الهوية الشخصية

أولاد دراج, المسيلة, Algeria
أستاذ بجامعة محمد بوضياف حاصل على الماجستير في اللسانيات والدراسات المعجمية العربية من المدرسة العليا للإساتذة *ببوزريعة البريد الإلكتروني:sghilous@yahoo.fr

الصفحات

الجمعة، أبريل 17، 2009

الننص والخطاب







الفصل الأول
النص والخطاب ( دراسة نظرية

النص بين المفهوم والمصطلح:
تعددت التعريفات العربية والغربية التي شرحت مفهوم النص ومدلولاته، ولكن من الضروري في البدء الكشف عن الدلالة اللغوية لكلمة (نص) في اللغة العربية والغربية وفقاً لما أوردته المعاجم، لتلمس نقاط التشابه والاختلاف، وذلك " لأن اللغة تمثل النظام المركزي الدال في بنية الثقافة بشكل عام"([1]).
أورد الفيروزآبادي في مادة (نصص) قوله : "(نص) الحديث رفعه، وناقته استخرج أقصى ما عندها من السير، والشيء حركه، ومنه فلان يَنصُّ أنفه غضباً وهو نصاص الأنف، والمتاع : جعل بعضه فوق بعض، وفلاناً :استقصى مسألته عن الشيء، والعروس أقعدها على المنصة بالكسر، وهي ما ترفع عليه فانتصت، والشيء أظهره، والشواء ينص نصيصاً: صوّتَ على النار، والقدر غلت، والمنصة بالفتح الجَمَلَة من نصّ المتاع، والنص الإسناد إلى الرئيس الأكبر والترقيات والتعيين على شيء ما، وسير نُصٌّ ونصيص جدُّ رفيع، وإذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى:أي بلغن الغاية التي عقلن فيها، أو قدرن على الحقاق وهو الخصام أو حوق فيهن فقال كل من الأولياء أنا أحق، أو استعارة حقاق الإبل: أي انتهى صغرهن، ونصيص القوم: عددهم، والنّصّة: العصفورة بالضم الخصلة من الشعر، أو الشعر الذي يقع على وجهها من مقدم رأسها، وحية نصناص أي كثيرة الحركة ونصص غريمه، وناصه:استقصى عليه وناقشه، وانتصب انقبض، وانتصب ارتفع، ونصنصه: حركه وقلقله والبعير أثبتت ركبتيه في الأرض وتحرك للنهوض" ([2]).
وفي مختار الصحاح للرازي مادة (ن .ص .ص) " في حديث علي رضي الله عنه: " إذا بلغ النساء نص الحقاق " يعني منتهى بلوغ العقل و(نصنص):الشيء:حركه. وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه حين دخل عليه عمر رضي الله عنه وهو ينصنص لسانه، ويقول: هذا أوردني الموارد" ([3]).
وفي لسان العرب لابن منظور :" ( النص ) رفعك الشيء، نص الحديث ينصه نصاً : رفعه. وكل ما أَُظهِر فقد نُصَّ. ووضع على المنصة : أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور. وقال الأزهري: النص أصله منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، ومنه قيل : نصصت الرجل إذا استقصيت مسألته عن الشيء، حين تستخرج كل ما عنده، وفي حديث هرقل: ينصهم أي يستخرج رأيهم ويظهره ومنه قول الفقهاء: نص القرآن، ونص السنة. أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام وانتص الشيء وانتصب إذا استوى واستقام" ([4]) .
أما في مادة (نص) في المعجم الإنجليزي، فقد ورد لفظ ( Text )، وهو بالفرنسية، ( Texte)، وهو لفظ مأخوذ عن اليونانية، من اللفظ ( Textus)، والتي تعني ( Tissue )، أو ( Style of literary work)، وترتبط بـ ( Textile)، والتي ترتبط بآلات وأدوات النسج. وقد ورد في معنى لفظ (نص) (Text) ما ترجمته:
- " الجمل والكلمات نفسها المكتوبة ( أو المطبوعة أو المنقوشة) أصلاً، الكتاب أو المخطوطة أو النسخة التي تضم هذا.
- البنية التي تشكلها الكلمات وفق ترتيبها.
- مضمون البحث ( حول موضوع ما)، الجزء الشكلي ( أو الرسمي) المعتمد.
- الجمل والكلمات نفسها من الإنجيل.
- قطعة قصيرة من الأناجيل، يستشهد بها المرء كمصدر موثوق أو كشعار أخلاقي أو كموضوع شرح أو موعظة أو حكمة أو بديهة أو مثل أو قول مأثور أو نصوص يستشهد بها.
- في استعمال لاحق … … يستخدمها المرء كاسم للكتاب المقرر الدراسي.
- عملية أو فن النسج ] الحبك [، إنتاج نسيج محبوك، أي بنية طبيعية لها المظهر أو التكوين النسجي، مثلاً نسيج العنكبوت.
- تركيب أو بنية مادة أي شيء مع مراعاة عناصره التشكيلية المكونة أو الخصائص الفيزيائية… للأشياء غير المادية، التكوين أو الطبيعة أو الخاصية الناجمة عن التركيب الفكري، كنسج خواص متنوعة.
- في الفنون الجميلة: تمثيل البنية وتحوير دقيق للسطح.
- أما النصية فهي التمسك التام بالنص خاصة الأناجيل"([5]) .
تعددت الدلالات عند الجانبين، ولكننا لا نصل إلى تحديد قاطع بمجرد إيراد الدلالة اللغوية لكلمة (النص)، ولا يجوز الاكتفاء بالتحديدات اللغوية المباشرة في التعريف، لأنها تقتصر على مراعاة مستوى واحد للخطاب، هو السطح اللغوي البراني وظاهره الدلالي، دون الدخول إلى جوهره الباطني، فلا بد من تحليل ما ورد في الدلالة اللغوية، ورصد تطور اللفظ في الدلالة .
ومن استقراء الدلالات المتعددة الواردة في القواميس العربية يمكن القول إن الدلالة المركزية الأساسية للدال " نص " هي الظهور والاكتمال في الغاية، وهي تؤكد جزءاً من المفهوم الذي أصبح متعارفاً عليه في النص. ولا تزال هذه الدلالة بارزة في الاستخدام اللغوي المعاصر، وإذا أردنا أن نرصد التطور التاريخي لدلالة الكلمة نجد أن لفظ ( نص )، يشتمل على مدلولات مادية وأخرى معنوية، فمن المادية ما وجدناه في الدال " منصة " والتي تعني المكان المرتفع البارز للناظرين، والنصّة وهي العصفورة بالضم وهي الخصلة من الشعر، أو الشعر الذي يقع على وجهها من مقدم رأسها، والدلالة الحسية كما في نصت الدابة جيدها إذا رفعته، ونص الشيء حركه، ونص المتاع : جعل بعضه فوق بعض، ونص الدابة إذا رفع جيدها كي يحثها على السرعة في السير، والنص السير الشديد. ومن المعاني المعنوية نص الأمور: شديدها، ونص الرجل: سؤاله عن شيء حتى يستقصي ما عنده. وبلغ النساء نص الحقاق: أي سن البلوغ.
هذا وقد يستخدم النص أحياناً في معان اصطلاحية، كالنص في علم الحديث وهو التوقيف والتعيين، والنص في الكتابات الأصولية والفقهية هو القرآن الكريم، أو هو مجموعة من القواعد المستمدة من القرآن والسنة حيث تعتمد القاعدة الفقهية على: أن لا اجتهاد مع وجود النص، وهناك النص والرأي أو النقل والعقل.
ولم يقتصر الأمر بالنسبة لتعريف النص على ما ورد في المعاجم القديمة، فلقد تطور تعريف النص، وأصبحت المعاجم الحديثة تميل إلي تعريفه بشكل أشمل وأكثر إجرائية كما في معجم المصطلحات اللغوية للدكتور خليل أحمد خليل الذي يعرف النص ( Text) بأنه :
" يعني في العربية الرفع البالغ ومنه منصة العروس.
* النص كلام مفهوم المعنى فهو مورد ومنهل ومرجع.
* التنصيص المبالغة في النص وصولاً إلى النص والنصيصة .
* النص (Textus ) هو النسيج، أي الكتابة الأصلية الصحيحة، المنسوجة على منوالها الفريد، مقابل الملاحظات ( Notes ) والشروحات والتعليقات ( Commentaries).
* النص: المدونة، الكتاب في لغته الأولى، غير المترجم، قرأت فلاناً في نصه، أي في أصله الموضوع.
* النص كل مدونة مخطوطة أو مطبوعة، ومنه النص المشترك (Texte Co-) .
* " سياق النص، مساقه، أجزاء من نص تسبق استشهاداً، ( Citation)، أو تليه، فتمده بمعناه الصحيح .
يقال: ضع الحدث في سياقه التاريخي. أي: في مكانه الصحيح.
* التساوق ( Contexture) هو التوالف بين أجزاء الكل: تناسق القصيدة، تساوق الكلام.([6]).
يتبين من الاستقراء لما سبق وجود فرق كبير في مفهوم النص بين التراث والمعاصرة، وإذا كان مفهوم النص في السابق يشير إلى الدلالة المركزية للفظ (النص)، وما به من ظهور واكتمال، وإلى تركبه من أجزاء مترابطة ومتحركة وقابلة للتفكيك عبر استقصاء مسألة الفرد لاستنطاق نصه، إلا أنه لا يؤدي إلى التعريف التام الذي تثبته الدراسات الحداثية، وما بعد الحداثية في التعامل مع النص كمصطلح دلالي وإجرائي وبالأخص الدلالة الفقهية للنص والذي قصرته المعاجم على ما دل ظاهر اللفظ عليه من أحكام للنص. فلقد مالت الدراسات الحداثية إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للنص ولذلك تشابه تعريف د.خليل أحمد خليل مع المعاجم الغربية .
لقد تطورت دلالة النص، ولا يضير العربية عدم وجود تعريف محدد بدقة للنص. فلقد " أدرك عدد من المفكرين الغربيين أهمية هذا الأمر بعد سقوط البلاغة عندهم. ولذا، نرى أن (رولان بارت) مثلاً يرفض تعريف (تودورف) للنص وينتقد عليه قربه من البلاغة، لأنه كما قال: ( خاضع لمبادئ العلم الوصفي )، ثم ينتهي إلى القول بعد تحليل طويل: "نفهم الآن أن نظرية النص موضوعة في غير مكانها المناسب في المجال الحالي لنظرية المعرفة ولكنها تستمد قوتها ومعناها من تموضعها اللامناسب بالنسبة إلى العلوم التقليدية للأثر الفني- تلك العلوم التي كانت ولا تزال علوماً للشكل أو للمضمون"([7]).
إن غيبة التعريف بالنص لا تعني عدم معرفة العرب به أو عدم وجود جذور له في العربية، فلقد تناول العرب النص ومارسوه وإن اختلف المنهج المتبع. فالتعريف غائب ولكن ممارسته حاضرة. " وفي البلاغة العربية برزت النظرة الشمولية إلى النص لدى غير واحد من البلاغيين. فعندما يتاح لنا النظر – مثلاً - في كتاب " إعجاز القرآن " للباقلاني – أبي بكر المتوفى نحو(403 هـ)، نجده يفرط إفراطاً كبيراً في التأكيد على النظرة الشمولية للقرآن الكريم، مستبعداً جل ما رجح به البلاغيون _ قبله_ من ظنون في إشكالية الإعجاز، مؤكداً أن خصائص الرشاقة والأسلوب، التي تتكرر في القرآن الكريم كله، حيثما أنعمنا النظر هي سبب الإعجاز ومصدره، وليس الإعلام بغيب….
أما عبد القاهر الجرجاني توفي (471 هـ) ….، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي. فهو – في نظره – لا يستطيع أن يحكم على المزية فيه من قراءة البيت أو الأبيات الأولى، وإنما يقتضيه هذا النظر والانتظار حتى يقرأ بقية الأبيات وقد لا يستطيع أن يقف على أسرار النص ما لم يستفرغ جهده في تأمل القطعة الأدبية كاملة، وبعد ذلك يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما فيها من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير….
أما ضياء الدين ابن الأثير توفي (637 هـ) فقد أنكر في كتابه " المثل السائر" ما كان ذهب إليه الجمهور، من أهل النظر البلاغي، من حيث أن البيت الشعري يجب أن يكون مستقلاً الاستقلال الكلي عن غيره من أبيات، وأنه لا يجوز أن يكتمل معناه في أول البيت الثاني – مثلاً – وأنكر ما عابه النقاد على الشعراء مما سموه " التضمين "، وهو ألا يكتمل المعنى بقافية البيت، بل يحتاج إلى الشطر الذي يليه. وذهب _ ابن الأثير _ إلى القول بأن علاقة البيت بالبيت كعلاقة الفقرة بالفقرة من النثر، فكما أنه يجوز أن يصل الفقرة بالفقرة، دون أن يعد ذلك عيباً في نثره. فكذلك الشعر يستطيع الشاعر أن يعلق معنى البيت بالذي يليه، ولو صح هذا … لكانت القصيدة كالسبيكة الواحدة، لا يستطيع كائن من كان أن يرى تفككها، وتشتت أجزائها، أو خلوها من وحدتها العضوية، وحدتها الحية التي ينشدها المبدع، وتعين القارئ على التفاعل مع النص، تفاعلاً يجعله يقف على مزاياه المتمثلة في انضباطه وتنظيمه الداخلي.
وينفرد حازم القرطاجني (توفى 684 هـ) … بنظرة أكثر شمولية للنص، تميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البديع والبيان …. فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى " فصول " زعم أن لها أحكاماً في البناء، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة، وما سماه بالمقطع، وهو آخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير، والنهائي، عن القصيدة " ([8]).
لقد عرف العرب القدماء النص وأدركوا دوره، وفي الأدب العربي إشارات عديدة ترشدنا إلى ما يؤكد أن النص غير متناه في الإنتاج والحركة، وقابل لكل زمان ومكان لأن فاعليته متولدة من ذاتيته النصية، ولقد أشارت كتب الأدب العربي إلى ممارسات نصية عديدة بخصائص ومميزات تختلف بين العصور الأدبية. ولكن " لم يعرف العرب في تاريخهم ممارسة نصية كما عرفوها مع القرآن. ولعل أولى مظاهر هذه الممارسة … تكمن في الوقوف على ( النص في ذاتيته النصية ) بتعبير رولان بارت. فذاتية النص تجليها قراءة للمكتوب تجعل النص كلاماً يقوم بنفسه إزاء كلام آخر يظهر عبر إنجاز لغوي مختلف"([9]).
ويرى بعض النقاد أن النص القرآني يتسم بكل صفات النص، مما جعل البعض يقصر لفظ نص على نص القرآن الكريم يقول (أدونيس) في مميزات النص القرآني:"إن النص القرآني يتجاوز الشخص: الله هو الذي أوحاه، ونقله إلى النبي ملاك. وبلغه النبي إلى الناس، ودونه كتاب الوحي، إنه عمل إلهي - إنساني عمل كوني، وهو بوصفه كذلك محيط بلا نهاية للمتخيل الجمعي. وربما كان أعقد ما فيه بوصفه كتابة، خلافاً لما يبدو ظاهرياً هو أنه متابعة لما قبله وتكملة: إنه خاتمة النبوات وخاتمة الكتابة، إنه بمعنى ما أنهى الكتابة. ذلك أنه لم يكتب الأثر الذي يولده الشيء، وفقاً لتعبير مالارميه، وإنما كتب الشيء ذاته. لهذا لا يطرح النص القرآني مسألة ما الشعر، أو ما النثر وإنما يطرح السؤال ما الكتابة، وما الكتاب ؟
هكذا يقرأ النص القرآني بوصفه نصاً يجمع في بنيته أشكال الكتابة جميعاً. " كأنه أعاد الأبجدية إلى فطرتها، قبل الكتابة وفيما وراء الأنواع الكتابية" و" لغته ليست مجرد مفردات وتراكيب وإنما تحمل رؤيا معينة للإنسان والحياة وللكون أصلاً وغيباً ومآلاً"([10]).
النص القرآني " نص مكتوب (نص / كتابة )، يطرح إشكالية التصنيف (ليس له شكل محدود ولا ينتمي إلى أي نوع من أنواع الكتابة المألوفة )، ليست له بؤرة مركزية ( بل يتضمن بؤراً لا نهاية لها)، وهو بلا بداية أو نهاية ( له فاتحة ولكن ليست له بداية أو نهاية بالمعنى المألوف )، يقبل تأويلات لا حصر لها ( حظي بهذا وسيبقى يحظى بتأويلات لا نهاية لها )، ذوات طاقة رمزية مطلقة، الإحالة المرجعية في النص القرآني على النص نفسه، وحقوق طبع النص القرآني غير محفوظة لأحد"([11]).
كما أن الدين واللغة في النص القرآني، " شكل روحي واحد أو بنية روحية واحدة لهذا يتكون من الغامض الذي لا يمكن أن يعرفه الإنسان ومن الواضح الذي يعرف مباشرة من ظاهر اللفظ، فهو أفق مفتوح، لكن على الغيب" ([12]).
ولقد توصل الأدب العربي إلى ذلك فقد رأى الجرجاني أن " للكتابة القرآنية خصائص لم تعرف قبل نزول القرآن، ويرى أنها لا تكمن في الكلمات المفردة - في جمال حروفها وأصواتها وأصدائها ولا في معاني الكلمات المفردة، التي هي لها بوضع اللغة، ولا في تركيب الحركات والسكنات، ولا في المقاطع والفواصل، وإنما تكمن هذه الخصائص في النظم والتأليف اللذين يقتضيان الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز فمن هذه يحدث النظم والتأليف، وبها يكونان" ([13]).
كما عبر الباقلاني عن أن القرآن نظام لغوي يقوم على غير مثال، حيث يقوم:"على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه من أساليب الكلام المعتاد" ([14]).
" نشأ مع النص القرآني على الصعيد الإنساني، إنسان جديد، ونشأ معه على الصعيد الأدبي الخالص قارئ جديد … إنه نموذج من الكتابة تتداخل فيه مختلف أنواع المعرفة – فلسفة وأخلاقاً، سياسية وتشريعاً، اجتماعاً واقتصاداً، وتتداخل فيه مختلف أنواع الكتابة … وفي هذا ما يتيح للكاتب أن يعيد النظر في رؤياه للإنسان والعالم والكتابة، ولن تكون هذه الرؤيا إلا كونية وإنسانية. لن تكون إلا مزيداً من الاتجاه نحو الإنسان بوصفه إنساناً فيما وراء كل عرف ولون، وفيما وراء كل انتماء، ولن يكون فيها فرق بين الإنسان والإنسان إلا في عمق التعبير عن هذه الرؤيا وفي غناه وفرادته. إنه نص - دعوة إلى كتابة جديدة برؤيا جديدة " ([15]).
فـ" القرآن نص ينعقد مدلوله بأحوال متلقيه لا بأحوال مرسله، وهو لأنه كذلك، فإن التمثيل الوجداني الذي تضطلع أسلوبيته الفردية به، لا يقوم هنا على مثال مرسله، ولكن على مثال متلقيه. وبناء على هذا، يمكننا أن نقول: إن التحليل الأسلوبي لمضامين النص القرآني الوجدانية، إنما هو صورة ترسم انفعال المتلقي بالنص، دون أن ترسم انفعال المرسل، وذلك لسببين :
- لأن المتلقي (موضوع الخطاب ) يعتبر جزءاً من دلالة الخطاب نفسه، فهو المنفعل فيه من جهة، وهو الذي يجليه إن سلباً وإن إيجاباً من جهة أخرى. وهو لأنه كذلك، يصبح أداة الخطاب في الدلالة على مرجعيته، فتتعين العلاقة بهذا بين الخطاب دالاً وما يشير إليه، أي مدلوله.
- لأن الله في التصور الإسلامي، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء و" ليس كمثله شيء".
- وما دمنا ننظر إلى القرآن بهذا المنظور، فسنرى أن ثمة علاقة تجاذبية تقوم بينه وبين المتلقي. فالدال يدل. من جهة أولى، على متلقيه ويتعدد به. والمتلقي من جهة ثانية، يرتبط به ارتباط المستدل بغيره على نفسه، وبه يتحول" ([16]).
القرآن " مفتاح لفهم العالم الإسلامي، ولن يفهم أحد المسلمين وتاريخهم … إلا بدءاً من استيعاب هذا النص والإحاطة بمستوى العلاقة القائمة بينه وبين المسلم، دون ذلك سيظل المسلم غريباً، قطعاً عن الآخر … والإنسان خصوصاً. في هذا العصر الكوني، لن يكون ذاته إلا بقدر الآخر. فأن يكون الإنسان مواطناً حياً وحقيقياً في بلده هو أن يكون مواطناً كونياً…. فـ" الكتاب أساس العالم وخلاصته منذ حوالي أربعة عشر قرناً وخاتم للكلام … " ([17]). وهو " نص لا يسمى، أو لا تسمح معايير الأنواع الأدبية بتسميته. إنه نص لا يأخذ معياره من خارج، من قواعد ومبادئ محددة، وإنما معياره داخلي فيه… وإنه مطلق: لا يدرك معناه، ولا يبدأ ولا ينتهي، وهو بوصفه مطلقاً يتجلى في زمان ومكان، متحرك الدلالة، مفتوح بلا نهاية. إنه الأبدية المتزمنة. إنه ما وراء التاريخ الذي نستشفه ونقرأه عبر التاريخ … الكتاب بهذا الشكل شبكة تتداخل خيوطها وتنحبك في علاقات متعددة ومتنوعة، مفتوحة كالفضاء. إنه فن آخر من القول، وفن آخر للقول. فن في الكتابة، وفن في تكوين النص … إنه الكتابة المطلقة لكتابة المطلق"([18]).
وقد كتب العديد من الكتاب والمثقفين في ( النص القرآني )، وأبدعوا أيما إبداع ومارسوا في دراستهم له كل ما توصلوا إليه من نظريات حديثة علمية وأدبية لاستنطاق النص، ومحاولة الاستفادة منه في كل زمان ومكان. وكانت كل قراءة له تعد محاولة تأتي اللاحقة بها لتنفيها أو تبني عليها، ثم ترتقي بها خطوة أخرى للأمام منسجمة ومتوافقة مع العالم المحيط .
ولم تكن الإشكالية في دراسة ( النص القرآني )، في أي من مستوياته، ولكن الإشكالية بدأت تظهر مع ظهور المنهج النصاني، ومحاولة تطبيقه على القرآن من قبل بعض المثقفين والنقاد وإخضاعه لشروط النظرية النصية والادعاء بأن القرآن ( نص ) بالمفهوم الحديث والمعاصر للنص وأنه يشتمل على وظائف الاتصال التي عددها جاكبسون ومعايير النصانية التي حددها دوبوجراند.
لكن النظرية النصية نظرية إنسانية، وليس من الضروري أن تنطبق كل نظرية يتم التوصل إليها بالعقل البشري على القرآن الكريم، فالقرآن لم يكن في يوم من الأيام كتاب فلك، أو علوم، أو بلاغة، أو أدب إنه " الكتاب " كما أسماه رب العالمين .
ويطبق الكثير من المثقفين(*) معايير النصية على القرآن الكريم، ويؤكدون أنه (نص )، وهم بذلك يتناسون أن النصانية تقوم بشكل رئيس على التناص، فهي محكومة به. والتناص الذي يضفي الكثير من الجمال على الدراسات النصانية في الأدب، يُخرج النص القرآني في المصحف الشريف من الإلهي إلى البشري. وإن اعتبار القرآن كغيره من النصوص يؤكد ما يسعى إليه بعض المستشرقين والمستعربين من أن ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نصاً من الله هو جزء محدد من الكتاب، وأما البقية الباقية منه وبالأخص القصص فلقد جاءت من التناص مع الأديان السابقة على القرآن الكريم، وما استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام كما يدعون أخذه عن الأحبار والرهبان، وتلك فرية كبيرة على القرآن الكريم النص الإلهي المطلق المنزه.
إن التراث البلاغي والنقدي العربي يسوغ لنا أن نتتبع فكرة النص عند المحدثين العرب، والنص في الوقت الحالي ما إن يذكر حتى يذكر محايثاً له د.عبد الله الغذامي، ود.محمد مفتاح، ود.صلاح فضل، ود.باسل حاتم ود. رقيه حسن، وغيرهم ممن عرّف النص وقام بالتنظير له، يقول د.محمد مفتاح: "النص مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة .
- مدونة كلامية : يعني أنه مؤلف من الكلام وليس صورة فوتوغرافية أو رسماً أو عمارة أو زياً وإن كان الدارس يستعين برسم الكتابة وفضائها وهندستها في التحليل .
- حدث : إن كان نص هو حدث يقع في زمان ومكان معينين لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي .
- تواصلي : يهدف إلى توصيل معلومات ومعارف ونقل تجارب … إلى المتلقي .
- تفاعلي : على أن الوظيفة التواصلية في اللغة ليست هي كل شيء، فهناك وظائف أخرى للنص اللغوي أهمها الوظيفة التفاعلية التي تقيم علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع وتحافظ عليها .
- مغلق : ونقصد انغلاق سمته الكتابية الأيقونية التي لها بداية ونهاية، ولكنه من الناحية المعنوية هو:
- توالدي : إن الحدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم وإنما هو متولد من أحداث تاريخية ونفسانية ولغوية … وتتناسل منه أحداث لغوية أخرى لاحقة له " ([19]).
ويرى الغذامي أن : " النص الأدبي هو بنية لغوية مفتوحة البداية ومعلقة النهاية، لأن حدوثه نفسي لا شعوري وليس حركة عقلانية. ولذلك فإن القصيدة لا تبدأ كما تبدأ أي رسالة عادية تصدر بخطاب موجه إلى المرسل إليه، وتختتم بخاتمة قاطعة التعبير. إن القصيدة تبدأ منبثقة كانبثاق النور أو كهطول المطر وتنتهي نهاية شبيهة ببدايتها وكأنها تتلاشى فقط وليس تنتهي، ودائماً ما تأتي الجملة الأولى من القصيدة وكأنها مد لقول سابق أو استئناف لحلم قديم، إنها لكذلك لأنها نص يأتي ليتداخل مع سياق سبقه في الوجود. وكذلك فالنص مفتوح وهو بنية شمولية لبنى داخلية: من الحرف إلى الكلمة إلى الجملة إلى السياق إلى النص ثم إلى النصوص الأخرى ليكون بعد ذلك:(الكتاب امتداداً كاملاً للحرف)" ([20]).
وتأكيداً على إجرائية النص وسعياً به إلى أقصاه أوضح الغذامي أن النص " كلي في حركة مرحلية لأنه نص بنيوي، والبنية شمولية / ومتحولة / وذات تحكم ذاتي والنص يتحرك داخلياً بحركة مفعمة بالحياة كي يكون بنية الوجودية، ليكون له هوية تميزه. فإذا ما تميز فإنه يتحرك كاسراً لحواجز النصوص ليدخل مع سواه في سياق يسبح فيه كما تسبح الكواكب في مجراتها" ([21]).
ولكن هل ينظر كل هؤلاء النقاد للوصول إلى تعريف تام للنص ؟ يقول د. منذر عياشي : " إن وضع تعريف للنص يعتبر تحديداً يلغي الصيرورة فيه، ويثبت إنتاجيته على هيئة نمطية لا يكون فيها زماناً للمتغيرات الأسلوبية والقرائية أثر، ويلغي قابليته التوليدية زماناً ومكاناً، ويعطل في النهاية فاعليته النصية "([22]).
و" يذكر (دوبوجراند) في بداية تأريخه لعلم النص رأياً لـ(فان دايك) يقول فيه: لا يخضع علم النص لنظرية محددة أو طريقة مميزة وإنما يخضع لسائر الأعمال في مجال اللغة التي تتخذ من النص مجالاً لبحثها واستقصائها"، ويعني ذلك ألا نتوقع في دراستنا لتاريخ علم النص أن تبرز نظرية واحدة أو اتجاها محدداً وإنما يجب أن نتجه نحو سائر الأعمال التي أسهمت في إبراز هذا المجال الحيوي في دراسة اللغة " ([23]).
لذلك فإن كل ما يحدث هو عبارة عن محاولة للمقاربة بين التفسير المعجمي السابق للفظ (نص) في العريبة، ولفظ ( TEXT ) في الإنجليزية، ثم المقاربة بين محاولة كل من العرب والغرب في تحويل مصطلح النص من المفهوم إلى الإجراء للاستفادة منه في دراسة بلاغية حداثية تساعد على إحياء علم البلاغة من جديد واستنطاق النصوص شمولياً وتأويلها بما يثري الأدب والعلم على حد سواء .
إن ثقافتنا ثقافة شفاهية تعتمد على السماع، ولم تعرف الكتابة بشكل رسمي إلا مع تدوين القرآن الكريم، ولذلك لم يرتبط مفهوم النص في معاجمنا بالكلام المكتوب كما هو الحال في المعاجم الأجنبية التي ركزت على أن النص مدونة، وأنه إنجاز فعلي أو كتاب، أو جزء من كتاب مخطوط باليد أو منقوش أو مطبوع . ولكنهم يتفقون معنا في إطلاق لفظ ( نص) على النص المأخوذ من القرآن أو النص الكامل للقرآن أو الكتاب المقدس، بل إن التعريفات تشير إلى أن النص بداية كان يطلق على مخطوطة الكتاب المقدس كما يطلقه البعض من نقادنا على نص القرآن الكريم .
لقد تعددت الدلالات الواردة في تعريف ( النص ) في المعاجم الأجنبية، ومع ذلك فإنهم لم يربطوه بالنسيج(TISSUE )، إلا اعتماداً على الأصل اللاتيني للفظ(TEXT)، فـ (TEXT ) باللاتينية مشتق من ( TEXTUS ) بمعنى النسيج (TISSUE ) المشتقة بدورها من (TEXTURE ) بمعنى نسج، ومنه تطلق كلمة ( TEXTIL ) على ما له علاقة بإنتاج النسيج بدءاً بمرحلة تحضير المواد، وانتهاء بمرحلة النسيج النهائي وبيعه، وإذا كانت العلاقة بين النص و ( TEXT) غير متطابقة في العربية، حيث يرد مفهوم (TEXT ) ضمنياً في لفظ ( نص)، فإن التـطابق أكـبر بين الـدال
(TEXT) والدال (نسيج ) فلقد ورد مفهوم (TEXT )، في الدال نسيج بدلالته المباشرة في القواميس العربية واستخدمه النقاد العرب القدامى في تعريفاتهم بما يؤكد معرفة العرب لهذه العلاقة تماماً كتعامل الغرب مع الأصل اللاتيني للفظ (TEXT ). ففي القاموس المحيط " نسج الثوب ينسجه وينسجه فهو نساج وصنعته النساجة والموضع منسج ومنسج والكلام لخصه وزوره وكنبر أداة يمد عليها الثوب لينسج، ومن الفرس أسفل من حاركه. وهو نسيج وحده لا نظير له في العلم وغيره وذلك لأن الثوب إذا كان رفيعاً لم ينسج على منواله غيره. وناقة نسوج لا يضرب عليها الحمل أو التي تقدمه إلى كاهلها لشدة سيرها ونسج الريح الربع أي يتعاوره ريحان طولاً وعرضاً، والنساج الزراد والكذاب، والنسج بضمتين السجادات" ([24]).
ولقد ربط العرب بين نسج الثوب ونسج الشعر وبين الشعر والنسج والتصوير، فكلها تحتاج إلى تناسق وتداخل وتفرد ويكون الهدف منه الإبداع والوصول إلى غاية الصناعة. قال الجاحظ: " إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"([25]). ويرى ابن طباطبا أن " الشاعر الحذق كالنساج الحاذق الذي يفوق وشيه بأحسن التفويق، ويسديه، وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه. وكالنقاش الرقيق الذي يصنع الأصابع في أحسن تقاسيم نقشه. ويشيع كل صيغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان "([26]).
كل تلك الفنون تولد من خلال التداخل والتركيب والترابط ولذلك يقول عبد القاهر الجرجاني: "واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض، حتى تصير قطعة واحدة…"، " فكما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرها من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف شعراً من غير أن يحدث فيها النظم" …و" كما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، كما الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه…"([27]). "
وقد آثر الدكتور عبد الملك مرتاض أن يكون المقابل العربي لـ(Text ) هو (النسيج ) لما في دلالته اللغوية من معنى الترابط، ولعدم توافر هذا المعنى في مادة (نصص)، ورأى أن العرب عرفوا أن النص مفهوماً وشكلاً وممارسة ولكن هذه المعرفة لا تعني وجود نظرية النص عند العرب " ([28]).
النصانية وآفاقها:
أولاً: النص والعمل (work) :
يبدأ دائماً تعريف النص بتمييزه عن العمل أو الأثر، ولقد فرق ( رولان بارت) في بحث كتبه سنة 1971 بعنوان ( من العمل إلى النص ) بين النص والعمل الذي تقول به مدرسة النقد الحديثة، وقد لخص ( ليتش ) الأفكار الرئيسة لهذه المقالة مركزاً على أنه :
" يتم التفاعل مع النص في فعالية شاملة من العطاء اللغوي وذلك نقيض ( العمل) الذي هو تقليدي. ويتحدى النص كل حواجز العقلانية والقرائية وقواعدهما وبذلك فهو يتجاوز كل التصنيفات والطبقات التقليدية. كما ويتمثل النص في التحول اللامحدود للمدلولات من خلال التحرك الحر للدال الذي يفلت بطاقة لا تحد ولذا فهو غير قابل للانفلات أو التمركز. ويحقق النص حداً غير قابل للتحجيم من الدلالات الكلية لأنه مبني من الاقتباسات المتداخلة مع النصوص الأخرى، ومن الإرجاعات والأصداء، ومن اللغات الثقافية التي هي غامضة وغير قابلة للرصد ولذا فالنص إنما يستجيب للانتشار فقط(Dissemination) ( أي ينتشر في النصوص اللانهائية التي تداخلت معه). أما تصدير النص باسم المؤلف فلم يعد رمزاً لأبوته للنص وليس ذلك يميزه. فالمؤلف ليس هو البداية للنص ولا هو غاية له، ولكن المؤلف يستطيع أن يزور النص كضيف عليه فقط. والنص مفتوح ومطلق الخروج، والقارئ ينتج النص في تفاعل متجاوب لا في تقبل استهلاكي بالإضافة إلى أن النص مهيأ لطوباوية (يوتوبيا ) ولحالة اللذة الانتشائية ( من متلقيه ) " ([29]).
لقد أغلقت البنيوية العمل على لغته ولسانيتها ولكن النص أعطى للسياقات التي يقع فيها العمل دورها في فك شفراته كافة … فالنص بذلك يلتحق بالفكر النقدي كواحد من أهم مقولاته في حين العمل يبقى قائماً في الحقل الإبداعي كنتاج مادي محسوس له.
وذلك " يعني أن النصية ليست خصيصة ملازمة لكل عمل أدبي ( أو أي عمل آخر )، بل إن قدرة العمل للانتقال إلى مستوى " النص " رهن بمجموعة خصائص لا بد من تحقيقها داخل العمل نفسه، تتلخص جميعها في كيفية تقاطع العمل، كمجموعة من الدلائل مع اللسان كمجموعة من القواعد. ثمة فوارق بين احتواء " اللسان " للآثار اللغوية للأعمال، وتقاطع هذه الأعمال معه، ففي الحالة الأولى نكون بمواجهة عمل مغلق ومتطابق تماماً مع اللسان، لا كنظام قاعدي، ولكن كرؤية للعالم وتنظيم له، ومن ثم فلا وجه – هنا - لحضور الذات، سواء أكانت ذات المرسل أم ذات المستقبل، وبالأحرى، لا مكان لحضور التاريخ باعتباره عالماً نصوصياً محصوراً فاعلاً إن اللسان ينتج المعنى على مستوى العمل، دونما حاجة لانتقاله إلى المستوى الذي تتم فيه إعادة توزيع اللسان بتفكيكه، كنظام عام وسلطوي وإعادة بنائه نظاماً خاصاً وإبداعياً حراً أي نصاً.
