكريّة السابقة ومن سلوكه الواقعي أو تعدّل منها تعديلاً ملموساً. وتكتفي نصوصٌ أدبيّةٌ أخرى بالترويح عنه وإدخال السرور على قلبه. وينبغي علينا ألاّ نهمل نصوصاً أدبيّةً كثيرةً نصنّفها للوهلة الأولى حسب صنفها أو حسب عنوانها أو حسب ما يحيط بها في أحد هاتين المجموعتين بينما هي تنتمي حقاً حسب مراميها البعيدة إلى المجموعة الثانية.
فلقد تزعم بعض الكتابات أنها تعمل على تسلية قارئها وأن غايتها اللهو والعبث بينما هي تسعى في واقع الأمر إلى دفعه لاتخاذ موقفٍ فكريٍّ معيّنٍ أو لإقناعه بوجهة نظر محدّدة.
ولنأخذ على سبيل المثال واحدةً من مقامات بديع الزمان الهمذاني. هي المقامة القريضيّة. فنحن نعرف أن مقامات الهمذاني حكاياتٌ قصيرةٌ، مختلفة المواضيع لطيفةٌ طريفةٌ ومسجوعةٌ أبدعها خياله. وهي قليلة الحظّ من الفنّ القصصي عامّةً لأن غرض البديع فيها كان التفنّن في الإنشاء وإيراد الحكم والأمثال وتصوير شخصيّة بطلها وحيله الغريبة وأساليبه العجيبة في التسوّل والكدية. ولذلك أسماها: "مقامات الكدية".
على أن ضعف الفنّ القصصي فيها وغلبة البراعة والسخرية وخفة الروح عليها لم يمنع أن يكون في بعضها كالمقامة القريضية مثلاً غايةً أخرى.
ويسلك الكاتب في مقامتنا هذه سلوكه في بقيّة مقاماته، ويلتزم فيها كلّ الالتزام بالقواعد التي استنّها في هذا الفن الفريد. فهناك الراوي (عيسى بن هشام) والقوم من حوله وهناك البلد البعيد (خوارزم). وهناك اللقاء مع الشخص الغريب (أبو الفتح الإسكندري) الذي يثير فضول الجماعة ويقود حبل الحكاية إلى نهايتها المألوفة. وهناك كما في بقيّة المقامات الجملة القصيرة الأنيقة والمسجوعة. وهناك التناصّ الذي يلجأ إليه فن المقامة على نحوٍ شديدٍ. فهناك تناصٌ بقول ينسب للحباب بن المنذر (أنا عُذْيْقُها المُرَحَّبُ وجُذَيْلُها المُحَكَّكُ) وآخر بجملة تذكّر بالمتنّبي (وأسمعت كلماتي من به صمم)1-.
يسعى الهمذاني إذن في هذه المقامة من خلال لجوئه إلى مجموع حيل فنّ المقامة وحسب ظاهر الأمور إلى ما يسعى إليه أيضاً في بقيّة المقامات من إمتاع القارئ وتسليته.
ولكن سرعان ما يبدو للعين اليقظة أن الكاتب يريد بالإضافة إلى ذلك أن يثير اهتمام القارئ بمسألة كانت تشغل أوساط أهل الأدب وأنّه يعملُ على إقناعه بوجهة نظر معيّنةٍ.
لقد كانت المُفاضلة بين الشعراء والقول بأنّ فلاناً أشعر من فلانٍ إطلاقاً واحداً من أسس النقد. وكانت المفاضلة بين القدماء (شعراء دولة بني أميّة وما قبلها) وبين المتأخّرين (شعراء دولة بني العبّاس وما وليها) تملأ المجالس الأدبيّة في حضرة الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عبّاد الطالقاني (938-995) التي كان يرتادها أبو الفضل أحمد بن الحسين. فقام الخلاف بين الأدباء وصيارف الكلام: أيّ الفريقين خير منزلةٍ في الأدب وأحسن مقاماً فيه؟ وأدلى فيه الهمذاني بدلوه مع دلاء الآخرين وخصوصاً أبي بكر الخوارزمي (935-993).
ويعلن أبو الفتح الإسكندري في المقامة القريضيّة ناطقاً ولاشك بلسان الكاتب بأن المفاضلة بين كلّ شاعرين عسرةٌ لا يتهجّم عليها ولا تجوز لناقدٍ. وأن خير ما يذكره حكمٌ منصفٌ هو الإذعان لأحدهما بنوعٍ وللآخر بفنٍّ. كأن نقول "الفرزدق أمتن صخراً وأكثر فخراً وجرير أوجع هجواً وأشرف يوماً إلخ…".
وأمّا القول الفصل فيما شجر بين النقّاد بخصوص القدماء والمحدثين فبديع الزمان الهمذاني يقتدي بما ذكره أبو العبّاس المبرّد (826-898) في الكامل ويحاول أن يقنع القارئ بأنه "ليس لقدم العهد يفضّل القائل، ولا لحدثان العهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى لكلّ ذي حقٍّ حقّه". وهاهو أبو الفتح يعلن في مقامة تسعى إلى التسلية أمراً على غاية الجد: "المتقدّمون أشرف لفظاً، وأكثر من المعاني حظّاً، والمتأخّرون ألطف صنعاً، وأرقّ نسجاً".
لقد جمع الهمذاني هنا بين التسلية الظاهرة والتفكير العميق. واستخدم شكلاً من أشكال اللهو ليطرق باباً خطراً.
وبالنظر إلى مرامي النصّ وطموحه بالتأثير بالقارئ فالقراءة ليست أبداً نشاطاً محايداً.
1-2-الجمعي والفردي.
هناك طريقتان لإدراك الآثار الملموسة التي يتركها عملٌ أدبيٌّ ما. فنحن نستطيع أن ندرس القراءة من خلال نتائجها العامّة على مجتمع ما. أو من خلال تأثيرها الخاص على قارئ محدد. أي أنّنا ننظر إليها في الحالة الأولى من خلال علاقتها مع جمهورٍ من القرّاء بينما ننظر إليها في الحالة الثانية من خلال علاقتها مع فردٍ واحدٍ.
إنّ دراسة تأثير النصّ على الجماعة يجعلنا نعيد للنصّ بعده الثقافيّ وذلك من خلال المسلّمة التالية: ليس القارئ فرداً منعزلاً في الساحة الاجتماعيّة وهو ليس يعيش متفرّداً على جزيرة حيّ بن يقظان! وعليه فإن التجربة التي تنقلها القراءة لابدّ لها أن تلعب بالضرورة دوراً في تطوّر المجتمع العام.
ويرى جوس Jauss أن تأثير القراءة قد يتخذ أشكالاً ثلاثةً متميّزةً. فهي قد تنقل الأنموذج المعياري كما ورثه المجتمع من تاريخه. وقد تبدع أنموذجاً معياريّاً جديداً تقترحه على مجتمعها. وهي قد تحدث قطيعةً في الأنموذج السائد وسط هذه الجماعة الإنسانيّة.
ويمكن للعمل الأدبيّ أن يعلن شرعيّة القيم المهيمنة في مجتمعٍ ما ويعمل على نقلها كما هي وهذه حالة الأدب الرسميّ أو حالة الأدب الذي يلجأ إلى النماذج الجاهزة. وقد يطالب الكتاب بقيمٍ جديدةٍ مستحدثةٍ ويعمل على إضفاء الشرعيّة عليها وهذه حالة الأدب التعليميّ أو الأدب المناضل. وقد يقطع العمل الأدبيّ صلاته بالقيم التقليديّة بأن يجدّد أفق انتظار القارئ وبأن يغيّر من تطلّعاته..
وباستثناء حالة الكتب الأدبيّة الرسميّة أو القصص الجاهزة فإنّه يكفي أن يحمل نصٌّ ما على نحوٍ واعٍ أو لا القيم السائدة في عصره كي يلعب دوراً اجتماعيّاً في نقل النماذج المعياريّة في هذا المجتمع وبالتالي في تعزيزها وتدعيم أركانها.
فإذ يمجّد كتاب كليلة ودمنة من دور السلطان (الأسد في غابة الحيوان) ويدعو إلى الامتثال له والخضوع له حفظاً على أمن الجماعة وحسن سيرها وهو إذ ينادي باحترام الوالدين والروابط الاجتماعية وبضرورة احترام النظام القائم على معايبه لأنه خير من الفوضى وشرورها فإن الكتاب ينقل القيم التي قام عليها المجتمع العربيّ الإسلاميّ أيّام دولة بني العبّاس. وعليه فإن قيمة الكتاب في البصرة في القرن الثامن الميلاديّ كانت أبعد بكثير من حياة المربد الأدبيّة ومهاجاة شعرائه.
