الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الخميس، أبريل 15، 2010

ترجمة: الدكتور جمال حضري

الترجمة:
إن الحقل السيميائي الذي شهد خلال السنوات الأخيرة التطورات الأكثر أهمية، أو على الأقل الأبحاث النظرية والتطبيقات الأكثر عدداً، هو بدون منازع حقل التحليل السردي للخطابات. فانطلاقاً من الاستغلال المبكر نوعاً ما لـ"علم صرف" بروب (VI.Propp)، أعطى التفكير في السردية مرة مشاريع لاختصاص مستقل كالسرديات مثلاً، ولتشكيلات سريعة من "الأنحاء" أو "المناطق" السردية مرة أخرى (جمع: نحو ومنطق)، وهذا لأن السيميائية الفرنسية، وعلى عكس ما جرى في الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة الأمريكية حيث اجتهد بعض السيميائيين مثل ميليتنسكي (E.Meletensky) أو داندس (A.Dundes) في تعميق معرفة الآليات الداخلية للسرد المحصور في نصوص أدبية ـ عرقية، أرادت أن تنظر إلى عمل بروب باعتباره نموذجاً يسمح بفهم أفضل لأسس تنظيم مجمل الخطابات السردية ذاتها، غيرأن فرضية وجود أشكال كونية تنظم السرد، معترفٍ بها علناً أو مقبولة ضمنياً، مع إلهامها لأبحاث عديدة، سببت في الوقت ذاته خلافات مؤسفة جداً.
وبمعزل عن الانتقادات التي تعتمد على خلفيات أيديولوجية مضادة للعلم، التي تصيب ـ أو لا تصيب ـ مجمل العلوم الإنسانية، فإن أول هذه الخلافات يرجع إلى التطبيق الآلي للنماذج البروبية ـ أو لما اشتق منها بابتذال ـ على النصوص الأدبية ذات التعقيد الكبير. ودون تشكيك في المصادرة على "كونية" الأشكال الخطابية، فإن مثل هذه التطبيقات نجحت في إثبات عدم فعالية الإجراءات التي وفرتها السيميائية.
إن هناك مهمتين متمايزتين بقوة، كانتا محل التباس دائم في التمارين من هذا الجنس:
الأولى : هدفها تنمية معارفنا عن التنظيمات السردية وتتبنى عادة، ذوقاً أو ضرورة، طرقاً استنتاجية أو مشكلنة.
الثانية: تبحث على عكس الأولى، عن استغلال معرفة النماذج السردية من أجل قراءة هذه المواضيع السيميائية المعقدة والمتميزة وهي النصوص وخاصة الأدبية منها، وليس عجيباً أن يعطي الفقر أو الوسائل قراءات بلا معنى.
ويفسر هذا الوضع بنوعين من الضعف أو عدم الكفاية: فبعض السيميائيين لم يعرفوا كيف يعدُّون أبحاث ديموزيل أو ليفي ستراوس وما أبرزاه من وجود بنيات عميقة منظمة للخطابات، ولكنها كامنة تحت التمظهرات السردية للسطح ذات النمط البروبي.
وأهملوا أيضاً تقويم المسافة الهائلة التي تفصل الانتشار السردي عن خطية النص المتمظهر، والتي لم تبدأ الأبحاث البلاغية واللسانية النصية بملئها إلا حديثاً.
إن قراءة نص أدبي مختزل هكذا في بعده السردي السطحي، لا يمكنها من الآن إلا أن تظهر مفقرة إلى أقصى حد، ومن باب أولى تصبح نماذج التحليل السردي المأخوذة عن بروب أو المعدلة قليلاً، أقل ملاءمة دائماً لبيان موضوعات ذات تعقيد بنائي أكبر.
وهذا النص بانخراطه كتمهيد لمؤَلَفٍ يعرّف بالمسائل العامة للسيميائية، يريد شرح واحد من مسائله الأكثر حساسية من خلال بيان الطريق التي سلكت منذ إعادة اكتشاف بروب من جهة، والتمييز بالوضوح الممكن بين ما يمكن اعتباره كمكسب للسيميائية، وبين المشاريع والفرضيات التي تريد فتح الطريق أمام أبحاث جديدة من جهة أخرى.
I ـ اختبار نقدي "لعلم صرف" بروب:
1 ـ مشاكل اللغة الواصفة:
دون البحث عن التقليل من أهمية اكتشاف بروب، يجب القول بأن عرضه لنتائج تحليله يفتقر إلى الصرامة ويبرز ثغرات واضحة.
أ ـ فالقول بأن الحكاية هي تتابع لـ 31(كذا) وظيفة كما يفعل بروب، يقتضي تحديداً مسبقاً لمفهوم "الوظيفة"، لكن إذا كان في المستطاع الاطمئنان إلى حدس بروب حين يعدّ أن "الوظائف" تغطي دوائر الفعل لأشخاص الحكاية، فإن صياغاته التي يعطيها لمختلف الوظائف تجعلنا غالباً في حيرة، فإذا كان "خروج البطل" يبدو وظيفة تقابل شكلاً من النشاط، فإن "الافتقار" يبعد أن يمثل فعلاً، ولكن الأحرى أن يمثل حالة ولا يمكن عدّه وظيفة.
وهكذا، عندما نعدُّ قائمة التسميات "للوظائف" البروبية، فإن لدينا انطباعاً بأنها تهدف في ذهنه، من خلال تجميع المتغيرات وتعميم دلالاتها، إلى تلخيص مختلف متتاليات الحكاية أكثر من تعيين مختلف أنماط النشاطات التي يظهر تتابعها الحكاية كبرنامج منظم.
إن لغة بروب الواصفة تظهر إذاً كلغة وثائقية: ودون أن نفرض عليها شروطاً أخرى، فإنه يمكن أن نطبق عليها بعض المبادئ البسيطة التي تقود بناء مثل هذه اللغات، بالبحث في المقام الأول عن إعطاء شكلنة قواعدية موحدة لهذه المتوالية من "الوظائف".
ومن أجل البقاء أوفياء لمفهوم "دائرة الفعل"، يمكن أن نعرض مثلاً بشكل موحد كل "فعل" من خلال مسند (أو وظيفة بالمعنى المنطقي لـ"علاقة") مع تكميل هذا العرض للـ"الفعل" بإضافة العوامل (ـ الأشخاص) المساهمين في الفعل.
تأخذ "الوظيفة، البروبية إذا شكلاً قواعدياً لملفوظ سردي:
م.س=و(ع1، ع2....).
نقرأ: ملفوظ سردي= وظيفة (عامل1، عامل 2...).
ودون خيانة لحدس بروب بأي صورة، فإن مثل هذا الترميز المنسجم يشكل من الآن تمهيداً لتفكير شكلي (صوري): يسمح مثلاً باعتبار وظيفة "الانتقال" كثابت وفحص العوامل التي تسهم فيها داخل النص باعتبارها متغيرات، ويسمح، من خلال أخذ العامل كثابت، بتجميع كل الوظائف التي تكون "دائرة فعله".. الخ.
ب ـ محاولة كهذه لتوحيد الشكل من خلال وضع إلزامات للصرامة، لا يمكن أن تتفادى الكشف عن ثغرات وغموض في العرض البروبي، هكذا وبإدخال ملفوظ سردي يعلن مغادرة البطل في المتتالية السردية، لا يمكننا عدم الانتباه إلى غياب "وصول البطل"، وبالمثل، فإن فحص الوظيفة البروبية لـ"الزواج" يؤدي بنا إلى ملاحظة تواجد ملفوظين سرديين على الأقل: فالزواج يتضمن المنح الذي يقوم به الأب (أو الملك) بإعطاء ابنته للبطل، ولكنه يتضمن أيضاً العلاقة التعاقدية بين المعنيين.
كما أن مشكلة الكتابة "الصحيحة" للوحدات السردية قد تم تجاوزها: فإذا كان ملفوظ سردي ـ ضروري منطقياً ـ مهملاً داخل تمظهرات نصية، وكان على العكس، مقطع نصي موجوداً ليؤشر على ملفوظين سرديين كامنين، فإن هذا يطرح سؤالاً عن الوضعية النظرية لما لا يعدو بالنسبة إلينا أن يكون حتى الآن خطاباً وثائقياً، وكذا وضعية علاقاته بالنص السردي المتمظهر في وروداته. فعوضاً عن تلخيص وثائقي لما نجده داخل النصوص التي يغطيها، فإن هذا الخطاب الثاني يبدو كتمثيل تركيبي ـ دلالي، وفي الوقت نفسه قد كُيِّف وأزيل غموضه، وقام مقام بنية عميقة بالنسبة لبنيات السطح التي هي النصوص ـ الورودات.
2 ـ الاعتراف بالانتظامات:
رأينا بأن التطبيع البسيط لتسمية "الوظائف" البروبية، المصاغة كملفوظات سردية يسمح من الآن بالاعتراف بعدد من الاطرادات داخل "التتابع" الذي يشكل حسب بروب القصة كحكاية.
أ ـ كان ك.ل.ستراوس (CI.Lévi. Strauss) الأول الذي لفت انتباه الباحثين إلى وجود "إسقاطات استبدالية" تغطي السير المركبي للحكاية البروبية، وأكد على ضرورة إجراء "مزاوجات" للوظائف. وبالفعل، يمكن للملفوظات السردية أن تزاوج ليس باعتبار الجوار النصي ولكن عن بعد، ملفوظاً ما يستدعي ـ أو بالأحرى يتذكرـ ضديده المطروح مسبقاً، ووحدات سردية جديدة ـ وإن تكن منقطعة بالنسبة لنسيج الحكاية، لكنها مكونة من علاقات استبدالية تقرب محمولاتها /وظائفها ـ تظهر هكذا كأزواج من نمط:
/مغادرة/ عكس/ رجوع/
إيجاد الافتقار/ عكس/ القضاء على الافتقار/
إقامة الحظر/عكس/ كسر الحظر/ الخ..
وداخل الترسيمة المركبية، تؤدي هذه الوحدات الاستبدالية دور المنظم للحكاية وتكون نوعاً ما هيكلها، بل وأكثر، فإن التتابع البسيط للملفوظات السردية باعتباره لم يكن مقياساً كافياً ليفسر تنظيم الحكاية، يعني أن التعرف على الإسقاطات الاستبدالية، هو الذي يسمح بالحديث عن وجود بنيات سردية.
ب ـ إن قراءة "قائمة" الوظائف البروبية يكشف، من جهة أخرى، ليس فقط وجود وحدات مركبية ذات بعد يتجاوز الملفوظات السردية ـ نفكر أولاً في الاختبارات ـ ولكن أيضاً خاصيتها التكرارية. هناك نوعان من التكرار يمكن ملاحظتهما: نلتقي في البداية بالتضعيفات (اختبار يفشل يكون متبوعاً الاختبار نفسه الذي ينجح) و/أو التثليثات (ثلاثة اختبارات تتوالى وتستهدف الحصول على موضوع القيمة نفسه): وبما أن التدليل الوظيفي لهذه التكرارات ـ التي تسم شدة الجهد وكليته ـ لا يطرح إشكالاً، فإن الدراسة المقارنة للوحدات المتكررة تسمح بالتعرف على الخاصيات الثابتة والشكلية للاختبار وتمييزها من الاستثمارات الدلالية والتصويرية المتغيرة.
بعد اختزال هذا الجنس من التكرارات، نكون إزاء سلسلة من الاختبارات التي، مع امتلاكها تماماً للشكل القواعدي المتعرف عليه سابقاً، فإنها تتميز الواحد من الآخر ـ في مرة واحدة ـ باختلاف موضوع القيمة المستهدف، وبموضعها في التسلسل المركبي، بتعبير آخر: فإنه إلى جانب العلاقات الاستبدالية الملاحظة سابقاً، نلاقي أيضاً علاقات تركيبية، قابلة لأن تؤدي دور المنظم للبنيات السردية. إن التعرف على هيكل علائقي منظم للحكاية، يعوض على هذا النحو التعريف البروبي للقصة" كتتابع لـ/31/ وظيفة".
II ـ البنيات السردية: بعد بروب:
1 ـ الترسيمة السردية:
1 ـ 1 ـ متوالية من الاختبارات: يمكننا أن نتساءل عما بقي من التعريف البروبي للقصة بعد هذا الفحص التحليلي الذي سمح لنا أن نستبدل بالمفهوم العائم لـ"وظيفة" الصيغة القواعدية للملفوظ السردي، والتعرف على وجود وحدات سردية ذات طبيعة استبدالية تارة وتركيبية تارة أخرى، مكونة من العلاقات التي تعقدها الملفوظات السردية بينها، وبتفسير الحكاية كبنية سردية، أي كشبكة علائقية واسعة تحتية بالنسبة إلى خطاب السطح الذي لا.. يمظهرها إلا جزئياً.
يمكن أن نتساءل أيضاً، ماذا يعني في هذه الحالة مفهوم التتابع، العنصر الأساسي في تعريف بروب: هل يعين ببساطة الملفوظات السردية، وهي تتابع الواحد تلو الآخر في أثناء التمظهر الخطي للسردية في شكل خطاب ـ وهو ما يعيدنا من جديد، وإن لم يكن خطأ، إلى تصور "علم الصرف" كتلخيص بسيط لأحداث مترابطة داخل القصة، أو يدعونا إلى اعتبار النظم المركبي للحكاية ذا "وجهة" أو "اتجاه" أو "مقصدية" كامنة يرجع إلينا اقتراح تفسيرها؟ إنها هذه الفرضية الثانية التي نحتفظ بها الآن.
إن قارئ بروب لا يفوته أن ينتبه ـ لنقل ذلك ـ إلى تكرار الاختبارات الثلاثة التي ـ بكونها أزمنة قوية ـ تمفصل مجموع الحكاية وهي:
الاختبار التأهيلي ـ الاختبار الحاسم ـ الاختبار التمجيدي.
من خلال تتبع بطل القصة العجيبة خطوة خطوة، نسجل بالفعل أن الخير، بعد أن قبل المهمة، ينبغي في البداية أن يخضع لنوع من الفحص الترشيحي يسمح له باكتساب ـ أو يؤكده كحائز على ـ الأوصاف المطلوبة لمباشرة البحث الذي ينتهي بالتعهد الحاسم والحصول على موضوع القيمة المطلوب، عقب هذه الوقائع العليا، يتم الاعتراف به وتمجيده كبطل، وإذا فكرنا في هذا قليلاً، ننتبه إلى أن "أقصوصة" كاملة قد قصت علينا، أقصوصة حياة مثالية تمفصل اختباراتها الحلقات الأساسية التي يكررها ـ بلا ملل ـ كل قصاصي العالم: تأهيل الفاعل: المتمظهر في أشكال متنوعة (تقاليد تعليمية، طقوس مرور، مسابقات، امتحانات...)، إنجاز الفاعل: في الحياة التي تعدُّ فضاء افتراضياً يكون الرجل مدعواً لملئه بأعماله بتحقيق شيء ما، والظهور فيها في الوقت نفسه.
الاعتراف: هذه النظرة من الآخر الذي تلحق الأعمال بصاحبها وتكونه في ذاته.
ليست هذه بالفعل إلا رواية من بين أخريات يعطيها لنا المخيال الإنساني عن "معنى الحياة" مقدماً كترسيمة للفعل: المتغيرات حول هذا الغرض كثيرة، إنما تفتح هكذا أفقاً واسعاً للأيديولوجيات. ما يهم الآن هو الاعتراف بمبدأ ثابت للتنظيم يسمح باعتبار هذه الترسيمة مفهوماً إجرائياً.
إن الرصف البروبي يقترح علينا إمكانية قراءة كل خطاب سردي كبحث عن المعنى، عن التدليل الذي يلحق بالفعل الإنساني: الترسيمة السردية تظهر إذاً كتمفصل منظم للنشاط الإنساني الذي يؤسسه كتدليل.