أما في الحالة الثانية فإننا بإزاء عمل " العلامة " فيه تلفت الانتباه إلى تعسفيتها ذاتها، علامة لا تحاول الغش لتبدو طبيعية، بل نوصل خلال ذات حركة نقل المعنى شيئاً من وضعها الخاص النسبي الاصطناعي … فالعلامات التي تمرر نفسها على أنها طبيعية … تقدم نفسها على أنها الطريقة الممكنة الوحيدة لرؤية العالم، هي بهذه الصفة علامات سلطوية أيديولوجية… إذن يبتدئ العمل اختلافه مع اللسان الذي يتأسس داخله متقاطعاً معه بفضل العلامة نفسها… الدال ذاته الذي يحيد بهذه الخصيصة فعاليته القاعدة التركيبية في توجيه طاقته الدلالية، وبتتابع الدوال خطياً عبر قواعد تركيب لا تتمكن من أداء وظيفتها ( القمعية ) يعجز السياق عن أداء وظائفه، وهكذا يكون العمل الأدبي – خصوصاً - محض شيء مادي محسوس موضوع هنا وهناك بانتظار فعالية قرائية ترفعه إلى مستوى يفجر ذاكرة علاماته لتستجلي مجموع التلفظات …. الكتابات …… النصوص ….. الخطابات القارة في تاريخه الأركيولجي"([30]) .
وقد ركز النقاد على النص وأكدوا الفرق بينه وبين الأثر، وعدوا أن أهم ما يوجد عند دريدا هو المفهوم ( الأثر) …. فالأثر عنده هو القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص ويتصيدها كل قراء الأدب .
" والأثر هو التشكيل الناتج عن (الكتابة)، وذلك يتم عندما تتصدر الإشارة الجملة، وتبرز القيمة الشاعرية للنص، ويقوم النص بتصدر الظاهرة اللغوية، فتتحول الكتابة لتصبح هي القيمة الأولى هنا. وتتجاوز حالتها القديمة من كونها حدثاً ثانوياً يأتي بعد (النطق) وليس له من وظيفة إلا أن يدل على النطق ويحيل إليه. إن الكتابة تتجاوز هذه الحالة لتلغي النطق وتحل محله. وبذلك تسبق حتى اللغة وتكون اللغة نفسها تولداً ينتج عن النص. وبذا تدخل الكتابة في محاورة مع اللغة فتظهر سابقة على اللغة ومتجاوزة لها، ومن ثم فهي تستوعب اللغة، فتأتي كخلفية لها بدلاً من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً "([31]).
ولذلك فـ "النص يتميز عن الأثر الأدبي بأنه نسيج من العلامات" ([32])، أما الأثر الأدبي فينحصر في المدلول، وهذا المدلول له نوعان من الدلالة: ظاهرة ( وحينئذ يكون الأثر موضوعاً لعلم يهتم بالمعنى الحرفي كفقه اللغة ) أو مضمرة ( وحينئذ ينبغي التنقيب عنه، ويصبح الأثر موضوعاً للتأويل) لكن النص – لكونه كتابة متعددة– فإنه لا يقبل التنقيب أو التأويل فهو لا يتطلب إلا الفرز والتوضيح، فالنص تمددي، مجاله هو مجال الدال. لكن التوليد الدائم للدال داخل مجال النص (أو لنقل الذي مجاله النص ) لا يتم وفق النمو العضوي أو حسب طريق تأويلي وإنما وفق حركة تسلسلية للتداخل والتغيير.
فالصورة المجازية بالشبكة توحي بصورة الكائن العضوي الذي ينمو بفعل التكاثر الحيوي. أما الصورة المجازية للنص فتوحي بالشبكة. الأثر الأدبي ( في أفضل الأحوال)، رمزي بدرجة وضيعة (رمزيته قصيرة النفس أي سرعان ما تتوقف) أما النص فطاقته الرمزية مطلقة. لهذا فإن النص لا يمكن أن يكون هو ذاته إلا في اختلافه (الأمر الذي يعني عدم تفرده أو تحدده )" ([33]) .
" ومن هذا جاء دريدا ليقدم (الأثر) كبديل لإشارة سوسير وهو يطرحه كلغز غير قابل للتحجيم، ولكنه ينبثق من قلب النص كقوة تتشكل بها الكتابة، ويصير ( الأثر) وحده نظرية في فكرة ( النحوية) ترتكز الفكرة بكل طاقاتها عليه، ومن خلالها تنتعش الكتابة، وإن كان سحراً لا يدرك بحس. ولكنه يتحرك من أعمق أعماق النص متسرباً من داخل مغاوره ليشعل طاقاته بالفعاليات الملتهبة، مؤثراً بذلك على كل ما حوله دون أن تستطيع يد مسه، والأثر مسئول عن كل انفعال يصدر عن الجزئيات الدنيا للإشارة، مثلما أنه حاصل الناتج الذي تحدثه وظائف العلامات كما في النظر البنيوي" ([34]).
وإذا كانت حركة النص المكونة هي العبور والاختراق ( عبور الآثار الأدبية العديدة ) فإن النص يطرح مشكلة التصنيف وتجربة الحدود. فما يحدده هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة، وعدم الخضوع بل التمرد على التقسيمات المألوفة للأجناس.
و" إذا كانت الإجابة عسيرة فهو كاتب نص وإلا فهو كاتب أثر. فالأثر الذي يوجد على الحدود (حدود الأخبار الأدبية المعروفة ) هو نص. فالنص / كتابة يضع نفسه وراء الرأي السائد إنه بدعة، وخروج عن حدود الرأي السائد والكتابة لا تعني رسم الأصوات اللغوية ولا مجرد الربط بين العبارات بل تعني _ على حد تعبير رولان بارت _ أن نضع أنفسنا فيما يطلق عليه اليوم التناص، أي أن نضع لغتنا وإنتاجنا الخاص للغة ضمن لا نهائية اللغة. أي ضرورة الاختفاء - اختفاء الذات الفاعلة/الكاتبة في اللغة والأدب عنده _ وهو يفضل أن يسميه كتابة _ وهو دوماً خلخلة أي ممارسة تهدف إلى زعزعة الذات الفاعلة وتشتيتها في ذات الصفحة. فلا وجود للمؤلف إلا لحظة الإنتاج / الكتابة وليس قط لحظة ينتهي الإنتاج، فالكاتب بعد أن ينتهي ينفصل عن النص" ([35]).
" وما الكتابة إلا وجه واحد من تجليات ( الأثر) وليس هي الأثر نفسه، وبكل تأكيد فالأثر الخالص لا وجود له - كما يقول دريدا - وهدف التحليل التشريحي هو تصيد الأثر في الكتابة ومن خلالها، ومعها. وتأتي ( النحوية ) كعلم جديد للكتابة لترفض إنزال الكتابة إلى صف ثانوي مستبعدة من اللغة المنطوقة فهي لا تخضع الكتابة للمخاطبة، وإنما تفحصها وتحللها قبل الخطاب وفيه، أي في النصوص"([36]) .
" ويدخل النص مع الأثر في حركة محورية دائرية تبدأ بالأثر متجهة إلى النص، ثم تعود إلى الأثر وهكذا دواليك، فالنص لا يكتب إلا من أجل الأثر، إذ لا أحد يكتب شعراً لينقل إلينا أقوال الصحف، وإنما يكتب الشعر طلباً لإحداث ( الأثر ) " فالأثر إذاً سابق على النص لأنه مطلب له، فإذا ما جاء النص وتلبس بالأثر صار تلمس هذا الأثر هدفاً للقارئ وللناقد، ولذا يأتي الأثر بعد النص ومن خلاله ومن قبله. وتتداخل العلاقة بين النص والأثر حتى لتنعكس بسببها معادلة ( السبب / والنتيجة)، ولهذا فإن التشريحية تأخذ بقلب مفهوم السببية كما فعل نيتشه(· ) من قبل حيث وصف العلاقة بين السبب والنتيجة بأنها علاقة مجازية أو بلاغية"([37]) .
ثانياً: النص والكلام :
لقد تنبه السلف إلى الكلام ومميزاته، حيث يقول الباقلاني : " وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد، وتميزه صعب " ولعل الباقلاني " لم يذهب هذا المذهب إلا لأنه حين تأمل أدرك أن مميزات الكلام لفظاً، وجملاً، ونصوصاً ليست ثابتة، وغير مستقرة، ولا تقوم خصائصها على قيم مطلقة، فهي تتغير بتغير السياقات الواردة فيها، سواء أكانت هذه السياقات خارجية، كما في حالة الكلام الشفوي، أم داخلية كما في حالة النص المكتوب …وهي تتغير بتغير الأزمنة، والأمكنة. وتتغير بتغير القراء، وتغير مفاهيم الحياة التي تحيط بهم . وهي تتغير أيضاً وأخيراً لأن اللغة طاقة خلاقة والنص المعبر بها يبني نموذجه ثم يلغيه، ويقول شيئاً وربما يعني شيئاً آخر"([38]) .
والكلام في نظر عبد القاهر الجرجاني " هو تعلق الألفاظ، بعضها ببعض عن طريق العلاقات النحوية، وأن هذه العلاقات النحوية هي التي تسلك الكل في سياق. وأن النحو موجود في منظوم كلام العرب ومنثوره، والعلم به مشترك لدى العام والخاص" ([39]).
و" يؤكد " سوسير " أن الكلام الذي ينتجه الفرد بمحض إرادته ووعيه الخاص، يخدم أهدافه، ولذلك فإنه يلجأ إلى طرائق تمكنه من استخدام تلك المادة، وهاتيك الضوابط بما يتكيف ويناسب هذا الهدف([40]). وقد تكون هذه الطرائق غير مسبوقة في اللغة"([41]). ولذلك " ميز في الظاهرة الألسنية بين ظاهرتين هما اللغة باعتبارها نظاماً من الرموز، والكلام باعتباره الاستعمال الفعلي لهذا الكلام. و" أدرك الصلة بين الاجتماعي والفردي في اللغة حين قال : اللغة في ماهيتها نظام اجتماعي، مستقل عن الفرد في حين أن الكلام هو منها بمثابة التحقيق العيني الفردي ومعنى هذا أن اللغة تقنين اجتماعي أو مجموعة من القوانين codes في حين الكلام فعل فردي" ([42]).
" ويقول سوسير " إن الكلام هو إنجاز للغة ضمن حدث خطابي وإن إنتاج الخطاب المفرد إنما يتم بواسطة متكلم مفرد " ([43]).
هذا وتقتضي " الدراسة الأسلوبية أن يكون الكلام ذا مستوى فني معين، وأن يكون مميزاً في الكلام العادي أو ما يسمى لغة الخطاب النفعي فهي تخلو من الأسلوب الذي هو مجال الدراسة الأسلوبية. فـ"بارت " يقصر استخدام الأسلوب أو ما يسميه " درجة الصفر في الأسلوب " على ذلك اللون من الأدب الحديث الذي لا يهتم فيه المبدع كثيراً بفكرة التوصيل والوضوح وإرضاء الجماعة التي تتعامل مع ذلك الأدب، وإنما يكون اهتمامه منصباً على العمل نفسه"([44]). ويقول رولان بارت إن النص " ليس موضوعاً، ولكنه عمل واستخدام، وليس مجموعة من الإشارات المغلقة المحملة بمعنى يجب العثور عليه، ولكنه حجم من الآثار التي لا تكف عن الانتقال([45]) .
لاحظ هؤلاء النقاد " أن بين النص مكتوباً والخطاب ملفوظاً، وحدة لغوية ولكنهم أدركوا أن الإنجاز يقف فيصلاً بين الطرفين. وطالما يذكرنا هذا بنظرية " سوسير " في اللغة والكلام، أو بنظرية "تشومسكي" في الكفاية والأداء. فالنص كلام إلا أنه يصدر عن ذاتيته النصية التي عملت على إنجازه وأدائه. والكلام الآخر، غير النصي هو كلام أيضاً، إلا أنه خطاب شفوي عمل الشخص على إنجازه وأدائه. وهذا يعني أن وحدة اللغة لا تمنع أو لا تحول دون تعددية الإنجاز والأداء" ([46]) .
ثالثاً: النص والكتابة / القراءة :
القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة، ولم أقصد من تناولهما وفقاً للعنوان السابق اعتبار أنهما ثنائية، فما القراءة إلا لشيء مكتوب ولا الكتابة إلا بناء على قراءة أو قراءات سابقة. ولقد اختلف مفهوما القراءة والكتابة عنهما في السابق وذلك مع اختلاف مفهوم التلقي، فالقارئ في الماضي كان يقوم بعملية القراءة ثم يغلق الكتاب، والطالب يقرأ وينتهي الأمر عند ذلك، وفي المدرسة يجلس سلبياً في الفصل من أجل التلقي الذي كان يقوم على التلقين، ولم يكن من حق الطالب المناقشة أو التعليق أو الاختلاف مع الكاتب في الشكل أو المضمون، ولكن القراءة تحولت من أن تكون استهلاكية إلى أن تكون إنتاجية، وأصبحت القراءة تحمل مفهوم الكتابة، فالقارئ يقرأ ليكتب على ما قرأه، والمبدع الحق هو من يستفز القارئ على مشاركته، فيكتب ثم يأتي قارئ آخر ليكتب شيئاً مختلفاً عن كتابه فالنص مفتوح بلا نهاية، يحتمل الكثير من التأويل والمشاركة، كما أنه قد يكتب نقداً لنقد سابق عليه وذلك من باب نقد النقد وهكذا … فالنص الحي هو الذي يحتمل تأويلات عديدة، والقارئ الحي هو القارئ/ الكاتب المشارك الذي لا يكتفي بالاستماع أو الرؤية فقط، لقد انتهى زمن الناقد، بل ويطلق البعض على هذه المرحلة "موت الناقد" ، حيث لم تعد الكتابة والنقد تختصان بالنقاد والأدباء وبدأ يحل مفهوم القارئ محل الناقد.
ويمكننا القول إن مفهوم الكتابة / القراءة بدأ مع البنيوية، " واكتسب بعداً أوسع في تحليلات " ما بعد البنيوية ". وكان التركيز على المفهوم مرتبطاً بانتقال بؤرة الاهتمام من المؤلف ( بوصفه المصدر) والعمل (بوصفه الموضوع) إلى شبكة العلاقات المتناصة التي ينطوي عليها النص، فصارت " الكتابة " منظومة من القواعد التي تنطوي عليها تفاعلات نصية ( منفتحة دائماً على التفسير، حمالة لمعان لا تكف عن التوالد) وعلى نحو يؤكد إسهام القارئ في إنتاج الدلالة. وصارت " القراءة " قرينة النص المنغلق الذي ينطوي على معنى ثابت والذي لا تتجلى فيه فاعلية التناص والذي يبقي على سلبية القارئ وحذره أثناء عملية إنتاج الدلالة. ولكن هذا التعارض بين " الكتابة " و " القراءة " اكتسب معنى أكثر خصوصية مع – جاك دريدا – الذي ينطلق من مفهوم " الكتابة " من حيث هي نسق سيميولوجي([47]) (بصري ومكاني) لنقش الأحرف على المساحة المنظورة التي تصافحها العين"([48]).
وما أن يذكر النص وتذكر الكتابة حتى يذكر بول ريكور الذي يقول: " لنقل النص هو كل حديث جعلته الكتابة ثابتاً ….. التثبيت بواسطة الكتابة يشكل النص بالذات. ويؤكد أن الكتابة كمؤسسة هي لاحقة للكلام، ويبدو دورها في تثبيت كل التمفصلات التي سبقت وظهرت بطريقة شفهية، بواسطة خطوط أفقية، والاهتمام الكلي تقريباً للكتابة الملفوظة يبدو كأنه تأكيد بأن الكتابة لا تضيف شيئاً على ظاهرة الكلام سوى التثبيت الذي يسمح بالمحافظة عليه، من هنا كان الاقتناع بأن الكتابة هي كلمة متينة وبأن التدوين سواء أكان خطياً أم بواسطة التسجيل، هو تسجيل الكلام الذي يؤمن للكلمة ديمومتها بفضل طابع الحفر الراسخ. ويرى أن بوسعنا التساؤل هل إن ظهور الكتابة المتأخر لم يتسبب في تغيير جذري في علاقتنا بنصوص حديثة بالذات. ولما كان النص حديثاً تثبته الكتابة فما تثبته الكتابة هو إذاً حديث كان بالإمكان قوله بالطبع، ولكننا بالضبط نكتبه لأننا لا نقوله. فالتثبيت بواسطة الكتابة يأتي مكان الكلام بالذات أي حيث كان بوسع الكلام أن يولد" ([49]).
وكل هذا " دفع جوناثان كيلر ( Jonathan Culler ) إلى الشعور بضرورة الاهتمام بالكتابة، والتي هي تمثيل للكلام المنطوق، بل وإيجاد علم خاص بها هو ( علم اللغة الكتابي) الذي ستكون مهمته الانتباه بجدية إلى قضايا مهمة كالبنية والأهداف والتأثير الذي تتركه الكتابة في القارئ فكتب بحثاً بعنوان نـحو عـلم لـغة للـكتابـة
(Towards a linguistics of writing ) يجمع فيه على أن الكتابة: شكل من أشكال التمثيل المكافئ، أو غير المكافئ لما لدى اللغة من قدرة على التعبير، والتأثير الذي يتجلى في الكلام المحلي "([50]).
ولما كان القرآن نصاً مكتوباً، لذلك " فهم السلف في ممارستهم له، أن الكتابة تمثل مجموع الطرق الإنتاجية والتحولية للمكتوب، ولذلك لم ينظروا إليها على أنها تثبيت للقول، وإنما نظروا إليها على أنها إنتاج له وتفريع. وكأن الكتابة هنا ليست أداة إنتاج النص في نسج ما قيل، ولكنها النص المنتمي فعلاً لما يقول. ومن أجل هذا جاءت القراءة مكملة لعملية الكتابة، أو لنقل مشاركة لها في إنتاج النص إذ إنها ليست شرطاً للنص أو وصفاً له بقدر ما هي قراءة لوظيفته. ولقد كانت تعتمد إلى إظهار عمليات تكوينية من جهة. وإلى قراءة إنتاجية من جهة أخرى، ولذا كانت هذه القراءة ممارسة مفتوحة له، وكانت غير متناهية، لأنها لا تستدعي عدة قراءات وتنضاف إليها. وتستخدم عدة وسائل تحليلية وتقنية في ممارسته. ولعل كثرة التفاسير وتنوعها تكون دليلاً على ذلك "([51]).
لقد أصبح النص منفتحاً بسبب الكتابة والحوار مع المتلقين، وفي علاقة الكتابة بالعبارة المنطوقة، وبالقارئ من جهة أولى، وحلول النص محل علاقة الحوار من جهة ثانية، يقول ريكور: " العلاقة كتابة – قراءة ليست حالة خاصة من علاقة الكلام والجواب. ليست هي علاقة محاورة، ليست حالة حوار. لا يكفي القول إن القراءة هي حوار مع المؤلف من خلال مؤلفه.
ينبغي القول إن علاقة القارئ بالكتاب هي من طبيعة مختلفة تماماً، الحوار هو تبادل أسئلة وأجوبة، ليس من تبادل شبيه بين الكاتب والقارئ، الكاتب لا يجيب القارئ: الكاتب يفصل بالأحرى إلى منحدرين فعل الكتابة وفعل القراءة اللذين لا يتصلان، القارئ غائب عن فعل الكتابة، والكاتب غائب عن فعل القراءة. وهكذا يتسبب النص بتغييب مزدوج: تغييب القارئ والكاتب: وبهذه الطريقة يحل النص مكان علاقة الحوار التي تربط صوت الأول بسمع الثاني"([52]). ويقول ريكور : " إن قراءة كتاب هي اعتبار مؤلفه قد مات، والكتاب وضع بعد الموت بالفعل فعندما يموت الكاتب، تصبح العلاقة مع الكتاب كاملة وبطريقة ما، خالصة، الكاتب لا يسعه أن يجيب، تبقى فقط قراءة أعماله "([53]) .
" وقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة ارتباط الأبنية اللغوية - خاصة الصيغ - بالوسيط الذي يولدها، واختلافها الكبير في حالة الشفاهية عنها في حالة الكتابة … وعلى هذا فإن مفهوم النص ينطوي على الرسالة المكتوبة متركبة مثل العلامة؛ فهي تضم من جهة مجموعة الدوال بحدودها المادية من حروف متسلسلة في كلمات وجمل وفقرات وفصول. ومن جهة أخرى المدلول بمستوياته المختلفة. فالنص يقيم كما يقول " بارت " نظاماً لا ينتمي للنظام اللغوي ولكن على علاقة وشيجة معه. علاقة تماس وتشابه في الآن ذاته"([54]).
والنص كما يقول أدونيس " نقد يعيد كتابة النص الذي ينتقده، بشكل آخر ينقله من بنيته الأولى إلى بنيته ثانية. ومثل هذا النقل ممكن بلا نهاية ولهذا يتجدد معنى النص بلا نهاية. لا أحد ينبغي أن يقاتل من أجل أي معنى، وليس المعنى وراءنا بل أمامنا، لا نملكه بل نتجه نحوه باستمرار" ([55]).
استبدل النقاد مفهوم النقد بالقراءة وهكذا ولد " القارئ" و " مات المؤلف"، وأصبحت الكتابة ممارسة للحرية كما يرى رولان بارت، يقول: " أستطيع اليوم بالتأكيد أن أختار لنفسي هذه الكتابة أو تلك. وأن أؤكد بهذا السلوك حريتي "، غير أن الحرية هي في " عملية الاختيار " فقط لا في ديمومتها حيث أصبح شيئاً فشيئاً أسير كلمات غيري وحتى أسير كلماتي: فالكتابة هي هذه التسوية بين حرية وذكرى"([56]).
ويرى فوكو " أن الكتابة حررت نفسها من فكرة التعبير وبالتالي تحررت من قيود توجهها نحو الداخل كما هو الشأن عند البنيويين الذين يرون النص لا يعني شيئاً سوى ذاته ليس من حيث هو محتوي بل من حيث هو دال، ويرى فوكو أن الكتابة لا تتسم بالخلود إنما محكوم عليها بالموت وذلك ما يحكم على مصير المؤلف في آخر الأمر"([57]).
وتضع معظم الدراسات في اعتبارها أن الأسلوب جزء من المكتوب، لذا يتجه النظر إلى اعتباره شيئاً يسجله المكتوب وينغلق عليه. والنتيجة المنطقية لهذه النظرة أنها تجعل منه حدثاً يتم تثبيته بوساطة الكتابة. فهو لا يقول: ما يسمح المكتوب به وبشكل نهائي. " ولكن، ثمة نظرة ( افتراضية ) أخرى تضع في اعتبارها أن الأسلوب جزء من القراءة " ولذا يتجه نظرها إلى اعتباره شيئاً تفصح عنه وبه تعدد. والنتيجة المنطقية لهذه النظرة تجعل منه حدثاً يتم بيانه بوساطة القراءة. فهو لا يقول إلا ما تقوله وبشكل متعدد أي بشكل لا يعرف القول النهائي إليه سبيلاً "([58]). وتاريخ الكتابة والقراءة غني بمثل هذه المواقف المتناقضة.
وللكتابة والقراءة لا بد من التعرف على السياق، فالكاتب كما يقول بارت: " يكتب منطلقاً من لغته التي ورثها عن سالفيه. ومن أسلوبه وهو شبكة من الاستحواذ اللفظي ذات سمة خاصة شبه شعورية والكتابة أو التذوق الكتابي هو شيء، يتبناه الكاتب، وهي وظيفة يمنحها الكاتب للغته، إنها ترابط من الأعراف المؤسسة، يمكن لفعالية الكتابة أن تحدث لنفسها وجود في داخلها" ([59]) .
وفي الكتابة تشكل جميع النصوص التي تسبق النص جملة من الضغوط عليه، "أي على النص الذي ينتظر الكتابة - وعلى قراءة النص أيضاً. فيمكن القول إن نظاماً آخر " يشدد على تحديد " القراءة التي تقوم على نظام إرشادات موضوعاتي على سبيل المثال. بمعنى أنه يمارس ضغوطاً على هذه القراءة ويعيد توجيهها وفق لعبة الأنظمة الأخرى التي تنطوي عليها. أما مسألة الإحالة إلى العالم الواقعي فثانوية لأن فعالية المحاكاة (mimesis ) الشعرية لا علاقة لها بتطابق الأدلة(sign) والأشياء"([60]).
" إن الكتابة تستدعي فعلاً قرائياً، كما أن كل فعل قرائي يفترض وجود نص كتابي مثبت طبقاً لعلاقة معينة هي التي تسمح لنا بإدراج مفهوم التأويل. ويكفي القول بأن القارئ يأخذها هنا مكان المحاور داخل عملية الكلام، تماماً مثلما تأخذ الكتابة مكان العبارة المنطوقة والمتكلم معاً "([61]).
و" إن القراءة سبب الكتابة فلولا وجود قراء لم يكتب الكاتب نصه، وحتى وإن حجبه عن الناس لأن لحظة الكتابة هي لحظة توجه نحو قارئ، والكاتب نفسه يتلقى ما أبدعه كقارئ أول له … والكتابة في مقابل هذا هي سبب للقراءة فلولا وجود ما يقرأ لما أمكننا إحداث ذلك الفعل" ([62]).
ويرى أدونيس "أن شعرية القراءة هي تحويل الكتابة إلى مكان اكتشاف وأدوات اكتشاف، وعلاقات اكتشاف"([63]). " ويرى أن " القراءة التي يمارسها القارئ إنما هي إلغاء للنص: تشوهه وتحجبه. ليس لأنه يفترض، مسبقاً، أن يكون النص تلبية، مباشرة لحاجاته، وحسب، بل أيضاً، وبالأخص، لأن هذه القراءة ليست قراءة للآخر، وإنما هو نوع من قراءة الذات"([64]).
" ولا بد من توضيح أن القراءة النصية تختلف عن الأسلوبية ذات الرصد الميكانيكي فهي ليست مجرد دراسة بيانات إحصائية لما يتضمنه النص كما فعل جاكبسون مع ليفي شتراوس في دراسة قصيدة بودلير ولكن كما فعل ريفاتير في دراسة نفس النص حين سلك نهجاً أسماه ( القارئ المثالي) الذي يعتمد فيه ( على الاستجابة الذاتية ) التي تبدأ من القارئ وتنتهي بالنص. والكلمة الشعرية عندئذ هي (الباعث) لهذه الاستجابة. حيث يتناولها القارئ لتلج إلى نفسه وتتلاقى مع سياقه الذهني. وبذا تكون الانطلاقة من القارئ إلى النص وليس العكس " ([65]).
ولقد أثبتت القراءة النصية أنها قراءة خلاقة تتجاوز المنصوص عليه والمنطوق به. ولما كانت "قراءة النص، تقوم على الحفر في طبقاته وتفكيك بنيته، بحيث يكون هناك دوماً انتقال من طبقة معرفية إلى أخرى أو ارتحال من دلالة إلى دلالة، فمعنى ذلك أن بإمكان المعاصرين أن يقرءوا في النصوص ما لم يقرأه الماضون، فيستنطقونها عما كانت تمتنع عن النطق به، ويكتشفوا فيها دلالات لم تنكشف لأسلافهم"([66]).
و" هكذا قرأ ميشال فوكو ديكارت بكشفه عن الوجه الآخر للعقل الديكارتي، مبيناً كيف أن خطاب العقل يخفي علاقة العقل باللاعقل، أي يتستر على لا معقوليته. حتى ألتوسر الذي ادعى بقراءته لنص "رأس المال" أنه يريد تخليص فكر ماركس من الشوائب الأيديولوجية التي شابته، إنما تأوله وقرأه قراءة جديدة مبتكرة، فاختلف بذلك عنه وقدم نسخة جديدة عن الماركسية. وهذا ما يمنح قراءته أهميتها ويعطيها مصداقيتها، أي كونها تشكل في الوقت نفسه نصاً مختلفاً عن نص ماركس وعن القراءات التي خضع لها هذا الأخير"([67]).
رابعاً: النص وغيره من الإنتاج الأدبي :
ظهرت العلاقة بين النص وغيره من الإنتاج الأدبي في تعريف تقليدي ومؤسسي وشائع لرولان بارت عرف به النص يقول فيه: " يمكننا أن نقف على أربع نقاط أساسية تمثل جملة ما قيل عن النص في الدراسات اللسانية والأدبية، والتعليمية التقليدية:
" النص: نسيج الكلمات المنظومة في التأليف، والمنسقة بحيث تفرض شكلاً ثابتاً ووحيداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، يشاطر النص الأثر الأدبي هالته الروحية، وهو مرتبط تشكيلاً بالكتابة، ربما لأن رسم الحروف ولو أنه يبقى تخطيطاً فهو إيحاء بالكلام وبتشابك الحروف، والنص هو الذي يوجد الضمان للشيء المكتوب، جامعاً وظائف صيانته: والاستقرار، استمرار التسجيل الرامي إلى تصحيح ضعف الذاكرة، وعدم دقتها هذا من جانب، ومن جانب آخر شرعية الحرف الذي هو أثر يتعذر الاعتراض عليه …فالنص سلاح في وجه الزمان والنسيان، وفي وجه براعات القول الذي يستدرك، ويخلط ويتنكر بسهولة تامة، فمفهوم النص إذاً مرتبط تاريخياً بعالم بأكمله حيث يمكن النظم: في القانون، والدين، والأدب، والتعليم"([68]).
أسس رولان بارت مفهومه للنص على المعنى الاشتقاقي للفظ ( Text ) كما في اللاتينية، وربطه بالأثر الأدبي ووضح مهمة النص في حفظه للنصوص وارتباطه بالعلوم … وهو بهذا يتبنى تعريف جوليا كريستيفا الجامع الأصولي للنص وهو أنه "جهاز عبر لغوي Tran linguistic يعيد توزيع نظام اللغة، وذلك عن طريق إقامة العلاقة بين الكلام الاتصالي Communicative speech ذي الهدف المباشر وأنماط مختلفة من الملفوظات السابقة Anterior والآنية Synchronic ومن ثم فإن النص إنتاجية Productivity وهذا يعني: أن علاقته التي يقع فيها Situated علاقة توزيعية ( هادمة – بناءة) ومن ثم فإنه من الأفضل مقاربة النص من خلال مقولات منطقية حسابية وليس فقط من خلال مقولات لغوية. وأن النص تبديل للنصوص permutation أي تناص Intertextuality بمعنى أنه في فضاء النص تتقاطع ملفوظات عدة utterance مأخوذة من نصوص أخرى يحيد neutralize كل منها الآخر"([69]).
"لعل من الممكن منذ البداية ملاحظة ارتباط مصطلح الإنتاجية عند كريستيفا بإعادة توزيع اللغة التي يقوم بها النص وهذا يعني: أن مجال النص هو الكلام الملموس وليس اللغة المجردة. وأن إعادة توزيع اللغة عبر الإنتاجية النصية تعني أن النص يستخدم لغة الاتصال ويدمرها في آن، أي عبر علاقة هادمة/ بناءة، ويعني هذا أن النص يقوم بدور مزدوج، فهو يكشف عن الآلية التي تستخدم بها اللغة، فيما يوضح (جون مويت)، مزيحاً المتحدثين عن وضعهم التمثيلي Represential المقيد، وعلى هذا فالإنتاجية النصية ترجع إلى البنية التحتية للغة Infrastructure أي إلى الاستخدام الشائع للكلام" ([70]). و" أن التناص Intertextuality هو خاصية الإنتاجية من حيث هي نص، فالنص عند كريستيفا فضاء تتقاطع فيه نصوص عديدة، إنه " ينبني مثل فسيفساء من الاستشهادات" وكل نص هو " امتصاص وتحويل لنص آخر"([71]) .
خامساً: النص واللامتناهي:
" النص فعل تكوين لا يتحقق إلا عندما ينظر إليه كفعل تم واكتمل، وتبلور في مادة نصية معروفة: فهو عمل مر بعدة مراحل في الزمان والمكان وعلى صعيد الأنا والغير. وفي واقع الأمر يبقى النص دائماً غير مكتمل في الزمان والمكان، إذ تلي عملية اكتماله " الشكلي" عمليات استكمال لا تنتهي يقوم بها قراء النص. وبالتالي فالنص يحتوي على نسغ ديناميكي يحول النبتة الصغيرة إلى شجرة باسقة، بسبب التحريك الذي يتم له من قبل القراء، أي أن النص ليس مادة منتهية. فالسكونية تجميد للنص وقتل له، وبالنتيجة لا يوجد فاعل واحد للنص، بل فاعلون كثيرون. فالنص صيرورة وتحويل وزعزعة وصعق، ولا يمكن اعتباره خطاباً موجهاً لقارئ أو مادة لها أبعاد وزوايا معروفة وثابتة. إنه تجاوز وتحد للواقع والجمود"([72]).
وينتقل (رولان بارت) في تعريفه للنص من الموقف السلبي للمتلقي إلى موقف آخر يصير فيه النص فعالية كتابية ينضوي تحتها كل من الكاتب والقارئ، لا كأدوات لتثبيت المعنى ولكن كبريق خاطف وومضات عابرة في " فضاءات الخطاب اللامتناهية " وهذا الموقف يدفع في الواقع بالبحث اللساني، والأسلوبي والنقدي إلى ألا يأتي النص من خارجه بل يذهب إلى مواقف تصبح جزءاً من النص نفسه، أو نصاً جديداً لنص سابق عليها يمارس فيها فعالياته"([73]) .
ويقترح ( دريدا ) " تصوراً جديداً للنص معتمداً على تاريخ الفلسفة بإلغاء التعارض بين المستمر والمنقطع، فالنص عنده " نسيج لقيمات " أي تداخلات، لعبة منفتحة ومنغلقة في آن واحد. مما يجعل من المستحيل لديه القيام "بجينالوجيا "([74]) بسيطة لنص ما توضح مولده، فالنص لا يملك أباً واحداً ولا جذراً واحداً. بل هو نسق من الجذور وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى محو مفهوم النسق والجذر. إن الانتماء التاريخي لنص ما لا يكون أبداً بخط مستقيم، فالنص دائماً من هذا المنظور التفكيكي كما يقول دريدا: عدة أعمار.
و" يرفض ج . كوهين J.Cohen فكرة إغلاق النص الخطيرة، وذلك باسم الشعر الحي أيضاً مقابل البنيوية الميتة " يلوح في أفق الشعرية البنيوية شبح الآلة المخيف … ولقد كان مشروع كوهين، ومنذ كتابه " بنية اللغة الشعرية" ( Structure du laneage poetique)، تحطيم إغلاق النص برد الأسلوب إلى الانحراف ( ecart ) وهو ينشئ منهجاً نظمياً للصور الأسلوبية البلاغية معتبراً إياها " أدوات الكتابة الشعرية"([75]).
سادساً: النص واللذة :
اهتم بارت بمتعة النص ( Plaisir du texte) وهي كما يقول: "معرفة النص المتحرر من الشروح القديمة، وإذا ما كان بارت يعترض على القراءة ذات المنحى النفسي الانطباعي للحوار بين المؤلف والقارئ، فلأن المتعة هي " من النص " ولا تتضمن العلاقة المادية – ذاتية، وبالتالي الخيانة بينهما"([76]).
ويرى أن مقولة " لذة النص أو نص اللذة " تعد من التعابير الغامضة، ولا توجد كلمة فرنسية تغطي، في الوقت نفسه، اللذة ( الرضى)، والمتعة ( الاضمحلال)، وإن اللذة هنا، في النتيجة، لتتسع تارة ( ومن غير أخطار ) فتحتوي على المتعة وإنها لتتعارض معها تارة أخرى. ولكنه يعود ويوضح أن ثمة طريقة، على كل حال، قدمها علم النفس للتفريق بين نص اللذة ونص المتعة: إن اللذة قابلة للوصف، وإن المتعة غير قابلة لذلك.
إن لذة النص " ليست قطيعة مع التراث. بل هي التراث ممتداً إلى ما لا نهاية"([77])، ولذلك " يبدأ النص غير الثابت، النص المستحيل مع الكاتب و( قارئه ). وما لم يجتمع هذا النص بنص متعة آخر، فإنه يقع خارج اللذة، وخارج النقد: وأنتم لا تستطيعون أن تتكلموا عن مثل هذا النص، ولكنكم تستطيعون أن تتكلموا فقط في هذا النص، وأن تنهجوا منهجه. كما يمكنكم أن تلجوا في سرقة أدبية مدلهمة، وأن تؤكدوا بشكل هستيري فراغ المتعة" ([78]).
وفي نفس نطاق التناص يؤكد بقوله: " بعضهم يريد فناً لا ظل له، مقطوع الصلة بالإيديولوجيا السائدة، ولكن ذلك يعني أنهم يريدون نصاً لا خصوبة فيه ولا إنتاجية، نصاً عميقاً، إن النص في حاجة إلى ظله، وهذا الظل هو قليل من الإيديولوجيا وقليل من الذات " ([79]). أما عن علاقة اللذة بالكتابة فإن رولان بارت يرى أنه " إذا كان من الممكن أن نتخيل علماً جمالياً للذة النصوصية، فيجب أن يدخل فيه:الكتابة بصوت مرتفع … فلذة النص هي القيمة المنتقلة إلى قيمة الدال الفاخر" ([80]).
ومع ذلك يرى أن " مكان اللذة في نظرية النص ليس مؤكداً، ولكن سيأتي يوم نشعر فيه بضرورة الإسراع بفتح النظرية قليلاً، وبنقل الخطاب، واللهجة التي تتكرر وتتقوى، لنعطيها هزة السؤال إلا إن اللذة هي السؤال" ([81]).