ومع ذلك فإنّ العمل الأدبيّ يمكن له عن طريق القراءة أن يفتي بشرعيّة قيمٍ جديدةٍ بدلاً من الاكتفاء بضمان القيم المسيطرة. ولا تكتفي القراءة عندها بنقل النماذج المعياريّة ولكنها تخلق مراجع جديدة. وهذا ما نراه في مجموعة من الروايات العربية التي ظهرت في نهاية العقد السادس ومطلع السابع. كرواية المصري صنع الله إبراهيم (القاهرة 1937) تلك الرائحة (1966) والسوري هاني الراهب (اللاذقية 1939) شرخٌ في تاريخ طويل (1970) والكويتي إسماعيل فهد إسماعيل كانت السماء زرقاء (1971) والأردني عبد الرحمن منيف الأشجارُ واغتيال مرزوق (1973). فقد طالبت جميعها بأن نبحث في واقع المجتمع العربيّ وطبيعة أنظمته تفسيراً لتخلّفه ولهزيمته أمام الأعداء. وهي إذ فعلت ذلك فإنّها كانت تدير ظهرها للتفاسير الشائعة آنذاك والقائمة على موضوع المؤامرة الخارجيّة وتواطؤ الطابور الخامس والجواسيس العملاء. وكان نجاح هذه الروايات حسناً في الأوساط العارفة ففرض حساسيّةً جديدةً وبشّر برؤيةٍ جديدةٍ ونقدٍ مختلفين.
وقد تظهر القطيعة مع الأنموذج السائد في الحقل الجماليّ. وهنا يؤكّد العمل الأدبيّ الخلاّق صفته التجديديّة بأن يغيّر من أفق انتظار القارئ الأدبيّ. ولقد ساهمت رواية البحث عن وليد مسعود عند ظهورها بتغيير حساسيّة القارئ الجماليّة. فبينما كان القارئ معتاداً على الصيغ الجاهزة كما نجدها عند إحسان عبد القدوس أو نوع من الغنائيّة العاطفيّة كما نجدها عند نجيب محفوظ جاءنا جبرا إبراهيم جبرا بأسلوب صارم ودقيق يكتفي بالإيحاء والإشارة أكثر مما يلجأ إلى الشرح والوصف. وترسم جمله عالماً داخليّاً أكثر قسوةً وعنفاً ومواقف معقّدةً تنبع من ضمير الشخصيّة الروائيّة أكثر مما تصدر عن تناقضها مع المجتمع المحيط كما هي في أغلب الأحيان عند أستاذنا نجيب محفوظ. ومن شأن معالجةٍ كهذه أن تمتد من ميدانها الأدبي المحدد إلى الميدان الاجتماعي الواسع بأكمله.
وهكذا نخلص إلى أن للأعمال الأدبية بفضل القراءة تأثيراً عظيماً على تطوّر العقليّات. فهي تزيد من سلطان سلوكٍ وعاداتٍ قائمةٍ أو أنها تحثّ على اتخاذ سلوكٍ جديدٍ وعاداتٍ جديدةٍ. وقد تعدّل من ذوق الجمهور فيتطلّع إلى أمرٍ جديدٍ ويسعى إليه.
وأمّا تحليل الأثر المحصور فإنّه يهدف شيئاً آخر. هو أن يستخلص وقع النصّ على قارئ بعينه. أي أنّه يعنى بأثر الكتاب الملموس أكثر مما يهتم ببعده الثقافي. وبما أن تأثير القراءة على الشخص المنفرد يسبق تأثيرها على المجتمع ويحدّده فإننا سندرس في هذه الصفحات الأخيرة من كتابنا تلقي النصّ عند القارئ المنفرد.
2-من النص إلى الواقع.
2-الأثر والتلّقي
لكي نحيط بأثر القراءة على القارئ فإنّه ينبغي علينا أن نضع نصب أعيننا الفاصل الذي يقيمه جوس بين ما يسميّه "أثر النص" وهو ما يفرضه النصّ الأدبيّ نفسه على القارئ وبين ما يطلق عليه "تلقّي النصّ" وهو من شأن القارئ المتلّقي حرّاً ونشيطاً. وإنّه لأمرٌ ذو معنى أن نجد تقسيماً مشابهاً لهذا عند ناقدٍ آخر وهو إيزير . فهذا الأخير يرى أن للنصّ الأدبيّ قطبين. هما "القطب الفنّي" و "القطب الجماليّ".
ويُرجع القطب الفنيّ إلى النصّ الذي يخلقه كاتبه. بينما يُرجع القطب الجماليّ إلى تمثّل القارئ لنفس النصّ. وعليه فإن هناك بعدين في عمليّة القراءة. ويشمل البعد الأول كلّ القرّاء لأنه قائمٌ في النصّ ومفروضٌ ومحدّدٌ به. ويختلف البعد الثاني ويتنوع إلى مالا نهاية له لأنه متعلّق بما يسقطه القارئ المنفرد على النصّ ولأن كلّ قارئٍ يختلف عن غيره اختلافاً لا نهاية له.
فحين أقرأ على سبيل المثال يوميّات نائب في الأرياف فإنني لا أستطيع أن أختار الزاوية التي أنظر منها إلى أحداث الرواية. وما أعرفه عنها ومنها هو ما يريد الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلّم أن أعرفه. وليس بوسعي البتة أن أعرف وقائع الأحداث ولا أن أدركها إلاّ من خلال نظرته وإدراكه لها. وأنا أنظر إليها من خلال عينيه وأنا أفهمها من خلال الكلمات التي يختارها هو وينقلها إلي وعلى النحو الذي يريد! وإذن فإن النصّ يفرض عليّ منظوري للأحداث.
وهو "أثر النصّ" العائد للقطب الفنيّ.
ولست بقادرٍ أن أتحرّر من قيود هذا المنظور واللجوء إلى قطبي الجمالي الخاص بي إلاّ في وقتٍ لاحقٍ، وعندها فقط أستطيع أن أعتبر منظور الراوي مشروعاً أو لا. وعندها يمكنني أن أركن إليه أو أن أطرحه بعيداً!. ومهما يكن موقفي من النصّ فليس الأمر بعد أمر الأثر الفني الذي يتركه النصّ وإنما هو أمر "تلقّي النصّ" الجمالي.
إنّ هذا التمييز بين "أثر النصّ" وبين "تلقّيه" يجعلنا ندرك أن العلاقة بين القارئ والنصّ هي وعلى وجه الدوام علاقةٌ سلبيةٌ وإيجابيّةٌ معاً منفعلةٌ وفاعلةٌ في نفس الوقت. وليس يستطيع القارئ أن يستخلص تجربته من القراءة إلاّ بمقارنة رؤيته للعالم مع الرؤية التي يتضمّنها النصّ.
إنّ تلقّي القارئ الذاتيّ مشروطٌ بأثر النصّ الموضوعيّ.
ولأنّ الجريمة والعقاب تضعني موضوعياً في منظور قاتلٍ يعذّبه ضميره فإنني أستطيع ذاتيّاً أن أعدّل من رؤيتي للجريمة والمجرمين.
2-2- المعنى "والتعبير عنه"
ليست القراءة إذن وهي تقود القارئ إلى أن يتمثّل رؤية النصّ في رؤيته الذاتيّة عمليّةً سلبيّةً أبداً. وليس يستخلص القارئ من العلاقة التي يقيمها مع النصّ معنىً وحسب ولكنّه يستخلص كذلك منه "تعبيراً". ويمكننا أن نعرّف مستوييْ الفهم هذين بقولنا إن المعنى يرتبط بفكّ رموز النصّ خلال عمليّة القراءة نفسها بينما يشير "التعبير" إلى ما سيتغيّر في حياة القارئ بفضل المعنى الذي أستخلصه. أي أنّ "التعبير" هو أثر المعنى في الحياة الواقعيّة وتجسّده في وعي القارئ وربّما في سلوكه. ويمكن لنا أن نصوغ ذلك على نحوٍ آخر فنقول إن هناك من جهة فهماً بسيطاً للنصّ وأوليّاً وهناك من جهةٍ أخرى ردّة فعل القارئ الخاصّة أمام ذلك الفهم. أي أن "التعبير" هو أن يستعيد القارئ معنى النصّ من جديد فيسلكه في حياته "ويعبّر" عنه في تجاربه ويتمثّله في وجوده. وعندها نستطيع القول إنّ النصّ يكتسب وجوداً حقيقياً. وهنا يرحل النصّ الأدبيّ من أوراق الكتاب إلى حياة القارئ أي أن ما قد كتبه رجلٌ آخر يملي عليه جزءاً من وجوده الشخصيّ اليوميّ. فتصبح كتابة الآخر كتابةً لـه فيشتركان سويّةً بها.
وعليه فإنّ عمليّة القراءة لا تنتهي حين يغلق القارئ جلدتي كتابه ولكنّها تستمرّ فاعلةً ومؤثّرةً في حياته.
إنّ النصّ يترك الكتاب لينزل في حياة القارئ فيبدأ فيها حياةً جديدةً.