تصور كهذا للترسيمة السردية ـ حتى وإن أعطى بداية لجواب عن سؤال مثار نزاع، ويتعلق بمعرفة ماهية الحكاية ـ ليس بالفعل إلا فرضية قابلة لأن تستدعي حولها عدداً من الأبحاث المتميزة.
إن قيمة النموذج البروبي ـ وهو ما نلاحظه جيداً ـ لا تكمن في عمق التحليلات التي تدعمه ولا في دقة صياغاته، ولكن تكمن في خاصية الإثارة، في قدرته على إثارة الافتراضات، إنه التخطي بكل معانيه لخصوصية القصة العجيبة التي تطبع مسيرة السيميائية السردية منذ بداياتها. إن توسيع وترسيخ مفهوم الترسيمة السردية القواعدية يبدو بهذا كواحد من ِأشغالها الحاضرة.
إذا كان "التتابع" البروبي، مفسراً كمقصدية دالة ومتموضعاً على مستوى أكثر عمقاً من الخطية البسيطة للتمظهر الخطابي، يسمح بالمصادرة على وجود ترسيمة سردية منظمة، فإن التمفصل المنطقي يعطي ـ على العكس ـ صورة لتتابع معكوس الاتجاه.
فالاختبارات الثلاثة ـ لكي لا نتكلم إلا عنها ـ تتابع فعلياً على الخط الزمني (أو الرسمي) الواحد تلو الآخر، غير أنه لا توجد أية ضرورة منطقية لكي يكون الاختبار التأهيلي متبوعاً بالاختبار الحاسم، أو أن يكافأ هذا الأخير: فما أكثر أمثلة الفواعل الأكفياء الذين لا يمرون أبداً إلى الفعل، والأعمال المستحقة التي لم يتم الاعتراف بها أبداً.
وعلى العكس تقيم القراءة المعاكسة تنظيماً منطقياً للاقتضاء: فالاعتراف بالبطل يقتضي الفعل البطولي، وهذا الأخير يقتضي بدوره وصفاً كافياً للبطل (طبعاً مع سحب منظومة قيم الحقيقة التي بتحديديها الزائد للاختبارات تدخل متغيرات جديدة).
إن مقصدية الخطاب السردي، التي كانت فرضية بسيطة في البداية، تجد تبريرها في الرصف المنطقي المتعرف عليه في النهاية، على شاكلة نمو الجسم في الوراثة.
1 ـ 2 ـ المواجهة: يعتمد التفكير الذي سمح بإحاطة مفهوم "الترسيمة السردية" في أغلبه على فحص القصة العجيبة البروبية، ومن خلال رؤيته عن قرب، نتفطن إلى أن هذه القصة وعوضاً عن تكوين كل متجانس، هي في الحقيقة حكاية معقدة أو على الأقل مضاعفة، لأنها تظهر كتعالق للاختبارات المنجزة من قبل الفاعل (البطل)، وتحتوي في الوقت نفسه ـ بطريقة نصف غامضة حقاً ـ أقصوصة أخرى، للفاعل المضاد (الخائن)؛ حكايتان مع أنهما تتقاطعان وتتداخلان، لكنهما لا تتمايزان الواحدة من الأخرى من زاوية تنظيمهما الشكلي سوى بتلونهما المعنوي المختلف، الإيجابي أو السلبي. وهذا التلون مع أنه يبعد أن يكون خاصية تكوينية للحكاية، ليس إلا زيادة ثانوية ومتغيرة في التحديد: الخائن البروبي الفائق التحديد سلبياً، له سلوك مشابه لسلوك الصوص الصغير (petit poucet) ، البطل الإيجابي، فالغول (ogre) المقدم "كخائن" لا يتميز جوهرياً ـ بفعل تكييفه من خلال قدرة ـ الفعل في حالة خالصة ـ عن البطل رولان (Roland) برفضه النفخ في البوق وباللجوء هكذا إلى نوع من معرفة ـ الفعل.
تقرير هذه المضاعفة يفرض علينا اعتبار الترسيمة السردية مكونة من مسارين سرديين خاصين بكل واحد من الفاعلين (فاعل وفاعل مضاد) المقامين داخل الحكاية. هذان المساران يمكن أن يجريا منفصلين، الواحد منهما مثلاً يهيمن على البداية والآخر على نهاية السرد: لكن من الضروري أن يلتقيا ويتراكبا لحظة ما، ليعطيا مجالاً للمواجهة بين الفواعل، مواجهة تشكل من الآن واحداً من أركان الترسيمة السردية. والمواجهة، بدورها، يمكن أن تكون تنازعية أو تبادلية تتمظهر تارة في قتال، وتارة في تبادل، وهو تمييز يسمح بالتعرف إلى تصورين للعلاقات البينية الإنسانية (صراع الطبقات مثلاً، المضاد للعقد الاجتماعي) كما يسمح حسب هذا المعيار بتقسيم الحكايات على قسمين كبيرين.
1 ـ 3 ـ دوران المواضيع والاتصال بين الفواعل: يقوم رهان هذه المواجهات ـ ولا يهم كثيراً إذا كانت عنيفة أو سلمية ـ على مواضيع قيمة مستهدفة من الجهتين، ونتائجها تختزل في انتقال المواضيع من فاعل إلى آخر، ويمكن أن تلخص المواجهة أيضاً من حيث النتائج في صيغة قواعدية بسيطة:
ف1U م ∩ف2
نقرأ: فاعل 1 في فصله عن الموضوع، والموضوع نفسه في وصلة مع فاعل 2.
والتي تقول بأنه في نهاية مواجهة أو تبادل فإن واحداً من الفاعلين يكون ـ بالضرورة ـ في فصله عن موضوع القيمة، بينما ضديده يدخل في وصلة معه.
تحدث مثل هذه الانتقالات في القصة العجيبة عدة مرات (الخائن يستولي على ابنة الملك، البطل يستعيدها ويسلمها لأبيها الذي يعطيها له من خلال زواج) والأدب العرقي يعرف جنساً من الحكايات يتميز بتسلسل لا نهاية له من تنقلات المواضيع. ويمكن من هذا المنظور أن تحدد الحكاية بدوران المواضيع، فكل انتقال يكون محوراً سردياً ويمكن أن يعاد الكل انطلاقاً منه.
في حين نرى هنا ظهور تمييز جديد يمكن أن يكون هو الأهم، بين مستويين ذوي عمق غير متساو: إذا بدت الحكاية متضمنة لنوع من النحو الأولي للتنقلات، فإن تنقلات المواضيع مستوعبة في الوقت نفسه، في مستوى أكثر سطحية، داخل تشجيرات خطابية من كل الأنواع (اختبارات، اختطافات، خداعات، تبادلات، منح ومنح ـ مضاد) تنميها بطريقة تصويرية.
ينتج عن هذا كون المستويين المتعرف عليهما هكذا يمكن وصفهما ومعاملتهما كل على حدة، وأنه من أجل تفسير الاشتغال الداخلي للنص السردي، يجب إقامة قواعد لدوران مواضيع القيمة من جهة، وتكوين نمذجة للتشجيرات الخطابية النحوية التي من خلالها تتمظهر هذه التنقلات من جهة أخرى: قواعد حصر تدقق شروط إلحاق التشجيرات بالتنقلات، وتقيم بذلك جسراً بين التمثيلات المنطقية والتصويرية للسردية.
لكن دون المواضيع ليس مع ذلك شيئاً آلياً ومسلماً به، فعلى طريقة الكرة التي تغير المنطقة باستمرار أثناء مقابلة، فإن موضوع القيمة يحتاج إلى أن يدفع ويمسك به من طرف فواعل أكفياء.
والتشجيرات الخطابية التي وضعناها على عجل فوق البعد التصويري للنص لا تغطي تنقلات الأشياء فقط، ولكنها تغطي أيضاً متتالية من الأفعال المنجزة من طرف فواعل تنجز التنقلات. بتعبير آخر، إن دوران المواضيع يقتضي مسبقاً وضع فواعل تحركها، أي بنية للاتصال تدور داخلها المواضيع على طريقة الرسائل.
2 ـ البرنامج السردي:
1 ـ 2 ـ ملفوظات الحالة: مع الاحتفاظ للتشجيرات الخطابية النحوية بوضعية الغطاء التصويرية للعمليات المنطقية، فإننا مضطرون للاعتراف والتمييز الشكلي تحت هذا الغطاء الشفاف، بين نوعين من الفواعل، فواعل الحالة وفواعل الفعل، واعتبار الأولى كواضعة للقيم بفعل ارتباطها وصلاً أو فصلاً بالموضوعات، والثانية كفواعل عاملة والتي بإجرائها للارتباطات تغير الأولى.
تتحدد فواعل الحالة في وجودها السميائي من خلال خصائصها (نعوت، محولات) بالفعل، لا يمكن الاعتراف بها كفواعل إلا في حالة تعالقها مع موضوعات القيمة وتشارك في مختلف العوالم القيمية، ومواضيع القيمة بدورها ليست قيماً إلا إذا كانت مستهدفة من الفواعل، وبتعبير آخر، لا يوجد تحديد ممكن للفاعل إلا بوضعه في علاقة مع الموضوع وبالعكس.
ومن هنا، فإن التمثيل القواعدي للفاعل لا يمكن أن يأخذ إلا شكل ملفوظ حالة ذي وظيفة مكونة من علاقة بين الفاعل والموضوع:
ف ∩ م أو ف U م
نقرأ: فاعل في وصلة مع موضوع أو فاعل في فصلة عن موضوع.
مثل هذه الصياغة لها امتياز السماح بتحديد كل عامل في الترسيمة السردية، في لحظة معطاة من السرد، من خلال مجموع ملفوظات الحالة التي تكونه.
2 ـ 2 ـ ملفوظات الفعل: فاعل الفعل يجري تحويلات تتموضع بين الحالات، ولهذا نقرأ هذه العبارة:
ف U م← ف ∩ م
نقرأ: فاعل في فصلة عن موضوع يتحول إلى فاعل في وصلة مع موضوع.
كتمثيل لحالتين متتابعتين لفاعل يكون في البداية منفصلاً عن موضوع القيمة، ثم يكون بعد ذلك في وصلة معه، وهذا عقب تدخل يسبب التغيير؛ تدخل كهذا لا يمكن أن يفسر إلا إذا صادرنا على وجود فعل تحويلي قام به فاعل فعل مستهدف لملفوظ حالة باعتباره موضوعاً ينبغي تحويله: فملفوظ الفعل هو إذاً ملفوظ يقود ملفوظ حالة، مع تعيين فاعل الفعل بصورة دائمة ف1 وفاعل الحالة: ف2 ونستطيع تقديمه بالطريقة التالية:
ف(تحويلي) [ف1 ← (ف2∩ م)] أو ف (تحويلي) [ف1← (ف2 Uم)]
إن التمييز بين فاعلين: ف1 و ف2 لا ينتج فقط عن مطلب شكلي، بل يستند إلى كثير من الحالات المشاهدة:
فإذا كان الفاعلان في حالة الفعل المسمى "سرقة"، متواجدين في ممثل واحد فإن في حالة المنح، تكون حالة ف2 نفسها متحصلاً عليها من خلال فعل ف1 المختلف عن الأول (أي ف2): أي في حالة السرقة: ف1 هو ف2، أما في المنح فإن ف1 ≠ ف2
2 ـ 3 ـ التركيب العاملي: هاهو، وبصورة غير منتظرة، مقترح ليكون حلاً لمشكلة لم تكف عن إزعاج السميائيين، وهي التحديد الممكن لـ"الحكاية الدنيا": بالفعل، إذا فهمنا الحكاية حدسياً كـ"شيء يحدث"، فإن تصورنا للعمل باعتباره إنتاجاً لحالة جديدة، يكون كفيلاً بمثل هذا التحديد.
والاستنتاجات التي يمكن استخلاصها مما سبق، تتميز أساساً من التي نعتمدها عادة، والتي بمقتضاها تكون "الحكاية الدنيا" نوعاً من "حكاية ـ مصغرة" قابلة للتوليف مع "حكايات ـ مصغرة" أخرى لتكوين "الحكاية المكبرة" الموافقة لأبعاد النص السردي في مجمله، وذلك عقب إدماجات وتضافرات وتداخلات متتابعة. والفرق بين "الحكاية ـ المصغرة" و"الحكاية ـ المكبرة" بالنسبة إلينا، هو فرق في الطبيعة وليس فرقاً في الحجم.
في البداية هناك تدقيق اصطلاحي يفرض نفسه، فمن خلال الحديث عن ملفوظ الفعل كتمثيل لفعل إنتاج حالة، تم إغفال الإشارة آلياً إلى أن المقصود هنا ليس عملاً منجزاً فعلاً، ولكنه عمل مروي، لنقل: هو "عمل من ورق". ومن الأفضل كذلك اعتبار الصيغة المعنية كتمثيل ليس للعمل، ولكن للبرنامج السردي الذي يبرز التنظيم التركيبي للعمل.
يمكننا من الآن استعادة الملاحظة المدونة في 2 ـ 2 ـ 1 والتي بناء عليها يمكن لملفوظ الحالة أن يساعد في تحديد أي عامل من الترسيمة السردية في لحظة ما من سيره، ومن أجل إكمالها نضيف بأنها صالحة تماماً بالنسبة لملفوظات الفعل القابلة لتحديد مختلف عوامل السرد (مرسل، فاعل، فاعل مضاد الخ..) كفاعلين للفعل، ينتج عن هذا أن فاعل الفعل وفاعل الحالة اللذين أتينا على تحديدهما، ليسا عاملين سميائين مشاركين مباشرة بهذه الصفة في الترسيمة السرية التي تنظم الخطاب، ولكنهما عاملان تركيبيان، أنواع من المؤشرات التركيبية لطرق الإجراء والتدليل تمكن من حساب العمليات المنجزة من طرف عوامل مختلفين، وقياس "كينونتهم" المتنامية و/أو المتناقصة باطراد إبان سيرورة الحكاية.
وبتعبير آخر فإن البرامج السردية هي وحدات سردية تنبثق عن تركيب عاملي قابل للتطبيق على كل أنواع الخطابات، وهي تبرز تنظيم مختلف مقاطع الترسيمة دون أن تكون مع ذلك مكونات لهذه الترسيمة التي توافق "تمفصلاً" (بالمعنى الذي يعطيه مارتنيه لهذه المفردة) آخر للخطاب.
إن البرامج السردية (ونختصرها في ب.س) هي وحدات بسيطة، ولكن قابلة للتوسع والتعقيد الشكليين دون أن يغير شيئاً من وضعيتها كصيغ تركيبية قابلة للتطبيق على الأوضاع السردية الأكثر تنوعاً.
أ ـ لقد سجلنا آنفاً، في أثناء حديثنا عن الاختبارات، إجراءات تضعيف أو تثليث، والتي ليست في الواقع إلا إكثاراً كمياً للـ ب.س والتي تبقى تدليلاتها الوظيفية على الشدة والشمول ظاهرة داخل الترسيمة السردية.
ب ـ يمكن أن نضيف إلى هذا إكثاراً للـ ب.س. راجعاً إلى إكثار موضوعات القيمة المستهدفة (الإصبع الصغير، يجلب أولاً إخوته ويكتسب الغنى بعد ذلك).
ج ـ إن علاقة تبعية يمكن أن تقود برنامجين أو أكثر ومن ب.س مترابطة فيما بينها، ب.س. للاستعمال يكون سابقاً لـ ب.س. رئيسي (فمن أجل الوصول إلى الموزة يبحث القرد أولاً عن العصا).
د ـ يمكن في النهاية، إدخال حساب ب.س. المتعالقة التي تبرز تنقلات المواضيع والتواصل بين الفاعلين (للمقارنة: الرجوع إلى "مشكلة من السميائية السردية: مواضيع القيمة "في Langages رقم 31).
إن قائمة التعقيدات للبرنامج السردي ليست شاملة، ولكنها تعطي تأشيرات كافية بالنسبة إلى إمكانية شكلنة أعمق للتركيب العاملي، وهي الوسيلة اللازمة لتحليل الخطابات.