سابعاً: النص والأسلوبية :
لكي نحدد مفهوم الأسلوبية، ينبغي علينا أولاً أن نبحث في جذرها اللغوي في اللغات الأوروبية، باعتبار أن هذا العلم وليد الدراسات النقدية الغربية الحديثة، وإن كانت له بدايات غير واضحة في النقد العربي القديم، فكلمة Style " أسلوب " ترجع إلى الكلمة اللاتينية Stitus وتعني الريشة أو القلم أو أداة الكتابة، ثم انتقلت إلى مجال الدراسات الأدبية لتعني طريقة الكتابة، ومنها جاءت Stylistics ( علم الأسلوب ). وإذا حللنا المصطلح نجد أنه مركب من جذر Style " أسلوب " ولاحقه الذي يدل على النسب Stics " يه " و"خصائص الأصل تتقابل انطلاقاً من أبعاد اللاحقة. فالأسلوب ذو مدلول إنساني ذاتي، وبالتالي نسبي، واللاحقة تختص فيما تختص به. بالبعد العلماني العقلي وبالتالي الموضوع، ويمكن في الحالتين تفكيك الدال الاصطلاحي إلى مدلوليه بما يطابق عبارة (Science of Style) " علم الأسلوب " لذلك تعرف الأسلوبية بداهة بالبحث عن الأسس الموضوعية لإرساء علم الأسلوب "([82]) .
ولقد مرت الأسلوبية بعدة مراحل ففي بداية هذا القرن نشأ نظامان عن تجديد المذاهب اللسانية "فشكلا، باسم الأسلوبية، دراستين منفصلتين ومتميزتين، تطورتا تطوراً مساوقاً لتطور النقد التقليدي للأسلوب … وهما أسلوبية التعبير من جهة أولى، وهي عبارة عن دراسة علاقات الشكل مع التفكير، أي التفكير عموماً، وهي تتناسب مع تعبير القدماء. كما ستنشأ من جهة أخرى أسلوبية الفرد. وهي، في الواقع نقد للأسلوب، ودراسة لعلاقات التعبير مع الفرد والمجتمع الذي أنشأها واستعملها. وهي بهذا دراسة تكوينية إذن، وليست معيارية أو تقديرية فقط، … إن أسلوبية التعبير لا تخرج عن إطار اللغة أو عن الحدث اللساني المعتبر لنفسه. بينما تدرس الأخرى هذا التعبير نفسه إزاء المتكلمين، … وتنظر الأولى إلى البنى ووظائفها داخل النظام اللغوي، وبهذا تعتبر وصفية، وتحدد الثانية الأسباب، وبهذا تعتبر تكوينية. ولذا كانت الأولى أسلوبية للأثر وتتعلق بعلم الدلالة أو بدراسة المعاني، بينما الثانية أسلوبية للأسباب وتنتسب إلى النقد الأدبي"([83]).
" يكاد ينحصر الاهتمام بالأسلوبية التعبيرية في بالي، وإذا كانت وظيفة العالم اللغوي عند بالي هي البحث عن القوانين اللغوية التي تحكم عملية الاختيار فإن وظيفة المحلل الأسلوبي قد تطورت على أيدي تلاميذه لتصبح أكثر خصوصية، فتغدو البحث عن القوانين الجمالية التي تحكم عملية الإبداع الأدبي"([84]).
وخطا تودوروف بالأسلوبية خطوة كبيرة حين تجاوز حدودها اللغوية التي تتعامل مع الألفاظ والتركيبات بالسياق العام وعلاقاته بالعالم الخارجي والظروف القادرة على تفسير تلك التركيبات اللغوية.
وإن " كسوف الأسلوبية التكوينية كان يقوم على ظرفين: من جهة أولى على نهضة أسلوبية وظيفية([85])، تتجه نحو غايات الأدب أكثر مما تتجه نحو أصله. وقامت من جهة ثانية، ضد نفور اللسانيات التاريخية من تمثيل المخططات البنيوية واستخدامها وابتعادها عن المعايير الجديدة التي كان بإمكانها أن تحملها إليها"([86]).
ويقال إذا " كانت ألسنية سوسير قد أنجبت أسلوبية بالي، فإن هذه الألسنية نفسها قد ولدت الهيكلية التي احتكت بالنقد الأدبي فأخصبا معاً شعرية " جاكبسون" و"إنشائية" تودورف وأسلوبية " ريفاتير" ([87])، وإذا كان سوسير قد اتبع منهجاً وصفياً، فإن تلاميذه من الألسنيين والأسلوبيين قد ساروا على طريقته، ولكن شارل بالي اتخذ طريقاً مستقلاً فارق فيه سوسير؛ لأنه يدرس الطرائق التي يتحول بها النظام اللغوي العام إلى أسلوب خاص، ولذلك اهتم بالانحرافات عن القاعدة.
وإذا كانت الأسلوبية التعبيرية تنشد في مرحلة بحثها القصوى استجلاء أساليب التعبير ورسم خارطة للإمكانات الأسلوبية والطاقات التعبيرية للغة ما بناء على حصر بالي " مدلول الأسلوب في تفجر الطاقات التعبيرية الكامنة في صميم اللغة"([88])، وكانت " الأسلوبية التكوينية تستنطق أسلوب الخطاب لمشارفة بؤرة الخلق وبلوغ المنطقة القصوى المجمعة والمولدة الصور والطاقات الإبداعية، معلقة بذلك، الأسلوب بذات صاحبه، فإن الأسلوبية البنيوية لا تعني بغير الخطاب موضوعاً للدراسة والغاية المستهدفة من البحث" ([89]) مسيجة، بذلك، وجودها وحاصرة حدوده فيما يدعوه جاكبسون الوظيفة الإنشائية، أي اعتبار النص، حسب تعبير المسدي " خطاباً يركب لذاته وفي ذاته"([90]).
تعتبر الأسلوبية البنيوية – نظرية ريفاتير- المرحلة الثالثة، و" مرحلة ما بعد الأسلوبية تمييزاً لها عن مرحلتيها السابقتين. فلقد صار النص كاملاً هو موضوع البحث، ومن أجله قامت لسانيات النص فأحرزت بهذا تقدماً على نفسها بعد أن كانت حدود الدرس مقصورة على لسانيات الجملة. والأسلوبية مضطرة أن تماشي خطا هذا التطور وأن تكون الأسلوبية للخطاب، وأن تتعدد وفقاً للأجناس الأدبية نفسها. الرواية والقصة، والشعر، إلى آخره. ويدل هذا أنها حين تدخل كل مجال من هذه المجالات فإنها ستقارب النص من خلال جنسه الأدبي .... وهنا سترى أمامها أنواعاً أخرى من الدراسات ستتداخل معها كلسانيات النص والشعرية، والتناص، إلى آخره"([91]).
ولعل الإحصاء كان من مناهج الأسلوبية ونستطيع القول: أنه إذا كان " الأسلوب انزياح بالنسبة إلى القواعد… ، فإن الإحصاء هو العلم الذي يدرس الانزياحات، والمنهج الذي يسمح بملاحظاتها، وقياسها، وتأويلها. ولذا فإن الإحصاء لا يتوانى عن فرض نفسه أداة من الأدوات الأكثر فعالية في دراسة الأسلوب. وإن كانت الآراء تقف منه موقفين متعارضين، فالأسلوبية الوظيفية استعارت نماذجها من نظرية الاتصال، واستعانت بمفاهيم الإخبار، والتكرار، والضوضاء، وهذه أمور يستطيع الإحصاء أن يمنحها مضمونها الموضوعي الذي ينقصها"([92]).
ولقد تناول الأسلوبية الإحصائية د. صلاح فضل في كتابه " علم الأسلوب"، ود. سعد مصلوح في "الدراسة الإحصائية للأسلوب" ، وشفيق السيد في "الاتجاه الأسلوبي" وغيرهم، وتعرضوا لمن وقف مع أو ضد الإحصائية، والمميزات السلبية والإيجابية للإحصاء.
وينصب التناول الأسلوبي " على اللغة الأدبية، لأنها تمثل التنوع الفردي المتميز في الأداء، بما فيه من وعي واختيار، وبما فيه من انحرافات عن المستوى العادي المألوف بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية، والتي يتبادلها الأفراد بشكل دائم وغير متميز، وعلى هذا يمكننا القول بأن علم اللغة هو الذي يدرس ما يقال بينما الأسلوبية هي التي تدرس كيفية ما يقال، مستخدمة الوصف والتحليل في آن واحد"([93]).
كما " إن اقتصار الدراسات الأسلوبية على الظواهر اللغوية والبلاغية وأنماط خرق الأسلوب العادي ... الخ قد أدى إلى وضع الأسلوبية في طريق مسدود ... وذلك لأن الأدب ظاهرة شمولية تجمع كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والحضارية .. الخ، ولا سبيل بأدواتها اللغوية البحتة أن تطمح إلى إطلاق الأحكام الاجتماعية، والثقافية، أو سبر أغوار رؤى الكاتب الاجتماعية، وغيرها بأدواتها اللغوية الجزئية في النهاية"([94]).
هذا و" تنظر الدراسات النصية إلى المنظور الأسلوبي بصورة هامشية، فالأسلوبية تضع قاعدة معياراً متحققاً بالقوة في اللغة العادية، وتقابلها مع الانحرافات في الأسلوب ويتعارض هذا التصور مع فكرة مركزية النص([95]).
ولكن الأسلوبية لم تقف عند القواعد المعيارية وأخذت في التطور حتى وصلت إلى النصانية، فما النصانية إلا وليدة عنها، حيث لم يقف النقاد عند القوالب الجاهزة وتطبيقها على النصوص، كما لم يقصروا أنفسهم على بنية النص السطحية، ودراستها دراسة إحصائية أسلوبية، تكتفي بالإحصاء أحياناً، وبالدلالات الجزئية القريبة والقائمة غالباً على محاور مبنية على ثنائيات. بل تطورت الأسلوبية ليتولد عنها ما أطلق عليه النصانية.