وأن نعيش نصّاً مالا يعني بطبيعة الحال أن نطابق أفعالنا مع ما قرأناه في النصّ. فأن نقرأ البخلاء لا يعني أن نصبح بخلاءً بدورنا!. وأن نقرأ أبا نوّاس لا يفرض علينا أن نصبح نوّاسيّين! ولكن هذا يعني أننا ننقل إلى حياتنا صيغاً وجملاً نقتبسها من النصّ المقروء. ومن الشائع أن يصيح أحدنا أمام مشهدٍ من مشاهد الحياة هذا والله من بخلاء الجاحظ ! أو هذا ولله سبق بخلاء الجاحظ !. وقد يحدث أن يجد أحدنا نفسه في موقفٍ ما ويقول: لو كان بطل الرواية الفلاني في مكاني لفعل كيت وكيت!.
إنّ أثر القراءة على حياة القارئ هو أكبر بكثيرٍ مما نتخيّله عادةً.
وقد يظهر على نحوٍ خفيفٍ وبسيطٍ. فقد تحثّنا ذكرى بعض النصوص المقروءة على عدم الاكتراث ببعض العادات الاجتماعيّة مثلاً. ولكن النصّ المقروء قد يترك في حياة القارئ آثاراً عظيمةً وخطرة الشأن. ونحن نعرف أن حياة عمر بن الخطاب قد انقلبت رأساً على عقبٍ حين قرأ بعض آيات القرآن الكريم. ونحن نعرف من الأدب العربيّ أن ذكرى قيس وليلى وقراءةً شعر العذريّين قد غيرت على نحوٍ جذريٍّ من سلوك أجيالٍ من العشّاق العرب. ونحن نعرف من الأدب الأوربّي أن آلام فارتير (1774) قد دفعت شباباً مراهقين إلى الانتحار، وأن فتى روسيّاً قد ارتكب في الحياة فعلاً جريمتي القتل اللتين ارتكبهما رساكولنيكوف في رواية الجريمة والعقاب.
إنّ تمثّل معنى النصّ أي انتقال النصّ إلى الواقع هو ما يجعل من القراءة تجربةً حسيّةً ملموسةً.
2-3-تأكيد الذات.
ليس يطلب أغلب القرّاء أن تهزّ قراءتهم دعائم وجودهم ولا أن تثير شكوكهم بقيمهم الأخلاقيّة والاجتماعيّة ولكن يطلبون منها أن تصادق على ما يؤمنون به وأن تعلن شرعيّة معتقداتهم وأن تستجيب إلى ما ينتظرون منها.
إن مهارة الكتب (التجاريّة) الرائجة وتلك التي تبلغ أرقام مبيعاتها أعداداً كبيرةً وتلك التي يشتريها جمهور الناس تقوم على أنّها تستجيب لحاجة القارئ إلى من يسكّن روعه ويعززه فيما يؤمن به.
وبما أن بطل الرواية في مثل هذه الكتب يشاطر قارئها قيمه الأخلاقية ومثله الجماليّة فإن هذا الأخير لا يتغيّر ولا يتحوّل عند التقائه بالأول. وليس يهدف بطل الرواية هنا إلى أن يدفع القارئ إلى أن يضع نفسه موضع النظر ولا أن ينظر بعين الفحص إلى قيمه ومثله. وإنه لمما يبعث الطمأنينة في النفس أن نرى بطل الرواية يقاسمنا طريقتنا برؤية الكون. وذلك لأن العلاقات التي نقيمها كقرّاء مع الشخصيّات الروائيّة الوهمية في العالم الروائيّ تعكس العلاقات التي تربطنا بأمثالنا من البشر في حياتنا الحقيقيّة.
فإذا كان التماهي سهلاً بين أشخاصٍ لهم ذات القيم وينتمون إلى نفس النظام الأخلاقيّ فذلك لأنّ هذا النظام الأخلاقي الواحد وتلك القيم المشتركة تدفعهم إلى أن يتّخذوا سلوكاً واحداً وإلى أن يتصرّفوا أمام وقائع الأيّام على نحوٍ متشابهٍ فتخلق بينهم لغةً واحدةً ومصطلحاتٍ مشتركةً فيتضاعف فهمهم لبعضهم وقدرتهم على تبادل الأفكار والمشاعر.
وهذا التماهي والاتحاد مع بقية أفراد المجموعة الاجتماعيّة وسيلةٌ من وسائل الدفاع عن النفس يلجأ إليها المرء ليشعر بالأمان والحصانة. إذ لو كانت قيمه الأخلاقيّة مما يستنكره الناس وكان سلوكه وشأنه في الحياة مما ينبذه الآخرون لصار هو نفسه عرضةً لأن ينكره الناس ولأن ينبذه الآخرون. والأمر على نقيض ذلك حين تكون قيمه الأخلاقيّة من قيم الناس جميعاً وحين يكون شأنه في الحياة هو شأنهم. فسيرضى به الناس ويركنون إليه ويقبلون على صحبته فيشعر أمناً وسلاماً..
إن نجاح البطل النموذجي يعود إلى صفته المطمئنة هذه. فهو يصادق على سلامة القيم الأخلاقيّة التي يتبنّاها القارئ قبل أن يفتح صفحات كتابه. وهو يبرهن على صحّتها بأن يجعل نهاية القصّة مطابقةً لما تفرضه تلك القيم الأخلاقيّة فيعاقب المخطئ على حسب خطئه ويجازى المحسن على حسب إحسانه.
وكما يحبّ الأطفال أن يتخيّلوا أنفسهم في مكان أبطال القصص التي تكتب لهم أو تروى على مسامعهم فإنّ كثيراً من القرّاء الراشدين لا يتردّدون في أن يتخيّلوا أنفسهم في مكان أبطال روايات إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي.
ولكن هذا الإذعان السلبيّ للقيم الأخلاقيّة التي تتجسّد في البطل الإيجابي ليس هو السبيل الوحيد الذي يسلكه القارئ ليمتحن قوّة قيمه وصلابة معتقداته. فقد يرفض القارئ رفضاً شديداً ومطلقاً شخصيّةً روائيّةً يصعب عليه تمثلها فيدعّم في ذلك أركان شخصيّته العقائديّة. وأقصى الأمثلة هو مثال بطلٍ له من غرابة السلوك وشذوذ الأخلاق ما يجعل من المستحيل أن تتحقّق آليّة التماهي الضرورية بينه وبين القارئ. (كأن تدعو الشخصية الروائيّة إلى تعذيب الأطفال أو كأن تبرّر اغتصاب النساء). وهنا يرفض القارئ أن يدخل في إهاب الدور الذي تقترحه عليه الرواية بينما هو يقبله في الروايات "العادية". وهذا الرفض هو بطبيعة الحال أمرٌ يخرج عن إرادة الرواية ولم يقصده الكاتب في الأصل. ويقوم على تعطّل الآليات القصصيّة ودورانها "على الفاضي". ذلك أن التماهي بين القارئ والشخصيّة الروائيّة مبدأٌ أساسيٌّ تقوم عليه عمليّة القراءة نفسها كما رأيناه في الفصول السابقة. ولكن ما يعنينا هنا هو أن القارئ في هذه الحالة يعزّز من قيمه ويشدُّ من بنيان هويته. فهو وقد رفض أن يتّحد مع بطل الرواية وتمرّد على الدور المكتوب له يغلق الكتاب وينهي عمليّة القراءة.
ولكن هذا المثال المتطرّف يعني أن الكاتب قد أفرط في إبراز بنية شخصيّاته الأيديولوجية وأنّه غالى في إهمال صفاتها الإنسانية. كما نجد هذا في بعض الروايات السوفيتيّة حيث يضحّي البطل الشيوعيُّ بأمّه وأبيه وأخته وأخيه وبعمله ومستقبله في سبيل خدمة الحزب وإخلاصاً لستالين. وفي رواية دماءٌ وطين ماذا يشغل بال البطل المحتضر بعد أن أصيب برصاص الأعداء خلال حصار مدينة ستالينغراد؟ أهو مصير أهله بعده؟ أم حزن أمّه؟ أم قلق أصدقائه؟ لا. سؤالٌ واحدٌ يعكّر عليه آخر لحظات حياته وهو بين يديّ الله هل سدّد اشتراكه الشهريّ الأخير للحزب أم لا؟.
2-4- اكتشاف الذات
يمكننا أن نفترض أنّ أهمّ النصوص وأعمقها ولو لم تكن أكثرها مبيعاً وانتشاراً بين القرّاء هي تلك النصوص التي لا تساير ميول القارئ المفترضة وإنما تعارضها. فحين يجد القارئ نفسه أمام نصٍّ يخالفه فإنّه يستطيع عندها بفضل القراءة أن يكتشف ما غاب عنه من شخصيّته نفسها أو أن يزور فيها ثانيةً مناطق تحفل بأسرار ذاته العميقة.