III ـ سميائية للعمل:
1 ـ أداء الفاعل:
يمكن الآن العودة إلى الترسيمة السردية لرؤية كيف تتمظهر فيها مختلف عناصر التركيب العاملي، وكيف تشتغل بالضبط الـ ب.س. التي نعتقد أننا تعرفنا بداخلها إلى الآلية المناسبة المبرزة للسردية داخل الوحدات الكبيرة التي تكون هذه الترسيمة.
من خلال إجراء متدرج خطوة خطوة، لن نمضي إلى الأخذ في الاعتبار الترسيمة جملة، ولكن واحداً من مساراتها السردية التي تكونها (انظر أعلى 1 ـ 2) وليس المسار كله، ولكن أحد مركباته، وتحديداً الذي يقابل في النموذج البروبي الاختبار الرئيسي، هذا الأخير ولنقل ذلك، هو المجال المفضل في الحكاية أين يستطيع البطل في النهاية، عقب بحثه، أن يحقق المهمة التي تكفل بها: إنها لحظة المسار السردي التي تبدو بنيوياً الأكثر قرباً من تحديد ب.س. بصفته عملاً إنجازياً.
لا يجب أن ننسى بالمقابل بأن ب.س هو الشكل القواعدي المبرز من ناحية المبدأ لكل عمل كيفما كان: إسقاطه ـ لأهداف تعريفية ـ على مركب المسار السردي المعين يجب أن يصحب بوضع عدد من القيود التي، وهي تحتفظ بخصوصيات العمل، تكون لها مهمة تخصيصه من خلال تمييزه من التمظهرات الممكنة الأخرى للـ /ب.س وهاهي هذه القيود الرئيسية:
أ ـ يجب أولاً المصادرة على جمع فاعل الفعل وفاعل الحالة في عامل سردي واحد: بهذا الشرط يمكن للفاعل السيميائي أن يعرف ككائن وكفاعل (نلاحظ بالعكس أن الفصل بين فاعل الفعل وفاعل الحالة متمظهراً مثلاً في التشجير "منح" يطبع العلاقة بين المرسل والمرسل إليه).
ب ـ هكذا، وبعد أن تكون الفاعل، يجب أن يستهدف الموضوع المستثمر بقيمة وصفية. القيم الوصفية تتحدد باستثناء القيم الكيفية (انظر أسفل)، وتنقسم إلى: قيم تداولية (نابعة من كل العوالم القيمية الممكنة) وقيم معرفية (مكونة ليس باستهداف موضوع القيمة، ولكن معرفة هذا الموضوع): وتبعاً لطبيعة القيم المستهدفة نقول: بأن المسار السردي في الحالة الأولى، يقع على البعد التداولي، وفي الحالة الثانية يقع على البعد المعرفي، فالفاعل يمارس الفعل التداولي أو المعرفي.
ج ـ القيد الثالث يتعلق في النهاية بنمط الوجود السيميائي للبرنامج السردي: لكي ينطبق على مكون المسار السردي الذي نفحصه، يجب أن ينجز فيه الـ ب.س، الفعل الممارس ينتهي إلى النتيجة المسجلة داخل ملفوظ الحالة (وصلة أو فصلة).
إن البرنامج السردي بكونه خاضعاً لهذه القيود ولكن قابلاً للتوسيعات موضحة في 3.2.2، يحدد مكون المسار السردي المسمى: إنجاز الفاعل.
2 ـ كفاءة الفاعل:
يبدو بديهياً بأن الفاعل لا يمكنه القيام بإنجاز إلا إذا امتلك مسبقاً الكفاءة الضرورية: هكذا يشكل الاقتضاء المنطقي قبل كل اعتبار آخر أساس المكون للمسار السردي الذي يسبق الإنجاز.
وبالمثل، إذا كان الإنجاز يوافق، رغم القيود المذكورة، العمل كـ"فعل ـ كينونة"، فإن الكفاءة يمكن أن تصاغ في السجل الحدسي نفسه كشرط ضروري للفعل، باعتبارها "توجد الكينونة".
ولكن وعلى عكس ما يجري حين نريد إحاطة مفهوم الإنجاز، فإن تحديد الكفاءة لا يمكن تحصيله انطلاقاً من نموذج ب.س وملفوظ الفعل الذي يشكل نواته: فالكفاءة هي التي "توجد الكينونة"، فهي من فئة "الكينونة" وليس من فئة "الفعل"، وبالنتيجة فإن بنية ملفوظ الحالة هي التي يجب أن تؤخذ كنقطة انطلاق لفحصها (أي الكفاءة)، والفاعل الكفء يجب أولاً أن يحدد بمساعدة الخصائص اللصيقة به والتي تشكل كماً كافياً من القيود التي تخصصه كفاعل حالة.
أ ـ يجب أن يكون بحوزة الفاعل الكفء ب.س. يحتمل أن ينجزه، أي برنامج يمكن أن تكون له وضعية ب.س. محين (وليس منجزاً)، وذلك بالنظر إلى نمط وجوده السميائي:
ف ∩ ب. س(ح): ح= محين
نقر: فاعل ذو برنامج سردي محين.
ب ـ يجب، من جهة أخرى، أن يكون الفاعل الكفء متصفاً بميزات تحقيق هذا ب.س، مما يعني أنه يجب أن يمتلك جملة من مكيفات الإرادة و/أو الواجب و/ أو معرفة الفعل.
وبصفته فاعل ـ حالة يجب على الفاعل الكفء بالنتيجة أن يكون في وصلة مع موضوع مستثمر بمركب من القيم الكيفية وليس الوصفية:
ف∩م ق (إ/و + ق/م).
(إرادة/ واجب/ قدرة/ معرفة).
الموضوع الكيفي المعني مكون من مجموعة من التحديدات الإضافية للفعل، أي خصائص ينبغي أن يمتلكها الفعل قبل أن يصبح فعالاً وقبل أن ينجز: ومن خلال اتصاله بهذا الموضوع، يبدو الفاعل الكفء متصفاً بفعل محين، أي كفاعل سميائي بالقوة.
ملاحظة: لتفادي سوء تفاهم محتمل، ينبغي الإشارة بأننا ـ بما أن المقاربة البنيوية التي نتعاطاها والخاصة بنا نفهم هنا من "كفاءة" الفاعل، توليفة من الكيفيات الموافقة (المقارنة: من أجل نظرية في الكيفيات في Langages سبتمبر 1976): الكفاءة ليست دائماً إيجابية: يمكن أن تكون غير كافية بل وسلبية، تماماً مثل الأداء يمكن أن ينجح أو ينتهي إلى الفشل.
هذه ـ هنا ـ شروط عامة تحدد حالة الفاعل المستعد للمرور إلى الفعل في الوضع الذي يسبق مباشرة الإنجاز مع أن اعتبار الكفاءة كحالة ـ إذا سمح بمباشرة وصفها ـ لا يستنفذ بصورة تامة إشكاليتها. يجب أن تفسر الملفوظات التي تصوغ هذه الحالة بأنها مقودة من قبل ملفوظات الفعل التي تبرز التحولات التي انتهت إلى تشكيل "حالات أشياء"، بتعبير آخر: وجود الفاعل الكفء يأخذ المشكلة ويقتضي آلية تكوين الكفاءة. والحكاية البروبية أعلاه، وهي تكشف بقوة الاختبارات المؤهلة الكثيرة و المتنوعة التي نجدها مطورة فيها، فإنها تشهد على الأهمية التي تعلقها الحكاية على اكتساب الكفاءة.
لا عجب إذاً في تشكيل الكفاءة التي، إذا تم تكوينها تبدو كـ"حالة" للفاعل، تقترض الشكل التركيبي المتوقع من متوالية للـ ب.س متوجهة إلى إنتاج اغتنائها التدريجي. في حين وعكس ما يجري في أثناء الداء أين يوجد الفاعلان ـ فاعل الفعل وفاعل الحالة ـ مجتمعين، الفاعل المنفذ يظهر هنا كوضعية تركيبية في الخدمة، قابلة لأن تشغل من قبل ممثلين مختلفين.
بين المنح البسيط للمرسل والمؤهلات المكتسبة بكفاح عال من قبل الفاعل نفسه ـ تمثيلان متخيلان متقاطبان لمنابع الكفاءة، توافق في الجملة متتالية من التقسيمات الثنائية مثل: الحتمية والإرادة الحرة، الفطرية والاكتساب ـ تتموضع أشكال غامضة، مفردات معقدة بهيمنة الواحد أو الآخر من القطبين: والمثال الأجمل فيها هو هذا الاختبار المؤهل ـ خاصية القصة العجيبة ـ الذي يتضمن القتال المتظاهر الذي يجعلنا نعتقد أن الفاعل يجعل نفسه كفئاً، بواسطة وسائله الخاصة والذي يسمح بظهور في نفس الوقت تحت قناع الخصم ـ صورة المرسل، أي المانح الحقيقي للكفاءة.
3 ـ التصور الحركي للبنيات العاملية:
تصور مجدد للعامل السميائي ينبثق بتدرج من فحص المسار السردي الذي كنا بصدد إحاطة هيئتين منه ـ الكفاءة والإنجاز ـ متسلسلتين منطقياً.
معترفاً به بداية كافتراض مولد للكينونة والفعل، وقابل للتمفصلات التصنيفية، يبدو العامل الآن حاملاً لتحديدات مركبية تكميلية.
لنأخذ حالة الفاعل السميائي: لقد رأينا بأن الفاعل ـ حسب كونه مسجلاً كحاضر داخل الواحدة من المكونات أو الأخرى ـ يقال عنه بأنه كفء أو منجز، هذا التمييز يبقى مع ذلك غير موضح تماماً: فمن وجهة نظر مركبية، ينجز الفاعل مساراً سردياً مكوناً من متتالية من الحالات وفق الترسيمة السردية المتوقعة، وكل حالة تتميز من سابقتها بفعل تحويل مسبب لانقطاعات قابلة للملاحظة.
وبالنتيجة لا يكفي الحديث عن فاعل سميائي بشكل تجريدي، بما أنه مؤسس بمفاهيم مشخصنة وحضور دائم للكينونة، ثم هل يجب تدقيق موضعه المركبي في كل مرة (من خلال فهمه كوضع لحالة الفاعل بالنسبة لمجموع المسار) والوضعية الكيفية التي تميزه في كل مرحلة من هذا المسار (الفاعل الكفء، هو كذلك بالتتابع، مثلاً، حسب الإرادة، القدرة، معرفة الفعل) وهكذا، وبما أن المسار السردي ينقسم إلى متتالية من الحالات السردية، نفهم الدور العاملي كتحديد موضعي وكيفي في الوقت نفسه لكل من هذه الحالات.
تظهر صعوبة أولى حين نريد إحاطة هذا التصور الحركي للعامل السميائي: إننا ننتبه بسرعة إلى أن الفاعل ليس تتابعاً بسيطاً للأدوار العاملية التي يتحملها ولكنه ـ بالعكس ـ في كل حالة من المسار المجموع هو المنظم للأدوار العاملية المكتسبة طول المسار السابق، وبأن البطل مثلاً ليس فقط الفاعل ملتقطاً في اللحظة التي يخرج فيها منتصراً في قتاله الرئيسي، ولكن خلفه ماضياً كاملاً هو الذي منذ طفولته وعبر الاختبارات جعله على ما هو عليه الآن.
إن ههنا واحدة من أكبر الصعوبات، ولكن أيضاً الفائدة الرئيسية للسميائية الخطابية: فالخطاب وعلى عكس الجملة المنعزلة يمتلك "ذاكرة"، فإذا قلنا من زاوية نظر معينة بأنه مكون من تتابع ملفوظات، فيجب مباشرة إضافة بأنه مثل "Si" الفرنسية التي تقتضي "non" سابقاً عليها، فالملفوظ المسلوك داخل استمرارية الخطاب "يتذكر" بأن حالة محددة تقتضي حالة كامنة سابقة. ينتج عن هذا نوع من اللا تجانس ـ أو الطبيعي؟ ـ بين تحليل الخطاب السردي والنحو التحويلي الذي لا يعالج إلا التحولات بين ملفوظات قابلة لأن توضع في تواز، وليس متتاليات منتظمة من الملفوظات، وهنا أيضاً تكمن صعوبة الاستفادة ـ في هذا الجنس من التحليل ـ من قواعد مجربة من الحساب المنطقي الذي يستند إلى مبدأ استبدال الملفوظات أو المقاطع الحشوية.
يسهل الآن تمييز الدور العاملي عن الوضعية العاملية: فبينما لا يكون الدور العاملي إلا الإضافة التي تزاد ـ في لحظة معطاة من المسار السردي ـ إلى ما كان قد كوّن العامل عقب التقدم المركبي للخطاب، فإن الوضعية العاملية هي ما يحدده (أي العامل) باعتباره إجمالاً لمساره المتقدم، متمظهراً أو كامناً.
وكذا المساعد مثلاً، فهو ممثل يتحمل دوراً عاملياً للفاعل الذي يكون منفصلاً عنه باعتباره ممثلاً أيضاً، فالوضعية العاملية ـ في لحظة اكتساب المساعد ـ تتكون من مساره السابق الخاص به إضافة إلى المساعد.
4 ـ صيغ الوجود السميائي:
من أجل أن نكون واضحين، استعملنا ـ لكي نضيء إشكالية تنظيم الأدوار العاملية ـ أساساً، الأمثال المأخوذة من مقطع من المسار أين يوجد تكوين الكفاءة متموضعاً، أي في العمق، تلك الكفاءة التي تهم الفاعل السيميائي باعتباره فاعل الفعل. من زاوية النظر هذه ـ باعتباره هيئة مولدة لأعمالها ـ فإن الفاعل يمر تباعاً على ثلاثة صيغ مختلفة للوجود السيميائي: فاعل افتراضي (كامن)← فاعل محين ← فاعل متحقق: ثلاث حالات سردية، الأولى منها مسبقة على اكتساب الكفاءة، والثانية تنتج عن هذا الاكتساب، والأخيرة تعين الفاعل وقد أنتج العمل الذي يصله بموضوع القيمة ويحقق هكذا مشروعه.
بينما يستطيع الفاعل السيميائي أيضاً بصفته فاعل الحال أن يعدَّ افتراضاً قابلاً لاكتساب "قصته" الخاصة به، لكن فاعل الحال يتحدد أساساً وفقط بعلاقته مع موضوع القيمة، وهي علاقة خاضعة لمتغيرات طوال المسار السردي، هكذا ـ وبمعزل عن الاستثمارات الدلالية التي يمكن أن تتلقاها مواضيع القيمة، يمكن أن نتكلم عن وضعيتها الكيفية وعن صيغ وجودها السيميائي. إذا كان موضوع لا يصبح قيمة إلا باعتباره إسقاطاً لإرادة ـ كينونة الفاعل، أي يتمتع بالوضعية الكيفية لـ "كينونة ـ مرادة"، نستطيع التصور بأنه قبل أن تصبح قيمة للفاعل، لم يكن لها أقل من وجود افتراضي داخل الكون القيمي المدعم عاملياً من المرسل.
نستطيع القول مواصلين: بأن تحمل التبعة من قبل الفاعل وانخراطه داخل البرنامج السردي يحين القيمة، التي يحققها اتصالها مع الفاعل، ويعيد تنازل افتراضها أو أن فصلة مفروضة تعيد تحيينها، هكذا نجد مرة أخرى ليس فقط الصيغ الثلاثة للوجود السيميائي لمواضيع القيمة:
موضوع افتراضي ←موضوع محين ← موضوع متحقق
التي توافق المسار العام للفاعل وتحدده بهذه الكينونة، ولكن أيضاً تطورات أخرى ممكنة انطلاقاً من الإنجاز، أين تحدثُ تنازلاتٌ عن المواضيع إطالات للترسيمة السردية، وأين تخدمُ افتقارات جديدة من المواضيع محاور سردية تكون مبررات لانفتاح مسارات جديدة؟!..