ثامناً: النص والشاعرية Poetics:
ولكن هذه الترجمة للشاعرية " قد تحد من الحقل الدلالي للعبارة الأجنبية ذات الأصل اليوناني، ولذلك يعمد البعض إلى التعريب فيقول " بويطيقا". والسبب في ذلك أن اللفظة لا تعني الوقوف عند حدود الشعر وإنما هي شاملة للظاهرة الأدبية عموماً، ولعل أوفق ترجمة لها …" الإنشائية" إذ الدلالة الأصلية هي الخلق والإنشاء. والإنشائية تهدف إلى ضبط مقولات الأدب من حيث هو ظاهرة تتنوع أشكالها وتستند إلى مبادئ موحدة، فلا يكون الأثر الأدبي بالنسبة إلى الإنشائية سوى ممارسة تستجيب لمقولات الأدب وتتميز نوعياً بما يغذي النظرية الإنشائية نفسها"([96]). وقد كتب أدونيس دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، متحدثاً عن تعريف الشعرية، وشعرية الحضور والقراءة والهوية والتجريد والكلام القديم، والاستعادة، والمؤالفة، والحقيقة، … مؤكداً أن "الكتابة الشعرية، لم تعد مسألة وزن أو قافية، حصراً، بل أصبحت مسألة شعر أو لا شعر… ، وإن هذه المسألة تضعنا، تبعاً لذلك، أمام أفق آخر غير الأفق الموزون المقفى، وهو إمكان يتيح لنا أن نعدّل التحديد الموروث للشعر، وأن نضيف عليه، وأن نؤسس مفهومات أخرى للشعر. …فالمعنى الأعمق والأغنى في الثورة الشعرية العربية الجديدة إنما يكمن هنا، لا في مجرد تعديل النسق الوزني وتحويره، ولا في مجرد الخروج على الوزن والقافية، كما تواضع أكثر النقاد المعاصرين على قوله وتكراره([97])".
والشعرية كما يقول كمال أبو ديب: " وظيفة من وظائف … " الفجوة "، أو مسافة التوتر. وهو مفهوم لا تقتصر فاعليته على الشعرية بل إنه لأساسي في التجربة الإنسانية بأكملها، بيد أنه خصيصة مميزة، أو شرط ضروري للتجربة الفنية أو بشكل أدق للمعاينة أو الرؤيا الشعرية بوصفها شيئاً متمايزاً عن … وقد يكون نقيضاً للتجربة أو الرؤية العادية اليومية. من هنا يصف الشعرية … بأنها إحدى وظائف الفجوة أو مسافة التوتر، لا بأنها موحدة الهوية بها أو الوظيفة الوحيدة لها. بيد أن ما يميز الشعر هو أن هذه الفجوة تجد تجسدها الطاغي فيه في بنية النص اللغوية بالدرجة الأولى، وتكون المميز الرئيس لهذه البنية "... وهي خصيصة اللاتجانس والانسجام واللاتشابه واللاتقارب"([98]).
وتؤكد يمنى العيد أن الشعر عندها " فعل قول أي فعل يحول اللغة ويمارسها ويتملكها"([99]) إن الشاعرية وظيفة مهمة في الخطاب الإبداعي، حيث يتحول الخطاب النفعي إلى الأدبي … في "( القول الأدبي) تنحرف ( الرسالة ) عن خطها المستطيل، وتعكس توجه حركتها وتثنيها، إلى داخلها، بحيث لا يصبح (المرسل) باعثاً، و(المرسل إليه) متلقياً، ويتحول الاثنان معاً إلى فارسين متنافسين على مضمار واحد يضمهما ويحتويهما هو القول: أي ( النص ). ويتحول القول اللغوي من ( رسالة ) لأي (نص)، ولا يصبح هدفها ( نقل الأفكار ) أو المعاني بين طرفي الرسالة. ولكنها تتحول لتصبح هي غاية نفسها، وهدفها هو غرس وجودها الذاتي في عالمها الخاص بها، وهو جنسها الأدبي الذي يحتويها … وهذا التوجه منها يتعقد في أطوار تكونه ويجلب إليها عناصر أخرى مهمة مثل عنصر ( السياق ) و(الشفرة)([100]).
وتعتبر الشاعرية ( الأدبية ) الصفة الملازمة لخصائص العمل الذي ينطوي على نصية فيلاحظ أن " النص يأخذ بتوظيف الشاعرية في داخله ليفجر طاقات الإشارات اللغوية فيه، فتتعمق ثنائيات الإشارات وتتحرك من داخله لتقيم لنفسها مجالاً تفرز فيه مخزونها الذي يمكنها من إحداث أثر انعكاسي يؤسس للنص بنية داخلية تملك مقومات التفاعل الدائم، من حيث أنها بنية ذات سمة شمولية، قادرة على التحكم الذاتي بالنفس([101]) … ومؤهلة للتحول فيما بينها لتوليد ما لا يحصى من الأنظمة (الشاعرية) فيها حسب قدرة القارئ على التلقي" ([102]).
و" تكمن خاصية الشعر في استغلال نموذج الإشارات - ذات السمات الدلالية المشتركة-. والقصيدة تؤلف اعتماداً على المحور التركيبي بين عناصر تشكل، بالارتكاز على قاعدة تعادلاتها الطبيعية، طبقات أو إبدالات للتعادل وكما قال جاكبسون فإن الوظيفة الشعرية تسقط مبدأ التعادل المحوري للانتخاب على محور التأليف، فالنص الأدبي ينشأ حسياً مثل نشوء أي نص لغوي بارتكازه على عنصري الاختيار والتأليف"([103]).
يقول جاكبسون " إن اختيار الكلمات يحدث بناء على أسس من التوازن والتماثل أو الاختلاف، وأسس من الترادف والتضاد، بينما التأليف، وهو بناء للتعاقب، فهو يقوم على التجاور بين الكلمات"([104])…، وهي عملية وصفها جاكبسون بأنها ( انتهاك متعمد لسنن اللغة العادية ) أو كما وصفها الناقد الشكلي أرليخ بأنها (عنف منظم يقترف ضد الخطاب العادي) "([105]).
وبذلك فـ" إن استهداف الرسالة بوصفها رسالة والتركيز على الرسالة لحسابها الخاص، هو ما يطبع الوظيفة الشعرية للغة. وليست الوظيفة الشعرية هي الوظيفة الوحيدة لفن اللغة، بل هي فقط وظيفته المهيمنة. إن الدراسة اللسانية للوظيفة الشعرية ينبغي أن تتجاوز حدود الشعر، فخصوصيات الأجناس الشعرية المختلفة تستلزم مساهمة الوظائف اللفظية الأخرى بجانب الوظيفة الشعرية المهيمنة وذلك في نظام هرمي متنوع"([106]).
هذا و" (الشاعرية) تحتوي الأسلوبية وتتجاوزها، فالأسلوبية هي إحدى مجالات الشاعرية، والأسلوبية وجود فقط لأن الأسلوبية تقوم على ( توصيف الخصائص القولية في النص )، وهي تتناول ما هو في لغة النص فقط، ولا يعنيها ما ينشأ في نفسية المتلقي من أثر… وتقتصر على دراسة (الشفرة) دون (السياق ). وهذا يفرض الحاجة إلى الشاعرية التي تسعى إلى دراسة الشفرة لا لذاتها ولكن لتأسيس السياق منها كوجود قائم وكتبشير باحتمال آت"([107]).









الخطاب وأنواعه:

الخطاب بين المفهوم والاصطلاح :

في الكافي لمحمد الباشا، الخطاب: " مصدر خاطب: المواجهة بالكلام، ويقابلها الجواب - :الرسالة. والخطابة مصدر خطب: عمل الخطيب وحرفته. والخُطَب: مصدر خَطَب: الحال والشأن. " قال فما خطبكم أيها المرسلون "([108]) - الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه. (ج) خطوب. الخطبة: مصدر خَطَبَ: ما يخطب به من الكلام"([109]).
وفي معجم المصطلحات العربية الخطاب، " الرسالة Letter، نص مكتوب ينقل من مرسل إلى مرسل إليه، يتضمن عادة أنباء لا تخصُّ سواهما، ثم انتقل مفهوم الرسالة من مجرد كتابات شخصية إلى جنس أدبي قريب من المقال في الآداب الغربية- سواء أكتب نظماً أو نثراً – أو من المقامة في الأدب العربي"([110]).
وفي المعجم الوسيط: ( خاطبه ) مخاطبة، وخطاباً: كالمه وحادثه، وخاطبه: وجه إليه كلاماً، والخطاب الكلام وفي القرآن الكريم: فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب"([111]).
أما في المعاجم الأجنبية فإن الخطاب " مصطلح ألسني حديث يعني في الفرنسيةDiscourse ، وفي الإنجليزية Discourse، وتعني حديث ، محاضرة ، خطاب ، خاطب ، حادث ، حاضر ، ألقى محاضرة، وتحدث إلى" ([112]). وفي معجم أوكسفورد الموجز للغة الإنجليزية، يعرف الخطاب بأنه:
- "عملية الفهم التي تمر بنا من المقدمة حتى النتيجة اللاحقة.
- الاتصال عبر الكلام أو المحادثة، القدرة على المناقشة.
- سردي.
- تناول أو معالجة مكتوبة، أو منطوقة لموضوع طويل مثل بحث أو أطروحة أو موعظة أو ما أشبه ذلك.
- الاتصال المألوف، المحادثة.
- أن يقوم بخطاب تعني أن يتحدث ويناقش مسألة ما.
- أن يتكلم أو يكتب بشكل مطول عن موضوع ما.
- أن يدخل في نقاش منطوق أو مكتوب، أن يخبر، أن ينطق.
- أن يتحدث مع، أن يناقش مسألة مع، أن يخاطب شخصاً ما.
- المخاطب هو الذي يخاطب، المخاطب هو الذي يفكر.
- عملية أو قدرة أو مقدرة التفكير على التوالي منطقياً، عملية الانتقال من حكم لآخر بتتابع منطقي، ملكة التفكير"([113]).
وفي معجم المصطلحات الأدبية الحديثة لـ (محمد عناني) : "الخطاب ومعناه " اللغة المستخدمة ( أو استخدام اللغة) Language in use لا اللغة باعتبارها نظاماً مجرداً. ولكن ثمة ضروباً منوعة من الدلالات لهذا المصطلح حتى في نطاق علوم اللغة. فيقول مايكل ستابز Stubbs في كتابه " تحليل الخطاب" ( 1983) تعليقاً على استخدام مصطلحي النص والخطاب Text and discourse إن ذلك كثيراً ما يتسم بالغموض ويبعث على البلبلة. وهو يقول إن الخطاب كثيراً ما يوحي بأنه أطول وبأنه قد يتضمن أو لا يتضمن التفاعل ( ص9).
وهكذا فبعض اللغويين يعتبرون أن الكلام الذي يقال في حلقة دراسية Seminar يمثل كله خطاباً، بمعنى عملية تبادل للأفكار تكتسي ثوباً لفظياً، على حين يعتبر آخرون أن بياناً واحداً في الحلقة يعتبر خطاباً، طال أو قصر. كما يختلف اللغويون في إمكان " جمع " الخطاب، فبعضهم يقول إنه يجمع (خطابات) والبعض الآخر يقول إنه يجمع وغير قابل للعد والإحصاء، ويذهب فريق ثالث إلى إمكان جمعه في أحوال معينة. فإذا كان الخطاب " يجمع " فسوف تكون المشكلة التالية هي البت فيما يشكل حدود تعريف الخطاب الواحد، ويقول ستابز إن وحدة خطاب محدد يمكن تعريفها من حيث البناء أو الدلالة أو الوظيفة (ص5).
أما جيرالد برنس فيقول في كتابه " معجم علم السرد " ( 1988) إن للخطاب معنيين منفصلين في إطار نظرية السرد: الأول هو المستوى التعبيري للرواية لا مستوى المضمون، أي عملية السرد لا موضوعه، والثاني يتضمن التمييز بين الخطاب والقصة Story ( وبنفنيست Benvenisite يستخدم الخطاب و histoire في كتابه بالفرنسية)، لأن الخطاب كما يقول ستابز يوحي بعلاقة بين " حالة أو حادثة وبين الموقف Situation الذي يوحي فيه لغوياً بهذه الحالة State أو الحادثة Event (ص21). أي إن التعريف هنا يستند إلى التفرقة بين الخبر والإخبار به، أو بين الواقعة والإبلاغ عنها، مما يماثل الفرق بين enonciation و enonce .
ويفضل بعض كتاب الإنجليزية الاحتفاظ بالصورة الفرنسية للكلمة ( أي دون حرف الـ (e ) الأخير) عند استخدم الخطاب بالمعنى الذي استخدمه فيه بنفنيست ).
وأما فوكو فيقول إن الخطاب يمثل " مجموعة كبيرة من الأقوال أو العبارات" ("أثرية المعرفة " – 1972 ، ص 37) – ويعني بها " مساحات لغوية تحكمها قواعد"، وهي القواعد التي تخضع لما يسميه فوكو " بالاحتمالات الاستراتيجية ". ومن ثم فإن فوكو يقول إنه في لحظة معينة من تاريخ فرنسا مثلاً سيكون هناك خطاب معين ( أي لغة معينة ) للطب – ويعني بها هنا مجموعة من القواعد والأعراف والنظم (نظم التوسط (mediation التي تحكم أسلوب الحديث عن المرض والعلاج، ومتى يكون ذلك وأين وعلى أيدي من؟ ولكن المشكلة، لا تزال قائمة وهي كيف نضع حدود خطاب معين؟ ويرجع أحد جوانب المشكلة إلى استخدام فوكو لتعبير Discursive formation بطريقة توحي بأنه يمكن أن يعني تقريباً ما يعنيه " الخطاب" ؛ إذ إن كلمة discursive هنا تستعمل صفة من discourse لا بمعناها المألوف أي باعتبار صفة من " اللف والدوران " – مما جعل ناقداً آخر هو جون فراو Jone Frow ( في كتابه " الماركسية والتاريخ الأدبي" – 1968) يقترح استخدام تعبير بديل عنه وهو " عالم الخطاب" universe of discourse ويقدم نماذج له من أنواع الخطاب الديني والعلمي والبراجماتي والتقني اليومي والأدبي والقانوني والفلسفي والسحري، وما إلى ذلك بسبيل، ويفرق بين ذلك كله وبين أنواع الخطاب genres of discourse التي يعرفها، استناداً إلى فولو شينوف بأنها " مجموعات من الملامح الشكلية والسياقية والموضوعية، ذات أبنية معيارية، أو " طرائق الحديث" في موقف من المواقف." (ص67) .
ويقول فوكو، إن لكل مجتمع وسائله في " ضبط " أنواع الخطاب فيه، واختيار بعضها وتنظيمه وإعادة توزيعه، وأن الهدف من هذا " الضبط " هو تفادي " الأخطار والقوى" ( 1981-ص52).
وهذه الوسائل تتحكم فيما يطلق عليه فوكو تعبير discursive practices ( ممارسات الخطاب) وdiscursive strategies ( استراتيجيات الخطاب) و discursive objects ( أهداف الخطاب) بحيث تتضح الملامح المنتظمة للخطاب discursive regularities في كل حالة.
وتعلق ليندا نيد Lynda Nead على استخدام فوكو لهذا المصطلح قائلة إنه يتسم بعدم الاتساق ومن ثم فإن المرء لا يثق فيما يعنيه المصطلح على وجه الدقة حتى داخل كتاب واحد أو مقال واحد من مقالات فوكو، وهي تدلل على ذلك بتحليل استخدامات فوكو للمصطلح في كتاب " تاريخ النزعة الجنسية " History of Sexualit ( 1988-ص4).
وإذا نظرنا إلى المعجم الصغير الملحق بكتاب باختين " الخيال الحواري" (1981) وجدنا أن كلمة الخطاب تستخدم ترجمة للكلمة الروسية Slovo، التي قد تعني كلمة واحدة، أو طريقة في استخدام الكلمات توحي بدرجة ما من السلطة ( ص 427) والمعنى هنا ليس بعيداً عن معاني فوكو، فخطاب الثقة أو حديث الثقات authoritative discourse هو اللغة ذات المزايا التي تأتينا من خارجنا، وتفصلنا عنها مسافة، وهي محرمة، ولا تسمح بالمساس بسياق إطارها" ( ص424). أما خطاب الإقناع الداخلي Internally persuasive discourse فهو الخطاب الذي يستخدم نفس ألفاظنا ولا يقدم نفسه في صورة "الآخر" أي باعتباره ممثلاً لقوة أجنبية، أي غريبة عنا. وأما الخطاب السامي ennobled discourse فهو الذي أضفي عليه الطابع " الأدبي" وأصبح رفيعاً وليس في متناول أيدي الجميع. ويورد تودوروف Todorov في كـتـابه عن باختين
(1984) مقتطفات من كتاباته تدل على الاختلافات القائمة بين شتى معاني الكلمة لديه ( أو ما يقابلها بالروسية ) – منها " الخطاب"، أي اللغة في مجموعها المجسد الحي"، و " الخطاب، أي اللغة باعتبارها ظاهرة مجسدة كلية "، و " الخطاب، أي النطق" (بالروسية) vyskazyvanie . ويصر باختين على أن الخطاب يعني اللغة المجسدة الحية ذات الشمول والاكتمال في كتابه عن دستويفسكي ( 1984-ص181)، وينكر أنها اللغة " باعتبارها موضوع دراسة علماء اللغة والتي يعرفونها من خلال عملية تجريد ضرورية ومشروعة من شتى جوانب الحياة العملية للكلمة" (نفس الصفحة) .
والواضح، كما يقول هوثورن ( 1994)، إن الإيديولوجيا بشتى تعريفاتها، من "الجيران الأقربين" للخطاب طبقاً لمفهوم فوكو وباختين. ولم ينس تودوروف أن يأتي بمصطلحين جديدين هو الآخر للحاق بأسرة الخطاب، هما الخطاب الأحادي التكافؤ monovalent discourse، والخطاب المتعدد التكافؤ polyvalent discourse ". ([114])
" هذا من الناحية اللغوية البحتة، أما الخطاب في التعريف الاصطلاحي للخطاب، كما جاء في الكتب النقدية. فقد تجاذبته اتجاهات متعددة، وقع بعضها في مزالق أدت إلى الخلط بين مفهوم الخطاب كمصطلح نقدي، وبين الكلام بمفهوم" دي سوسير".
أما النص فهو وحدة معقدة من الخطاب ، إذ لا يفهم منه مجرد الكتابة فحسب وإنما يفهم منه عملية إنتاج الخطاب في عمل محدد([115]).
وبين الخطاب والنص علاقة قوية جداً " فالخطاب مجموعة من النصوص ذات العلاقات المشتركة أي أنه تتابع مترابط من صور الاستعمال النصي يمكن الرجوع إليه في وقت لاحق، وإذا كان عالم النص هو الموازي المعرفي للمعلومات المنقولة والمنشطة بعد الاقتران في الذاكرة من خلال استعمال النص فإن عالم الخطاب هو جملة أحداث الخطاب ذات العلاقات المشتركة في جماعة لغوية أو مجتمع ما … أو جملة الهموم المعرفية التي جرى التعبير عنها في إطار ما" ([116]) .

أنواع الخطاب :
تتعدد أنواع الخطاب العربي وتختلف باختلاف مرجعيتها، ولقد قسمها منذر عياشي إلى ثلاثة أنواع؛ يأتي على رأسها الخطاب القرآني. وهو خطاب إلهي، مطلق ولا نهائي في دواله ومدلولاته "ليس كمثله شيء "([117])، كتب الله على نفسه حفظه، قال تعالى : " إنا له لحافظون "([118]) .
" النوع الثاني: ويمكن تسميته " الخطاب الإيصالي " ونماذجه متعددة سياسية، وإرشادية ووعظية وقضائية وإقناعية، واجتماعية، وإعلامية إلى آخره. - يقول د.الجابري: " صنفنا الخطاب …إلى أربعة أصناف: الخطاب النهضوي وجعلناه يدور حول قضية النهضة عامة والتجديد الفكري والثقافي خاصة، والخطاب السياسي ومحورناه حول "العلمانية" وما يرتبط بها والديمقراطية وإشكاليتها، والخطاب القومي وركزناه حول " التلازم الضروري" – الإشكالي الذي يقيمه الفكر العربي بين الوحدة والاشتراكية من جهة وبينهما وبين تحرير فلسطين من جهة ثانية. ويأتي الخطاب الفلسفي أخيراً ليعود بنا إلى صلب الإشكالية العامة للخطاب العربي الحديث والمعاصر، وإشكالية الأصالة والمعاصرة –"([119]).
والنوع الثالث: ويمكن أن " نسميه الخطاب الإبداعي ( الشعري ) ونماذجه متعددة هي الأخرى، ولكن يتميز عن الأول بأنه خطاب يقوم على مبدأ الأجناس الأدبية"([120]).