ولنحلل على سبيل المثال رواية أديب لطه حسين (1935). ونحن نذكر أن بطلها كان متلهّفاً للذهاب إلى أوروبا "سعياً وراء علمها وثقافتها". وأنّه ضحّى في سبيل ذلك بزوجته حميدة لأنه لا يريد أن تكتشف الجامعة كذبه فقد كان زعم لها أنه أعزب. وما أن يصل أرض القارة الأوروبيّة حتى يتناسى الدراسة وأهلها. فيكلف بخادمٍ التقاها في النزل حيث حط رحاله ويأنف عن الماء (شراب الحمار) كما كان يزعم الأخطل وينصرف لشرب الخمور. ثم ينتهي به الأمر إلى إهمال ما جاء لأجله ثم إلى الجنون. إننا نقرأ هذه الأحداث من خلال أديب نفسه وهو ذو وعي جارحٍ وصراحةٍ مؤلمةٍ. وهو يكشف عن خبيئة نفسه وعن الأعذار والتعلاّت التي يلجأ إليها للنفاذ إلى غايته القصوى. ولكن ما يقوله عن نفسه وعن تناقضاتها هو بعضٌ من أنفسنا وتناقضاتها. وبشاعة سلوكه تلقي ضوءاً ساطعاً على تناقضاتنا نحن وما يمكن أن تقود إليه!
إنّ النصّ الأدبيّ يسمح لنا إذن بأن نكتشف "غيّريّتنا" فالآخر الذي يكمن في النصّ سيان كان "آخر" الراوي" أو "آخر" شخصيّةٍ روائيّة فإنّه يعكس على نحو الدوام صورةً منّا وبعضاً من شخصيتنا.
3-ارتداد وتقدّمٌ.
3-1-الاستلاب
يفقد القارئ شيئاً من ذاته وربّما يفقدها كاملةً بقدر ما يتبنّى شيئاً من حديث النصّ الأدبي أو كلّ ذلك الحديث.! ذلك أن استبطان الآخر وتمثّله الذي تقوم عليه القراءة وتنشئه ليس بالضرورة القاطعة أمراً حسناً ولا إيجابيّاً دائماً.
إنّ أوضح المخاطر هو أن يهيمن النصّ بعقيدته على عقيدة القارئ. فالقارئ الذي يقرأ يقبل ضمناً بما أسميناه في فصلٍ سابقٍ بعقد القراءة وميثاقها أي بالأعراف التي تنظم النصّ الأدبي. وعليه فلا بدَّ له من الإقرار مبدئيّاً بصحّةِ ما يقوله الراويّ ويمكن أن يقوده هذا من حيث لا يشعر إلى أن يقع في حبال عقيدة النص. فبقدر ما يظهر الراوي على أنّه أصل الحكاية التي يرويها ومصدرُها بقدرِ ما يظهر على أنه حجّةٌ تقضي بين الأحداث التي يرويها وتشرّعُ بما تنقلُه!.
فصوت الراوي هو الذي يُطلعنا على أفعال الشخصيّات وعلى الظروف التي تحيط بهذه الأفعال وبما أن علينا أن نعتبر أن ما يرويه لنا الراوي قد وقع حقاً أي أنّه حقٌّ ولا شك فقد ننزلق فعلاً ونروح ننظرُ إلى الأحكام التي يطلقها هذا الراوي على تلك الأفعال وعلى هاتيك الشخصيّات ليس على ما هي عليه حقاً أي أنّها أحكام الراوي ليس غير وإنما على أنها أحكامٌ صائبةٌ وحقيقيّةٌ بالإطلاق. وهنا يتحوّلُ الراوي من مصدرٍ للقصّة إلى مؤولٍ شرعيٍّ لها يؤخذُ بقوله ويؤمن له.
فبما أننا نقرُّ ضمناً احتراماً مِنّا للتقاليد الروائية بكلّ ما يقوله راوي نجيب محفوظ في اللص والكلاب عن أبطال القصّة فكيف لنا أن ننكر هذه التقاليد عينها حين تقودنا إلى الإشفاق على سعيد مهران وهو لِصٌّ ومريضٌ بالعُصابِ وقتل نفساً بريئةً؟
ويكمن في عمليّة القراءة خطرٌ آخر هو ما يضعه القارئ من ذاته في النصِّ وما يوظِّفُه فيه. فقد يحدثُ أن تكون الصلة بيننا وبين أحد شخصيّات الرواية من القوة والعمق بحيث لا يشغلُنا بعد إلاّ مصيرها هي وبقطع النظر عن كلِّ اعتباراتٍ أخرى. ذلك أن النصَّ الأدبيَّ يخاطبُ فينا قدرتنا على الانفعال وحسب. وبالتالي فإن حسّنا النقديّ يسهو وقد تختفي قدرتُنا على اتخاذ المسافة النقديّة اللازمة بيننا وبين النصّ. ويستطيع الكاتب أن يحبب لأنفسنا وأن يزيّن لأعيننا شخصيّةً روائيّةً لو قدّر لها أن تتجسّد شخصاً نابضاً بالحياة لكرهتُه نفوسنا ومجتّه عقولنا.
والحقيقة أن العلاقة الانفعاليّة بين النصِّ وقارئه تنتمي إلى بنية النصِّ الجماليّةِ ولا تتطابق دائماً مع مقتضيات الأخلاق كما يريدها النظام الاجتماعي اللهم إن لم يكن في أشكال الرواية البدائيّة أو الساذجة.
فحين نقرأ مثلاً مغامرات العميل السرّي البريطاني جيمس بوند فإننا نتمنّى أن ينجح هذا الجاسوسُ في مسعاه وأن ينتصر على أعدائه وذلك بقطع النظر عن جرائم القتل التي يقترفها (أليس رمزُه 007 يعني أن له إجازةً من رؤسائه بالقتل دون حساب؟) وبغض البصر عن القيم الأخلاقيّة أو المصالح السياسيّة التي يقتلُ من أجلها أو ينافحُ عنها خصومُه.
وهناك كذلك خطرٌ آخر يحدقُ بالقارئ يأتي من البعد التوهيمي الذي يكمن في أغلب النصوص الأدبيّة التخيليّة. فقد يعود القارئ إلى الخلف بسبب قوّة هذا الجانب. فهو حين يقرأ هذا المقطع أو ذاك من الرواية فإنّه يرتدُّ إلى سنين طفولته الأولى ويعيش فيها ثانيةً المشاهد القديمة التي مرّت به عندئذٍ فترجعُها القراءةُ صاخبةً عاصفةً.
فحين يقرأ أحدُنا كتاب طه حسين الأيّام ويقرأ وصفاً لحياة الكتاب ولحياة "شيخنا" و "العريف" فإننا أو إنَّ بعضنا ممن عاش هذا النمط من التعليم قبل أن ينتشر التعليم الحكومي انتشاره في أيامنا يعيشُ من جديد من خلال حياة الطفل طه حسين ما سبق له أن عاشه في طفولته إن سعيداً أو شقيّاً.
ولكن هذه العودة إلى الماضي وبسبب غياب المسافة اللازمة لتحكيم النقد لا تأتي للقارئ بجديد. فهي تعيدُ إلى اللحظة الحاضرة وعلى نحوٍ انفعاليٍّ مشهداً عاشه القارئ في الماضي على نحوٍ انفعاليٍّ كذلك.
3-2- التطوّر أو النمو
ولكن يكفي أن يقود النصُّ قارئه إلى أن يوظّف عواطفه في النصِّ المقروء توظيفاً معتدلاً ومتوازناً عن طريق اتخاذ مسافةٍ نقديّةٍ بينه وبين ما يقرأ حتى تظهر القراءة على أنها تجربةٌ مُخصبةٌ وثريّةٌ تدفع به قُدُماً إلى الأمام بدلاً من أن تشدَّه شدّاً إلى الخلف!
ويتعلّق اتخاذ المسافة النقديّة هذا على نحوٍ أساسيٍّ بوضع القراءة. فحين يرغمُ النصُّ القارئ على أن ينتقل باستمرار من وجهة نظرٍ معيّنةٍ إلى وجهة نظرٍ أخرى فإنه يرغمُهُ في الوقت نفسه على أن يجعل مسافةً بينه وبين المادّة التي يقرؤها والقصّة التي يقترحها النصُّ. ومهما تكن الطريقة التي ينظّمُ بها القارئ مختلف وجهات النظر السرديّة تلك فإنّه يخرج من قراءته وقد ازداد وعيه!
ولنأخذ على سبيل المثال رواية أديب لطه حسين. فالراوي الأول/ طه حسين يقدّمُ لنا في الفصول الأولى من روايته شخصيّة أديب تقديماً لا يخلو من إعجابٍ يشوبه كثيرٌ من التحفّظ. وهو يصارحنا بذلك ويعرضُ لنا أسبابه. ولكن أديب هو الذي يسرد علينا وقائع الفصل السابع. وتنمو الرواية على هذا النحو. وهي تنقل لنا تباعاً ما تراه كلٌّ من الشخصيتين الأساسيّتين. وكلٌّ منها تشهد القارئ على سلامة رأيها وخطل ما تدّعيه صاحبتها. فتعرض حججها عرضاً مقنعاً وتفنّدُ أقوال الأخرى تفنيداً لا يخلو من صواب. أي أن القارئ يتماهى في كلِّ طورٍ من أطوار السرد مع أحد الشخصيّتين ويتبنّى وجهة نظرها المخالفة لوجهة النظر التي سيتبنّاها في المقطع اللاحق. وهذا الانتقال من الشخصيّتين المتباينتين تكشف له أعماق كلِّ منهما وأعماق نفسه هو.