IV ـ آفاق جديدة:
1. بعض الاستنتاجات:
أ ـ نستطيع أن نستشف جيداً من أجل التحليل النصي إمكانات التطبيق لمثل هذا التنظير لمسارات الفاعل السردية: فهذه المسارات مأخوذة مع مجمل متغيراتها، يمكن أن تعدَّ نماذج للتوقع وتسقط على نصوص خاصة متمظهرة، سامحة بهذا بمعرفة أي نمط من المسارات وأي مقطع من المسار يقابل النص ـ الوارد. إذا تمت معرفة "البنية الكبرى" للنص فإنه من السهل مباشرة تحليل "البنى الصغرى" باستعمال الوسائل المتبلورة في إطار التركيب العاملي (ملفوظات الفعل، وملفوظات الحالة وبرنامج سردي الخ..).
ب ـ يمكن أيضاً أن يوجد استغلال نظري أبعد لمعرفة المسارات، فقد رأينا بأن من الممكن ـ في معزل عن المضامين المستثمرة داخل الخطابات السردية وعن أنظمة القيم التي تسهم في بنائها ـ التعرف على الفواعل في كينوناتها (داخل علاقاتها بمواضيع القيمة) وفي قدرتها على الفعل (على إنتاج أحداث منظمة في أفعال)، كل فاعل له القابلية لأن يتصف بتحديد كيفي وموضعي في الآن ذاته، أي تحديد شكلي وليس جوهرياً.
إن السميائية السردية تمنح بهذا جهازاً إجرائياً من أجل تكوين نمذجة الفواعل السميائية، مساهمة بهذه الوسيلة في بلورة سميائية للثقافات.
ج ـ من جهة أخرى، كشف لنا فحص الترسيمة أن هذه الترسيمة متمتعة ببنية تبادلية و/أو نزاعية تبرز فواعل بكفاءات مختلفة ومقصديات صراعية غالباً وتجعلها في مواجهة. وانطلاقاً من نمذجة الفواعل ذوي الصيغة التصنيفية، فإنه يمكن بناء تركيب متحرك يتصور كاستراتيجية للاتصال بين فواعل أكفياء يتبادلون مواضيع قيمة.
د ـ هذا الفحص المختصر والملخص يسمح بقياس الطريق المقطوع منذ إعادة اكتشاف التحليلات الأولى لبروب في فرونسا، فحص تميز ببلورة جهاز وسائل منهجي أكثر صرامة من خلال توسيع الإشكالية السميائية كذلك. في حين، إذا كان السيميائي في مجال سميائية الحدث كما أتينا على تسجيلها، لديه أحياناً الانطباع بالتقدم بقدم ثابتة، فإن حقولاً أخرى، لا تقل عنها أهمية، تبقى عذراء.
2 ـ التأطير القيمي:
في إطار جهدنا لشرح النموذج البروبي، انطلقنا من النواة المركزية، المكونة من تتابع اختبارات، وفسرناه كمسار لفاعل، معتبرين إياه ـ بفعل حضور مواجهة بين الفواعل ـ مكاناً مفضلاً للترسيمة السردية. في حين يبعد أن تكون هذه النواة كل الحكاية؛ إنها على العكس مغلفة في مستوى تراتبي أعلى ببنيات عاملية وسيرورات سردية ذات طبيعة أخرى.
هكذا تفرضُ علينا مضاعفةُ الحكاية وحدها كخاصية للقصة العجيبة، قبول وجود نوع من التنظيم الاقتصادي يشمل الحكايتين: فمساراتهما السردية ـ مسارات الفاعل، ومسارات الفاعل المضاد ـ تنمو في اتجاهات متضادة وتختزل في صيغة تعويضية، بمقتضاها يكون تحطيم النظام الاجتماعي متبوعاً بالعودة إلى النظام والانحراف يُقوَمُ بالتصالح مع القيم المفقودة.
كل شيء، يجري وكأن التنظيم السردي يخضع لمبدأ تواز يتعالى ويوجه الأنشطة الإنسانية المنجزة من قبل الفواعل.
وما هو صحيح بالنسبة لتقاطع مسارات الفواعل، هو أيضاً صحيح بالنسبة للمكون: الحدث مأخوذٌ بمفرده، إنه يعلن عنه ويؤطر بواسطة البنية التعاقدية التي تهيمن على سير الحكاية: العقد المبرم منذ البداية بين "المرسل" و"المرسل إليه ـ الفاعل" يوجه المجموع السردي، وباقي الحكاية، يبدو إذاً كتنفيذ له من قبل الطرفين المتعاقدين، ومسار الفاعل ـ الذي يشكل إسهام المرسل إليه ـ يكون متبوعاً في الوقت نفسه بالتقويم التداولي (مكافأة) والمعرفي (الاعتراف) من قبل المرسل.
عمل الفاعل يوجد ـ بالنتيجة ـ مؤطراً بمقطعين تعاقديين: إقامته وإجازته، واللذين يتبعان هيئة عاملية غير الفاعل: نقول بأنه يوجد بداية هيئة أيديولوجية للإعلان عن الحدث، وفي النهاية هيئة جديدة لتفسيره ومماثلته مع الكون القيمي الذي تتحكم فيه.
وعلى شاكلة اللغة التي ـ تعدُّ نظاماً ـ تؤسس وتُعلِّم الكلام باعتباره تطبيقاً للسان، فإن عمل الإنسان يبدو ـ في هذا الأفق ـ بلا معنى، إلا إذا انخرط داخل كون القيم الذي يحيط به. إننا نعرف الإجبارات التي يفرضها ـ على هذا الشكل من المخيال ـ التركيب السردي للسطح بمطالبته وضع عوامل مشخصنة. صورتان للمرسلين ـ مجموعين عادة في "عامل ـ نمطي" ـ تبدوان هكذا: الأولى واضعة للقيم التي تبحث عن انخراطها داخل برامج العمل، الثانية كقاض على امتثال الأفعال بالنسبة إلى نظام القيم المرجعي.
3 ـ مسارات المرسلين:
هكذا يغتني فحص المسارات السردية بإشكالية جديدة لا تزال غير تامة الاكتشاف، وتظهر الترسيمة السردية مكونات جديدة نستطيع البحث عن الإلمام بها وتفسيرها كمسارات سردية جديدة منجزة ليس من قبل فواعل، ولكن من قبل عوامل جدد معينين كمرسلين سميائيين.
لقد سجلنا آنفاً بعض الفروقات التي توجد بين نمطين من المسارات، لنخلصها باختصار:
أ ـ من زاوية نظر مركبية: الترسيمة السردية تتقدم في مجملها كمسار مضاعف للمرسل حيث يغمر مقطعاه ـ الأصلي والنهائي ـ مسار الفاعل. هذه الخاصية الشكلية لاتنبئنا أبداً عما إذا كنا لا نستطيع ربطها بخصائص سردية أخرى. يجب إذن إضافة أن مسار المرسل يتموضع فوق البعد المعرفي للترسيمة، وبأن المرسل يمارس هنا فعلاً معرفياً، على عكس البعد التداولي لمسار الفاعل والفعل (الحدثي) الوقائعي الجسماني المتمظهر فيه.
ب ـ العلاقة الموجودة بين فاعلي الفعل تبدو لنا ذات نمط تعاقدي، لكون الترسيمة مؤسسة على تبادل مضاعف، تبادل تعهد في البداية، وتبادل برامج التنفيذ لاحقاً، في حين أن العقد الذي يربط بينهما ليس تعادلياً، وعلاقة تراتبية تبقى ضمنية داخله، فليست بنية التبادل بالنسبة للمرسل إلا الإطار الذي يجري فيه اتصاله التشاركي: فبينما الفاعل يلزم ـ في التبادل ـ مجموع فعله وكينونته، فإن المرسل سيد كريم، إذا أعطى كل شيء فلن يخسر شيئاً من جوهره.
ليست هذه ـ مع ذلك ـ إلا خطوطاً سطحية عرفت خلال فحص الترسيمة البروبية تحديدات أدق لا تظهر إلا إذا اعتبرنا مقطعي مسارات المرسل ـ أصلي ونهائي ـ منفصلين كلا على حدة.
إذا لم نأخذ إلا المقطع الأول من هذا المسار، نلاحظ فوراً بأن الفرق بين المرسل الأصيل والفاعل يكمن في وضعيتهما الكيفية على التوالي: فبينما الفاعل السيميائي يتحدد كفاعل الفعل من خلال قدرة الإحداث، "فعل ـ إيجاد" الأشياء، فإن المرسل معتبراً من نفس زاوية النظر هذه ـ هو الذي "يفعل ـ الأحداث"، أي الذي يمارس فعلاً يستهدف إثارة فعل الفاعل. مثل هذا التحديد للمرسل السيميائي المتميز بوضعيته الكيفية التفعيلية (يفعل الفعل المحدث للحدث) وموضعه المركبي كمتقدم على الفاعل، يسمح باعتبار مسار هذا المرسل كوحدة سردية مستقلة وبفصله عن ترسيمة بروب، أين يظهر مجمداً كتعبير عن نوع من الأيديولوجية التي ليست إلا متغيراً خاصاً من بين العلاقات الممكنة بين المرسل والمرسل إليه ـ الفاعل.
هكذا تبدو العلاقة بين المرسل والفاعل داخل الحكاية البروبية، حكاية تراتبية مؤسسة، والعلاقة: مُهَيْمِنٌ/ مُهَيْمَنٌ عليه التي تميزها، معطاة فيها مسبقاً. بينما من الممكن ـ ويبدو ذلك ضرورياً ـ قلب مصطلحات المشكلة: فعوض اعتبار القدرة موجودة مسبقاً على فعل ـ الفعل وتمثل مصدره، نستطيع ـ على العكس ـ الافتراض بأن "فعل ـ الفعل" أي تحريك فواعل لفواعل أخرى هو فعل موحِدٌ لعلاقات هيمنة ومصدراً للقدرة المؤسسة. والتشجيرات السردية لـ"المدح" و"المساومة" تسمح حتى بأن تكون هناك أمثلة ـ مضادة لقدرة ثانية تغطي العلاقات التراتبية الموجودة مسبقاً.
نفهم من الآن، بأن المسار السردي للمرسل ـ محدداً هكذاـ يمكن أن يظهر ليس فقط كمكان لممارسة القدرة المؤسسة، ولكن أيضاً كمكان تباشر فيه مشاريع التحريك وتتبلور البرامج السردية التي تستهدف حمل الفواعل ـ أصدقاء أو خصوماًـ على ممارسة الفعل المطلوب.
إذا كانت كيفية "فعل ـ الفعل" في مستوى معين ـ أين يتشكل العاملون الجماعيون ويمارسون ـ قادرة على تحديد التحكم في الرجال، فإن بنيات كيفية مشابهة تستطيع إبراز تحكم الرجال وللرجال: ومنه القول بأن المسار السردي المعني هو بناء شكلي قابل لأن يكون مستثمراً بأيديولوجيات مختلفة، إنه القول أيضاً بأن المسار السردي ـ باعتباره كذلك ـ غير مهتم بنمط العوامل التي هي المرسل أو الفاعل المتمظهر: دول، مجتمعات، مجموعات اجتماعية أو أفراد.
إذا اعتبرنا الآن المقطع النهائي للمرسل، ننتبه إ لى أن صورة المرسل التي تنبع منه مختلفة تماماً: إنه لم يعد المحرك الأكبر، السيد "Varun" للكون الحاضر فيه، ولكنه ملك على شاكلة "Mythra" ، حارس العقود وسلامة العلاقات الإنسانية وعلى حقيقة الأشياء والكائنات. والفعل الذي يمارسه يبدو مضاعفاً:إنه يعني أولاً فعلاً معرفياً للتعرف، أي تعريف الأعمال المنجزة وطرائق الكينونة المقدمة وفق معايير سلم القيم التي يتحكم فيها. إنه قاضي مواءمة الأعمال والكائنات، أعمال الفواعل الموائمة للنماذج المؤسسة مسبقاً تعتبر صحيحة، أحكام الوجود التي يعرضها عليه الفواعل إذا كانت موائمة للمعايير المقررة تصبح صحيحة.
البنية الكيفية التي تميز مثل هذا المرسل إذا وبداية هي معرفة ـ الفعل، النمط الثاني للفعل الذي يتلو الملاءمة المقررة من خلال الاعتراف، مغطى بمصطلح الإجازة، مصطلح معقد وغامض، لأنه يعين في نفس الوقت حكم المواءمة المعتبر كفعل معرفي، وممارسة السلطة (مكافأة) وفعل ـ المعرفة (الاعتراف العلني بأعمال الفاعل)، ومجموع هذه الكيفيات موجه بإرادة أصيلة.
نرى كيف يكون ممكناً ـ بانفصالنا تدريجياً عن الصورة السيادية ـ الديموزيلية أكثر منها بروبية ـ لهذا المرسل، يكون ممكناً إعطاء المسار السردي، الذي أتينا على رسم خطوطه الكبرى، وضعية في الوقت نفسه أكثر استقلالية وأكثر عمومية. هنا ومثلما كان أثناء فحص المسار الأول للمرسل، نجد أنفسنا في حضور تصور موروث عن تقليد خرافي وفولكلوري لسيادة مطلقة، مقررة بلا منازع: مرسل معرفي، مالك وحيد للعدالة وللحقيقة، يهيمن إذاً على مجمل المسار. لكن مفردات الإشكالية يمكن أن تقلب بسهولة، والهيئة المعرفية ذاتها تصبح نسبية.
إذاً، وعوضاً عن مرسل متوافر على معرفة وعلى معرفة ـ فعل مضمونين، تخيلنا مرسلاً يوجد في حالة بحث عن معرفة حقيقية، ويمارس نتيجة هذا فعلاً تأويلياً دائماً، المسار السردي الذي نخطه ـ بعيداً عن أن تهيمن عليه نظرية الحقيقة المقررة (ليست إلا طريقة لفهم هذا المسار) ـ يكون متميزاً بالبحث عن شروط الحقيقة والتقويم الممارس بسيادة من طرف المرسل المطلق تظهر كواحد من الأشكال الممكنة لانضمام المرسل إلى صورة العالم الذي قدم له، انضمام يُقوِمُ بحث المتحري،عمل الباحث العلمي وبحث المؤمن.
أهما مساران سرديان لكل واحد منهما مرسل مختلف كفاعل؟ أم مقطعان مستقلان لمسار واحد هو نفسه الذي يترسمه تباعاً مرسل واحد؟ كل إجابة في هذه المرحلة من البحث، تكون مغالية، ولا تأتي بشيء لفهم الآليات المعرفية. الميدان لم يمهد بعد والتحري ليس إلا في بداياته.

مقاربة سيميائية لرواية القيامة الىن لابراهيم الدرغوثي

مقدمة
في الحقيقة تتعدد المفاهيم و التعريفات حول موضوع السيمولوجيا والسيمياء، المصطلح مجمل في ذاته بعض الغموض الذي قد لا يمنح له تعريفا محددا إن ما يهمنا في هذا الإطار تحديد أهداف هذا العلم، حتى نتمكن من الوصول إلى نتائج سليمة أقرب إلى الصواب فعلم السيمياء يهدف إلى دراسة المعاني الخفية لكل نظام علاماتي فهو يدرس لغة الإنسان و الحيوان و غيرها من العلامات الغير لسانية باعتبارها نسقا من العلاقات و يدخل في هذا الإطار علامات المرور و أساليب العرض و اللوحات الإشهارية.........الخ.
إن اللجوء إلى المقاربة السيميائية يعتبر خطوة هامة في مسار الاتصال والتواصل إذ انه ينتج المجال لتحديد القيم الدلالية و العلامات و من ثم فتح قنوات الاتصال و نحن إذا أردنا إتباع هذه المنهجية فإننا سنكون في حاجة ماسة إلى معارف كثيرة لإدراك كل الإيحاءات التي يثيرها نص ما.
إن المستوى الأول من القراءة مرتبط بادراك ما تحمله النصوص بكل أبعادها وهو تعامل ظاهري مع النص قد لا يسهم في فتح أبواب كثيرة عليه أما المستوى الثاني فهو ذلك المستوى حيث نقوم بالتأويل والتدليل.