1- الخطاب القرآني :
إن الخطاب القرآني خطاب إلهي، لم يستطع أحد تسميته إلا كما سماه الله عز وجل في كتابه الكريم حيث سماه (الكتاب) متفرد عن غيره من الخطابات وفي كل مستوياته الصوتية، والمعجمية، والتركيبية، والإيقاعية، والتداولية.
أصواته منسجمة متماسكة، ألفاظه واحدة لا تقبل التعدد وتركيباته وإيقاعاته مطلقة ولا نهائية، خطابه متفرد " ليس كمثله شيء " ورغم ذلك فقد أخذت عنه كل الخطابات والأجناس، وليس لأحد أن يأتي ولا بآية من مثله، ولقد تحدى القرآن بذلك قال تعالى: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إذ كنتم صادقين "([121]).
وإن أهم ما يميز الخطاب القرآني هو مرجعيته فالله سبحانه وتعالى هو المرسل، والقرآن كلمة الله نزلت على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كلمته التي تحمل كل صفاته ولانهائيته وبقائه على خلاف الأنواع الأخرى من الخطابات التي تفرض بعض النظريات المعاصرة مثل موت المرسل بمجرد الانتهاء من إنجاز عمله وخروج عمله إلى النور وتسلمه من قبل المتلقين.
الخطاب القرآني لانهائي الدال والمدلول أو التركيب " خطاب يميل إلى مرجعية ثلاثية فهناك مرجعية الدال، ويكون النص على مثال مرسله. وهناك مرجعية المدلول، ويكون النص فيها على مثال متلقيه. وهناك أخيراً، مرجعية النص نفسه على نفسه ويكون النص فيها دالاً ومدلولاً خالقاً لزمنه الخاص ودائراً مع زمن المتلقين في كل العصور، وسمة القراءة في كل ذلك، أن كل واحدة من هذه المرجعيات تستقل بذاتها وتطلب الأخرى في الوقت ذاته"([122]).
الخطاب القرآني خطاب لا ينطق إلا بلفظه، حيث لا يجوز لقارئه أن يقرأه إلا بلفظ داله، وإن اختلفوا في لغات المدلول، فالخطاب القرآني موجه للناس كافة هادياً ومنيراً، ولكل متلق حاذق الحق في تأويل مدلولاته اللانهائية المستمرة المطلقة المنسجمة مع حاجات الناس في كل زمان ومكان، ولكل الحق في إعادة إنتاج النص الديني معرفياً بالإيمان الحق.
الخطاب القرآني لا يترجم وإنما تشرح مدلولاته بكل اللغات، ولا يستطيع أحد أن ينقله إلى أي لسان آخر كما ترجم الإنجيل والتوراة إلى العربية وغيرها. وإذا كان الأسلوب يعرف أحياناً بأنه الشيء الذي يفقد العبارات عند ترجمتها إلى لغة أخرى، كما يحدث في ترجمة الشعر حيث تقتل روحه وإيقاعه أي خاصيته، أسلوبه بالترجمة، وكذلك فإن القرآن بالترجمة يفقد إعجازه في مستوى من مستوياته، وإن لم يكن بها جميعاً فلم يستطع أحد ترجمة " حتى يلج الجمل في سم الخياط " أو " رؤوسها كأنها طلع الشياطين" وغيرها من الأمثلة مما لا يحصر فلقد كتب الله على نفسه أن يحفظه.

2- الخطاب الإيصالي ( النفعي ) :
إن عملية الإيصال لا تكون إلا بوجود الأقسام الثلاثة المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والخطاب الإيصالي " يقوم على لغة نفعية استهلاكية مباشرة، وهذا طبيعي ما دام الإيصال هو غايتها، وما دام الخبر والإفهام، عبر الرسالة المنقولة هو هدفها، ولذا فإن المرسل يقول فيها لغته المكتسبة طبيعياً، ويخضع عفوياً ودون تكلف أو إعمال للذهن إلى قضاء المكونات القاعدية المتعارف عليها: صوتاً أو نحواً وصرفاً وتركيباً، ومعنى ودلالة وهو في التزامه هذا يعبر عن خضوعه إلى قضاء الاتفاق الحاصل مع المرسل إليه"….
ولقد ذهبت بعض الدراسات الحديثة، إلى دراسة هذا النوع من الخطاب تحت اسم ( La Pragmatique- النفعية أو التداولية" ، وهذه الدراسات كما تقول (فرانسواز آرمينغو) تدرس " اللغة ظاهرة استدلالية، وإيصالية واجتماعية في الوقت نفسه"([123]).
تبدأ مرجعية الخطاب الإيصالي النفعي من الخطاب وتنتهي بالمرسل .. يقول منذر عياشي " إذا كان الخطاب هو بالضرورة فعل الكلام " كما يقول تودورف([124]) ، فإن الخطاب الإيصالي، يشذ عن هذه القاعدة لسببين: أولاً: لأن الإيصال قد يكون بأدوات غير لغوية، ثانياً: لأن اللغة ليست هدفاً إيصالياً بحد ذاته، ولا هي أيضاً جزء من أهداف الإيصال…
ويرى أنه كلما اشتدت غيبة الخطاب كائناً مستقلاً وطغى حضور المرسل كائناً باثاً، ازدادت عملية الإيصال وضوحاً وحققت أهدافها … حيث أن هدف الإيصال هو نقل فكرة المرسل لا نقل لغة الخطاب التي يتم الإرسال بها … فالخطاب الإيصالي في مقصوده، هو المرسل فيما يريد أن يخبر عنه، وهو بهذا. أي المرسل، يستمر بقاؤه لأنه يحقق وجوده الاجتماعي"([125]).


3- الخطاب الإبداعي :
يقوم الخطاب الشعري الإبداعي على ستة عناصر كما حددها جاكبسون تغطي كافة وظائف اللغة بما فيها الوظيفة الأدبية. فلقد وجد أن السمة الأساسية التي من أجلها وجد النص هي الاتصال، هذا ويأخذ النص سماته الخاصة من خلال تدرج وظائف عناصر الاتصال، والتي فصلهما جاكبسون في نظرية الاتصال (Communication theory )، وليس من خلال احتكاره لواحدة منها.
وفي نظرية الاتصال " يذكرنا جاكبسون بمبدأ المحورين الذي عرضه سوسير : محور التزامنات (Axedes Simultaneites ) أو محور الانتقاء(Selections) ومحور التعاقبات (Successitivites) أو محور التركيب ( Combinaison) ويطلق عليهما اسمي المحور الاستبدالي (Axe paradigmatique) والمحور النظمي( Axe Syntagmatique) فالعلاقات التركيبية هي معطيات الجملة القابلة للملاحظة، أما العلاقات الاستبدالية فتقع على محور الانتقاء باعتبارها أفعالاً بالقوة(Virtualites)….
ويتم الانتقاء بناء على قاعدة التكافؤ (Equivalence) والتماثل (Similarite) والتباين (Dissimilarite) والترادف (Synonymie) والتضاد (Antonymie)، بينما يستند التركيب إلى التجاور (Contiquite). غير أن الوظيفة الشعرية تـسقـط
(Projettee) مبدأ التكافؤ لمحور الانتقاء على محور التركيب فيصبح التكافؤ إذاً إجراء مكوناً للمتتالية ( Sequence)" ([126]).
أما العناصر فهي :
- " المرسل: الذي يرسل الرسالة إلى شخص ما، ومن يتكلم أو يكتب.
- الرسالة: موضوع الإيصال.
- المرسل إليه: مستقبل الرسالة ( المتلقي )وغاية إرسالها.
- المحيط ( السياق ): المرجع الذي يحيط المرسل إليه به علماً، ( حتى يستطيع إدراك مادة القول ).
- رموز الإيصال ( الشفرة ): وهي مشتركة بين المرسل والمرسل إليه، وهي الخصوصية الأسلوبية لنص الرسالة.
- التماس أو قناة الإيصال: وهي مادية ونفسية وبموجبها يقوم التبادل ويستمر دوامه.
سياق
رسالة
مرسل ___________________________ مرسل إليه
وسيلة
شفرة
وكل قول يحدث إنما يدور في هذه المدارات الستة مهما كان نوع ذلك القول، واختلاف الأقوال في طبيعتها إنما يكون في تركيزها على عنصر من هذه العناصر أكثر من سواه فليست المسألة مسألة الوظيفة الوحيدة، بل مسألة الوظيفة المهيمنة وبذا تختلف الوظائف حسب تركيزها على العناصر"([127])، ولقد حدد جاكبسون تلك الوظائف على النحو التالي:
" الوظيفة الإخبارية، التعليمية، التفسيرية، فنحن نتكلم لكي نقول شيئاً، أو نعرف به.
الوظيفة التعبيرية، فنحن لا نتكلم لكي نعبر وحسب، وإنما نتكلم أيضاً لكي نخبر عن أنفسنا، والرسالة في هذه الحالة مركزة على المرسل، يعبر فيها عن خوفه، وغضبه، وسخريته، ومعتقده ... الخ وهو هنا ينقل كذلك خبراً، لكنه مختلف عن الأول.
وإذا كنا نقدر أن نطرح حول الوظيفة الأولى سؤالاً وهو؛ هل الخبر حق أم باطل؟ فإن السؤال حول الوظيفة الثانية هو: هل الخبر صادق أم كاذب؟
الوظيفة التحريضية : يمكن أن نتكلم أيضاً لكي نحرض، لكي ندفع إلى العمل، كأن نعطي أمراً أو نصيحة، والرسالة هنا مركزة على المرسل إليه ( المتلقي )، ووظيفتها تحريضية وهي لا تدخل في مجال الخطأ والصواب، وإنما مجالها المشروعية واللامشروعية: هل لي الحق في إعطاء هذه الرسالة أم لا؟
وظيفة المؤانسة (Phatique): الرسالة هنا لا هدف لها إلا إقامة علاقة اتصال، أو تثبيتها، أو قطعها. لا نتكلم هنا لنقول رسالة، بل لنأنس إلى ما حولنا وليأنس به، وهنا لا نبحث عن حقيقة، هنا نأنس مع العالم.
الوظيفة الوصفية النقدية: وهي التساؤل حول لغتنا، حول ما لا يفهم من كلامنا: ماذا تريد أن تقول؟ ماذا تعني؟
الوظيفة الشعرية: وهي أن يكون هدف الرسالة ذاتها، بوصفها واقعاً مادياً، باستقلال عن معناها، وتتجلى هذه الوظيفة بقدر ما يكون الدال أكثر أهمية من المدلول وبقدر ما تتغلب كيفية القول على مادة القول"([128]).


ا- المؤلف ( المرسل):
تحتوي مفردات قضايا الحداثة كما يقول د. محمد عبد المطلب: " على طرفين أخذا عناية خاصة من الدارسين هما: المبدع والمتلقي، ذلك أن اكتمال الإطار اللغوي مرهون بهذين الطرفين، وهذا يعني الجمع بين الإنتاج والاستهلاك على صعيد واحد، وقد طرح هذا الجمع نفسه بشكل لازم في جميع التيارات النقدية قديماً أو حديثاً"([129]).
ويؤكد بوفونBuffon على دور المبدع فيقول: " إن المعارف والوقائع والكشوف يسهل نقلها – وتعديلها، بل تكتسب كثيراً من الثراء إذا تناولتها أيد كثيرة خبيرة، فهذه الأشياء خارجة عن الإنسان، أما الأسلوب فهو الرجل نفسه"([130]).
وتعتبر الرومانسية من المدارس التي أعطت المبدع أهمية وذلك لاهتمامها بالذات، فهي ترى أن "العمل الإبداعي تعبير عن العالم الداخلي للفنان، وأن فهمنا للنص الأدبي يعتمد – قبل كل شيء – على فهم المبدع أولاً، وذلك يتم بتجميع كل ما يمكن الحصول عليه عن حياة هذا المبدع وسيرته الخاصة، وبهذا يتأكد تميز كل أسلوب عن أسلوب آخر، وتفرده بخصائص لا توجد في سواه من خلال ارتباطه بهذا التكوين الخاص لمبدعه"([131]).
ولكن يعد المؤلف ميتاً في كل من البنيوية وما بعد البنيوية، ويؤكد بارت " أن الكتابة هي في واقعها نقض لكل صوت كما أنها نقض لكل نقطة بداية ( أصل )، وبذا يدفع بارت المؤلف نحو الموت. بأن يقطع الصلة بين النص وبين صوت بدايته، ومن ذلك تبدأ الكتابة التي أصبح بارت يسميها بالنصوصية (Textuality ) بناءً على مبدأ أن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف. والمؤلف لم يعد هو الصوت الذي خلف العمل أو المالك للغة أو مصدر الإنتاج، ووحدة النص لا تنبع من أصله ومصدره، ولكنها تأتي من مصيره ومستقبله، ولذا يعلن بارت بأننا نقف الآن على مشارف عصر القارئ. ولا غرابة أن نقول إن ولادة القارئ لا بد أن تكون على حساب موت المؤلف وبذا يحسم بارت الصراع بين العاشقين المتنافسين على محبوب واحد فيقتل رولان بارت منافسه ليستأثر هو بحب معشوقه ( النص ) وينتصر القارئ على المؤلف ويخلو الجو للعاشق كي يمارس حبه مع محبوبه الذي لا يشاركه فيه مشارك. وتتحول العلاقة بين المؤلف والنص من علاقة بين أب وابنه على وجود الابن، إذ تتحول إلى علاقة (ناسخ) و( منسوخ ). أي أن المؤلف لا يكتب من اللغة التي هي مستودع إلهامه، ولا وجود للمصدر إلا من خلال النص، ولولا النص ما كان المصدر"([132])، فالنص هو الأصل وليس المؤلف.
وبذلك نكون قد شهدنا على يد بارت " مصرع النقد التقليدي الذي ينهزم آسفاً على منظر موت المؤلف حيث تختفي السيرة الذاتية، وتاريخ حياة الكاتب وأزماته النفسية معه، في فناء قاتل. وتحل محل ذلك نظرية فنية في ( استقبال ) النص حيث يقوم القارئ إلى جانب ( الناسخ ) لينعش النص بحياة جديدة. وكنتيجة لهذا فإن الكتابة لم تعد موضعاً لتسجيل الحدث أو مجالاً للتعبير أو انعكاساً وجدانياً، لقد أصبحت الكتابة حالة تمثُّلٍ ذاتي. وبذا يجهز بارت على نظرية ( المحاكاة ) الكلاسيكية التي تعتبر الأدب مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة سلفاً. وذاك على نقيض المبدأ الجديد الذي يؤكد أن الناسخ إنما ينسخ نصه مستمداً وجوده من المخزون اللغوي الذي يعيش في داخله مما حمله معه على مر السنين"([133]).
وبذلك فإنه بحسب تصور بارت إن وحدة النص لا تستمد وجودها من أصله بل من النهاية التي ينتهي إليها وهي القارئ، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يكون فيها للنص مستقبل وتستوجب بالتالي أن يمرر حكم الإعدام على المؤلف.
وموت المؤلف مقولة لها تأثيرها على النصوصية، " فهي مقولة لا تعني ظاهر معناها اللغوي، وهي لا تعني إلغاء المؤلف وحذفه من ذاكرة الثقافة. إنها تهدف إلى تحرير النص من سلطة الظرف المتمثل بالأب المهيمن: المؤلف، إنها تفتح النص على القارئ بما أن القارئ هدف أولي للنص، وتزيح المؤلف مؤقتاً إلى أن يمتلئ النص بقارئه والقارئ بالنص ثم يصار بعد ذلك إلى استدعاء المؤلف ليحضر حفلة زفاف النص إلى قارئه ليبارك العلاقة الجديدة وينتظر الولادة الآتية فرحاً لابنه… لكي يتزوج الابن ويتمدد في أسرة جديدة من النصوص الموازية، ولكي تدخل الشاردة في خصام مع الخلق يجعلهم يسهرون حيث ينام المؤلف/ الأب سعيداً بمجد نصه وتاريخانيته المستديمة.
وموت المؤلف ليس إذن فناءه ولا نهايته، بل هو – فحسب – ترفيع للنص عن شروط الظرفية وقيودها، ومن ثم فتح المجال لنصوصية النص لكي يدخل النص إلى آفاق الإنسانية عابراً للزمان والمكان، حيث يكون النص والإبداع هو الأصل الذي يلتقي عنده المؤلف والقارئ. ولن يتسنى للنص أن يأخذ مداه مع القارئ ومع التاريخ إلا بعد أن يستقل عن سلطة المؤلف وهيمنته"([134]).
ب – المتلقي ( المرسل إليه):
يكتب الشاعر وهو يتخيل في ذهنه القارئ، ونوعية جمهوره الذين يكتب لهم وما يريد أن يوصله إليهم. يقول محمد بنيس إن الكتابة الجديدة " التي مارسها أدونيس بأناقة متمردة، ونظر لها، وهي الطرف الأقصى لحداثة شعرنا في هذا العصر، مشعة بالشفوية، وخصيصتها الإنشادية ذات صرح مكين"([135]).
وبذلك بدأ الاهتمام المتزايد بالمتلقي وكان ذلك منذ ظهور ما بعد البنيوية ( Post- structuralism) : " فقد أثار " قتل البنيوية للمؤلف، وتحويلها التواصل البرغماتي إلى لعبة المنطق الشكلي التركيبية، واعتبارها النص الأدبي بنية مغلقة لا علاقة لها بالذات المتلفظة وبسياق التلفظ … ردود فعل متباينة لعل أبرزها تبلور خطاب نقدي يحتفي بالعلاقة المتبادلة بين القارئ والنص. بحيث ينظر إلى القراءة بما هو فعالية تعيد كتابة النص المرصود للقراءة. كما أن النظرية اللسانية ساهمت بدورها في لفت النظر إلى المتلقي فهي تصادر على موضوعها هو النص، باعتباره " مرسلة مشفرنة " (Message Code ) تنتقل عبر سيرورة تواصلية من " مرسل" (Destinateur) إلى مرسل إليه (Destinataire) ويتعين على المرسل إليه أن يحل شفرات تلك المرسلة، مما يعني أن التواصل لا يتحقق إلا حين يتم حل الشفرات هذا بذلك، يقضي " المنهج العلمي بدارسة النص ليس انطلاقاً من المرسل، أي المؤلف بل من زاوية المرسل إليه خاصة أي المتلقي"([136]).
" ويتجه الدارسون إلى الأسلوب باعتباره قوة ضاغطة يسلطها المتكلم على المخاطب بحيث يسلبه حرية التصرف إزاء هذه القوة، فكأن الأسلوب أصبح بمثابة قائد لفظي للمتلقي. هذه القوة الضاغطة تتمثل فيها عملية الإقناع بوسائلها العقلية والتي من خلالها يسلم المتلقي قياده للفكرة الموجهة إليه، كما تتمثل فيها عملية الإمتاع التي تلون الكلام بكثير من المواصفات العاطفية والوجدانية، بحيث تكون هناك مزاوجة بين الجانب الإقناعي والجانب الإمتاعي، كما تتمثل فيها ثالثاً عملية الإثارة والتي بها يوقف المبدع المشاعر التي كانت مختزنة عند المتلقي – أو يجمدها – تمهيداً لإحلال انفعالات جديدة، مسببة عن الطاقة الفكرية والعاطفية الموجهة إليه، ومن ثم يمضي الشخص المثار في اتجاه ردود الفعل المثارة"([137]).
ومع ذلك نستطيع القول إن المتلقي كان سابقاً مستهلكاً، يستمع ويستمتع بجمال ما يسمع، ولم يعد كذلك في الوقت الحاضر فلقد تحول إلى منتج ينقد ويكتب نصاً نقدياً موازياً للنص الأول ومتداخلاً معه، " وهكذا شهدنا، ومنذ الستينات، اتجاهاً نقدياً مؤثراً يقوم على سلطة القارئ، ويستند إلى استجابته للنص الإبداعي: نقد استجابة القارئ Reader – Response Criticism . وهكذا تحولت عناية النقاد من النص باعتباره بناء متحققاً للمعنى إلى استجابة القارئ وهو يتابع النص مطبوعاً على الورق([138]). ما عاد معنى النص، إذن، إنجازاً لمؤلفه. بل صار نتاجاً أو خلقاً لمتميز يقوم به القارئ([139]) وقد ازدهر هذا الاتجاه، الذي يستند إلى فاعلية القراءة، ازدهاراً بيناً في بيئات نقدية محددة. حتى غدا تياراً مهيمناً. إن النقد البنيوي الفرنسي، كما يقول جونثان كيلر، يقوم جوهرياً على نظرية القراءة([140]). ولا شك أن هذا الاتجاه قد جعل من نشاط القارئ مولداً لعدد كبير من الدلالات والمعاني. كل قارئ للنص يجسد، في حقيقته، أحد المعاني الممكنة للنص المقروء. ويمثل القراء، بعددهم المتنامي، تشظيات للدلالة، وتفجرات لها في كل اتجاه. كان ارتباط النص بمؤلف بذاته يعني انغلاقه على معنى نهائي واحد لا يقبل التعدد كما يرى نقاد هذا الاتجاه. أما الركون إلى استجابة القارئ فهو طريق لا نهاية له صوب معان للنص لا نهاية لها([141]) أيضاً" ([142]).
وكان الجمهور سبباً في دراسة ظاهرة الغموض من قبل النقاد، وعلى من تقع أسبابها، وسبباً في أن يضع الشاعر له من العقبات الكثير لفك مغاليق النص عليه، حيث يضع له في العناوين ما يلفت انتباهه، وفي الغلاف ما يرمز له بشكل كثيف إلى مراد الشاعر، وفي الإهداءات ما يضيء له، وفي الهوامش ما يدله على مفاتيح النص، ويعمل كل ما بوسعه في التشكيل البصري عند الطباعة من أجله ومن أجل التأثير عليه.
" وإن ما يميز المتلقي امتلاكه حاسة التوقع والانتظار، وكلما قدم له المبدع ما يخالف هذا التوقع وذاك الانتظار فإنه يمتلك قمة البيان الأسلوبي الذي لا يكون إلا مجموعة طاقات وإمكانيات لغوية، والمبدع الفنان هو الذي يمتلك ناصية هذه الطاقات بحيث لا يكتفي بأداء المعنى وحده وبأوضح السبل، وإنما يجب أن يكون الوضوح في أجمل ثوب، بحيث يختار المبدع الشكل الملائم ليعبر عما يخالجه"([143]).
لذلك لا يوجد إبداع أدبي دون متلق، فالمبدع يكتب لمن سيقرأ له، والمتلقي هو الشخص الذي يشغل ذهنه أثناء الإبداع.