ولكن لعبة التماهي هي التي تسمح في أغلب الأحيان في تطوِّر القارئ. والحقيقة إن التماهي كما أشار إلى ذلك فرويد ليس ظاهرةً نفسانيةً كغيرها من مظاهر النفس ولكنّها أساس بنية الإنسان التخيليّة وهي الأنموذج الذي ينشئ عليه الفرد كلَّ المسارات التي تميّزه عن غيره من الأفراد.
وآليّات التماهي التي تقوم عليها النصوص التخيّليّةُ هي بعض من هذه الوظيفة المزدوجة الأساسيّة والخلاّقة. وهناك رسالةٌ بعث بها قارئٌ لجان جاك روسو (1712-1778) بعد أن قرأ روايته هيلويز الجديدة (1761) توضح وضوحاً بيّناً آليّةَ التماهي هذه. وهو يقول فيها: "كم يلذُّ لي أن الدموع التي تسكبها شخصيّاتك الفاضلة بالدموع التي تنهمر من عينيّ أنا بفضل الإنسان الحبيب إلى قلبي والذي يسكن منّي الصدر. وليس من رسمٍ أتيتَ به ولا عاطفةً ولا فكرةً ولا مبدأ جئت به إلاّ وينطبقُ كلُّ الانطباق على وضعي المؤلم" ويذكر يحيى حقّي شيئاً من هذا القبيل بخصوص روايته قنديل أم هاشم. فيقول "إنَّ اسمي لا يكاد يذكر إلاّ ويذكرُ معه "قنديل أم هاشم "كأني لم أكتب غيرها!. وكنت أحياناً أضيقُ بذلك ولكنَّ كثيرين حدّثوني عنها واعترفوا بعمق تأثيرها في نفوسهم. ومنهم أديبٌ يمنيّ قال لي لقد أحسستُ أنّك تصفني حين أعود من القاهرة إلى اليمن!(2)
ويبدو أن ما يدركه القارئ من خلال تماهيه مع الشخصيّات الروائيّة هو حقيقة حياته نفسها. فإذا ترتقي به القراءة الأدبيّة إلى إدراكٍ أوضح لمصيره فإنها تجعله أقدر على فهم خفايا نفسه. وهذا يعني أنه إذا أبقت البنى الروائيّة ضمير القارئ النقديَّ يقظاً فإن عودة المكبوت في القراءة تدفع بالقارئ إلى الأمام عوضاً عن أن تشدّه إلى الوراء.
وبدلاً من أن يعيش من خلال القراءة ثانيةً مشهداً سبق له أن عاشه في حياته فالقارئ يستطيع أن "يوظّفَ" نفسه على نحوٍ مختلفٍ في المشهد نفسه.
إنَّ قراءة بعض النصوص تجعل ممكناً ما يسمَّى في التحليل النفسيّ "بإزالة العقد". وهذه المفردةُ تعني تصريف الانفعال وانطلاق الطاقة الانفعاليّة المكبوتة التي تسبّبُ الاضطرابات النفسيّة والعصبيّة. وهذه الاضطرابات مصدرها ماضي الشخص وردّةُ فعله آنذاك أمام حادثةٍ ما. وينبغي على هذا الشخص أن يعيش من جديدٍ ردّةَ فعله تلك كيّ يتخلّص من الاضطرابات النفسيّة والعصبيّة التي نشأت عنها في المرّة الأولى.
وزوال العقد هذا يشير بشكلٍ عامٍ إلى وظيفة الفنِّ التطهيريّة.
وحين يعيش القارئ ثانيةً ومن خلال القراءة الوقائع الأولى التي انعقدت فيها خيوط شخصيّته فبإمكانه أن يدخل توازناً جديداً في شخصيّته فيغيّر من طبيعة علاقته مع ماضيه. فهو كقارئٍ يستطيعُ أن يتخلّص من الاضطرابات التي قد تركتها في وجدانه عقدة أوديب حين يعيشُ ثانيةً ومن باب التسلية التي تتضمنّها القراءة علاقة الراوي الغاضبة بأمّه في الأيام أو علاقة محسن الساخرة بها في عودة الروح أو علاقة سامي المقهورة بها في الحيّ اللاتيني أو علاقة مصطفى سعيد اللا مبالية بها في موسم الهجرة إلى الشمال وإلى غيرها من الأمثلة في الأدب العربيّ الحديث.
وهذه النماذجُ كلّها تظهر لنا كم تختلف المسافة النقديّة الساخرة من كاتبٍ إلى آخر.
3-3- القراءة الأدبيّة
فإن كان للقراءة الأدبيّة خصوصيتها فعلينا أن نحاول الإحاطة بها من خلال ما تتركه من أثرٍ. ويرى ميشيل بيكار إن القراءة الأدبيّة أي قراءة النصوص الأدبيّة تتميّز بوظائف جوهريّةٍ ثلاث.
وأمّا الوظيفة الأولى فهي "التجديد في التقليد". فالنصُّ الأدبيُّ حين يدّعي التمرّد على ثقافةٍ أدبيّةٍ ما فهو يفترض في الوقت نفسه أنها موجودةٌ. فحديث عيسى بن هشام لمحمّد المويلحي يؤكّد جدّته وحداثته من خلال مقارنته مع مقامات الهمذاني أو الحريري أو مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871). وثورة الشعر الحديث تفترضُ وجود الشعر القديم. وليس تفهم إشكاليّة شعر التفعيلة بدون قواعد الشعر العمودي!. وليس يُفهم الإبداع عامّةً بدون خلفيّةٍ ثقافيّةٍ تقليديّة.
والوظيفة الثانية هي "انتقاءُ معنى من معانٍ عديدةٍ"
إن النصَّ الأدبيَّ يحفل دائماً بمعانٍ كثيرةٍ ويمكننا أن نؤوله على سبلٍ شتّى. والقراءةُ الأدبيّة تتصف أكثر من غيرها من القراءات ببعدها الذاتي هذا. وهي تثري القارئ على المستوى الفكريّ وتجعله يوظّف على المستوى التخيّلي جزءاً من ذاته.
فإذا كان توفيق الحكيم يريد من روايته يوميّات نائب في الأرياف (1933) أن تؤدّي مهمةً إصلاحيّةً واجتماعيّةً فوصف لنا فيها أحوال الفلاّحين وأبناء المدن المصريّين في فترة ما بين الحربين وكشف لنا عن الهوّة الواسعة التي كانت تفصل بين عامّة الشعب وأفراد الطبقات الغنيّة فإن روايته هذه تحقق كذلك أمراً آخر. فهي توجد من خلال الشخصيّات التي ترسمها والأحداث التي تعرضها والبنية السرديّة التي تختارها ما يمكن للقارئ معه أن يتماهى بشخصيّاتها وأن يوظّف تخيليّاً في أحداثها شيئاً من نفسه.
إنَّ النصَّ الأدبيَّ مساحةٌ مزدوجةٌ وغامضةٌ يعيدُ فيها الجانب الذاتي النفساني والجانب الاجتماعي تشكيل العلاقات التي تربطهما ببعضهما.
وأمّا الوظيفة الثالثة حسب بيكار فهي "النمذجة من خلال تجربة واقعة متخيّلة". وهنا نمسُّ البعد التربوي لعمليّة القراءة. "فنمذجة" موقفٍ تعني أن تقترحَ الرواية على القارئ أن يجرّب في عالم الخيال أمراً قد يقع له في عالم الواقع. أي أن القراءة تسمح للقارئ أن "يجرِّب" المواقف.
ويفترض بالقارئ الذي يواجه مشاكل إسماعيل عند عودته إلى بلده بعد غيابٍ طويلٍ في بلدٍ بعيدٍ أن يختار بعض السبل وأن يتجنب غيرها.
وهكذا يغتني الفرد بتجربةٍ لم يعرفها بحياته الفعليّة. ويكفيه أن يستبدل بعناصر الحياة الروائيّة عناصر مشابهةً من حياته الفعليّة. ويمكن أن نقيس نجاح عملٍ فنيٍّ بالوهم الذي يخلقهُ. وهذا الوهم يجعلنا نتخيّلُ خلال فترة أننا قد عشنا حياةً أخرى غير حياتنا فتثرى تجربتنا الحياتيّةُ إثراءً كبيراً.
تجديدٌ في التقليد وانتقاء معنى من معانٍ عديدةٍ ونمذجةٌ من خلال تجربة واقعةٍ مُتخيّلةٍ. إنّ القراءة الأدبيّة بهذه الطرق الثلاث نشاطٌ خصبٌ يُغيّرُ الفرد القارئ.
¡¡
¡ هوامش الفصل السادس:
1-بديع الزمان الهمذاني المقامات، شرحُ محمد محي الدين عبد الحميد. بيروت، دار الكتب العلميّة، بدون تاريخ. انظر المقامة القريضيّة من الصفحة 10 إلى الصفحة 17.
2-يحيى حقّي قنديلُ أم هاشم مع سيرة ذاتيّةٍ للمؤلّف. القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1975. صفحة 43-44.