إن أهمية علم الدلالة تكمن بوجه خاص في الكشف عن حركية الدلالة وإبراز مستوياتها ومن ثم إعادة بنائها بهدف تعيين الوحدات الدالة وتنظيمها وفق سلم تراتبي( 2)إذن فالعمل التحليلي السيميائي مبني على إتباع المعنى ومطاردته بين متاهات الكلمات. إن تأويلنا للنص يختلف باختلاف تجاربنا ومعارفنا لكن الأكيد أننا بحاجة إلى أدوات إجرائية تسهم في إنارة دروب التحليل إذ تستهدف استقراء النظام الدلالي, لذلك فالتطبيق يتطلب نوعا من الإلمام بالمفاهيم التنظيرية لكن تتبع هذا الجانب قد يجعلنا نغوص فيه فنبتعد عن عملنا التطبيقي إذ أن الدراسات التي تناولت السيميولوجيا كثيرة الاتجاهات والتفرعات لذلك فلقد فضلت ذكر تعريفين لهذا العلم ق****ا اثنان من أساطين الدراسات السيميائية أولهما هو لدي سوسير الذي يعرف السيميولوجيا بأنها العلم الذي يعرف السيميولوجيا بأنه العلم الذي يدرس حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية من خلال عدم الفصل بين مادة التعبير ومعنى التعبير وهي تقترب من المحتويات وتحاول الابتعاد شيئا فشيئ عن الدلالات...(1).
وهكذا فان السيميولوجيا تهتم بإيجاد العلاقة بين العلامة والحياة الاجتماعية متطرقة بذلك إلى نقطة مهمة هي المحتوى أما التعريف الثاني فهو لرولان بارت الذي يرى بأن السيميولوجيا هي ذلك العمل الذي يصفي اللسان ويطهر اللسانيات وينفي الخطأ مما بعلق به أي الرغبات والمخاوف والإغراءات والعواطف والاحتجاجات والاعتذارات وكل ما تنطوي عليه اللغة الحية.(2)
ياله من تعريف غريب يكاد يضفي على السيمولوجيا صفة القدسية لكنه تعريف يحاول تحرير النص من السلطة وجعله يسير وفق الدلالة المتعددة بحيث تكون العلاقة بين الدال والمدلول علاقة تطهير ترفعه عن كل ما قد يشوبه من الخارج
إن الغرض الذي يحمله كل محلل لنص ما هو إلا محاولة لفهم النص وتفسيره من خلال مكوناته بالدخول إلى عالم النص وإضاءة جوانبه المظلمة وكشف أسراره اللغوية بحيث نبني فرضية حول نظام البناء فيه وطريقة ترتيب مكوناته وإدراك العلاقة التي تربط بينها.
إن العمل الأدبي أيا كان نوعه هو نتاج رمزي قد يكون بسيطا يسهل القبض على معانيه وقد يكون معقد التركيب ذو وجود متميز متعدد المستويات والدلالات والأبعاد مما يجعل التأويل متعددا والقراءة شاسعة المجال و هكذا فإن الدراسة السيميولوجية تحاول تحديد البناء الدلالي للنصوص هذا البناء الذي قد يتخذ في أغلب الأحيان من المنطق الصوري وسيلة تحيل إلى الدلالة من خلال العلامات التي تؤدي إلى مجموعة من الإحالات التي لا تنتهي، لذلك علينا أن نتجاوز ما تدل عليه الألفاظ ويحدد "روبرت شولتز" ذلك بقوله "و كمسؤولين سيميائيين لسنا أحرارا في وضع المعنى بل أحرار في العثور عليه بإتباع الطرق الدلالية والنحوية والتداولية المختلفة التي تخرجنا من نطاق كلمات النص أي أننا لا نستطيع أن نضفي عليه كل المعاني التي قد نستطيع ربطها بالنص عن طريق الشفرة التأويلية1
تمهــيد
" رواية القيامة....الآن " رواية تنقلنا إلى عوالم ما اعتدنا أن نفكر فيها إلا في إطار معرفتنا الدينية بها إنها عوالم ذات حيثيات مختلفة تحمل الكثير إنها رواية تنتمي إلى ما يسمى بالرواية الجديدة التي انتشرت في تونس منذ 1983 بصدور رواية "ن" لهشام القروي " و"النفير والقيامة " لفرج الحوار 1985...الخ إن هذه الروايات تحمل صفة الجدة إذ أنها تخرج عن إطار خصائص الآثار الروائية عل صعيد السرد العربي وقد اعتبرت تيارا عاما جمع بعض الروائيين الذين نهلوا من الثقافة العربية والغربية وكان لهذا النوع أثر في بناء موطن لحوار ثقافي متعدد الأطراف
إن الرحلة بين صفحات الرواية تجعل القارئ يتساءل هل يمكن إطلاق تسمية الرواية على هذا العمل ؟ إنه لا يملك أي من مقومات الرواية المتعارف عليها فهيكله مختلف تماما هل هذا العمل مجرد لوحات عبثية أفلتت من عقال الكبت السياسي والإرهاب الفكري الذي مورس على العالم العربي لعقود طويلة ؟ إن قراءة الرواية تصيبنا بالارتباك فالرواية مدعمة بآيات و أحديث واردة عن النبي صلي الله عليه و سلم في أخبار القيامة لكن توظيف هذه النصوص كان توظيفا غريبا فيه جرأة غير معتادة. رواية الدر غوثي و إن لم تكن مثل الروايات المألوفة إلا أنها كانت ذات أصوات متعددة و فضاءات متشعبة إنها تمثل مستوي من الوعي إذ أنها تجسد تفاعلا بين الأزمنة الثلاث نقرأ الرواية فيمتلكنا شعور غريب حولها قد يكون مصدره الأول هذه المرجعية المقدسة.
هذه الرواية بقدر ثرائها و دلالتها المتعددة و رموزها و معانيها و ثوبها الفضفاض الذي استوعب الزمن بكل أبعاده، الزمن الأسطورة، زمن الواقع، زمن الخيال، زمن الممكن ولا ممكن لقد اكتست حلة من الغموض ارتأينا أن نعيد أسبابه إلى ما يلي:
1- اختفاء البنية التقليدية للرواية بكل جزئياتها.
2- تعدد السياقات النصية.
3- حضور النص الديني بقوة مما يربك الدلالة.
4- الأجواء التي تدور فيها الرواية أجواء تزرع الشك حول الدلالة التي قد نتوصل إليها.
و لكي تكون الدراسة ذات نتائج جديدة ارتأيت أن أركز في جانب كبير منها على البنية الدلالية و حددت موضوع الدراسة بعنوان مقاربة سميائية لرواية «القيامة.....الان" لإبراهيم الدر غوثي و قد قسمت الدراسة إلى ثلاثة مباحث و تمهيد وخاتمة.
مبحث أول تطرقت فيه إلى الرؤيا والتوظيف حاولت فيه أن اكتشف الرؤيا الكامنة خلف الرواية و طرق توظيف المعاني و قسمت هذا المبحث إلى عنصرين هما....
قراءة سيميائية للعنوان: حاولت فيه أن القي الضوء على العنوان و مدى تفاعله مع نص الرواية ثم انتقلت في العنصر الثاني إلى الكلام عن الرؤيا و التوظيف أنه عنصر حاولت فيه أن أدرس البنية المنطقية التي تحكم النص و الأطراف التي تتجاذبه ثم انتقلت إلى مبحث ثاني حاولت فيه دراسة الإحالة المرجعية للنص و عنونته بـ" النص سيميائية المرجع و الفرار من الواقع" و قسمته إلى ثلاثة عناصر تحدثت فيه عن الإحالات الدينية و الثقافية والإيديولوجية حيث أفردت لكل إحالة عنصر مستقلا أما المبحث الثالث فهو يدرس العلاقة بين اللغة والصورة و عنونته بـ" اللغة و سيمياء الصورة" حاولت فيه أن استكشف طريقة بناء المعنى و تضافر عناصره لإعطاء دلالة كبرى و قسمته إلى العناصر التالية: عنصر أول تحدثت فيه عن الألفاظ و علاقتها ببناء المعنى ثم انتقلت إلى عنصر ثاني حاولت فيه تحديد معالم بناء السيميوزيس ثم انتقلت إلى الحديث عن الزمان و المكان حيث أردت تسليط الأضواء على المكان و الزمان في هذه الرواية ثم أنهيت هذه الدراسة بخاتمة لخصت فيها ما توصلت إليه من خلال قراءتي المتواضعة لهذا النص.
القيامة…الآن: منطقية الرواية و سريالية التوظيف.
1- العنوان: قراءة سميائية.
العنوان: قراءة سيميائية:
عنوان الرواية " القيامة.....الآن " غريبا يصعب فك ثغراته واستقراءه وفهم أجزاءه يستوجب أن نحاول تفكيكه إلى عناصر بسيطة قد توحي بالمعنى الكامن إن العنوان مكون من كلمتين تفصل بينهما مجموعة من النقاط. لفظة القيامة تحملنا مباشرة إلى التفكير في نهاية العالم لكنها بداية لحياة أخرى إنها بداية الحساب.... بداية الثواب والعقاب تغير يلحق كل شيء....إنها انقطاع للحياة الدنيوية الفانية واتصال بالحياة الأخروية الدائمة...إنها المستقبل الكائن منذ البداية.. زمنها غير محدد لكنه آت لا محالة...هي مرتبطة بالمستقبل لكن هذه اللفظة المرتبطة بمستقبل معين ترتبط في بنية لفظية بظرف زماني يفيد الحاضر " الآن" الدالة على الوجود, على الحضور إن هذه البنية غير المتجانسة بنية عميقة الدلالة فالروائي لا يسير ضمن حدود الزمن ولا يعترف بها... إنه يرفض الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل يلعب على الزمن محدثا نزعا من القطيعة مع الحاضر والماضي...إن القيامة هي الآن نظرا لما يحدث في العالم...القيامة تمارس السلطة على الآن " إن الحاضر أقرب إلى القيامة فالوضع العام متأزم ملتهب غير متوافق مع المنطق وهكذا فإنه أولى أن يرتبط بالقيامة الحاضر المظلم هو بكل ما فيه من تناقضات ومفارقات لا يفسر إلا إذا قرأناه من منطلق أن القيامة قامت.
2- الرؤيا والتوظيف
الواقع أن الموقف الذي يكتف الذات هو المؤطر الأول للمشاهد التي احتضنتها دلالات الرواية إن الأفكار توجه والأحاسيس تثور وتنقل الحاضر إلى الماضي ومن ثم إلى المستقبل من الحياة اليومية إلى الحياة البرزخية الماورائية خارج حدود الزمان والمكان تتمخض الرؤية المغلفة بالرمز لتجد لها مكانا وزمانا مختلفين، هذه الرؤية التي تقوم بين الواقع ولا واقع بين الموجود و المغيب تمسك بالماضي المخزي والواقع المعيب ونرى الخلاص في المستقبل الغائب رؤية قلقة يكتنفها الغموض تجعل الذات مذبذبة بين الوافد إليها من الخارج ماضيا و حاضرا سياسة و دينا واشتراكية و إمبريالية و بين الصاعد من الداخل شعور بالاغتراب و الانشطار...رفض للماضي و الحاضر و انتصار للمستقبل إن هذا النص مبني على ثنائيات متعددة تملك سيرورة خاصة ضمن النص كما أنه مبني على الغموض، إنه غموض يخلق موقفا، خروج عن المألوف يحمل القارئ على الولوج إلى خبايا النص كي نفهم الموقف أو المواقف التي يحملها .أقنعة النص التي تحمل تعارضا و اختلافا ليس إلا مرافئ حط بها الروائي ليقرأ الأحداث، كما أن الاقتباسات الفنية و الدينية والأدبية تجسد نوعا من التعالي عن الواقع و الغربة و الانفصال عنه... هذا النص يجسد تلك الجزئية في العالم العربي حيث رجعية الفكر و سلطة السياسة و التحكم في المصير الإنساني آدم بن الآدمي (هو الشخصية الأساسية في الرواية إن صح إطلاق هذه التسمية عليه، إنه يمثل الإنسان الضائع المغرب بكل ما يعتوره من تغيرات قوى تسعى للتحكم به وبمصيره و نحن هنا نجد أنفسنا أمام ثنائية الغالب و المغلوب حيث أن الشعوب العربية مغلوبة على أمرها أما الغالب فهو متعدد فمرة هو المسيح الدجال ومرة هو القيصر يوليوس ثم ها هي ثنائية الموت و الحياة، الموت هي هذه الرواية أفضل بكثير من الحياة إنه يمنح الذات المنشطرة سكونا وراحة في حياة أبدية تتمكن من خلالها من إشفاء غليلها من كل من ظلموها أو ظلموا غيرها الرواية تتراوح بين حياة عاشها آدم في مستشفى المجانين حيث فضل البقاء و بين الموت الذي يختزل المسافات ويمنح ذلك الشعور بالسكينة و هاهنا ثنائية أخرى تتمثل في ثنائية العدو و الظلم إن آدم يتعرض للظلم و الاستبداد هو وعادل الخالدي ومحمد علي الحافي و فرحات حشاد... و لا تتحقق العدالة إلا بعد أن تقوم العدالة ويعاقب الظالم ويحترق الشهيري و سالم العطيوي في نار جهنم زبانية الحكومة ممن تلذذوا بتعذيب السجناء بل حتى باستيراد وسائل التعذيب و التفنن في طرقه أما الشعب فهو يتأرجح بين الصحو والغفلة إنه يصفق و يهلل لكل جديد، نفاق إعلامي وسياسي وحتى شعبي.
إن المنطقية تخلق علاقة أخرى بين الديمقراطية و الدكتاتورية، الحاضر هو عالم الدكتاتورية وبالتالي فالآخرة تفتح بابا للديمقراطية في اختيار المصائر و التحليق بعيدا عن عالم مشوه ثم هناك ثنائية الروح والجسد.... الجسد مقيد لا يملك الحرية بينما الروح في عالم القيامة تملك مطلق الحرية في الانتقال بين السماوات و الأرض و هكذا يتصارع عالمان: عالم مادي قاس ظالم تتغير فيه موازين القوى و عالم ما ورائي يصبح حقيقة وتسيير الأمور فيه وفق منطقية مقبولة و هكذا يبني "الدر غوثي" روايته على مجموعة من الثنائيات يصل بها في النهاية إلى بناء واحد يتمثل في أن الواقع اقرب إلى علامات القيامة وهذه الحياة التي فيها كل هذه الأمور الفظيعة و محاولة الإمبريالية تحذير الشعوب و إغوائها هي حياة غير منطقية لا مبرر لها إلا في إطار القيامة...هذه الدنيا ضاقت على آدم بن الآدمي و خنقته فهي ليست الدنيا التي يفترض أن تكون و الآخرة بالمقابل أفضل و أكثر منطقية لكي نستطيع فهم الأحداث كما هي .

من التداولية إلى السيميائية .. أسس ومعطيات

د.محمد سالم سعد الله
أجمع النقاد المحدثون على أنَ ( بيرس ) لم يلتقِِ ، أو لم يقرأ عن سوسير والعكس صحيح أيضاً ، إلاَ أنَ معطياتهما تكاد تكون متقاربة ومنسجمة في بعض المواضع ، فكلاهما أسس لعلم نقدي لغوي شامل ، وهو علم السيميائية ( Semiology ) أو علم العلامات ، وكلاهما انطلق من تأسيس ذلك من خلال الحديث عن معطيات العلامة وتصنيفاتها ومداخلها ، وميادين تنظيرها وتطبيقها ، وكلاهما أسهم في إنعاش الحركة النقدية والمعرفية الأوربية ، وعُدت معطياتهما طرائق يُهتدى بها في السلوك التحليلي الفلسفي والنقدي واللغوي الحديث .