ج- الرسالة Message:
مالت بعض الدراسات إلى اعتبار النص مرآة للمبدع ولعصره، بل واعتبر بعض النقاد مثل بوفون أن الأسلوب هو الرجل، وبعضها اتجه نحو المتلقي وما لديه من إمكانات وتقانات، بل وأقاموا نقدهم انطلاقاً من فكرة موت المؤلف بإتمام عمله وصدوره إلى الدنيا وتواجده بين أيدي المتلقين. ولكن لم يمنع كل ذلك من اعتماد بعض الدراسات في التحليل على الرسالة بذاتها دون النظر إلى أي عنصر خارجي.
و" لقد استطاعت هذه الثورة التحليلية المناهجية قتل محاولات الرومانسيين (أسطرة المؤلف) على حساب النص، واستطاعت إلغاء ( الناقد) بصفته مالكاً ومنتجاً لحقائق وثوقية حولته إلى قارئ من بين قراء عديدين. واستطاعت إنهاء الانطباعات السوسيولوجية والتاريخية والنفسانية المحيطة بالنص وطردها عن مركز التحليل إلى درجة ثانوية، واستطاعت بالفعل تدمير مقولة الأنواع الأدبية. إذ بعد التحليل ثبت أن ما يجعل الشعر شعراً ليس هو الوزن والقافية. فهناك كمية هائلة من (الشعر) في الرواية مثلاً.ولكن من ناحية أخرى لم يتم إنتاج ( نص الكتابة) ففي الوطن العربي ورغم شيوع مصطلح (الكتابة) كمفهوم نظري، إلا أننا لم نقرأ حتى الآن نصاً مكتوباً واحداً، إلا تلك المحاولات الساذجة لخلط ( بعض الشعر) ببعض ( النثر) ([144])".
والرسالة - كما نعلم - " عنها تتولد الوظيفة الإنشائية وهي الوظيفة التي تكون فيها الرسالة غاية في حد ذاتها لا تعبر إلا عن نفسها فتصبح هي المعنية بالدرس، وقد جر البحث في العلاقة بين الرسالة والوظيفة الأدبية إلى بعض المواقف المتباينة، فقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الوظيفة ليست موجودة في الكلام العادي التي تؤدي فيه اللغة وظيفتها الاجتماعية الأساسية قائلين إن الوظيفة الأدبية تكون إذ ذاك في الدرجة صفر، واعترض عليهم آخرون محتجين بأن ذلك يدفع بالبحث في شعاب تقف دون تقدمه إذ يصعب تحديد نقطة الانطلاق، أو المعيار الذي تكون فيه اللغة في الدرجة الصفر. وقد ذهب جاكبسون حسماً لهذا النزاع إلى أن كل رسالة مهما كانت غايتها تتضمن وظيفة أدبية بقي أن درجة هذه الوظيفة تختلف من نص لآخر"([145]).
ويقول أدونيس " إن للنص مستويين: الأول هو النص كإمكانية لمعان محتملة، أي كبؤرة للدلالات. والثاني هو النص كمجموعة من المعاني التي كونتها القراءات المختلفة. الناقد/ القارئ هو، في هذا المستوى، شريك في معنى النص"([146]).
وعن علاقة النص بالمبدع يؤكد د. عبد المطلب أن النص الأدبي حقيقة " وليد تجربة ذاتية للمبدع، ولكن التعبير عن هذه التجربة يعطيها لوناً من الموضوعية يتيح للباحث أن يتوجه إلى هذا التعبير باعتباره إفرازاً ذاتياً اصطبغ بتجربة الحياة المعيشة التي تتجاوز إطار الذاتية من خلال وسيلة موضوعية هي اللغة، ولعل اكتساب التجربة المعيشة طابع العموم والشمول – باعتبار – أن البشرية كلها تلتقي في تجربة الحياة – مما يؤكد طابع الموضوعية الذي يكتسبه التعبير الأدبي، لأننا جميعاً في غالب الأحيان نحاول التعرف على ذواتنا في العمل الأدبي الذي نعايشه مما يعطيه طابع العموم الموضوعي الذي يكسبه استقلالية عن المبدع في لحظة التلقي، بل إنه يعطيه استقلالاً خاصاً حتى يمكننا القول إن هذا النص لم يعد ممثلاً للعالم بقدر ما يتمثل العالم فيه.
ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن الأسلوب يتجسد من خلال المعطيات اللغوية للنص الأدبي، باعتبار هذه اللغة نظاماً من العلاقات مغلقاً على نفسه، تؤسس عالماً قائماً بذاته بحيث تتصل فيه كل وحدة أو تركيبة بما يجاورها ويوافقها أو يخالفها، مكتفية بنفسها اعتماداً على هذه العلاقات التركيبية([147])".
ويؤكد "أدونيس" على أن النص الشعري له خصوصية حيث " لا تكون له هوية إلا بها، تتمثل في كونه عملاً لغوياً، من جهة، وعملاً جمالياً من جهة ثانية، أي في كونه طريقة نوعية في استخدام اللغة، وطريقة نوعية في الاستكشاف والمعرفة"([148]).
ولعل "بالي" كان من أكثر الأسلوبيين تمسكاً بالرسالة ففي تمييزه بين الأسلوب والأسلوبية و" حينما أحس باحتمال الخلط بين المفهومين لا سيما وقد كان بصدد تأسيس تصورات مستحدثة، فحصر مدلول الأسلوب في تفجر الطاقات التعبيرية الكامنة في صميم اللغة بخروجها من عالمها الافتراضي إلى حيز الموجود اللغوي، فالأسلوب حسب تصور "بالي" هو الاستعمال ذاته فكأن اللغة مجموعة شحنات معزولة والأسلوب هو إدخال بعضها في تفاعل مع البعض الآخر كما في مخبر كيماوي. ولا شك أن هذا البسط هو وليد نظرية سوسير اللغوية ولذا سيلتقي في منعطفه جل الأسلوبيين بعد "بالي"، سواء منهم من تأثر به مباشرة، ثم طور نظريته، أو من استمدوا مبادئهم النقدية مما أفرزته نظريات سوسير من مناهج هيكلية، ومن هذا اللقاء سينشأ منهج تعريف الأسلوب بالاعتماد على خصائص انتظام النص بنيوياً"([149]).
ويرى الناقد الجديد أن" معنى النص داخل النص ولا نستطيع فرضه عليه من الخارج، من تاريخ المؤلف أو الظرف الاجتماعي أو السياسي الذي كتبه فيه ولا من انطباعات وآراء المتلقي أو نظرته إلى العالم. بمجرد الفراغ من كتابة النص يصبح ذلك النص دائرة مستقلة كاملة مغلقة منفصلة عن كل من ذات المبدع وذات الناقد أو المتلقي. لكن هذا لا يعني أحادية التفسير أو موت المؤلف من منظور النقد الجديد"([150]).
ولكن النصانية لا تأخذ بمفهوم الاقتصار على الرسالة في تحليل النص، بل إنها تستعين بكل ما من شأنه توضيح الغائب من الرسالة.

د – قناة التوصيل:
وقد تكون التلفاز، الراديو، الهاتف، الفاكس، الجوال ، الكتاب وجميع أنواع المطبوعات، والانترنت وغيرها من القنوات التي يتم الاتصال من خلالها والتي تتطور بتطور الزمان، وقد تتطورت في عصر المعلومات بدرجة هائلة.

هـ – السياق :
أما السياق فهو مفهوم يتعلق بقضايا التأويل والإيديولوجيا والعالم الخارجي كله، لذلك فإن الحديث عنه في النصانية يتطلب ضرورة حصره في الإطار المعرفي المتقاطع مع النص بشكل مباشر.
ولقد كان ممن تبنى مفهوم السياق فيرث Firth، حيث " يفسر في رأيه الكثير من العمليات المصاحبة لأداء اللغة ووظيفتها التواصلية لدى كل منتج للكلام، والمتلقي.
والسياق أو القرينة، نوعان، هما: السياق اللغوي Linguistic context والسياق أو القرينة الحالية Context of situation . ويرى فيرث أن الأول منهما هو الذي يعطي الكلمة، أو العبارة، معناها الخاص في الحديث أو النص، وينفي عنها المعاني الأخرى التي يمكن أن تؤديها في حديث أو نص آخر"([151]).
والسياق عند ( جاكبسون ) هو " الطاقة المرجعية التي يجري القول من فوقها، فتمثل خلفية للرسالة تمكن المتلقي من تفسير المقولة وفهمها. إنه الرصيد الحضاري للقول وهو مادة تغذيته بوقود حياته وبقائه … ولا تكون الرسالة بذات وظيفة إلا إذا أسعفها السياق بأسباب ذلك ووسائله … فلكل نص أدبي سياق يحتويه، ويشكل له حالة انتماء، وحالة إدراك …. وهو سابق له في الوجود. فالسياق أكبر وأضخم من الرسالة… وموضع النص من السياق مثل موضوع الكلمة من الجملة، فلا قيمة للكلمة من دون الجملة، مثلما أنه لا وجود للجملة من دون الكلمة" ([152]) .
و" ليس للنص وجود خارج سياقه ولذلك فإنه ليس للقصيدة أن تعني وإنما يكفي أن تكون Apoem should not mean but be ، لذلك فإننا في حالة دراسة إنتاج أديب معين، تحتاج إلى سبر هوية (السياق ) الرئيسي للكاتب لنعرف من ذلك كيف نفسر نصوصه" ([153]) .
" فالقراءة إذاً هي عملية دخول إلى السياق ، وهي محاولة تصنيف النص في سياق يشمله مع أمثاله من النصوص التي تمثل ( أفقية ) فسيحة للنص المقروء تمتد من دخوله ومن قبله وتفتح له طريقاً إلى المستقبل"([154]).
إن " الضابط في كل قراءة هو السياق فالمعرفة التامة بالسياق، شرط أساس للقراءة الصحيحة، ولا يمكن أن نأخذ قراءة ما على أنها صحيحة إلا إذا كانت منطلقة من مبدأ السياق لأن النص توليد سياقي ينشأ عن عملية الاقتباس الدائمة من المستودع اللغوي ليؤسس في داخله شفرة خاصة به تميزه كنص ولكنها تستمد وجودها من سياق جنسها الأدبي والقارئ حر في تفسير الشفرة وتحليلها، ولكن مقيد بمفهومات السياق"([155]).
ويؤكد بارت " على السياق كضرورة فنية لإحداث فعالية الكتابة، والكتابة لا تحدث بشكل معزول أو فردي، ولكنها نتاج لتفاعل ممتد لعدد لا يحصى من النصوص المخزونة في باطن المبدع، ويتمخض عن هذه النصوص جنين ينشأ في ذهن الكاتب، ويتولد عنه العمل الإبداعي الذي هو النص، وهذا التفاعل بين النصوص في توارثها وتداخلها هو ما يسميه رواد مدرسة النقد التشريحي (Deconstructive Criticism ) بتداخل النصوص ( Intertextuality)" ([156]).

و - الشفرة :
" إن السياق هو الذي يحمل للمتلقي ماهية الرسالة، لكن ذلك لا يتحقق من دون فهم الشفرة التي تصاغ بها الرسالة. الشفرة … بالنسبة لجاكبسون هي وسيط medium لا يتم الاتصال من دونه في حالة النص الأدبي. الاتصال هنا في المعادلة الجاكبسونية يعني الاتصال مع المنطوق، أي قراءة الكلمات المكتوبة أو الاستماع إليها"([157]).
ولما كانت " الشفرة هي اللغة الخاصة بالسياق، فهي الأسلوب الخاص بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص الأدبي. وللشفرة خاصية إبداعية فريدة ، فهي قابلة للتجدد والتغيير والتحول، حتى وإن ظلت داخل سياقها، ويستطيع كل جيل أدبي أن يبدع شفرته المتميزة، بل إن المبدع نفسه – كفرد- قادر على ابتكار شفرته التي تحمل خصائصه، هو جنباً إلى جنب مع خصائص شفرة السياق الخاصة بجنسه الأدبي الذي أبدع فيه …
ولذلك فإن الشفرة مهمة جداً في ابتكار النص أولاً، ثم في حمايته من الذوبان في السياق، هي خصوصية النص وروح تميزه…، والعلاقة بين السياق والشفرة متشابكة تشابكاً عضوياً مكيناً، فلا وجود لأحدهما دون الآخر"([158]).
و" النص يوجد هويته بواسطة شفرته ( أسلوبه )، ولكن هذه الهوية لا تكون ذات جدوى إلا بوجود السياق فالسياق ضروري لتحقيق هذه الهوية، كما أن السياق لا يكون إلا بوجود نصوص تتجمع على الزمن لينبثق السياق منها، وهذا يعني اعتماد السياق والشفرة على بعضهما لتحقيق وجودهما" ([159]).













اللسانيات واللسانيات النصية ( Textual Linguistics)
بدأت منذ الخمسينات محاولات تجاوز اللسانيات الوصفية والسلوكية، الصوتية أو التركيبية وتجاوز الجملة. وذلك منذ أن " بدأ التوجه نحو تحليل الخطاب ( Discourse analysis )، ففي عام 1952م قدم (هاريس) منهجاً لتحليل الخطاب المترابط Connected سواء في حالة النطق Speech أو الكتابة Writing ([160])، استخدم فيه إجراءات اللسانيات الوصفية Descriptive Linguistics: بهدف اكتشاف بنية النص Structure of the text .
ولكي يتحقق هذا الهدف، رأى هاريس Harris أنه لا بد من تجاوز مشكلتين وقعت فيهما الدراسات اللغوية ( الوصفية والسلوكية )([161])، وهما:
الأولى: قصر الدراسة على الجمل والعلاقات فيما بين أجزاء الجملة الواحدة.
والثانية: الفصل بين اللغة Language والموقف الاجتماعي Social Situation، مما يحول دون الفهم الصحيح … ومن ثم اعتمد منهجه في تحليل الخطاب على ركيزتين ([162]):
§ العلاقات التوزيعية بين الجمل.The Distribution Relations Among Sentences
§ الربط بين اللغة والموقف الاجتماعي ".([163]) The Correlation between language and social situation
وكان زعيم هذا الاتجاه Firth الذي وضع تأكيداً كبيراً على الوظيفة الاجتماعية للغة([164]). مما حدا بعلماء لغة النص إلى الاهتمام بهذا السياق، وما يتصل به من أمور تتعلق بمنتج النص ومستقبله والمحيط الثقافي والمقاصد والغايات، وهي " أمور يشملها مصطلح ( مقاميات ) pragmatics، ومن ثم يجيء تعامل علماء لغة النص مع النص بوصفه حدثاً اتصالياًCommunicative Occurrence([165])"، واعتبار محور اللسانيات النصية هو"كيف تؤدي النصوص وظيفة التفاعل الإنساني Human Interaction "([166]).
وبدأت النصية منذ الستينات " تتجاوز مستوى الجملة إلى مستوى النص، وتربط بين اللغة والموقف الاجتماعي مشكّلة اتجاهاً لسانياً جديداً على نحو يتخذ النص كله وحدة للتحليل" ([167]).
هذا و" لعب ثلاثة من اللسانيين دوراً في تطوير الدراسات النصية وهم : فرديناد دوسوسير Ferdinand De Sausure الذي يعد نظرية الدليل signe أساس الأبحاث التي تدور حول النص والشعر باعتبارهما بنيتين ونظامين مستقلين نسبياً … ولقد وضع أسس السيمولوجيا ، وعلى هداه سار رومان جاكبسون Roman Jakobson وقام بدراسة حول الفونولوجيا وحول وظائف اللغة، وفتح باب البحث في الشعرية La Poeticte وفي الاستقلالية النسبية للظاهرة الأدبية .
ونفذ اميل بنفيست Emile Benveiste - بوصفه لمفهوم المسند إليه Sujet Le في مركز تصوره للغة - إلى مسألة التخاطب Interlocution ومسألة الأنواع الأدبية، التي تتحدد بعلاقتها بالخطاب Discourse وباختصار فقد مهد في آن معاً، للشعرية المقارنة ولبراغماتية القراءة. وعمل هؤلاء الثلاثة جميعاً وفق منظور رسمي منذ ذلك الحين يعرف بـ" البنيوي " Structural " ([168]). فتحليل النص أخذ يتجاوز لسانيات الجملة من منظور دوسوسير والمعايير البلاغية وهيمنة النقد الأدبي .
" ويرى دوبوجراند أن الدراسات النصانية مرت بثلاث مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى: هي التي انتهت بحلول الستينيات ولم تكن ذات أثر يذكر على تيار ألسنية الجملة الغالب، وكان من رواد هذه المرحلة ( انجاردن وبوهلر وهمسلف) وغيرهم .
وبدأت المرحلة الثانية : في نهاية الستينيات وعلى وجه التحديد عام 1968م، حين بدأ عدد من العلماء مثل"رقيه حسن " و " بايك " و" ايسنبرج " يعملون بشكل منفرد في مجال الدراسات التي تتجاوز مستوى الجملة، إلا أن اتجاه هؤلاء لم يحرز أثراً حاسماً لكونه نظر إلى النصوص على أنها تتابعات لمجموعات من الجمل ...
ومهما يكن من أمر فقد كان الاتجاه في المرحلة الثالثة التي بدأت عام 1972 م، يتركز على محاولة إيجاد نظرية بديلة تحل محل النظريات الألسنية السائدة والتي ثبت عدم قدرتها على الصمود في وجه التساؤلات الأساسية التي تستجوبها الدراسات اللغوية المتكاملة، وقد قام هذا الاتجاه على جهود طائفة من العلماء كان في مقدمتهم "فان دايك "و" دوبوجراند و" درسلر" وغيرهم، ويلاحظ أن كثيرين ممن أسهموا في هذه الاتجاهات كانوا من العلماء الذين ظلوا يحتجون على استقلالية الدراسات الألسنية عن ( السياق الاجتماعي ) بالإضافة إلى علماء الحاسوب الذين حاولوا أن يدرسوا الكيفية التي تتم بها برمجة اللغة في عقل الإنسان "([169]).
و" يرى دوبوجراند أن محاولات (هاريس) والتحويليين في إيجاد قواعد عرفية لإنشاء النصوص آلت جميعها إلى الفشل، لأنها لم تستطع أن تضع معياراً ثابتاً للكيفية التي يتصرف بها الناس في إنشاء النصوص، ولأنها لم تستطع أن تحدد موقفاً واضحاً من النصوص غير النحوية ومن اختلاف الأساليب في داخل النصوص"([170]).
ولذلك ركز بعض العلماء على تعريف النص من خلال مكوناته، كما في تعريف تودورف للنص حيث يقول:"يمكن للنص أن يكون جملة، كما يمكنه أن يكون كتاباً تاماً، وهو يعرف باستقلاله وانغلاقه ". ويقول في وصفه: إنه يكون نظاماً لا يجوز أن نطابقه مع النظام اللساني، ولكن لأن نضعه في علاقة معه:" إنها علاقة تجاور وتشابه في الوقت نفسه ". ويقول مفسراً فكرة النظام بما قاله هيلمسف، فيصبح نظاماً تضمينياً، وذلك لأنه نظام ثان بالنسبة إلى نظام معنوي آخر([171]).
ويذكر في مكونات النص أنه: " إذا كنا نميز في الجملة الشفوية بين مكوناتها الصوتية والنحوية والدلالية، فإننا سنميز في النص مثيلها، ولكنها لا تأخذ الموقع نفسه في الحالتين ... وإذا كنا هكذا فإننا نستطيع أن نتكلم عن الوجه الملفوظي للنص، ونقول إنه مكون من " كل العناصر التي تكون الجمل: العناصر الصوتية والقاعدية إلى آخره " كما نستطيع أن نتكلم بالرجوع إلى العلاقات القائمة بين الوحدات النصية مثل: الجمل ومجموعات الجمل "ويمكننا أن نتكلم أخيراً عن الوجه الدلالي للنص، وهو عبارة عن منتوج معقد للمضمون الدلالي تنتجه الوحدات اللسانية "([172]).
ولقد انتقد البروفيسور روبرت دوبوجراند في كتابه ( Text, Discourse and process Toward a multidisciplinary science of texts )، ما فعله الوصفيون من تفتيت أجزاء نماذجهم المثالية باصطناع وحدات صغرى يفرغونها من خلال التصنيف بحسب سماتها المميزة ويجعلون كل مستوى من مستويات هذه الوحدات الصغرى نظاماً من التفاعلات المشتركة كالوحدات الصوتية والصرفية. ثم ما ارتضوه من تجاهل العلاج للمعاني لكونه في نظرهم مستحيلاً.
ثم انتقل التوليد بين الذين بدءوا من الطرف الآخر وهو القواعد النحوية بوصفها مجموعة من الضوابط التي تحدد ما ينتمي وما لا ينتمي إلى اللغة، وأجلوا النظر في مسألة شمول قواعدهم بافتراض أن كل المركبات صالحة أن تستخرج من مكونات أبسط منها باستعمال الضوابط المناسبة لإنتاج جمل لا نهاية لها. واعتمد التوليديون على المنطق الصوري والرياضيات حتى وصلوا بعملهم إلى الطابع القالبي الذي يتنافى مع زخم الاستعمال"([173]).
لذلك ليس من الصواب اعتبار النص مجموعة من الجمل تجاورت مكونة للنص، وأن الجملة مجموعة من الكلمات، فالاعتداد بالوحدات المادية المباشرة يؤدي إلى الابتعاد عن الخواص النوعية والوظائف الفنية له.
فـ" كل نص لا بد أن يتضمن بنية شاملة تؤطر مفاتيح النص ومغاليقه، وتحدد المستوى الأول والأخير له وليس من الضرورة أن يتضمن النص عدة بنيات، فقد لا يشكل سوى بنية واحدة تمثل البنية الكلية والكبرى والوحيدة للنص، ونستطيع أن نمثل لهذه الحالة بالنص الشعري القصير والخالي من القشور اللغوية ومن الترهل النصي. كذلك قد يتضمن النص عدة بنى بصلية التركيب، وفي هذه الحالة نضطر إلى إجراء عملية فرز للبنى فتنكشف لنا كتلتان، واحدة خارجية شمولية إطارية تمثل البنية الكبرى، وأخرى داخلية ضفائرية نسبية تمثل البنى الصغرى"([174]) .
ومن خلال تعريفات العلماء للنص يتضح أن للنص " تصورين كبيرين: أحدهما استاتيكي ثابت، والآخر ديناميكي متحرك وهو الذي يولع به التفكيكيون ويرتكز على مفهوم التناص"([175]).
أ – " الاستاتيكية الثابتة :
يشتمل النص كنظام قائم على بنية صغرى، وأخرى كبرى. أما الصغرى، فهي تشتمل على الكلمات والجمل، ولا يعني وجودها أنها كوحدات سيتم دراستها لغوياً وصرفياً من أجل الوصول للخواص البنيوية المميزة للنص فالتشريحية تتجاوز البنية الصغرى، هذا ولا بد من الإشارة إلى ما يمكن أن يعتبر بنية صغرى في نص ما يمكن اعتباره في نص آخر بنية كبرى"([176]).
وبوسعنا أن نطلق مصطلح " الأبنية الكبرى " على الأبنية المتتاليات في السطح الرائي. وما بها من جمل وفقرات ثم على العلاقات والشفرات الخاصة بالأجناس الأدبية فهي التي تنظم الممارسة العملية للنص وتعطي النص كينونته المتفردة " ([177]).
و" في الطبيعة تمتاز البنية الكبرى بالشمولية وبنسبة التحكم في نسيج النص، أما الصغرى فتمتاز بطابعها المحدود وبنسبة تحكمها في بعض المتتاليات النصية" ([178]).
ولتشريح النص لا بد من فهم خواصه النوعية ومعرفة مكوناته الأساسية وتحليل العلاقات في بنيته الكبرى والعميقة المتحققة بالفعل ، فالبنية هي : " النسيج الجمالي الذي تنتظم فيه مفاصل النص في مستوياتها السردية والذهنية، بعلاقات تشابكية ومنسجمة ومؤولة، تركيباً ودلالياً وتداوليا "([179]).
ولقد حدد دوبوجراند الفروق الأساسية بين الجملة والنص بوصفهما مفهومين لغويين لهما دلالة مهمة في تطوير لسانيات النص لذلك رأى أن:
" الخلط والإدماج في فهم أمور مثل : الجملة والقضية ، والقول يجب أن تفسح الطريق للبحث في إجراءات التخطيط Mapping Procedures والتي تحكم تفاعل المكونات على مستويات لغوية مختلفة.
وينبغي للبحث عن قواعد مطلقة، Categorical rules ، أن يعاد توجيهه إليها باحتسابها تعويضات Defaults ، وتفصيلات preference تصلح للتطبيق باحتمال probability أكبر وأصغر بقصد الاستجابة للموقف، ولا يمكن لنظرية النص أن تقرر ما يجب أن يحدث طول الوقت، بل ولا ما يحتمل أن يحدث معظم الوقت في ظروف الضوابط السائدة.
ولا يمكن للبحث أن ينبني ولا للنتائج العامة أن تستنبط من الجمل الإيضاحية Demonstration sentences، فقط إذ يصنعها الباحث من أجل دعم رأي بعينه. فالمجالات الأكثر إقناعاً للحصول على الشواهد هي النصوص المستعملة بالفعل Actually Occurring text، والتي يؤدى بها الاتصال. وإذا لم نستطع الحصول على الشواهد العفوية في إحدى الحالات وجب علينا أن نحترس من زعم صحة آرائنا. فلقد قام نحاة الجملة مثلاً بالكثير من البحث ليناقشوا حول مدى تعدد حالات الإدماج Multiple Embeddings الذي يصعب الكشف عنه في الاتصال الحقيقي .
وبينما نجد معظم ما أصاب نظريات الجملة من نجاح يعود إلى عمليات استبعاد الأمثلة غير المقبولة نرى نجاح لسانيات النص يعتمد على أساس تجريبي واسع – إذ يجب أن نبحث بنشاط عن الشواهد المتنوعة من كل أجناس النصوص: من القصص، والروايات ، والإعلانات ، ومن غيرها دون ذلك.
ولا يمكن للسانيات النص أن تعمل على تهيئة نحو تجريدي لتوليد كل النصوص الممكنة في اللغة، واستبعاد كل ما ليس نصاً (Non -Text). فمجال التوليد أوسع من أن يحاط به، ويطرد اتساعه على الدوام. إن مفهوم ما ليس نصاً ليس ذا خطر، لأن وروده يؤدي في العادة إلى عدم قبوله أو إلى عدم القدرة على الاتصال. أما العمل الأهم للسانيات النص فهو بالأحرى دراسة مفهوم النصية ( Textuality)، من حيث هو عامل ناتج عن الإجراءات الاتصالية المتخذة من أجل استعمال النص.
وإن النماذج التي تبدو أكثر مناسبة للعلميات (Operations) المنتجة في مجال استخدام النص ( Text Utilization ) ، يجب أن ننسب إليها أعلى قيمة بوصفها تفسيرات إيضاحية، ولا ينبغي للصياغات التجريدية التي تتفرع عنها تراكيب متعمدة أن تعد ممثلة للغة الإنسانية، حتى حين تكون عظيمة الجدوى في الإيضاح. وذلك بأنها في أحسن أحوالها صنعة من أجل المساعدة والوساطة يتم استبعادها عندما نقترب من نموذج مقبول من نماذج النشاط الإنساني.
وينبغي لمفهوم القدرة Competence أن يحظى بنظرة أكثر اتساماً بالتكاملية مما يجري في العادة في قواعد الجملة Sentence grammar، فعلينا أن نبحث في تحديد القدرات abilities التي تجعل الناس في العادة من أصحاب المقدرة competent على إنتاج النصوص وفهمها بنجاح دائم. وهذا النوع من نظرية النص سيكون ذا طابع ذهني Mentalistic، في معناه الأساسي وصالحاً من الناحية العملية للتصديق والتكذيب.
ويجب إيجاد تراكيب formulation وشواهد representation يمكن أن تقبل قبولاً حسناً من حيث هي إجراءات Processes ، لا من حيث كونها تصميمات متخذة من مصدر غير معلوم، وينبغي أن يتم الشاهد عن كيف تنبنيbuilt be هذه العناصر المذكورة ، وكيف تضبط be controlled وكيف يتاح الوصول إليها be accessed.
وينبغي لأي من القواعد Rules المفترضة أن تشتمل في الوقت ذاته على إجراءاتProcedures ممكنة، فقواعد بناء الجملة مثلاً لا بد أن تقدم لنا الإمكانات الإجرائية التي يمكن تطبيقها في زمان حقيقي تحت شروط طبيعية مثل مدى طول الذاكرة، والقدرة على التخطيط.
وفوق كل ذلك يجب بجهودنا أن نكرس مبدأ تكافل العلوم المختلفة، لأن اللسانيات وحدها لا تستطيع أن تقدم الخبرة المطلوبة لمعالجة النواحي النفسية والاجتماعية والحسابية للنص المستعمل"([180]).
فـ" إذا كانت( الجملة ) وحدة نحوية، فإن( النص ) ليس وحدة نحوية أوسعlarge grammatical unite، أو مجرد مجموع جمل، أو جملة كبرى " وإنما هو وحدة من نوع مختلف، وحدة دلالية semantic unite، الوحدة التي لها معنى meaning في سياق Context هذه الوحدة الدلالية تتحقق أو تتجسد في شكل جمل: وهذا يفسر علاقة النص بالجملة، إذ الأخيرة مجسدة للوحدة الدلالية التي يشكلها النص في موقف اتصالي ما"([181]) .
فالنص كما يرى دوبوجراند يتميز بقيمته الاتصالية، و" قد يتجسد كوحدة دلالية في جملة واحدة، وفي أقل من جملة أحياناً كما هو الحال في التنبيهات، والعناوين، والإعلانات التي تتكون غالباً من مجرد حرف واسم، مثل (للبيع) أو (للتدخين) وغيرها وبالمثل لا يوجد حد أعلى لطول النص، فقد يكون كتاباً كاملاً، كما هي الحال مثلاً في - الرواية و المسرحية"([182]). وبذلك تتجاوز الجملة المنعزلة ذات الوجود المنطقي انعزاليتها لتتجه نحو الاتصالية " فالنص كل وحدة كلامية تخدم غرضاً اتصالياً.
هذا التجاوز لم يكن مجرد نقلة حجمية بل نقلة في المنهج وموضوع البحث، وإجراءاته وأهدافه "فالفرق بين الألسنية الحديثة والدراسات اللغوية القديمة هو الفرق بين علم النص الحديث والدراسات النقدية والبلاغية القديمة "([183]).
وهذا لا يعني أن النصية لا تدرس الجملة فقد ذكر الدكتور سعيد بحيري بأنها " تدخل في إطار لسانيات النص، ما دامت معالجة الجملة / النص لا تقتصر على الجانب التركيبي، وإنما تتعداه بإدراج الجانبين : الدلالي والمقامي، إذ يقول: " ودون الخوض في الخلاف حول مفهوم النص، فإنه من الضروري أن نشير إلى أن القضية لا تتعلق بالامتداد الأفقي بالكم أساساً، ولكن تعود إلى اختلاف منظور البحث، فقد تتوافق حدود الجمل، والنصوص في كثير من الأمثلة - كما يتبن - إلا أنه عند التحليل لا يتوقف عند التحليل التركيبي فهذا كاف باتفاقهم جميعاً. وهنا يبدأ تجاوز إطار الجملة إذ يبدأ البحث عن عناصر تتعلق بعناصر غير لغوية حقيقية، تتصل بمنطقية الجمل وصلتها بالموقف التواصلي أو عملية التواصل بصورة عامة ويستوجب البحث عن هدف سابق لوضع الجملة وأثر لاحق فنجد حديثاً عن الفروض المسبقة وأشكال التضمين والتتابع المنطقي للخطاب ككل"([184]) .
ولقد عدد دوبوجراند الفروق الجوهرية التالية بين النص والجملة بقوله:
" إن النص نظام فعال Actual Systemعلى حين نجد الجمل عناصر من نظام افتراضي Virtual System . والجملة كيان قواعدي Grammaticalخالص يتحدد على مستوى النحو فحسب، أما النص فحقه أن يعرف تبعاً للمعايير الكاملة للنصية Textuality. وإن قيود القواعد المفروضة على البنية التحريرية للجملة في النص يمكن أن يتم التغلب عليها Be overdid in بواسطة الاهتمام بتحفيزات تعتمد على سياق الموقف Context – Dependent motivations فالعناصر التي يمكن فهمها من الموقف مثلاً من خلال الإدراك الحسي يمكن السكوت عنها أو اقتضابها بواسطة المتكلم دون ضرر يعود على الطاقة الاتصالية للنص. وهكذا لا ينبغي للصواب النحوي أن يعد قانوناً بل أن يعد تعويضاً Default أي معياراً يلجأ إليه فقط عند عدم وجود قرائن محددة، أو هو تفضيل Reference أي معيار يفضل على غيره حينما تتعدد الاحتمالات.
كما إن التمييز بين ما يطابق القواعد Grammatical وما لا يطابقها non- grammatical تمييز تقابلي ثنائي Binary Opposition عندما يكون ثمة قواعد دقيقة وكاملة لضبط الجمل، فالحكم بأن تركيباً ما يعد جملة يتم بمقارنة هذا التركيب بالأنماط التي تسمح بها القواعد النحوية. أما التمييز بين ما يعد نصاً (Text ) وما لا يعد نصاً ( non- text ) فلا يتم بمثل هذه المقارنة الآلية. فكون النص مقبولاً Acceptable أو غير مقبول non- acceptable ، يتم بحسب درجية معقدة لا بحسب تقابل ثنائي، ومما يتصل بذلك دائماً الاعتماد على تحفيز يتم بحسب دوافع الموقف Contextual motivation… ولكون النص يحدد على أساس واقعه التطبيقي نجد اهتماماً هامشياً بمفهوم اللانص (non- text) ، إن اللسانيين الذين يتعمدون تركيب نصوص غير مقبولة ( non-texts) لا يساهمون في الاتصال. وهكذا ليس من المحتمل بالنسبة إليهم أن يوضحوا الوظائف الاتصالية. وينبغي للنص أن يتصل بموقف يكون فيه Situation of تتفاعل فيه مجموعة من المرتكزات Strategies والتوقعات Expectations والمعارف knowledge وهذه البيئة الشاسعة تسمى سياق الموقف context. أما التركيب الداخلي للنص فهو سياق البنية Co-text … فالقواعد التجريدية لتكوين الجملة لا يمكن التقنين لطولها أو عدد مكملاتها بحيث يتوقف بعده، تتابع العناصر لتصبح الجملة جملة.
ولا يمكن النظر إلى النص برغم أنه مجرد صورة مكونة من الوحدات الصرفية morphemes أو الرموز. إن النص تجل لعمل Action إنساني ينوي به intendsشخص أن ينتج نصاً، ويوجه instructs السامعين به إلى أن يبنوا عليه علاقات من أنواع مختلفة. وهكذا يبدو هذا التوجيه Instructionمسبباً لأعمال إجرائية. والنصوص تراقب Monitor المواقف Situations وتوجهها Manage وتغيرها Change. وليست الجملة عملاً، ولهذا كانت ذات أثر محدود في المواقف الإنسانية، لأنها تستعمل لتعريف الناس كيفية بناء العلاقات النحوية فحسب.
والنص توال progressionمن الحالات states والتي بعدها، فالحالة المعلومية Knowledge state والحالة الانفعالية Emotional state والحالة الاجتماعية Social state لمستعملي النص عرضة للتغييرchange بواسطة النص، ويأتي إنتاج النص وفهمه في صورة توال من الوقائع. وفي كل نقطة من نقاط هذا التوالي تطبق الضوابط السائدة current controls التي لا تدعو ضرورة ما إلى كونها من قبيل المبادئ التجريدية للصياغة. فضوابط بدايات النصوص على سبيل المثال تختلف عن ضوابط استمرارها ونهاياتها. وفي المقابل يجرى النظر إلى الجمل بوصفها عناصر من نظام ثابتSystem Chronic ( أي نظام يرى في حالة واحدة مثالية مفارقة للتطور ) لتنطبق الضوابط انطباقاً مطرداًCategorically (على سبيل الوجوب والصواب) أولاً تنطبق أبداً.
كما إن الأعراف الاجتماعية social conventions تنطبق على النصوص أكثر مما تنطبق على الجمل، فالوعي الاجتماعي ينطبق على الوقائع لا على أنظمة القواعد النحوية. والوسم markness الاجتماعي لتراكيب بعينها لا يؤثر إلا في قسط ضئيل من مجموع القواعد، ولا يظهر إلا بتوسط عوامل غير جوهرية في المواقف المعنية.
والعوامل النفسية psychological factors أوثق علاقة بالنصوص منها بالجمل، فالجملة من حيث الصياغة الذهنية شكل استكشافي heuristic بجانب أمور أخرى تعين على الغايات الشاسعة للاتصال، كالتعبير وتذكر المعلومات أو السعي إلى غاية ما، أما حدود الجملة فيتم تعيينها فيما بعد أثناء إنتاج النص، ثم يستغني عنها في المراحل الأولى للفهم، وتلتمس نظرية الجمل في مقابل ذلك تبريراً لذاتها في جعل عوامل معينة منفكة عن موضوع النظرية كمحدودية الذاكرة وحالات الانشغال distractions، وتحويل الانتباه والاهتمام وهلم جرا. إن وفرة التجارب التي تسعى إلى استكشاف الجمل هي لهذا السبب موضع اعتراضي من حيث المبدأ. ومع ذلك يعج الباحثون الجملة بكثير من الأمور الأخرى التي تظهر لدى تطبيقاتها العملية إشارات ناقصة في دراسة النصوص.
ونستطيع القول إن النصوص تشير إلى presupposes نصوص أخرى بطريقة تختلف عن اقتضاء الجمل لغيرها من الجمل، ويعتمد متعلمو اللغة في استخدامهم للجمل على معرفة القواعد من حيث هي نظام افتراضي عام. أما من أجل استعمال النصوص فإن الناس بحاجة إلى معرفة علمية بالأحداث الجارية بخصوصها، وتنطبق هذه الحالة من التناص على الملخصات ومسودات protocols الموضوعات والاستطرادات والإجابات ومحاكاة النصوص parodies "([185]).
لقد تطورت اللسانيات من لسانيات الكلمة إلى لسانيات الجملة إلى لسانيات النص، وإن دراسة النص لتعد من وجهة نظر د. منذر عياشي " خطوة ضرورية لكي تحدث بها قطيعة معرفية مع المنظور الجزئي الذي يتمحور حول الكلمة، فإذا ما صارت هذه الخطوة وسارت بها، فإنها ستتجاوز، والحال كذلك، النظر إلى اللغة من خلال النظريات التطورية والتاريخية، كما أنها ستتجاوز في الوقت نفسه البنيويات اللسانية التي تقف عند حدود الجملة، وكذلك مناهج النظر إلى اللغة من خلال النماذج اللغوية المستندة إلى العقلانية الديكارتية"([186]).
وفي رأيي، إن دراسة النص بشمولية دراسة بالغة الأهمية، ومع ذلك فإن الدراسات التي تقوم على " نحو النص" قليلة جداً، وبالنسبة لي لم تتوفر لدي سوى الدراسة التي أقامها " د. محمد حماسة عبد اللطيف" عن (الظواهر النحوية في شعر صلاح عبد الصبور)، كدراسة شاملة لكل أعمال الشاعر صلاح عبد الصبور وهي حقيقة دراسة غير يسيرة، تحتاج إلى جهد ونفس طويل ومثابرة، وإلى خلفية علمية ونحوية، وثقافية كبيرة حتى تستطيع الإلمام بالموضوع كاملاً واكتشاف قواعده الأساسية الكبرى، فلكل شاعر مبدع قوالب كبرى إبداعية راسخة في دماغه قد لا يعرف هو ذلك ولكن الناقد المبدع هو من يتوصل إلى تلك الخطوط الكبيرة في طريقة بنائه لأعماله، تلك القوالب التي تكونت لديه بسبب تربيته وبيئته وأنواع الثقافة التي تلقاها، تماماً كالطفل الصغير حين يتعلم التحدث فإنه يتعلم من والديه الكلمات والمفردات مع ما تدل عليه، وهم لا يعلمونه القوالب التي تتم صياغتها بها، ولكنه يتعلمها من الممارسة بحيث لا يخطأ بها مطلقاً، وكذلك المبدع تتكون عنده قوالبه والناقد الفذ هو من يستطيع التوصل إلى تلك القوالب التي يبني عليها المبدع أعماله فتجعل له بصمته دون غيره.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن النص يختلف عن النصانية، وأن الذين نظروا للسانيات النص كانوا يهدفون من ورائها إلى تناول النص في سطحه الخارجي، لذلك كانت دراساتهم تتحول إلى دراسات نحوية لغوية، أو بلاغية جزئية، وتبقى بذلك قاصرة عن تناول النص بشموليته ولذلك سأتناول معايير النصانية لتوضيح ذلك كما فصلها دىبوجراند.