¡¡¡




خاتمة

وبعد فهذه نظريّات قراءة النصِّ الأدبيِّ وتأويله كما ظهرت في السنوات الأخيرة. وهي آخر ما وصل إليه النقد الأدبيُّ في أوروبا وآخر ما وصل إلينا منها. وها هي صحفنا ومجلاّتنا الدوريّة لا تكاد تخلو من دراسةٍ تتبنّى بعض هذه النظريّات أو من ترجمةٍ لشيءٍ من نصوصها الأساسيّة أو الثانويّة ولقد دخلت مصطلحاتها النقديّة على نحوٍ واسعٍ لغة باحثينا. فنحن واجدون القراءة والتأويل والتلقّي وأفق التوقّع أو الانتظار وغيرها كثير.
ولكن ينبغي أن لا يغيّب تعدّد نظريّات التلقّي وتطوّرها الثري خلال السنوات الأخيرة عن أنظارنا أهميّة المسائل التي تثيرها. فتحليل القراءة ونظريّاتها تصطدم بنفس العثرات التي تصطدم بها نظريّاتُ التحليل الأدبيِّ الأخرى وتحدق بالأولى نفسُ المخاطر التي تحيطُ بالثانية.
إنَّ أول هذه المخاطر هو خطر الذاتيّة أي أن يسقط الدارس ذات نفسه على المادة التي يفترض به أنه يدرسها حسب معايير العلم وأدواته. وهذا خطر يتربّص بالباحثين على وجه الدوام كما رأينا في الفصل الذي خصصناه لهذه القضية. من يضمن لنا أن الباحث الذي يزعم لنا أنه يستخلصُ نشاط القارئ من خلال النصِّ الذي يقرؤه على نحوٍ موضوعيٍّ لا يقدّم لنا في نهاية المطاف رؤيته الذاتيّة؟ إنَّ بعض الدراسات النقديّة تكشف لنا عن مهارة الناقد أكثر مما تنير لنا مسار القراءة الذي تزعم أنّه قائمٌ في صلب النصِّ موضوعيّاً وأنَّ النصَّ يبرمجه.
وثاني هذه المخاطر هو خطر التاريخيانية. وقد صبغت التاريخانية بقوة مدرسة جوس النقدية في مطلع شأنها. وليس هذا الخطر بأقلِّ شأناً من خطر إسقاط ذات الباحث على المادة المدروسة.
فإن كانت دراسة التلّقي تعني أن نكشف النقاب عن التخيّلات السائدة في عصرها فهذا يعني أن موضوع التحليل هو وبالمعنى الدقيق دراسة تاريخ العقليّات. وقد تكشف لنا دراسة تلقّي نصٍّ ما عن خصوصيّة ثقافة العصر الذي ظهر فيه الكتاب وعن متغيّراته الاجتماعيّة أكثر مما تكشف لنا عن آلية التلقّي نفسها!.
والخطر الثالث هو ما أظهرته الدراساتُ البنيويّة بشقيها الشكلي والتحليلي. فهي تنشئ بنى تحليليةً تبلغ من التجريد والتعميم درجةً لا نعرف معها ما يميّزُ هذا النصَّ عن ذاك ولا ما يفرّق الثمين من الغث. فإن كنا نجد نفس السبل على أرض كلِّ النصوص فلماذا نتعب أنفسنا بقراءة إدوار الخرّاط أو جبرا إبراهيم جبرا بدلاً من الاكتفاء بتصفّح الروايات المسلسلة في مجلة الشبكة؟ وإذا كانت النصوص كلّها تنهض على نفس البنى وترتفع حسب نفس الهيكل فما الفرق عندها بين روايات نجيب محفوظ العظمى وروايات غادة السمّان؟
ليس النشاط الذي يسعى إلى أن يستخلص عدداً معيّناً من الثوابت بقطع النظر عن القارئ وعن النص أمراً متعباً وعقيماً وحسب. ولكنه أمرٌ خطرٌ كذلك.
وباختصار ينبغي أن تتجنب نظريّة التلّقي، مثلها في هذا مثل كلِّ نظريّات التحليل الأدبيّة الأخرى مزلقين اثنين. أن تفرط في السعة أو أن تغالي في الضيق. فهي تخطئ هدفها في كلتا الحالتين وهو أن تظهر ما يختصُ به الأثر المدروس عن سواه.
وليس من حلٍّ لنجمع بين موضوعيّة الباحث الضروريّة وبين نشاطٍ هو بالتعريف نشاطٌ ذاتيٌّ سوى أن نرسم حدود مشروع الدراسة وأن نرضى بها.
وليس استخلاص العلامات النصيّة التي يبرمجُ النصُّ بفضلها كيفية قراءته إلاّ مرحلة من مراحل التحليل. وينبغي بعدها أن نلجأ إلى بقية العلوم الإنسانيّة من علم اجتماعٍ وتاريخٍ وتحليلٍ نفساني ونسألها أن تشرح لنا كيف يتمثّل كلُّ قارئٍ هذا الجزء العائم من جبل القراءة الذي يضرب جذوره في قرارة المجتمع البشري.