يُعدَ بيرس مؤسس المنهج الفلسفي الحديث البراغماتية ( Pragmatism ) أو ما يطلق عليــه : ( الذرائعية ، التداولية ) وهو منهج أكدته النتائج العلمية ، وراهنت على صحته المؤسسات البرجوازية ومفاده : أنَه ليس هناك معرفة أولية في العقل تُستنتج منها نتائج صحيحة ، بل الأمر كله مرهون بنتائج التجربة الفعلية العملية التي تحل للإنسان مشكلاته ، وأنَ الأفكار والنظريات والمعارف والنتائج تشكل بمجموعها وسائل وذرائع دائمة لبلوغ غايات جديدة ، وأنَ معيار صدق الأفكار والآراء هو في قيمة عواقبها العملية ، وأنَ الحقيقة وفقاً لهذا المنهج تُعرف بنجاحها ، وإن الإله ( موجود ) بقدر تعلق الأمر بانتظام المجتمع حسب ، وقد شارك بيرس في تأسيس تلك المعطيات : وليم جيمس (-1910) ، وجون ديوي (-1952) . ( ينظر : البراجماتزم أو مذهب الذرائع ، يعقوب فام ) .
ولقد أطلقت الدوائر الأوربية والأوساط السياسية شعارات ومناهج عمل انطلقت من مبادئ الذرائعية ، ومنها : ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، و( الوقت هو المال ) … الخ ، وكان من نتائج ذلك تراجع القيمة الإنسانية ، وتعزيز القيمة الرأسمالية ، فضلاً عن انحسار الأخلاق أو اندحارها ، وكان لهذا السلوك الاجتماعي أثر كبير على مجمل المعطى النقدي والتحليلي .
وأسس بيرس أيضاً الخطوات المنهجية لدراسة العلامة وتقسيماتها وأهمية دراستها ، وتصنيف الحقول التي تسهم العلامة في الاشتغال فيها ، ويمكن القول أنَها تعمل بنشاط في كل ميادين الحياة المختلفة ، وتتسم خطوات بيرس هذه بميزتين :
الأولى : أنَها تحليل فلسفي منطقــي .
الثانية : الإيغال في التقسيم والتفصيل .
فيما يتعلق بالنقطة الأولى اتسم تحليل بيرس للعلامات بوصفه تحليلاً فلسفياً منطقياً من حيث استخدام المصطلح الفلسفي ، ثم تصنيف العلامات وفقاً لذلك ، ولا غرابة في هذا لأن
( بيرس ) هو فيلسوف ، واشتغاله في الميدان الفلسفي أوسع وأكبر من اشتغاله بالميدان النقدي ، أما فيما يتعلق بالميزة الثانية فقد كانت تقسيمات بيرس للعلامة وفروعها ، تقسيمات ثلاثية حتى قيل : " أن مزاج بيرس ثلاثي التفريع ، أما مزاج سوسير فثنائي التفريع " ( ينظر: بيرس أو سوسير ، جيرار لودال ، ت : عبد الرحمن بو علي ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 3 لسنة 1988 : 117 ) .
إنَ المفهوم الأساسيّ لسيميائية بيرس هو : الصيرورة ( السيموزيس : Semiosis) التي يعمل بموجبها شيء ما بوصفه دليلاً ، وتحوي هذه الصيرورة على
عوامل ثلاثة : ( الممثل ، والموضوع ، والمؤول ) وهي أقسام العلامة كما صنفها بيرس ، والمهمة الأساسية ـ عنده ـ تكمن في تحليل اشتغال الدليل في الاستعمال الفردي للصيرورة بوصفهه ذات وظيفة دلائلية تواصلية ، وهذه الوظيفة هي خاصية جوهرية للغة محددة بقوانين القواعد ، والوحدات اللسانية ( ينظر : الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة ، مارسيلو داسكال ، ت : حميد لحمداني وآخرون ) .
لقد استند التحليل السيميائي عند كل من بيرس وسوسير إلى ميراث فلسفي ينطلق من فجر الطرح الفلسفي مع اليونانيين : أفلاطون وأرسطو (-322 ق.م ) ، والرواقيين ( Stoics ) ، والشكيين ( Scepticum ) مروراً بأوغسطين (- 430 م ) وتوما الأكويني (- 1274 م ) وديكارت (- 1650م ) ، وهيجل (-1831م ) ، ولوك (- 1704 م ) وانتهاءً بأنجلز (- 1895 ) وماركس (-1883م ) ودوركايم ، وقد تحدث تودوروف بشكل مفصل عن ولادة السيميائية الغربية في كتابه : (Theories of the symbol , Tra : C. Porter : 19 ) ، وبيَـن أنَ مسيرة السيميائية ممتدة زمنياً ، ولا يمكن اختصارها ، فمعطياتها متشابكة ، وطرحها الفلسفي والنقدي يلفّ العالم أجمعه ، ويطمح إلى رسم فهم للوجود من خلال تفسير العلامات وتحليلها ، وبيان وظائفها وفاعليتها ومساهمتها في إنشاء التواصل بين مختلف الموجودات .
ومن هذا المنطلق توسعت مباحث السيميائية وشملت مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل وحتى النفسية ، ودخلت بشكل كبير ومباشر إلى المعطيات النقدية لما بعد البنيوية ، حتى عُدت ركناً مهماً من أركان التحليل النقدي لما بعد البنيوية ، وقد اتسمت مسيرة السيميائية بالتطور المتنامي المتسارع ، لأنَها شكلت الأداة والمنهجية الدقيقة في تفسير سلوك العلامات وبيان وظائف علاقاتها ، وهذه العلاقات تتسم بقدرتها على التوالد والاستمرار والصيرورة ، إذ بلغت السيميائية مكاناً متميزاً بين المناهج الفلسفية والنقدية العالمية المختلفة ، لقد ابتدأت من تحليل العلامة فقدمت تفسيراً للموجودات ، وفهماً لحركة العالم ، وشرحاً لأنظمة الكون ، وصيغاً لا نهائية لمشاريع مستقبلية تتخذ من سلطان العلامة إطاراً موسوعياً لإبداع رؤى جديدة .
إنَ تنوع الأبحاث السيميائية هو تنوع في أنساب الجوانب الفلسفية التي تريد فهم الموجودات ، والتواصل الحاصل فيها هو تواصل بين الوجود والموجود ، بين النظام والوظيفة ، بين الدلالة والسياق ، بين المادة والماهية ، بين فعل الخَلق وفعل الإنتاج ، إنَ مسيرة السيميائية هي مسيرة التسلسل المعرفي والنقدي الذي يقابل التأمل بالتحليل ، والنسق بالتأويل .
إنَ التحليل السيميائي عند بيرس وسوسير هو : عبارة عن بيان شبكة من العلاقات تستهدف دراسة أوجه النشاطات والفعاليات الإنسانية في مظاهرها الدالة ، ودلالاتها الممكنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، ويستهدف معرفة كيفية عمل الأنظمة الدلالية : ( اللسانية وغير اللسانية ) ، لذلك استخدمت المجاميع والمدارس النقدية المختلفة طرائق متباينة لاستعمال التحليل السيميائي ما بين تحليل سيميائي للتواصل ، وآخر للدلالة ، وللثقافة (ينظر: دروس في السيميائيات ، حنون مبارك : 100).
ويتضح الفرق النقدي بين معطيات سوسير عن السيميائية ، ومعطيات بيرس عنها بالنقاط الآتية :
1. إنطلاقة سوسير المنهجية كانت لغوية لسانية ، أما بيرس فمنطلقه فلسفي منطقـي .
2. العلامة عند سوسير ثنائية المبنى تتكون من دال ومدلول ، أي : تجمع بين الصورة العيانية والصورة الذهنية ولا تجمع بين الشيء ومسماه ، في حين أنَ العلامة عند بيرس ثلاثية المبنى تتكون من الممثل (المحمول Interpretant)، والرابطة (الوسيلة Connective )، والموضوع (Object) وهي مبنية على قاعدة رياضية تقول: إنَ كل نظام لابد أن يكون ثلاثياً.
3. أكدَ سوسير بشكل كبير أهمية العلامة داخل نظامها في النص ، دون الارتباط بعالم المرجعية خارج النص ، ودرس اللغة من خلال وصفها نظاماً أجزاؤه مرتبطة فيما بينها، في حين أكدَ بيرس أهمية العلامة في علاقتها بعوالم ثلاثة : (عالم الممكنات ـ المقولة الأولانية ، وعالم الموجودات ـ المقولة الثانيانية ، وعالم الواجبات ـ المقولة الثالثانية) ، وقد استمد بيرس هذه المقولات من مقولات الظاهراتيــة : ( فلسفة الكائن ، ومقولة الوجود ، ومحاولة الفكر لتفسير الظواهر ). ( ينظر: ما هي السيميولوجيا ، برنـار توسان ، ت: محمد نظيف ) .
4. العلامة عند سوسير لغوية - حصراً - وتمتاز بكونها تباينية واعتباطية في علاقة دالها بمدلولها ، أما العلاقة عند بيرس فهي لغوية وغير لغوية .
5. تتحدد العلامة بعلاقة الدال والمدلول ، ويتحدد الرمز بعلاقة المرموز والمرموز له ، ولا تحوي العلامةُ الرمزَ عند سوسير ، أما عند بيرس فالعلامة تتحدد بعلاقة الحامل مع المحمول مع الموضوع ، فضلاً عن علاقة الآيقون والرمز والإشارة ، بمعنى أنَ العلامة عند بيرس تحوي الرمزَ ويشكل جزءاَ منها .
6. علامة سوسير هي أساس السيميولوجيا ( Semiology ) ، وتعدّ جزءاً من علم النفـس (Psychology ) ، أما علامة بيرس فهي أساس السيميوطيقا (Semiotic) ، وتعد جزءاً من علم المنطق ( Logicology ) .
7. تشكل اللسانيات جزءاً من السيميائية عند سوسير لأن اللغة فعل سيميائي ، في حين تشكل المقولات الفلسفية عن الوجود والعالم صورة التحليل السيميائي عند بيرس .
إنَ السيميائية في معالجتها للعلامات المنبثقة من الأشيـاء والأفعال ، أعطت وحمَلت منهجية ما بعد البنيوية إمكانية السيطرة على الممارسات المعرفية ، من خلال امتلاك إدارة تأويل العلامة ، وتحديث صيغ دلالية يستدعي بعضها البعض من خلال عملية تحول دقيقة تجري بين نظاميّ : (العلامة / النسق ) ، و ( الناقد / المعنى ) ، فغاية الناقد ـ المُؤوِّل بشكل عام ـ تفسير العلامة المُتموضِعة في نسقها للوصول إلى المعنى ، في حين يسعى ناقد ما بعد البنيوية للوصول إلى اختلافات المعنى ، وعدم الاقتناع والتسليم بحدَ معين ، والغاية هي الدخول في لعبة يغيب فيها المدلول ، ويحيل فيها الدال إلى دوال أخرى ، وبهذا اتسم تحليل ما بعد البنيوية بصفة التحليل العدمي ، وبلا نهائية الدلالة ( الدلالة غير محدودة ) .
ومن النتائج المهمة الأخرى التي قدمتها السيميائية للمسار النقدي لما بعد البنيوية هو : ذوبان الإنسان ـ حسب كيلر ـ في سلسلة من الأنظمة ، ومعالجة الثقافات الإنسانية بوصفها علامات ، فضلاً عن دراسة المشاريع المعرفية المستقبلية بوصفها علامات أيضاً ، واكتشاف طبيعة الأبحاث والحقول المختلفة التي تجعل الاتصال الأدبي ممكناً ، وتمييز الاختلافات بين الخطاب الأدبي والخطاب اللاأدبي ، وإحالة الدلالة إلى أنَ الأشكال والمفاهيم لا توجد مستقلة ، بل إنَ دوالها ومدلولاتها هي كيانات علائقية ناتجة من نظم الاختلاف ، وبهذا يمكن للسيميائية أن تقدم فرعاً معرفياً تحليلياً يجمع في منظور شامل ، سلسلة كبيرة من الظواهر تستجيب للمعالجة بطريقة مشتركة عن طريق تفسير العلامات وتحليلها ، ولأجل ذلك كله وُصِفت السيميائية بكونها حركة إمبريالية ( Imperialism ) تتحرك فوق الميادين المعرفية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. (ينظر: البحث عن الإشارات، جوناثان كيلر، ت: محمد درويش ، مجلة الرواد ، العدد 1 لسنة 1998 :79 ) .
أما على صعيد تأثير بيرس وسوسير في المدارس والمفاهيم والنقاد ، فقد كانت حصة سوسير هي الأكبر ، وذلك نتيجة للمسوغات اللسانية واللغوية المستخدمة في تحليلاته وكانت هي الأقرب للتوظيف عند النقاد ، لوضوحها وبعدها عن الإيغال في التبويب والتقسيم والمداخلات المنطقية والفلسفية .
ولم يكن الحال كذلك مع بيرس الذي استند في تحليلاته العلامة على التقسيم الفلسفي والمنطقـي ، مما جعل هذا التقسيم بعيداً عن الميدان الالسني ، قريبا من التنظير المنطقي ، ومِن أبرز النقاد الذين تأثروا ببيرس ـ بشكل كبير ـ ناقدين اثنين هما : ( كريماس ، وسيبيوك ) ، أُشتهِر كريماس بتحليلاته السيميائية المنطقية لميدان السرديات ( Narratives ) ، وبتقسيماته الدلالية المتعددة لوحداته ، مستخدما منهجية بيرس في تحليل العلامة ، وتحصيل الدلالة .
وقد ذكر في مقالته : ( نحو سيميائيات للعالم الطبيعي ) ، أنَ السيميائيات لا تمثل إلاَ شبكة من العلاقات ، وأنَ هذه العلاقات هي التي تحدد سمات العالم الطبيعي : (The Natural World) وهي المحرك لتفسير الموجودات ، فضلا عن اعتماد عناصر التواصل الإنساني على الأبعاد الدلالية لتلك العلاقات .
وأكد أيضاً دور الصيرورة ( Semiosis ) في تحديد حركية العلامات بوصفها موجودات في عوالم الدوال ، وإمكانية السيميائية في تمثيل البعد التاريخي للعالم الإنساني ، وعدم الانفصال بشكل كليّ عن مستواه الظاهري . (See: On meaning , selected writings in Semiotic theory, Tra : Paul J. Perren & Frank H. Gollins: 17).
لقد شكلت جدلية ( الصيرورة ) البرنامج الدينامي لتمثل الدوال التي يحيل بعضها على بعض ، والسعي إلى إنتاج المعنى وتحويله من دلالته في الصورة العيانية ، إلى دلالات أخرى تخضع لآلية التأويل ، ويرى كريماس أنَ الخطاب السيميائي هو خطاب إيحائي يتضمن التعبير عن دلالات أيديولوجية ومعرفية وثقافية ، أي أنَ هذا الخطاب يمثل ـ بالضرورة ـ رصيداً معرفياً ، ومعيناً دلالياً مهماً .
وصنَف في الإطار نفسه إمكانية الانفصال إلى حركات عدة : ( الحركة الإسنادية ، والحركة النظامية ، والحركة الإيحائية ، والحركة اللاعبة ، والحركة الاتصالية ) ، وتمثل هذه الحركات ـ حسب كريماس ـ مشاريع ثقافية وخطابات تنظم البنيات الاقتصادية والاجتماعية .
وقد أُشتهِر كريماس بنظريته حول المربع السيميائي : (The Semiotic Sqaure) ، الذي يشير إلى أنَ طبيعة العلامات يمكن أن تُدرك من خلال علاقات التضاد والتناقض ، ويتكون هذا المربع من الأجزاء الآتية :
1. علاقة التناقض بين كل من طرفي التعارض في النص .
2. علاقة الإثبات القائمة في الطرفين المتناقضين المنفيين .
3. علاقة التضاد بين الطرفيين الأولييــن .