معايير النصانية:
اقترح ديبوجراند ودريسلر سبعة معايير تصلح أساساً للنصانية كنظام ( System) وهي إشارات لإيجاد نصوص لم تكتسب صفة القوانين الصارمة.
" أولها: السبك Cohesion وهو يترتب على إجراءات تبدو بها العناصر السطحية Surface على صورة وقائع يؤدي السابق منها إلى اللاحق Pro-gressive Occurrence بحيث يتحقق هذا الترابط الرصفي connectivity sequentialوبحيث يمكن استعادة هذا الترابط. ووسائل التضام تشتمل على هيئة نحوية للمركبات Phrases والتراكيب Clauses والجمل وعلى أمور مثل التكرار والألفاظ الكنائية Pro-forms والأدوات والإحالة المشتركة Co-reference، والحذف والروابط Junctions"([187]).
ويتحدد هذا المستوى لبنية النص من خلال العمليات المنتجة على الشريط اللغوي، من خلال التركيب الظاهر عبر تتابع كلمات النص، وما يمتاز به السطح من طبيعة نسقية وأبعاد تركيبية مروراً بالمقطع والتركيب والكلمة والصوت. وما يتولد عن اندراج الجزئيات في سياق.
ولذلك فإن النصانية تعتمد على البنى الكبرى والتي تقوم على الجملة فما فوق، والبنى تشتمل على عدة وحدات مثل القانون أو النسق والعلاقات والعناصر والتماسك، ولذلك فإنه عند التحليل يتم البحث في البنية الكبرى أو الوحدة الشاملة أو ما يسمى بالنموذج الفكري ذي الطبيعة الدلالية والتي تشتمل على المتواليات النصية التي يتحقق النص بتجاورها وتماسكها وانسجامها، وبتركبها الأفقي وظيفياً وبنيوياً لاكتشاف الهيكل العام للنص. فهي متماسكة تماسكاً بنيوياً شاملاً.
والمتوالية تشتمل على عدد من الجمل و" تصبح المتتالية متماسكة دلالياً عندما تقبل كل جملة فيها التفسير والتأويل في خط داخلي يعتبر امتداداً بالنسبة لتفسير غيرها من العبارات الماثلة في المتتالية. أو من الجمل المحددة المتضمنة فيها، ومن هنا فإن مفهوم النص تتحدد خصائصه بفكرة " التفسير النسبي " أي تفسير بعض أجزائه بالنسبة إلى مجموعها المنتظم كلياً"([188]). "أي إن البنية الكبرى للنص هي تمثيل تجريدي للدلالة الشاملة للنص"([189]).
" أما كيفية تحديد البنية الكبرى للنص فإنه من الملاحظ أن القراء يختارون من النص عناصر مهمة، تتباين باختلاف معارفهم واهتماماتهم أو آرائهم وعليه يمكن أن تتغير البنية الكبرى من شخص إلى آخر…
وبذلك فإن مصطلح " البنية الكبرى" يعد نسبياً فالذي يحدد إطارها هو المتلقي لأن مفهوم التماسك ينتمي إلى مجال الفهم والتفسير الذي يضيفه القارئ على النص. ونتيجة لأن تأويل النص من جانب القارئ لا يعتمد فحسب على استرجاع البيانات الدلالية التي يتضمنها النص، بل يقتضي أيضاً إدخال عناصر القراءة التي يملكها المتلقي داخل ما يسمى بكفاءة النص أو إنجازه فإن نظم العقائد والأعراف والأبنية العاطفية، وما يطلق عليه الشفرات المساعدة عندهم كلها في صنع التماسك للخطاب النصي"([190]).
" ولكن بالرغم من هذه الاختلافات يلاحظ على مستوى التفسير الإجمالي لإحدى النصوص وجود توافق كبير بين مستعملي اللغة. وبدون هذا التوافق الذي تحدده اصطلاحات علوم الاتصال يستبعد كل فهم ضروري لانتقال المعلومات"([191]).
" فالبنية الكبرى ترتبط بموضوعه الكلي، إذ تتجلى في ضوئها تلك الكفاءة الجوهرية لمتكلم ما، والتي تسمح له بأن يجيب عن سؤال مثل، لم كان الكلام ؟ … وفي استنتاج الموضوعات ووصف أهداف النص أو تقديم ملخصات له تسهم في كشف أبنيته"([192]).
" وإذا كانت البنى الكبرى يمكن … أن تختلف جزئياَ فحسب من شخص إلى آخر، فإن مبادئ تكونها لا تكاد تتغير في حد ذاتها، وترتبط هذه البنى الكبرى بالقضايا المعبر عنها بجمل النص بواسطة ما يسمى "بالقواعد الكبرى" فهذه القواعد تحدد ما هو الأكثر جوهرية في مضمون نص متناول ككل، وعلى هذا فإن القواعد الكبرى تلغي بعض التفاصيل وكي تقصر بالتالي معلومات النص على تكوينها الأساسي"...
أما قواعد الوصول للأبنية الكبرى للنصوص فهي كما يشرحها " فان دايك" تتمثل فيما يلي:
1- الحذف 2- الاختيار 3- التعميم 4- التركيب، ومن الوجهة الشكلية فإن القاعدتين الأوليين هما للإلغاء والثانيتين للإبدال، وإن كانت كلها تقتضي ضرورة تحقيق المبدأ المسمى " بالتضمين الدلالي"([193]).
" وإن البنية الكبرى سواء أكانت هناك بنى صغرى أم لا، تمتاز بطبيعة شمولية وبطابع كلي وبأبعاد إطارية. لذلك نسلط العدسة النقدية لا على نقطة محددة من النص، وإنما للقيام بعملية المسح الشامل والدقيق للنص كله، أي البدء بالمرحلة الأولى من مراحل الكشف وهي المرحلة الاستكشافية، وأثناء قيامنا بهذه العملية، نكتشف أو تنكشف لنا لعبة اللغة عبر النص: ( إطناب، كثافة، مفردات منعزلة مساحات لغوية مختلفة … الخ ). بعد انتهاء مهمة العدسة النقدية والمرحلة الأولى، نهيئ للنص جهاز تقليم للبدء بالمرحلة الثانية ( التقليمة)، وهذا الجهاز يشتغل على النص من خلال عدة عمليات، وأولى هذه العمليات هي تقليم النص، ولا مانع أن نطلق على هذه العملية تسمية الحذف كما يقول ( فان ديجك)، أو الاختزال كما يقول ( محمد خطابي). ثاني العمليات هي التكثيف أو الضغط، وهذه العملية قريبة من عمليتي التعميم والتركيب عند ( فان ديجك)، تبقى عملية أخيرة وهي مستعارة أيضاً من ( فان ديجك) وهي الانتقاء. إذ العمليات التي يقوم بها جهاز التقليم هي: تقليم، حذف، تكثيف أو ضغط، تعميم، تركيب، انتقاء.
بالإضافة إلى هذه العلميات، ثمة آلية أخرى شبيهة بالعمليات وهي مستلهمة من (فان ديجك) أيضاً وهذه الآلية هي إنشاء الثيمات، وهذه الثيمات، تنشأ من مفاهيم متعالقة بطريقة غير مباشرة، كأن نجمع بعض المفاهيم في ثيمة نطلق عليها تسمية الحزن أو الظلمة أو الفرح … الخ…
قبل أن ندخل النص إلى جهاز التقليم نذكر بأنه يخضع في المرحلة الاستكشافية لعمليتين من الفرز: فرز تحديدي ( جزئيات، ومعلومات، إطنابات ، حوارات …الخ ..)، وفرز قيمي، أي أهمية المعلومة وعدم أهميتها: ( جزئيات مؤثرة أو غير مؤثرة في البنية، معلومات عرضية أو أساسية… الخ)، وفي عملية التقليم نقلم أو كما يقول: (فان ديجك) نحذف الجزئيات والمعلومات التي لا تؤثر لا على المعنى العام ولا على البنية في النص، وهذه العملية ليست بحاجة إلى تبيان إجرائي لأن الجزئيات والمعلومات العرضية شبه معروفة في أي نص.
العملية الثانية هي التكثيف أو الضغط، لكي نجري عملية التكثيف أو الضغط المعلوماتي نقلم الجزئيات المتباينة ونستبدلها أو كما يقول ( شتراوس ) نحوطها بمعلومة مضغوطة…وفي عملية التعميم ونستطيع أن نطلق عليها الحقل الدلالي، يكمن شكل من أشكال التقليم أيضاً إذ ننتقل من الخاص … إلى العام … وفي عملية التركيب يتم التقليم على صعيد الجملة على الأغلب، إذ تستبدل الجمل التفصيلية بجملة مركبة وشبه قادرة على تمثيل التفاصيل…أما الانتقاء - فإن كيفية الانتقاء تكمن في كشف نقاط الارتكاز النصية ونقاط الارتكاز قد تكون متعددة ومتباينة في النص لذلك ينتقي الناقد ما يبدو له أكثر النقاط ارتكازاً في النص… تلك كانت العمليات التي تساعد على كشف البنية، ولا يخفى على القارئ الحصيف، أن كشف البنية الكبرى للنص لا يخضع بالضرورة إلى إجراء كل تلك العمليات، فبعض العمليات قد يخضع لإحداها فقط، وبعضها الآخر قد يتطلب إجراء معظم العمليات أو كلها… بعد المرحلتين الاستكشافية والتقليمية تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة تحديد الوحدات المفصلية وبها تكتمل آلية الكشف عن البنية" ([194]).
" هذه الوحدات تشكل حزماً دلالية، وهذه الحزم قد تكون مفردات أو مقولات أو أنساقاً …الخ وهكذا تحدد البنية على مستوى السرد، ثم تدرس هذه الوحدات من خلال علاقاتها التشابكية على مستوى الذهن لتؤول بذلك على مستوى الدلالة والرؤية" ([195]).
و" ثمة أمران يؤثران بشكل كبير في تشكيل وحدات البنية وفرزها: 1- طبيعة النص 2- ثقافة الناقد… لذلك فإن تشكيل وتحديد وحدات البنية، يختلف من ناقد إلى آخر، وإن هذا التشكيل والتحديد خاضع بالدرجة الأولى، للمعرفة الخلفية للناقد ولثقافته الموسوعية… ولكن مهما كانت ثقافة الناقد فإنه لا يستطيع أن يتجاوز هذه الخصائص النوعية ويسقط على النص ما يشاء من رؤى تنظيرية " ([196]).
وهناك فرق بين النص المتضمن لبنية واحدة، والنص المتضمن لعدة بنى فـ" في النص المتضمن أكثر من بنية واحدة يتم التركيز غالباً على المادة الحكائية وهذه المادة تشكل البؤرة التي تلتف حولها بقية عناصر النص وبالتالي تتشكل وتتحدد الوحدات المفصلية بالاعتماد على المادة الحكائية، وذلك لأن هذه الخبرة هي الأكثر قدرة على تمثيل موضوع النص في هذه الحالة وعلى تمثيل نقاط الارتكاز النصية المقاومة للنسيان من قبل القارئ. أما في النص المتضمن لبنية واحدة فيتم التركيز غالباً على الوحدات المفصلية الثابتة بالإضافة إلى الوحدات المتعالية وكثيراً ما تفرض طبيعة النص الإجراء النقدي الملائم والوحدات المفصلية المتشكلة في البنية والقادرة على فض مغاليق النص"([197]).
" ثانيها: الحبك: Coherence أو الالتحام وهو يتطلب من الإجراءات ما تتنشط به عناصر المعرفة لإيجاد الترابط المفهومي Connectivity Conceptual واسترجاعه وتشتمل وسائل الالتحام على العناصر المنطقية كالسببية والعموم والخصوص Class in clusion، معلومات عن تنظيم الأحداث والأعمال والموضوعات والمؤلف، السعي إلى التماسك فيما يتصل بالتجربة الإنسانية، ويتدعم الالتحام بتفاعل المعلومات التي يعرضها النص presented knowledge Text مع المعرفة السابقة بالعالم Prior knowledge of the world . مما يولد الدلالة.
" وإذا كان الكلام في .. المستويات السابقة قد اختص بتفكيك النص، فإنه في هذا المستوى سيختص بإعادة بناء النص وبالربط العلائقي بين جميع وحداته وعناصره. فالمستوى الدلالي لبنية النص لا يتحدد إلا من خلال الربط والتحول: ربط الوحدات المفصلية مع بعضها ومع بقية العناصر في بنية النص، والتحول من التشريح والسكوت إلى الفهم والتأويل والدينامية، وهذه الدراسة تنطلق من ثلاث مقولات لتحديد المستوى الدلالي لبنية النص.
" أولها: وحدة النص وكليته، وثانيها، بلوغ أعماق النص، وثالثها: النظر إلى وحدات البنية كوجود ذي معنى، فالبنية نسيج متماسك لوحدات متعالقة. والوحدات تشع دلالاتها من خلال تعالق السطح والعمق والدلالات تشي برؤية العالم" ([198]).
ويفيد الالتحام في " توضيح طبيعة علم النصوص بصفته نشاطات بشرية. فالنص لا يفيد معنى بذاته، وإنما يتم ذلك بالتفاعل بين المعرفة التي يقدمها النص وما لدى المرء من معرفة مختزنة عن العالم. وينتج عن هذا ضرورة قيام تعاون بين علماء لغة النص والباحثين في علم النفس المعرفي من أجل استكشاف بعض الأمور الأساسية من مثل المعنى المقالي للنص. ويلحظ المرء هنا أيضاً ضرورة أن تكون النظريات والطرق ذات صبغة احتمالية لا حتمية، أي أنها تعرض ما هو الحال في العادة وليس دائماً. وإذا كان بوسع المستعملين المختلفين للنص تكوين معان مقالية مختلفة بعض الشيء، فإننا نجد عند أغلبهم، بالرغم من ذلك، نواة مشتركة متسعة للمحتوى والعمليات المحتملة، بحيث لا تصبح فكرة معنى النص فكرة مفرطة في عدم الاستقرار"([199]).
إن السبك والحبك هما المعياران المختصان بصلب النص centred Text، ويقومان على الترابط، وهما أوثق المعايير بالنص، ولما كان النص يقوم بشكل أساسي كنسيج على الترابط فقلد جاءت معظم تعاريف النص عند علماء لغة النص تحمل مفهوم الترابط. " فالنص عند " شميث " … هو كل تكوين لغوي منطوق من حدث اتصالي ( في إطار عملية اتصالية )، محدد من جهة المضمون (Thematisd)، ويؤدي وظيفة اتصالية يمكن إيضاحها، أي يحقق إمكانية قدرة إنجازيه جلية … يقصدها المتحدث ويدركها شركاؤه في الاتصال، وتتحقق في موقف اتصالي ما، حيث يتحول كم من المنطوقات اللغوية إلى نص متماسك يؤدي بنجاح وظيفة اجتماعية اتصالية، وينتظم وفق قواعد تأسيسية ( ثابتة ) … والنص عند هارفج: ترابط مستمر للاستبدالات السنتجميمية التي تظهر الترابط النحوي في النص وعند فاينربش: "تكون حتمي يحدد بعضه بعضاً ( Determinations de fuge) لفهم الكل: فالنص كل تترابط أجزاؤه من جهتي التحديد، والاستلزام، إذ يؤدي الفصل بين الأجزاء إلى عدم وضوح النص، كما يؤدي عزل أو إسقاط عنصر من عناصره إلى عدم تحقق الفهم ويفسر هذا بوضوح من خلال مصطلحي"الوحدة الكلية" و " التماسك الدلالي " للنص، وعند برينكر … : تتابع متماسك من علاقات لغوية و/أو مركبات من علامات لغوية لا تدخل ( لا تحتضنها) تحت أية وحدة لغوية أخرى ( أشمل ) وفي تعريف آخر عنده أيضاً… " إنه مجموعة منظمة من القضايا أو المركبات القضوية، وتترابط بعضها مع بعض على أساس محوري موضوعي أو جملة أساس من خلال علاقات منطقية دلالية، ويذكر هاليدي، ورقية حسن أن كلمة ( نص) تستخدم في اللسانيات، لتشير إلى أي مقطع passage منطوق أو مكتوب، يشكل كلاً متحداً … United Whole "([200])، كما رأى "جون لاينز" أن على النص في مجمله أن يتسم بسمات التماسك والترابط"([201]).
هذا ويؤكد د . صبحي الطعان في بنية النص الكبرى " أن الانتظام في البنية مهم ويتعلق بشكل مباشر بالانسجام، فانتظام النص يساعد على انسجام النص، والانسجام يشي حتماً بانتظام النص ولا ننسى أن الانسجام والانتظام لا يكونان إلا بالارتباط بالوحدة المفصلية وهذه الوحدة لا تناقش إلا بالتزامن مع وحدات أخرى من وحدات المفهوم أي السطح والعمق والتشابك. تعاريف تؤكد بشكل قاطع قيام النص على الترابط والانتظام والانسجام داخل النسيج الواحد" ([202]).
وهذان المعياران هما المختصان بصلب النص Text centered، ويقومان على الترابط فهما أوثق المعايير بالنص. أما الخمسة التالية والتي تعتبر معايير للنص على إطلاقه فهي:
1. " القصد Intentionality وهو يتضمن موقف منشئ النص من كون صورة ما من صور اللغة قصد بها أن تكون نصاً يتمتع بالسبك والالتحام وأن مثل هذا النص وسيلة Instrument من وسائل متابعة خطة معينة للوصول إلى غاية بعينها. وهناك مدى متغير للتغاضي Tolerance في مجال القصد، حيث يظل القصد قائماً من الناحية العملية حتى مع عدم وجود المعايير الكاملة للسبك والالتحام، ومع عدم تأدية التخطيط إلى الغاية المرجوة. وهذا التقاضي عامل من عوامل ضبط النظام Systemic regulation يتوسط بين المرتكزات Strategies اللغوية في جملتها والمطالب السائدة للموقف.
2. الإعلامية Informativity وهي العامل المؤثر بالنسبة لعدم الجزم uncertainty في الحكم على الوقائع النصية، أو الوقائع في عالم نصي textual في مقابلة البدائل الممكنة. فالإعلامية تكون عالية الدرجة عند كثرة البدائل. وعند الاختبار الفعلي لبديل من خارج الاحتمال.
3. التناص Intertextuality وهو يتضمن العلاقات بين نص ما ونصوص أخرى مرتبطة به وقعت في حدود تجربة سابقة بوساطة أم بغير وساطة. فالجواب في المحادثة أو أي ملخص يذكر بنص ما بعد قراءته مباشرة، يمثلان تكامل النصوص بلا واسطة. وتقوم الوساطة بصورة أوسع عندما تتجه الأجوبة أو النقد إلى نصوص كتبت في أزمنة قديمة. وتكامل النصوص عامل أكبر في مجال تحديد أنواع النصوص Text types حيث تتشكل التوقعات بالنسبة لطوائف Classes كاملة من الوقائع اللغوية فـ" كل نص يتوالد، يتعالق، يتداخل، وينبثق من هيولي النصوص في مجاهيل ذاكرة المبدع الإسفنجية التي تمتص النصوص بانتظام وبثها بعملية انتقائية خبيرة فتشتغل هذه النصوص المستحضرة من الذاكرة داخل النص لتشكل وحدات متعالية في بنية النص الكبرى … والتناص لا يكون بالمضمون فقط وإنما يكون بالمفردات، بالتراكيب، بالبناء، بالإيقاع، بالمحاكاة، بالمعارضة … الخ ولأن النصوص السابقة متعالقة مع النص اللاحق فهي وحدات متعالية في بنية النص، والمعرفة الموسوعية للناقد هي الكفيلة بالقبض على الغياب واستحضاره فيلتذون بالتناص" ([203]).ويشير باختين إلى أنه " ليس هناك تلفظ مجرد من بعد التناص، … وأن كل خطاب يعود، على الأقل، إلى فاعلين، وبالتالي إلى حوار محتمل. يقول : " الأسلوب هو الرجل"؛ ولكن باستطاعتنا القول: عن الأسلوب هو رجلان، على الأقل، أو بدقة أكثر، الرجل ومجموعته الاجتماعية مجسدين عبر الممثل المفوض، المستمع، الذي يشارك بفعالية، في الكلام الداخلي والخارجي للأول." ( 7 : 265)"([204]). " إن التناص ينتسب إلى الخطاب discourse ولا ينتسب إلى اللغة، ولذا فإنه يقع ضمن مجال اختصاص علم عبر اللسانيات transliguistics ولا يخص اللسانيات"([205]).
4. القبول Acceptability : وهو يتضمن موقف مستقبل النص إزاء كون صورة ما من صور اللغة ينبغي لها أن تكون مقبولة من حيث هي نص ذو سبك والتحام. وللقبول أيضاً مدى من التغاضي tolerance في حالات تؤدي فيها المواقف إلى ارتباك أو حيث لا توجد شركة في الغايات بين المستقبل والمنتج.
5. رعاية الموقف – المقامية- :Situationality وهي تتضمن العوامل التي تجعل النص مرتبطاً بموقف سائد يمكن استرجاعه. ويأتي النص في صورة عمل يمكن له أن يراقب الموقف وأن يغيره. وقد لا يوجد إلا القليل من الوساطة في عناصر الموقف كما في حالة الاتصال بالمواجهة في شأن أمور تخضع للإدراك المباشر، وربما توجد وساطة جوهرية كما في قراءة نص قديم ذي طبيعة أدبية يدور حول أمور تنتمي إلى عالم آخر ( مثلاً جلجامش أو الأوديسا )، إن مدى رعاية الموقف يشير دائماً إلى دور طرفي الاتصال على الأقل، ولكن قد لا يدخل هذان الطرفان إلى بؤرة الانتباه بوصفهما شخصين"([206]).
" إن هذه المعايير تقوم بدور قواعد تأسيسية للاتصال من خلال النصوص. فهي تقدم تعريفاً وتكويناً لشكل السلوك الذي يعد اتصالاً من خلال النصوص. وإذا لم يلتزم المرء بهذه القواعد، فإن هذا اللون من السلوك سينهار. غير أنه لا بد من وجود قواعد تنظيمية، كما يقول سيرل أيضاً، مهمتها ضبط الاتصال من خلال النصوص وليس تقديم تعريف له. وفي وسعنا تصور ثلاث قواعد تنظيمية في الاتصال مع بذل أقل قدر ممكن من الجهد من قبل المشاركين، وفعالية النص وهي تعتمد على ترك النص انطباعاً قوياً وعلى خلقه شروطاً مفضلة لبلوغ هدف ما، والقاعدة التنظيمية الثالثة هي ملائمة النص وتعني التوافق بين مقام النص من جهة ووسائل المحافظة على معايير النصية من جهة أخرى"([207]).
وفي رأيي إنها معايير أنارت للباحث الطريق الذي يستطيع الوصول من خلاله إلى تحليل نصاني محقق للمقصدية، ويستطيع الباحث اتباعها في عمله كاملة للتوصل إلى تحليل شمولي، كما ويمكن أن تقوم بعض الدراسات الجزئية والتي تأخذ أحد المعايير بالدراسة والبحث ولكنها يجب أن تسمى باسم تلك الجزئية وليس باسم النصانية، كما يقيم بعض الباحثين دراسة على التناص، أو التداولية، أو الإعلامية، أو النحو النصي، أو الترابط الدلالي. ويطلق عليها اسم ذلك المعيار الذي بحث عنه في عمل المبدع الذي يقيم دراسته عليه إن كانت نثراً أم شعراً.
([1] ) د.نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1998، ص178.
(2) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1997، ج1، مادة (نص)، ص 858.
([3] ) الرازي، مختار الصحاح، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1999، مادة (نص)، ص 381-382.
( [4]) ابن منظور، لسان العرب، مكتبة دار المعارف، بالقاهرة، 1979، ج13، مادة (نص)، ص 97-98.
[5]( Webster’s Third New International Dictionary of the English Language unbraided - Merriam- Webster INC. Publishers Spring field, Massachusetts, U.S.A. P 2365-2366.
([6] ) خليل أحمد خليل، معجم المصطلحات العربية، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1995، ص136-137.
( [7]) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية- دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق، ط1،1990، ص208. عن رولان بارت، نظرية النص: ت. محمد خير البقاعي. مجلة العرب والفكر العالمي.عدد(3) بيروت، 1988.
( [8]) د. إبراهيم خليل، الأسلوبية ونظرية النص – دراسات وبحوث/ نقد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1، 1997، ص55-56.
([9] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 202.
([10] ) أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة ، ص34، 20، بتصرف.
( [11]) د. شكري عزيز ماضي، من إشكاليات النقد العربي الجديد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1، 1997، ص 174، بتصرف.
([12] ) أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، دار الآداب، بيروت، بدون سنة أو طبعة، ص34.
( [13]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1981، ص 300.
([14] ) أبو بكر الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1971، ص 35.
([15] ) أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، ص 35-36 .
([16] ) د. منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 231-232 .
([17] ) أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، ص 36-37، بتصرف.
([18] ) السابق، ص29-30.
(*) مثل أدونيس ونصر حامد أبو زيد، وعلي حرب وغيرهم.