¡¡¡



ثبت بالنصوص الأدبيّة المدروسة ومؤلّفيها

حرف الألف
الألوسي
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
إبراهيم عبد القادر المازني (1980-1949)
صندوق الدنيا
ثلاثة رجال وامرأة (1944)
ابن طُفيْل (ت 1185)
حي بن يقظان
ابن كثير الحافظ (ت 1372)
تفسير القرآن
أبو حيّان التوحيدي (922-1023)
الإمتاع والمؤانسة
أبو العلاء المعرّي (979-1058)
رسالة الغفران
إحسان عبد القُدّوس (1919-1990)
أنا حرّة (1954)
لا أنام (1956)
في بيتنا رجل (1958)
شيءٌ في صدري (1959)
أنفٌ وثلاث عيون (1967)
أحمد زياد محبّك (1949)
يومٌ.. لرجل واحد (1986)
حجارةُ أرضنا (1989)
عريشة الياسمين (1996)
الكوبرا تصنع العسل (1996)
أحمد شوقي (1868-1932)
ورقة الآس (1905)
أحمد يوسف داوود (1938)
دمشق الجميلة (1977)
الأوباش (1982)
إدوار الخرّاط (1926)
رامة والتنين (1980)
محطّةُ السكّة الحديد (1985)
إسكندريّتي (1993)
أرسطو (384-322 قبل الميلاد)
كتاب البلاغة
كتاب الشعر
أسامة بن منقذ (1095-1188)
كتاب الاعتبار
إسماعيل فهد إسماعيل (البصرة، العراق، 1940)
كانت السماء زرقاء (1970)
المستنقعات الضوئيّة (1971)
الحبل (1972)
الضفاف الأخرى (1973)
خطوةٌ في الحلم (1980)
ألبير كامو (1913-1960)
الطاعون (1947)
أمين الريحاني (1876-1940)
خارج الحريم (1917)
أوجين سو (1804-1857)
أسرار باريس (1842)
حرف الباء
بديع الزمان الهمذاني (968-1007)
المقامات

حرف التاء
توفيق الحكيم (1898-1987)
عودة الروح (1933)
يوميّات نائب في الأرياف (1937)
عصفور من الشرق (1938)
حماري قال لي (1945)
حرف الجيم
الجاحظ (775؟-868)
كتاب البخلاء
كتاب الحيوان
جان بول سارتر (1905-1980)
الغثيان (1938)
جبرا إبراهيم جبرا (1919)
صراخ في ليلٍ طويلٍ (1955)
السفينة (1970)
البحث عن وليد مسعود (1987)
جرجي زيدان (1861-1914)
أسير المتمهدي (1892)
الحجّاج بن يوسف الثقفي (1902)
الانقلاب العثماني (1911)
جوته (1749-1832)
آلام فارتير (1774)
جيمس جويس (1882-1941)
أوليس (1922)
حرف الحاء
حافظ إبراهيم
ليالي سطيح (1906)
الحريري (1054-1122)
المقامات
حسن حميد (1956)
طار الحمام (1988)
قرنفل أحمر لأجلِها (1990)
تعالي نطيّر أوراقَ الخريف (1993)
الحطيئة (ت 678)

حنّا مينه (1924)
الشراع والعاصفة (1966)
الثلج يأتي من النافذة (1969)
الشمسُ في يومٍ غائمٍ (1973)
الياطر (1975)
حيْدر حيدر (1936)
الزمن الموحش (1973)
وليمة لأعشاب البحر (1983)
مرايا النار (1993)
حرف الخاء
خالد سلام الجويشي
صقر قريش وحيداً (1993)
حرف الدال
دانته اليغاري (1265-1321)
الألعوبة الإلهيّة.
دوستويفسكي (1821-1881)
الجريمة والعقاب (1866)
الأبله (1868)
الممسوسون (1870)
الأخوة كارامازوف (1879)
حرف الزاي
زكريّا بن محمد القزويني (1201-1283)
عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات
زكريّا تامر (1926)
دمشق الحرائق (1973)
النمور في اليوم العاشر (1978)
زينب الفوّاز العامليّة (1860-1914)
الملك قورش (1905)
حرف السين
سهيل إدريس (1922)
الحي اللاتيني (1953)
الخندق الغميق (1958)
أصابعنا التي تحترق (1962)
السيوطي (1407-1475)
الدر المنثور في التفسير بالمأثور
سيرة الملك سيف بن ذي يزن
سيرة فيروز شاه
حرف الشين
شكيب الجابري
قدرٌ يلهو (1938)
قوس قزح (1946)
حرف الصاد
صدقي إسماعيل (1924-1972)
العصاة (1964)
صنع الله إبراهيم (القاهرة 1937)
تلك الرائحة (1966)
نجمة أغسطس (1974)
اللجنة (1980)
حرف الطاء
طانيوس عبده (1866-1932)
غرام واحتيال
الطبري (839-923)
جامع البيان في تفسير القرآن
طه حسين (1889-1973)
الشعر الجاهلي (1920)
الأيّام (1929)
أديب (1935)
الطيب صالح (1929)
عرس الزين (1962)
موسم الهجرة إلى الشمال (1965)
بندر شاه (1971)
حرف العين
عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902)
طبائع الاستبداد
عبد الرحمن منيف (1933)
الأشجار واغتيال مرزوق (1973)
شرقُ المتوسط (1975)
النهايات (1978)
سباق المسافات الطويلة (1979)
عبد السلام العُجيلي (1918)
باسمة بين الدموع (1959)
الخيلُ والنساء (1965)
المغمورون (1979)
عبد الكريم ناصيف (سلميّة سوريّة 1939)
المدُّ والجزر –الصعود (1986)
المدُّ والجزر- الانكسار (1987)
المخطوفون (1991)
الطريق إلى الشمس، تشريقة آل المرّ (1992)
عبد الله بن المقفع (ت 756)
الأدب الكبير
كليلة ودمنة
عبد الله عبد (اللاذقية 1928-1976)
السيران وأولاد يعقوب (1972)
الرأس والجدار (1977)
عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 1282)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل
عبد النبي حجازي (1945)
قارب الزمن الثقيل (1970)
السنديانة (1971)
الصخرة (1978)
علي عبد الرازق
أصول الحكم في الإسلام
علي عقلة عرسان (1941)
صخرة الجولان (1982)
تحوّلات عازف الناي (1993)
عمر بن أبي ربيعة (644-711)
الديوان
حرف الغين
غسان كنفاني (1936-1972)
رجالٌ في الشمس (1963)
ما تبقّى لكم (1966)
عائد إلى حيفا (1969)
حرف الفاء
فخر الدين الرازي (1149-1209)
مفاتيح الغيب المشهور بالتفسير الكبير
فوّاز حجو
ابن عربي يترجم أشواقه (1994)
حرف القاف
قاسم أمين (1865-1908)
تحرير المرأة
حرف الكاف
كرم ملحم كرم (1903-1959)
قهقهة الجزار (1951)
المجنون (1956)
جفاف الزيزفون (1956)
حرف الميم
محمد بن إسحاق (ت 767)
سيرة الرسول
محمد بن بهادر الزركشي (1344-1391)
البرهان في علوم القرآن
محمد حسين هيكل (1888-1956)
زينب (1914)
هكذا خلقت (1956)
محمد عبد الحليم عبد الله (1920-1970)
لقيطة(1945)
شجرة اللبلاب (1949)
سكون العاصفة (1960)
محمود المويلحي (1858-1930)
حديث عيسى بن هشام (1898-1900)
محمود بن عمر جار الله الزمخشري (1075-1144)
الكشّاف عن حقائق التنزيل
محمود طاهر حقّي
عذراء دنشواي (1909)
محيي الدين بن عربي (1165-1240)
كتاب التفسير (منسوب إلى..)
معروف الأرناؤوط (بيروت، 1892-دمشق، 1948)
سيد قريش (1928)
عمر بن الخطّاب (1936)
طارق بن زياد (1941)
فاطمة البتول (1942)
حرف النون
ناصيف اليازجي (1800-1871)
مجمعُ البحرين
نجيب محفوظ (1911)
بداية ونهاية (1949)
الثلاثيّة
بين القصريْن (1956)
قصر الشوق (1957)
السكّريّة (1957)
اللص والكلاب (1961)
ميرامار (1967)
نزار قباني (1923-1998)
هوامش على دفتر النكبة
نقولا حدّاد (1872-1954)
كلّه نصيب (1903)
حرف الهاء
هاني الراهب (اللاذقية 1939)
المهزومون (1961)
شرخٌ في تاريخٍ طويلٍ (1970)
ألف ليلة وليلتان (1977)
حرف الواو
الواقدي (747-828)
مغازي الرسول
ويليام فوكنر (1897-1962)
الصخب والعنف (1927)
صلاة لراهبةٍ (1951)
حرف الياء
يحيى حقّي (1905-1992)
قنديل أم هاشم (1994)
يوسف إدريس (البروم 1927-لندن 1991)
العيب (1962)
رجالُ وثيران (1962)
البيضاء (1970)
يوسف السباعي (1917-1978)
السقّا مات (1952)
البحث عن جسد (1953)
جفت الدموع (1961)
نحن لا نزرعُ الشوك (1968)


¡¡¡



الفهرست
مقدمـــة 5
توطئة عامة 5
1-تطور الألسنيات وازدهار مفهوم التداولية 7
2-النقد الأدبي ونظرية القراءة 9
¡ الهوامش.. 13
الفصـــل الأول : في القراءة عامة وفي القراءة الأدبية وأشكالها خاصة 15
1-القراءة نشاط متعدد الوجوه 17
1-1-القراءة نشاط عصبي وفيزيائي. 17
1-2- القراءة نشاط معرفي. 18
1-3- القراءة نشاط عاطفي. 19
1-4-القراءة نشاطٌ حجاجي. 20
1-5- القراءة نشاط رمزي. 22
2- القراءة تواصل مؤخّر! 22
2-1- شروط فعالية القراءة 22
2-2- مقام النص المقروء 24
2-3-هل كلّ قراءة مشروعة؟ 26
3- القراءة الساذجة والقراءة النقدية: 28
3-1- جمهور القراء الأوائل. 28
3-2-القراءة الخطيّة. 29
3-3-القراءة الثانية. 31
الفصل الثاني : القارئُ ووجوهُه المتعدّدة. 33
1-القارئ وأقنعته. 35
1-1-مكانة المتلقّي في عمليّة التواصل الأدبيّ. 35
1-2-القارئ بصفته فرداً أو صورةً أو عضواً من جماعة. 37
1-3-النصُّ وخارجه. 38
2-في البدء كان المَرويُّ له. 39
2-1-أهو نظيرُ الراوي؟. 39
2-2-وجوهُ المَرويّ لَه الثلاثة. 41
3-ذريّةٌ عديدةٌ 44
3-1-من القارئ الضِمني إلى القارئ النموذجي. 44
3-2-من تحليل الحكاية إلى نظريّات القراءة. 48
3-3- القضايا المُعلّقة. 48
4- القارئُ الحقيقيُّ. 49
4-1- التلقّي الملموسُ. 49
4-2- أطرافُ القارئ. 50
4-3- أنموذجٌ يُستَكمَلُ؟ 51
4-4- الأسُس النفسيّة 51
¡ هوامش الفصل الثانيّ. 51
الفصل الثالث : كيف نقرأ النصّ الأدبيّ؟ 51
1- العلاقة بين النص وقارئه 51
1-1-نقصانُ النصّ... 51
1-2- التلقّي بصفته استكمالاً للنصّ: 51
1-3- الثابتُ والمضطرب: 51
2-النص الأدبيّ من حيث أنه "برمجة". 51
2-1-"عقدُ" القراءة 51
2-2- المراسي: 51
2-3- منازلُ الظنّ والتخمين: 51
3-دور القارئ. 51
3-1- الاستباق والتبسيط. 51
3-2- القراءة بصفتها توقّعٌ 51
3-3- كفاءات القارئ. 51
3 ـ 4 ـ خبرات القارئ: 51
¡ هوامشُ الفصل الثالث: 51
الفصل الرابع : ماذا نقرأ في النص الأدبي. 51
1- مستويات القراءة: 51
1 ـ 1 ـ تعدّد الأصوات: 51
1 ـ 2 ـ نصوص تُنسخُ ونصوص تُقرأ! 51
2 ـ القراءة الجابذة أو التوحيدية: 51
2 ـ 1 ـ تأويل النص وثوابت الحياة النفسية: 51
3 ـ القراءة النابذة أو التفكيكية: 51
3 ـ 1 ـ المعنى المنفلت دائماً: 51
3 ـ 2 ـ دور القارئ: 51
¡ هوامش الفصل الرابع: 51
الفصل الخامس : القراءة ومُعاش القارئ. 51
1-متعة التخيُّل. 51
1-1-الوعيُ المُنطَلِق. 51
1-2-الدوار. 51
1-3-تأمّلٌ ومساهمةٌ 51
2-متعة اللعب. 51
2-1-"البليينج" و"الجيم". 51
2-2-تورّطٌ ومراقبةٌ. 51
3-سياحةٌ داخل الزمن. 51
3-1-النكوص إلى الوراء. 51
3-2-"الطفل الذي يقرأ فينا". 51
3-3-رجعة الماضي العاطفي. 51
الفصل السادس : مسألة وقع القراءة وأثرها على القارئ. 51
1-مرامي القراءة الأدبيّة 51
1-1-التأثير والإمتاع. 51
1-2-الجمعي والفردي. 51
2-من النص إلى الواقع. 51
2-الأثر والتلّقي. 51
2-2- المعنى "والتعبير عنه" 51
2-3-تأكيد الذات. 51
2-4- اكتشاف الذات. 51
3-ارتداد وتقدّمٌ. 51
3-1-الاستلاب. 51
3-2- التطوّر أو النمو 51
3-3- القراءة الأدبيّة 51
¡ هوامش الفصل السادس: 51
خاتمة 51
ثبت بالنصوص الأدبيّة المدروسة ومؤلّفيها 51
الفهرست. 51

¡¡¡








رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية

نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها : دراسة/ حسن مصطفى سحلول – دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 – 139 ص؛ 25سم.

1- 810.9 س ح ل ن 2- العنوان
3- سحلول

ع- 1617/8/‏2001‏ مكتبة الأسد

qq