ويشير كريماس إلى أنَ العلاقة بين أجزاء ( علاقات الإثبات ) هي علاقات إيجابية ، بمعنى أنَ تحولات العلامات فيها يكون على مستوى الاتصال ، في حين تكون العلامة بين أجزاء ( علاقات التضاد والتناقض ) علاقات سلبية ، بمعنى أن تحولات العلامات فيها يكون على مستوى الانفصال . وبهذا يتكون المربع السيميائي من عناصر ستة هي :
1. القاصــد : Sujet .
2. المقصـود : Objet .
3. المناصـر : Adjudaut .
4. المعارض : Opposant .
5. المؤتي – المانـح : Destinateure .
6. المؤاتي – الممنوح :Destinataire .
أما سيبيوك فقد أُشتهِر بدراسته لمقاييس الصيرورة ( Criteria of Semiosis ) ، ودراسته النظرية العامة للعلامات عند بيرس ، والأسس المنطقية للسيميائية (Logical Basis of semiotics) ، فضلاً عن علاقة السيميائية بفن العمارة ( Architecture ) والموسيقى ، والتمثيل (Representations) ، والسيرك (Circus) ، والثقافة واللاهوت ، والطب والأدب. (See: Aperfusion of signs , T. A. Sebeok : 22) .
وتشكل نظرية العلامات عند بيرس ـ حسب سيبيوك ـ نظرية في التجربة الدلالية ، ونظرية في الوعي ، لأنَها تدرس إمكانيات علاقة البنية مع الفكر من خلال تحليل العلامة ، واكتشاف فاعلية الصيرورة في النظام العلامي الذي يكتنز معلومات دلالية ، وأبعاد معرفية وثقافية.
وقد تدخل السيميائية في علاقتها مع الثقافة إلى اللجوء لعملية السمطقة :
(Semiotization) التي تبين ـ حسب ريفاتير ـ شعرية النص أو أدبيته (See: Text production , Michael Riffaterre , Tra : Terese Lyons : 114) ، وتنعش هذه العملية طاقة العلامات من خلال إخفاء السمة الإيحائية على المعطى الثقافي ، وتحويله إلى نسق منمذج للعالم ، وبهذا يكون المقياس الدلالي للصيرورة الذي تحدث عنه سيبيوك ، هو تحديد فلسفة علامية ، تسند لنفسها تقديم رؤية شمولية للمفاهيم والمقولات .
ويشكل المقياس الدلالي للصيرورة عملية التحول إلى تشكيل العلامات ، وتحول الشيء إلى علامة يعني الدخول في سياق الصيرورة الذي يقتضي أسبقية النظام والبنية على الاستعمال ، وأسبقية اللغة على الكلام ، ويشكل هذا السياق فرضية العمل : ( البراكسيس - Praxies ) ، وحيوية الصيرورة التي يعمل بموجبها شيء ما بوصفه علامة ، ويقترب هذا الإجراء من المعطى النقدي لعملية السمطقة ، ويتم دراسة ذلك كلَه في أحد حقول السيميائية ومكوناتها وهي : التداولية ( Pragmatic ) بوصفها قاعدة السانيات ، وطرقاً لمعالجة العلامة بين العلامات ومستخدميها ، ومعالجة علاقة العلامات بمؤولاتها ، ومعالجة المظاهر الحياتية للصيرورة بطريقة شاملة ، ودراسة الأفعال اللسانية والسياقات التي تتم فيها ، فضلاً عن فهم اللغة الشامل عن طريق استعمال تنسيقات العلامات وتحويلاتها .
أما بالنسبة لتأثير سوسير على المدارس النقدية واللغوية ، فقد كان كبيراً جداً في مجمل الأوساط اللغوية والنقدية والإجتماعية ، انطلاقاً من المدارس البنيوية ، مروراً بمدارس السيميائية واتجاهاتها ، وانتهاءً بنظريات تحليل الخطاب ، ونظريات الاستقبال والتلقي ، ومنهج ما بعد البنيوية ، وحسب ما ذهب إليه تودوروف في مقالته : ( سيميائيات سوسير ) ، فإنَ أثر سوسير في الطرح النقدي ـ لاسيما حديثه عن العلامات ـ سيكون له مهمة تكملة نظام التعبير العالمي الشامل ، ويمكن أن تتمثل بالطرح الألسني ، وتكون النموذج المتفرد لجميع فروع اللغة ، والمعين الثرّ للنظام السيميائي العالمي .
وتكمن قيمة سوسير النقدية في ميزان الوسط النقدي لما بعد البنيوية ـ بوصفه أباً ـ بدوره في إرساء قواعد نزع الصفة الجوهرية عن علاقة الدال بالمدلول. ( ينظر: رومان ياكوبسون أو البنيوية الظاهراتية ، المارهو لنشتاين ، ت : عبد الجليل الازدي : 60 ) ، ونعت تلك العلاقة بأنها اعتباطية ، وقد دفع هذا الطرح من توسيع عمليات الفصل بين الدال والمدلول ، بمعنى توسيع عقلنة الدال بوصفه حضوراً ، وعدم ضبط حدود المدلول بوصفه غياباً .
وقد أدى هذا الطرح أيضاً إلى استغلال إمكانية الدال في الإحالة إلى دوال أخرى ، بمعنى تحويل المسار التقليدي للدال بالإحالة إلى المدلول ، إلى مسار معرفي جديد يقتضي إحالة الدال إلى دال آخر ، في عملية ذات قصد عدمي لتغييب المدلول أو تعمد فقدانه ، وقد استثمر ( جاك دريدا ) هذا الطرح موظِفاً إيَاه في مجمل الطرح النقدي لما بعد البنيوية ، إذ أصبحت المؤسسات النقدية تتحدث عن تضايف المعنى ، وليس عن حقيقته ، وأصبحت نظرية اللعب التفكيكية لدريدا مخططاً نقدياً ، وصيغة عقلانية يمكن البرهنة عليها وتبني فاعليتها ، والحكم على منتقديها بالعبث والتطرف .
إنَ تأثير سوسير في الطرح النقدي واللغوي كان شاملاً وممتداً في مختلف المجاميع النقدية العالمية ، ولم تخلُ مدرسة لغوية أو نقدية من التأثير السوسيري ـ ولو كان يسيراً ـ فمدارس الألسنية : الوظيفية : ( Functionalism ) ، والتوزيعية : ( Distributionalism ) ، والتوضيحية : ( Glossematiosm ) ، وما بعد السوسيرية : ( Post – Sausurianism ) ، التي تشمل التوليدية والتحويلية لشومسكي : ( Geneticism and Transformatism ) وغيرها ، كلها وقعت تحت تأثير الطرح اللغوي والنقدي لسوسير ، ويمكن إجمالاً القول أنّ دروس سوسير في اللسانيات أسهمت في مدّ العديد من الاتجاهات والمدارس الألسنية والنقدية والمنهجية بالتمفصلات المعرفية ، والأصول اللغوي

السردية

الدراسات السردية العربية
- واقع وآفاق -

د.عبدالله إبراهيم
(العراق)

1- مدخل
ظهرت )الدراسات السردية( المتخصصة في النقد العربي الحديث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وشغل بها كثيرمن النقاد العرب بين رافض لها أو آخذ. وهذه الحقيقة التاريخية ينبغي ألا تطمس أمرين أساسيين في هذا الموضوع، أولهما أن عناية النقد بالآداب السردية قديمة في الثقافة العربية، وثانيهما أن الاضطراب لم يزل يعصف بالدراسات السردية التي لم تستقر فرضياتها الأساسية، ولا مفاهيمها، ولا طبيعة العلاقة بينها وبين الأدب الذي تحلله.
من الصحيح أن طريقة النظر إلى النصوص السردية تغيرت جزئيا، لكن ثلاثة عقود من الممارسات النقدية كان ينبغي أن تفضي إلى دراسات متماسكة تقدم رؤى مختلفة للآداب السردية ووظائفها، وتحدث تغييرا في الدرس الجامعي الذي لم يزل يئن تحت وطأة المفاهيم القديمة للنقد. وينبغي القول أيضا إنه لم تقبل نظريات النقد الحديثة بصورة كاملة في الأوساط الثقافية والجامعية، وذلك أمر يتصل بعدم تبني فكرة الحداثة في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثمة دراسات سردية متفرقة، وتحليلات معمقة، لكن انغلاق مجتمعاتنا على نمط تقليدي من الفكر والعلاقات أدى إلى عدم اعتراف بأهمية هذه الجهود المتناثرة، بل هي تتعرض لمزاحمة خطيرة من الفكر التقليدي الرافض لكل ما هو جديد بدواع كثيرة.
انشطرت المواقف حول الدراسات السردية، فمن جهة أولى سعت تلك الدراسات إلى الانتقال بالنقد الأدبي من الانطباعات الشخصية، والتعليقات الخارجية، والأحكام الجاهزة، إلى تحليل الأبنية السردية، والأسلوبية، والدلالية، ثم تركيب النتائج التي تتوصل إليها في ضوء تصنيف دقيق لمكونات النصوص السردية. ومن جهة ثانية حامت الشكوك حول قدرتها على تحقيق وعودها المنهجية والتحليلية؛ لأن كثيرا منها وقع أسير الإبهام، والغموض، والتطبيق الحرفي للمقولات السردية دون الأخذ بالحسبان اختلاف السياقات الثقافية للنصوص الأدبية.
وحينما نروم وصف واقع )الدراسات السردية( في النقد العربي الحديث، فنحن بإزاء اختيارين، فإما أن نتعقب خطيا جهود النقاد المعاصرين بطريقة مدرسية، أو أن نتخطى ذلك ونستفيد من مكاسب تاريخ الأفكار الحديث، حيث تصبح الظاهرة المدروسة موضوعا لتحليل متنوع الأبعاد والمستويات. والاختيار بين هاتين الطريقتين هو اختيار بين رؤيتين وموقفين، فتبني معطيات تاريخ الأفكار الخطي سيدفع بفكرة الوصف دون القيمة، والأخذ بمكاسب تاريخ الأفكار الحديث سيدفع بفكرة التحليل والاستنطاق واستنتاج المعرفة إلى مدياتها القصوى ؛ ذلك أن علاقة النقد بالأدب ليست علاقة حيادية وشفافة، إنما هي علاقة تلازم وتفاعل، فهما يتحاوران ضمن نظام ثقافي موحد من الإرسال والتلقي. ولا أجد جدوى معرفية من الأخذ بالاختيار الأول، اختيار الوصف والمعاينة المجردة، إنما أدعو إلى توظيف الإمكانات المتاحة للاختيار الثاني، فذلك سيجعل من )الدراسات السردية( موضوعا لتحليل متشعب يستكشف واقعها، ومشكلاتها، ورهاناتها، وآفاق تطورها، ضمن سياق الثقافة العربية الحديثة.
2- المرجعيات
حينما نبحث واقع )الدراسات السردية العربية( فليس من الحكمة تخطي المرجعية النقدية الحديثة، فالتطورات التي عرفتها نظرية الأدب في القرن العشرين جهزت )السردية( بكثير من الركائز الأساسية التي أصبحت من أركانها الأساسية. ومعلوم أن مصطلح )السردية Narratology( مرتبط بمصطلح أقدم وأشمل، هو )الشعرية Poetics(. والعلاقة بين )السردية( و)الشعرية( صحيحة في التصور العام لنظرية الأدب، إذ ما لبثت أن انفصلت الأنواع الأدبية بعضها عن بعض، واستقام لكل منها خصائصه الأدبية المميزة، فانبثقت حاجة منهجية ومعرفية لتوسيع مفهوم نظرية الأدب لتتمكن من شمول الأنواع الجديدة. وباستقرار الأشكال الأساسية للسرد في العصر الحديث، أصبح من اللازم أن يُستحدث مفهوم معبر عنها، وإطار نظري لتحليلها، وتصنيفها، وتأويلها، فظهرت )السردية( التي أصبح موضوعها استنباط القواعد الداخلية للأشكال السردية، ثم وصف مكوناتها الأساسية من تراكيب، وأساليب ودلالات.
وإلى )تودوروف( يعود الفضل في اشتقاق مصطلح Narratology الذي نحته في عام 1969 للدلالة على الاتجاه النقدي الجديد المتخصص بالدراسات السردية، بيد أن الباحث الذي استقام على جهوده مبحث )السردية( في تيارها الدلالي هو الروسي )بروب(، وقد بحث في أنظمة التشكل الداخلي للخرافة، واستخلص القواعد الأساسية لبنيتها السردية والدلالية، وما لبث أن أصبح تحليله للخرافة مرجعا ملهما للسرديين، فراحوا يتوسعون فيه، ويتحققون من إمكاناته النظرية والتحليلية، وقد أطلق )روبرت شولز( على هؤلاء )ذرية بروب( وفي طليعتهم: غريماس، وبريمون، وتودروف، وجنيت، وبالتقاطها رأس الخيط من بروب، وسعت ذريته المفهوم بحيث انتهى الأمر به ليشمل كل مكونات الخطاب السردي، فظهرت )السردية الحصرية( التي تطلعت إلى وضع أنظمة تحكم مسار الأفعال السردية، ثم )السردية التوسيعية( وهدفت إلى اقتراح نماذج قياسية كبرى تستوعب جميع الاحتمالات الممكنة للأفعال داخل العالم السردي للنصوص الأدبية، وحاولت الإفادة من المعيار اللغوي الذي أسس له )دوسوسير( في حقل اللسانيات الحديثة. فلكي تتمكن الدراسات السردية من معرفة طبيعة الأفعال السردية ينبغي أن تعتمد معيارا قياسيا لذلك. وانخرط عدد كبير من النقاد في هذين التيارين الكبيرين، الأمر الذي رسخ من مكانة )السردية( وإشاعتها في النقد الحديث. واعترف بـ )السردية( نقديا حينما أصدر )جنيت( كتابه )خطاب السرد( في عام 1972 وفيه جرى تثبيت مفهوم السرد، وتنظيم حدود )السردية(.
لم تبق )السردية( مقترحا نظريا جامدا، إنما ربطت بنظرية )التلقي( وهي نظرية تعنى بتداول النصوص الأدبية، وكيفية تلقيها، وإعادة إنتاج دلالاتها ضمن السياقات الثقافية الحاضنة لها. ونظرية التلقي اكتسبت قيمتها التداولية حينما ربطت بنظرية )الاتصال(، ولهذا سرعان ما أصبحت نظرية التواصل إحدى الخلفيات المنهجية التي أثرت )السردية(، إذ أصبح التراسل بين المرجعيات والنصوص هو الموضوع الأساس للدراسات السردية، فليست المرجعيات وحدها هي التي تصوغ الخصائص النوعية للنصوص، إنما تؤثر تقاليد النصوص في المرجعيات أيضا. ويظل هذا التفاعل مطردا، وسط منظومة اتصالية وتداولية شاملة تسهل أمر التراسل بينهما، بما يحافظ على تمايز الأبنية المتناظرة لكل من المرجعيات والنصوص.
3- المكاسب
هذه الخلفية الثقافية والنظرية التي أوردنا طرفا منها في الفقرة السابقة كانت معلومة ومجهولة لكثير من الذين انخرطوا في الدراسات السردية. كانت معلومة بتفاصيلها وقيمتها لقلة قليلة منهم، ومجهولة للأغلبية، ولا أقصد بذلك حكما ينتقص السرديين العرب، إنما لا بد من تمثل مكاسب نظريات النقد الحديثة قبل الانتقال إلى الممارسة النقدية الفاعلة، وإنتاج معرفة جديدة، فالنقد ممارسة فكرية منظمة ومنتجة ينبغي ألا تترك للأهواء والانطباعات، وكأن العالم لم يشهد تراكما عظيما من المعارف والثقافات.
وقد أسهم نقاد عرب في التعريف بالخلفية النظرية للسردية، وبالإجمال توافرت مادة مترجمة أو مكتوبة بالعربية مباشرة مكنت النقاد من الاطلاع على التطورات الحاصلة في هذا الميدان.
وعلى الرغم من ذلك لم تكن الحصيلة مُرضية بما يوافق الاهتمام الذي بذل في هذا المجال، فكثير من المفاهيم الجديدة أقحمت في غير سياقاتها، وفي حالات كثيرة وقع تعسّف ظاهر في تطبيق نماذج تحليلية اشتقت من نصوص أجنبية بالفرنسية أو الإنجليزية على نصوص عربية من دون الانتباه إلى مخاطر التعميم. واستعيرت طرائق جاهزة عُدّت أنظمة تحليلية ثابتة وكلية لا تتغير بتغير النصوص وسياقاتها الثقافية. ومن الطبيعي أن يرتسم في الأفق تكلّف لا يخفى؛ إذ تنطع للنقد أفراد أرادوا إبراز قدرتهم على عرض مفاهيم السردية، وليس توظيفها في تحليل نقدي جديد. وكل هذا جعل تلك الجهود تحوم حول النصوص، ولا تتجرأ على ملامستها. ويمكن تفسير كثير من تلك العثرات على أنها نتاج الانبهار بالجديد، وادعاء الاقتران به، وتبنّي مقولاته، دون استيعابه، وهضمه، ودون تمثل النظام الفكري الحامل له.
وفي ضوء علاقة بعض النقاد العرب الشائكة بالسردية، انصرف الاهتمام إلى المفاهيم والنماذج التحليلية، وندر أن جرى اهتمام معمق باستكشاف مستويات النصوص الأدبية، فالأكثر وضوحا كان استخدام النصوص لإثبات صدق فرضيات السردية، وليس توظيف معطياتها لاستكشاف خصائص تلك النصوص، إذ قلبت الأدوار، وأصبحت النصوص دليلا على أهمية النظرية وشمولها، وانتهى الأمر إلى أن أصبحت المقولات السردية شبه مقدّسة لدى عدد كبير من ممارسي النقد. وكل نص لا يستجيب للإطار النظري الافتراضي يعد ناقصا وغيرمكتمل، ولا يرقى إلى مستوى التحليل، وينبغي إهماله، أونفيه من قارة السرد، ولهذا شُغل بعض النقاد بتركيب نموذج تحليلي من خلال عرض النماذج التحليلية التي أفرزتها آداب أخرى، فجاءت النصوص العربية على خلفية بعيدة لتضفي شرعية على إمكانات النموذج التحليلي المستعار وكفاءته، وبدل أن تستخدم المقولات دليلا للتعرف إلى النص، جرى العكس، إذ جيء بالنصوص لتثبت مصداقية الإطار النظري للسردية.
إن علاقة مقلوبة بين السردية والنصوص الأدبية ستفضي لا محالة إلى قلب كل الأهداف التي تتوخاها العملية النقدية، فليس النقد ممارسة يقصد بها تلفيق نموذج تحليلي من نماذج أنتجتها سياقات ثقافية أخرى، إنما اشتقاق نموذج من سياق ثقافي بعينه دون إهمال العناصر المشتركة بين الآداب الإنسانية الأخرى، ثم الاستعانة به أداة للتحليل، والاستكشاف، والتأويل، وليس تمزيق النصوص لتأكيد كفاءة ذلك النموذج الافتراضي. تلك العلاقة المقلوبة بين السردية والنصوص قادت إلى هوس في التصنيف الذي لا ينتج معرفة نقدية، ولا يتمكن من إضاءة النصوص، ناهيك عن التصميم المسبق لفرض النموذج على نصوص لا يفترض فيها أن تستجيب له إلا بعد تخريبها.
وكان لهذا الأمر أثره في الدراسات السردية، إذ توهم كثيرون أنها تقتصر على تطبيق نماذج جاهزة، أو التعريف بالمصطلحات، أو عرض النتائج التي توصل إليها السرديون في الثقافات الأخرى، وكل ذلك يتصل بحالة ما قبل ممارسة النقد، أي بالمرحلة التي يبدأ فيها الناقد في تكوين فكرة عن هذا الموضوع. وتبدأ العملية النقدية بعد هضم هذه الإجراءات الشكلية الضرورية، والتعرف إليها، وهي ليس من النقد في شيء، ولا يلزم ظهورها في التحليل النقدي. ولو نظرنا إلى تركة الدراسات النقدية خلال العقود الثلاثة الأخيرة لوجدنا أن أغلبها شغل بهذه المقدمات الإجرائية التي لا صلة لها بالنقد، إنما يمكن أن تكون موضوعات ضمن تدريس النقد في الجامعات والمعاهد المتخصصة للتعريف باتجاهات النقد ومدارسه، وطرائق التحليل فيه.
ولم يجر اتفاق بين النقاد العرب على نموذج تحليلي سردي شامل يمكن توظيفه في دراسة النصوص السردية العربية القديمة، ولا اتفق على نموذج يصلح لتحليل النصوص الحديثة، فوقع تضارب في توظيف نماذج مستعارة من سرديات أخرى، ولهذا لم ينتظم أفق مشترك لنظرية سردية عربية تمكن النقاد العرب من تحليل أدبهم، إذ اختلفوا في كل ما له صلة بذلك، فأخفقوا في الاتفاق على اقتراح نموذج عام يستوعب عملية التحليل السردي للنصوص، أو حتى نماذج جزئية تصلح لتحليل مكونات البنية السردية، مثل أساليب السرد ووسائله، وبناء الشخصيات، والأحداث، والخلفيات الزمانية والمكانية.
إلى ذلك وقع اختلاف في استيعاب المفاهيم السردية الجديدة، واضطرب أمر ترجمتها إلى ا لعربية، وهذه الفوضى الاصطلاحية خلقت فوضى منقطعة النظير لدى القراء، وينبغي التأكيد أن ذلك كان جزءا من الفوضى الاصطلاحية الأدبية الحديثة التي لم يستقر أمرها في الثقافة العربية إلا بصورة جزئية، فقد اختلف في ترجمة مصطلح Linguistics( وعُرّب بمقابلات، كالألسنية، واللسانيات، وعلم اللغة العام، واللغويات، وغير ذلك، وعرب مصطلح (Structuralism) بـ )الهيكلية( أو )البنيوية( وترجم (Poetics) بـ )الإنشائية( أو )الشعرية( أو )فن الشعر( وترجم مصطلح (deconstruction) بـ )التشريحية( أو )التقويضية( أو )التهديمية(، أو )التفكيكية( أو )التفكيك(، وكذلك بالنسبة إلى (discourse) الذي ترجم بـ )الإنشاء( ثم )الخطاب( وأخيرا، إذا ما اقتربنا إلى موضوع الدراسات السردية، فإن مصطلح (Narratology) لم يتفق بشأن ترجمته، إذ ترجم إلى )علم السرد( أو )علم القص( أو )علم الحكاية( أو )نظرية القصة( أو )السرديات(، وهناك من فضل استخدام )السردلوجيا(، وإن كان الأمر انتهى بأن تكون )السردية( هي الأكثر شيوعا بين كل ذلك.
هذا فيما يخص المفاهيم والاتجاهات النقدية الكبرى، فما بالك بالمقولات التي تندرج ضمن هذا المفهوم أو ذاك، أو ضمن هذا التيار أو ذاك!. وما دامت المفاهيم الكبرى، والمقولات التحليلية، لم يتفق بشأنها معنى وترجمة، فمن الطبيعي أن تتضارب التصورات النقدية القائمة حولها. ومع أن العقد الأخير شهد نوعا من الاستقرار في استخدام بعض المفاهيم، لكن الحقبة الأولى من الدراسات السردية شهدت اضطرابا منقطع النظير أدى إلى بلبلة الحركة النقدية العربية، إذ شغل كثيرون بالمفاهيم، والإجراءات التحليلية، ولم تنصرف إلا أقل الجهود للتحليل النقدي الحقيقي. ولم تظهر موسوعة شاملة للمصطلحات السردية، فلجأ كثير من الباحثين والمترجمين إلى إعداد مسارد بالمصطلحات تظهر ذيولا لكتبهم، ولا نجد فيها أي اتفاق، فالتضارب هو السنة الشائعة في كل ذلك.
وعلى الرغم من ذلك أنجزت السردية مهمة جليلة، إذ خلخلت ركائز النقد التقليدي، ودفعت برؤية جديدة لعلاقة النقد بالأدب، وأزاحت الانطباعات الذاتية إلى الوراء، وزجت بمفاهيم جديدة إلى الممارسة النقدية، وفي بعض الأحيان قدمت أمثلة تحليلية جيدة. وحالة الاضطراب التي رافقت دخولها إلى النقد العربي الحديث أمر متوقع في ثقافة تموج بالمتناقضات، ولم تفلح بعد في تطوير حوار عميق بين مواردها المتعددة، وينبغي أن نتعامل مع كل ذلك على أنه مقدمات لقبول الأفكار الجديدة، وتكييفها، وإعادة إنتاجها بما يفيد الأدب العربي. ولقد شهدت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي هزة في التصورات النقدية، ولم تزل تتفاعل توابع تلك الهزة، لكن ردة فعل المناهج التقليدية كانت عنيفة أيضا، وبمرور الوقت خفت التنازع بين الطرفين، ولكن الأفكار الجديدة لم تقبل كما ينبغي، فما زالت صورة النقد السردي متقلبة، ولم تستقر بعد على أرضية متماسكة من الفرضيات والمفاهيم.
4- الآفاق
ظهرت )السردية( بوصفها المبحث النقدي الدقيق الذي يهدف إلى تحليل النصوص السردية في أنواعها وأشكالها المختلفة، فالسردية وليدة الدقة التحليلية للنصوص، وثمارها متصلة بمدى تفهم أهمية تلك الدقة، وإدراك ضرورتها في البحث الأدبي، وتقدير الحاجة إليها، وهي ليست جهازا نظريا ينبغي فرضه على النصوص، إنما هي وسيلة للاستكشاف المرتهن بالقدرات التحليلية للناقد، فالتحليل الذي يفضي إليه التصنيف والوصف، متصل برؤية الناقد، وأدواته، وإمكاناته في استخلاص القيم الفنية والدلالية الكامنة في النصوص. وبما أن الدقة لا تتعارض مع كلية التحليل وشموليته، فالحاجة تقتضي من السردية الانفتاح على العلوم الإنسانية والتفاعل معها بما يكون مفيدا في مجال التأويل وإنتاج الدلالات النصية، ويمكن استثمارها في تصنيف المرجعيات، ثم كشف قدر ة النصوص على تمثيلها سرديا. إلى ذلك يمكن أن توظف في المقارنات العامة، ودراسة الخلفيات الثقافية كمحاضن للنصوص، ومن المؤكد أن ذلك يسهم في إضفاء العمق والشمولية على التحليل النقدي، بما يفيد السردية التي يظل رهانها متصلا برهان المعرفة الجديدة.
لا يشجع واقع الدراسات السردية العربية كثيرا على استخلاص مسارها المستقبلي؛ ذلك أن الدرس النقدي في الأدب العربي الحديث لم يستقر على أسس منهجية متينة تضفي على التطورات اللاحقة شرعية ثقافية، فقد تداخلت معا المناهج الخارجية والداخلية، ففي آن واحد نجد المناهج التاريخية، والاجتماعية، والانطباعية، والنفسية، مختلطة بالمناهج الشكلية، والبنيوية، والتفكيكية، ونظرية التلقي، وإلى جانب ذلك نجد كتابة تختلط فيها الشروحات، والتعليقات، والانطباعات، والمقارنات، والخلاصات، والأحكام، وكل هذا مربك للعملية النقدية.
وفي وقت تحاورت فيه المناهج النقدية طويلا في الثقافة الغربية، وفي سواها، واستفادت اللاحقة من السابقة، واستثمرت كشوفاتها، وأدرجتها فيها، وجددتها، حدث العكس في نقدنا الحديث، فصورة النقد ملتبسة لدينا، فإذا أخذنا الممارسة النقدية في الدرس الجامعي، وجدنا أن كثيرا من الجامعات لم يزل يدرس النقد على أنه جزء من تاريخ الأدب، ويعتمد الشروحات والأحكام، ولم يقترب بعد من المفهوم النظري للنقد الحديث القائم على الاستنطاق والتحليل والتأويل، وتوفير الظروف المنهجية المناسبة لقراءة النصوص قراءة نقدية فعالة تفكك مكونات النص، وتنتج منه معرفة أدبية جديدة تساعد القارئ على تلقيه بطريقة أفضل، ولعلنا نعثر على هذه الظاهرة في كثير من الجامعات التي تتغذى على فكرة التعليم التقليدي، حيث لا تتوافر مقومات التفكير الحديث، فيما نجد حامعات لم تتبن فكرة الحداثة النقدية فحسب إنما استعارت السياق الثقافي الحاضن لها، فغرقت في المشكلات النظرية للنقد، وتمحّلت في تبني مناهج نقدية بمعزل عن حركة الأدب نفسه، ونجد في جامعات أخرى أن التعلق بفكرة الأصالة، وإضفاء المعطى الديني على الدرس الأدبي، قد حال دون الإفادة من الأفكار الحديثة التي أفرزتها الحركة النقدية خلال القرن العشرين.
هذه الخلفية الملتبسة لحال النقد لا تفسر الارتباك الحاصل في الدراسات السردية العربية فحسب، إنما تكشف لنا أنها تمربأزمة جدية، فقد انزلقت المجتمعات العربية إلى منطقة ثقافية مشوشة، وانتهى التعليم الجامعي إلى تبني فكرة التلقين، واعتمد مبدأ التلخيص، والاختزال، وليس التمثل، والحوار، والمشاركة، وإنتاج معرفة نقدية جديدة، ولعل ظهور الدراسات السردية في حقبة التحول هذه حال دون تقدير أهميتها، وتطويرها كمبحث نقدي جديد، وعليه فمن الصعب الحديث عن آفاق محددة للسردية العربية، إنما يمكن الحديث عن جهود فردية لم يقع هضمها وقبولها بصورة كاملة، وأحيانا يقع رفضها واستبعادها.
إلى ذلك لا نكاد نعثر على قواسم مشتركة في الدراسات السردية، بسبب الفوضى في المناهج، والمفاهيم، والتصورات، والخلفيات الفكرية التي يصدر النقاد عنها.
وبالإجمال فواقع الدراسات السردية العربية متصل بواقع الدراسات النقدية في الأدب العربي الحديث، وهذا الواقع مرتبط بحال ثقافة تتنازعها أفكار ومواقف متناقضة بعضها يرتمي في أحضان الفكر التقليدي، وبعضها يستعير من الآخر كل شيء، ولم يقع جدل عميق لننتهي إلى بديل مناسب يتفق بشأنه بشكل عام، ومن الطبيعي أن تظهر تجليات ذلك في النقد، ومنه الدراسات السردية.
الدكتور عبدالله إبراهيم
www.abdullah-ibrahen.com
ناقد وأستاذ جامعي من العراق، حاصل على جائزة شومان للعلوم الإنسانية عام 1997، متخصص في الدراسات السردية والثقافية. باحث مشارك في موسوعة Cambridge history of Arabic Iiterature، شارك في عشرات المؤتمرات والملتقيات النقدية والفكرية. عمل أستاذا في الجامعات العراقية، والليبية، والقطرية.
من مؤلفاته:
1- المطابقة والاختلاف، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004 .
2- موسوعة السرد العربي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005 .
3- المركزية الغربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1997 والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003 .
4- المركزية الغربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1997 والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003 .
4- المركزية الإسلامية: صورة الآخر في المخيال الإسلامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001 .
5- الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999 .
6- التلقي والسياقات الثقافية، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2000 وط 2 دار اليمامة، الرياض، 2001، وط 3 منشورات الاختلاف، الجزائر.
7- السردية العربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2000
8- السردية العربية الحديثة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2003 .
9- المتخيل السردي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990 .
01- معرفة الآخر، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990، ط 2، 1996 .
11- التفكيك: الأصول والمقولات، الدار البيضاء، 1990 .
12- تحليل النصوص الأدبية، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 1999 .
13- النثر العربي القديم، الدوحة، المجلس الوطني للثقافة، 2002 .
14- الرواية والتاريخ، الدوحة، المجلس الوطني للثقافة، 2006 .
.