( [19]) د. محمد مفتاح ، تحليل الخطاب الشعري – استراتيجية التناص -، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2، 1986، ص 120.
( [20]) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط1، 1985، ص 90.
([21] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 90.
([22] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 207.
( [23]) د. يوسف نور عوض، نظرية النقد الأدبي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 1997، ص 67.
([24] ) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج1، مادة (نسج)، ص 209.
([25] ) الجاحظ، كتاب الحيوان، ج1، ص 131.
( [26]) ابن طباطبا العلوى، عيار الشعر، تحقيق د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط3، ص19.
( [27]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تعليق السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1982، بدون طبعة، ص 316، 373، 312.
([28] ) د. جميل عبد المجيد، البديع بين البلاغة العربية اللسانيات النصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، بدون طبعة، 1998، ص 73.
([29] ) د.عبد الله الغذامي ، الخطيئة والتكفير، ص 62-63، بتصرف. عن leitch: Op.Cit 106. .
( [30]) د. محمد فكري الجزار، العنوان وسيميوطيقيا الاتصال الأدبي، ص 25-26، عن تيري إيجلتون، مقدمة في نظرية الأدب، أحمد حسان، 1961، ص164.
([31] ) د.عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 53، عن: leitch: Op. Cit- 26-29 and Derrida Op.Cit.
([32] ) يعتبر" بارت" أن العلامة تحيل بالضرورة على علاقة بين متعالقين وهذه العلاقة مباشرة وغير مباشرة. انظر تفصيل ذلك في، ( رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، تقديم عبد الفتاح كليليطو، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1978، ص 38).
([33] ) د. شكري عزيز ماضي، من إشكاليات النقد العربي الجديد، ص156- 157.
([34] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 54.
([35] ) د. شكري عزيز ماضي، من إشكاليات النقد العربي الجديد، ص 157.
([36] ) د. عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص54.
(·) Culler: On Deconstruction 86.
([37] ) د. عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 54.
([38] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 208-209.
([39] ) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص-ق-ث.
[40]) Hough, Ibid, pp24.
([41] ) إبراهيم خليل، الأسلوبية ونظرية النص، ص 36.
( [42]) بييرجيرو، الأسلوب والأسلوبية، ص 34.
( [43]) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 134.
( [44]) د. أحمد درويش، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، مكتبة الزهراء، القاهرة، بدون تاريخ، ص161.
( [45]) د. منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص202.
([46] ) السابق، مقالات في الأسلوبية، ص 203.
([47])علم العلامات ( Semi logy ) أو لسان الإشارات يدرس أنساق العـلامـات = الإشارات
(Signs).
([48] ) جون كوهين، بناء لغة الشعر، ص 222.
( [49]) بول ريكور، ما هو النص، مجلة العرب والفكر العالمي، خريف،ع 12، 1990،ص66.
([50] ) إبراهيم خليل، الأسلوبية ونظرية النص، ص 86-87، بتصرف.
([51] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 205.
([52] ) بول ريكور، ما هو النص، مجلة العرب والفكر العالمي، ع1، ص 67.
([53] ) السابق، ص 67.
( [54]) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، الكويت، ط1، 1992، ص238.
([55] ) أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، ص 30.
([56] ) مجموعة من الكتاب، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، بورداس، باريس 1990، ترجمة د. رضوان ظاظا، مراجعة د. المنصف الشنوفي، عالم المعرفة، العدد 221، مايو- أيار 1997، ص 234، ( الدرجة الصفر في الكتابة).
([57] ) د. يوسف نور عوض، نظرية النقد الأدبي الحديث، ص47.
( [58]) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 201.
( [59])عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص12- 13. نقلاً عن Culler: Structuralist Poetics 134
( [60]) مجموعة من الكتاب، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ص 226.
([61] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 135.
([62] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 55.
([63] ) أدونيس، كلام البدايات، دار الآداب، بيروت، ط1، 1989، ص 37.
( [64]) أدونيس، سياسة الشعر دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، دار الآداب، بيروت، 1985، ط1، ص57-58.
([65]) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 76 - 77.
([66] ) على حرب، النص والحقيقة - نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1993، ص 21.
([67] ) السابق، 106 الهامش.
([68] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص130-131 بتصرف.
([69] ) فاطمة قنديل، التناص في شعر السبعينات ( دراسة تمثيلية)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، كتابات نقدية، العدد 86، مارس 1999، ص 52-53، عن John Mowitt, text: The Genealogy of an Ant- disciplinary object, Duke University press, duhram & London, 1992. Pp. 105:106.
([70] ) السابق، ص 53. عن Ibid.P.107..
([71] ) نفسه، ، ص60. عن عمر أوكان، مدخل لدراسة النص والسلطة.
([72] ) جون كوهين، بناء لغة النص، ص 224.
([73] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 132.
([74] ) علم الأنساب.
([75] ) مجموعة من الكتاب، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ص 231.
( [76]) السابق، ص 234.
([77] ) رولان بارت، لذة النص، ترجمة د. منذر عياشي، مركز النماء الحضاري، سورية، ط1، 1992، ص45-47.
([78] ) السابق، ص 15.
([79] ) رولان بارت، لذة النص، ص 49.
([80] ) السابق، ص 111.
([81] ) نفسه، ص 115.
([82] ) بيروجيرو، الأسلوب والأسلوبية، ترجمة د. منذر عياشي، مركز الإنماء القومي، بيروت، بدون تاريخ، ص30.
( [83]) بيروجيرو، الأسلوبية، ترجمة د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، دمشق، ط2، 1994،ص45-46، بتصرف.
( [84]) د.عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، ط1، 1977، ص 85، بتصرف.
( [85]) ظهرت الأسلوبية الوظيفية والتي تقوم على فكرة الاتصال عند جاكبسون وقد تعرضت لها في الخطاب الإبداعي.
([86] ) بيير جيرو، الأسلوبية، ص 127.
([87] ) د. عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ص 237.
([88]) السابق، ص 85.
([89] ) نفسه، ص 84.
([90] ) السابق، ص 89.
([91] ) بيروجيرو، الأسلوب والأسلوبية، ص 142-143.
([92]) بيير جيرو، الأسلوبية، ص 134- 135 .
([93] ) د. محمد عبد المطلب، بين البلاغة والأسلوبية، مكتبة الحرية الحديثة، القاهرة، ط1، 1984، ص146.
([94] ) د.محمد عياد، الأسلوبية الحديثة، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الثاني، الجزء الأول،1981، ص 130.
([95] ) مجموعة من الكتاب، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ص 216.
([96] ) عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ص 167.
([97] ) د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوب، ص 12.
([98] ) كمال أبو ديب، في الشعرية، ص19، 20، 21.
([99] ) يمنى العيد، في القول الشعري، دار توبقال للنشر، المغرب، 1987، ط1، ص 12.
([100] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 8 .
[101] كما يقول ( بياجيه ) في عناصر البنيوية ( Piaget Structuralism .3.
([102] ) د. يوسف نور عوض، نظرية النقد الأدبي الحديث، ص 103.
([103] ) عبد الله الغذامي ،الخطيئة والتكفير، ص 23، بتصرف.
([104] ) السابق، ص23 ، عن Jakobson:Closing statement, 358 .
([105] ) نفسه، ص 23عنHawks: Op.Cit,71 .
([106] ) جون كوين، بناء لغة الشعر، ترجمة أحمد درويش، مكتبة الزهراء، القاهرة، 1985، ص198.
([107] ) بيير جيرو، الأسلوبية ، ص 121.
(1 ) الذاريات: 31، الحجر:57.
([109] ) محمد الباشا، الكافي معجم عربي حديث، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1992، ص 414.
([110] ) مجدي وهبة، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ص 90.
([111] ) مجمع اللغة العربية ، المعجم الوسيط، القاهرة، مطبعة مصر، ج1، 1960، مادة (خطب)، الآية من سورة ص:23.
([112] ) الياس انطون الياس، قاموس الياس العصري، دار الجليل، بيروت،1972، ص191.
([113] ) بتصرف من The Shorter Oxford English Dictionary on Historical Principles.p563
([114] ) د. محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، دراسة ومعجم إنجليزي-عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان، ط1،1996، ص 19-22.
([115] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 241.
([116] ) روبرت دى بوجراند، النص والخطاب الإجراء، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، ط1، 1998، ص6.
([117] ) الشورى: 11.
([118] ) الحجر: 9.
( [119]) د. محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط5، 1994، ص 16.
([120] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص215.
([121] ) البقرة :23.
([122] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 220.
([123] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص146- 147.
[124] ) La notion Litteraire. P.32.Ed-Seuil, Paris, 1987.
([125] ) السابق، ص 218-218، بتصرف.
([126] ) مجموعة من الكتاب، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ص 221.
([127] ) منذر عياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 214.
([128] ) أدونيس، كلام البدايات، ص 113، 114.
( [129]) د. محمد عبد المطلب، قضايا الحداثة عند عبد القادر الجرجاني، بدون دار نشر، أو طبعة،1990، ص16 .
([130] ) د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوب، ص180-181.
([131] ) المرجع السابق، ص183.
([132] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 71،72.
([133] ) السابق، ص 72.
([134] ) رولان بارت، نقد وحقيقة، ترجمة د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، بيروت، ط1، 1994، ص10-11.
([135]) محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، دار التنوير، بيروت، ط2، 1985، ص 339.
([136]) د. رشيد بندحدو، العلاقة بين القارئ والنص في التفكير الأدبي المعاصر، مجلة عالم الفكر، م 23، العددان الأول والثاني، يوليو/ سبتمبر – أكتوبر / سبتمبر، 1994، ص 472-473.
([137] ) د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوب، ص 193.
*[138]) M.H.Abrams,A Glossary of Literary Terms, fourth edition NewYork, 1981,P.149.
*[139]) loc.Cit.
*[140]) loc.Cit.
*[141] ( Catherine Belsy, Critical Practice, London,1980,p.29.
([142] ) علي جعفر العلاق، الشعر والتلقي – دراسات نقدية، دار الشروق، عمان، 1997، ص64- 65.
([143] ) د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوب، ص 197.
([144] ) جون كوهين، بناء لغة الشعر، ص 213 –214.
([145] ) عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، ص 156-157.
([146] ) السابق، ص 59.
([147] ) د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوب، ص 203-204.
( [148]) أدونيس، سياسة الشعر دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، ص 50.
([149] ) د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوب، ص 85-86.
([150] ) د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، ص 313.
([151] ) إبراهيم خليل، النص الأدبي تحليله وبناؤه، مدخل إجرائي، الجامعة الأردنية، عمان، ط1، 1995.
([152] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 8-11.
( [153]) السابق، ص 11، Abrams: The Mirror and the lamp,283 . من قصيدة ارشيبالد ماكليش Archibald Macleish ببيتيها المشهورين المثيرين ليس على الشعر أن يعني، ولكن أن يكون.
([154] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 80.
([155] ) السابق، ص 78.
([156] ) السابق، ص 13.
([157] ) د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 232، 1998، ص 273.
([158] ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 9-10.
([159] ) السابق، ص 10.
[160]) عن Zelling S.Harris, discourse analysis, p1: 30, Language. Vol.28, No.1. 1952
[161]) Ibid, p1: 2
[162]) Ibid, p4.
([163] ) د. جميل عبد المجيد، البديع بين البلاغة واللسانيات النصية، ص 65-66.
([164] ) د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة،مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، 1982، ص 68.
[165] ) عن De. Beaugrande and Dressler: Introduction to text Linguistics.
([166] ) د. جميل عبد المجيد، البديع بين البلاغة واللسانيات النصية، ص67. عن Ibid,p3..
([167] ) برند سبلنر، علم اللغة والدراسات الأدبية – دراسة الأسلوب، البلاغة، علم اللغة النصي، ترجمة د. محمود جاد الرب، الدار الفنية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1991، ص 184.
([168] ) مجموعة من الكتاب، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ص 210.
([169] ) د. يوسف نور عوض، نظرية النقد العربي الحديث، ص92-93.
([170] ) السابق، ص101.
( [171]) منذرعياشي، مقالات في الأسلوبية، ص 128.
([172] ) السابق، ص 129-130.
([173] ) روبرت دوبوجراند، النص والخطاب والإجراء، ص7.
([174] ) د. صبحي الطعان، بنية النص الكبرى، عالم الفكر، المجلة 23، العددان الأول والثاني- يوليو / سبتمبر ، أكتوبر – ديسمبر، 1994، ص 436.
([175] ) د.صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، 238-239.
([176] ) السابق، ص 280.
([177] ) نفسه، ص 255.
([178] ) د. صبحي الطعان، بنية النص الكبرى، ص 436.
([179] ) السابق، ص 432.

([180] ) روبرت دى بوجراند، النص والخطاب والإجراء ص 94- 96، عن M.A.K Halliday and Ruquaiya .
([181] ) د. جميل عبد المجيد، البديع بين البلاغة واللسانيات النصية ، ص 68، عن:
Hasan: Cohesion in English, p: Longman, London
عن . Ibid, p: 294.
([182] ) د. يوسف نور عوض، نظرية النقد الأدبي الحديث، ص 90 .
([183] ) برند سبلنر،علم اللغة والدراسات الأدبية ، ص 184.
([184] ) د. جميل عبد المجيد، البديع بين البلاغة واللسانيات النصية، ص 69، عن د.سعيد البحيري، علم لغة النص، ص228-229.
([185] ) روبرت دوبوجراند، النص والخطاب والإجراء، ص89-94، بتصرف.
([186] ) منذر عياشي، اللسانيات والدلالة، ( الكلمة)، مركز النماء الحضاري، حلب، ط1،1996، ص 168.
([187] ) روبرت دى بوجراند، النص الخطاب والإجراء، ص103.
([188] ) د. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص 255.
([189] ) السابق، ص256.
([190] ) د. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص 256، 260، 261 بتصرف.
([191] ) السابق، ص256.
([192] ) نفسه، ص260.
([193] ) نفسه، ص257.
([194] ) د. صبحي الطعان، بنية النص الكبرى، ص 437-438.
([195] ) السابق، ص 441.
([196] ) نفسه، ص 441.
([197] ) د. صبحي الطعان، بنية النص الكبرى، ص439.
([198] ) السابق، ص451.
([199] ) روبرت دىبوجراند وآخرون، مدخل إلى علم لغة النص، مطبعة دار الكتاب، ط1، 1992، ص 30.
( [200]) د. جميل عبد المجيد، البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية، ص 70-71. نقلاً عن د. سعيد بحيري: علم لغة النص، ص 79.
([201] ) جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، ترجمة د. عباس صادق الوهاب، مراجعة د . يوئيل عزيز، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، سلسلة المائة كتاب، 1978، هامش ص 219.
([202] ) د. صبحي الطعان، بنية النص الكبرى، ص 450 .

([203] ) د. صبحي الطعان، بنية النص الكبرى، ص 446.
( [204]) تزفيتان تودوروف، ميخائيل باختين، المبدأ الحواري، ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط2، 1996، ص 124.
([205] ) تزفيتان تودوروف، ميخائيل باختين، المبدأ الحواري، ص 122.
([206] ) روبرت دى بوجراند، النص الخطاب والإجراء، ص103-105.
([207] ) روبرت دىبوجراند وآخرون، مدخل إلى علم لغة النص، ص26-27.

ليست هناك تعليقات: